تفسير الثعالبي - ج ٣

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٣

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٩

تفسير سورة التوبة

وهي مدنية إلا آيتين

قوله سبحانه : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ...) [التوبة : ١٢٨] إلى آخرها ؛ وتسمّى «سورة التّوبة» ؛ قاله حذيفة وغيره ، وتسمّى «الفاضحة» ؛ قاله ابن عباس ، وقال : ما زال ينزل : ومنهم ، ومنهم حتّى ظنّ أنه لا يبقى أحد ، وهي من آخر ما أنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال عليّ رضي الله عنه لابن عبّاس : بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أمان وبشارة ، وبراءة نزلت بالسّيف ونبذ العهود ؛ فلذلك لم تبدأ بالأمان (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ)(٢)

قوله عزوجل : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، التقدير : هذه الآيات براءة ، ويصحّ أن يرتفع «براءة» ؛ بالابتداء ، والخبر في قوله : (إِلَى الَّذِينَ). و (بَراءَةٌ) معناه : تخلّص وتبرّ من العهود التي بينكم ، وبين الكفّار البادئين بالنّقض.

قال ابن العربي في «أحكامه» (٢) : تقول : برأت من الشّيء أبرأ براءة ، فأنا منه بريء ؛ إذا أنزلته عن نفسك ، وقطعت سبب ما بينك وبينه. انتهى.

ومعنى السياحة في الأرض : الذّهاب فيها مسرحين آمنين ؛ كالسّيح من الماء ، وهو الجاري المنبسط ؛ قال الضّحّاك ، وغيره من العلماء : كان من العرب من لا عهد بينه وبين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم جملة ، وكان منهم من بينه وبينهم عهد ، وتحسس منهم نقض ، وكان منهم من بينه وبينهم عهد ولم ينقضوا ، فقوله : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) هو أجل ضربه الله

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٣ / ٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٧٧) ، وزاد نسبته إلى أبي الشيخ ، وابن مردويه.

(٢) ينظر : «أحكام القرآن» لابن العربي (٢ / ٨٩٣)

١٦١

لمن كان بينه وبينهم عهد ، وتحسّس منهم نقضه ، وأول هذا الأجل يوم الأذان ، وآخره انقضاء العشر الأول من ربيع الآخر ، وقوله سبحانه : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ٥] حكم مباين للأوّل ، حكم به في المشركين الذي لا عهد لهم البتة ، فجاء أجل تأمينهم خمسين يوما ، أوّلها يوم الأذان ، وآخرها انقضاء المحرّم.

وقوله : (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) ، يريد به الذين لهم عهد ، ولم ينقضوا ، ولا تحسّس منهم نقض ، وهم فيما روي بنو ضمرة من كنانة ، كان بقي من عهدهم يوم الأذان تسعة أشهر.

وقوله عزوجل : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) ، أي : لا تفلتون الله ، ولا تعجزونه هربا.

(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)(٤)

وقوله : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ...) الآية : أي : إعلام ، و (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) قال عمر وغيره : هو يوم عرفة (١) ، وقال أبو هريرة وجماعة : هو يوم النّحر (٢) ، وتظاهرت الروايات / ؛ أن عليّا أذّن بهذه الآيات يوم عرفة إثر خطبة أبي بكر ، ثم رأى أنه لم يعمّ الناس بالاستماع ، فتتبّعهم بالأذان بها يوم النّحر (٣) ، وفي ذلك اليوم بعث أبو بكر من يعينه في الأذان بها ؛ كأبي هريرة (٤) وغيره ، وتتّبعوا بها أيضا أسواق العرب ، كذي المجاز وغيره ؛ وهذا هو سبب الخلاف ، فقالت طائفة : يوم الحجّ الأكبر : عرفة ؛ حيث وقع أوّل الأذان.

وقالت أخرى : هو يوم النّحر ؛ حيث وقع إكمال الأذان.

وقال سفيان بن عيينة : المراد باليوم أيام الحجّ كلّها ؛ كما تقول : يوم صفّين ، ويوم

__________________

(١) أخرجه الطبري (٦ / ٣١٠) رقم : (١٦٤٠٠) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٥) ، والبغوي (٢ / ٢٨٦) رقم : (٣)

(٢) ذكره ابن عطية (٣ / ٥)

(٣) أخرجه الطبري (٦ / ٣٠٤) رقم : (١٦٣٧٦) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٥)

(٤) أخرجه الطبري (٦ / ٣٠٥ ـ ٣٠٦) برقم : (١٦٣٨٣ ـ ١٦٣٨٤) نحوه ، وذكره ابن عطية (٣ / ٥)

١٦٢

الجمل ؛ ويتجه أن يوصف ب «الأكبر» ؛ على جهة المدح ، لا بالإضافة إلى أصغر معيّن ، بل يكون المعنى : الأكبر من سائر الأيام ، فتأمّله.

واختصار ما تحتاج إليه هذه الآية ؛ على ما ذكر مجاهد وغيره من صورة تلك الحال : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم افتتح مكّة سنة ثمان ، فاستعمل عليها عتّاب بن أسيد ، وقضى أمر حنين والطائف ، وانصرف إلى المدينة ، فأقام بها حتّى خرج إلى تبوك ، ثم انصرف من تبوك في رمضان سنة تسع ، فأراد الحجّ ، ثم نظر في أنّ المشركين يحجّون في تلك السّنة ، ويطوفون عراة ، فقال : لا أريد أن أرى ذلك ، فأمر أبابكر على الحجّ بالناس ، وأنفذه ، ثم أتبعه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه على ناقته العضباء ، وأمره أن يؤذّن في النّاس بأربعين آية : صدر سورة «براءة» ، وقيل : ثلاثين ، وقيل : عشرين ، وفي بعض الروايات : عشر آيات ، وفي بعضها : تسع آيات ، وأمره أن يؤذن الناس بأربعة أشياء ، وهي : ألّا يحجّ بعد العام مشرك ، ولا يدخل الجنّة إلا نفس مؤمنة ، وفي بعض الروايات : ولا يدخل الجنّة كافر ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول الله عهد ، فهو إلى مدّته ، وفي بعض الروايات : ومن كان بينه وبين رسول الله عهد ، فأجله أربعة أشهر يسيح فيها ، فإذا انقضت ، فإن الله بريء من المشركين ورسوله.

قال* ع (١) * : وأقول : إنهم كانوا ينادون بهذا كلّه ، فأربعة أشهر ؛ للذين لهم عهد وتحسّس منهم نقضه ، والإبقاء إلى المدّة لمن لم يخبر منه نقض ، وذكر الطبريّ أن العرب قالت يومئذ : نحن نبرأ من عهدك ، ثم لام بعضهم بعضا ، وقالوا : ما تصنعون ، وقد أسلمت قريش؟ فأسلموا كلّهم ، ولم يسح أحد.

قال* ع (٢) * : وحينئذ دخل الناس في دين الله أفواجا.

وقوله سبحانه : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) أي : ورسوله بريء منهم.

وقوله : (فَإِنْ تُبْتُمْ) ، أي : عن الكفر.

وقوله سبحانه : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) ، هذا هو الاستثناء الذي تقدّم ذكره ، وقرأ عكرمة وغيره : «ينقضوكم» (٣) ـ بالضاد المعجمة ـ ، و (يُظاهِرُوا) : معناه : يعاونوا ،

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٦)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٦)

(٣) ذكره ابن عطية (٣ / ٧)

١٦٣

والظّهير : المعين.

وقوله : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) : تنبيه على أنّ الوفاء بالعهد من التقوى.

(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)(٧)

وقوله سبحانه : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) : الانسلاخ : خروج الشيء عن الشيء المتلبّس به ؛ كانسلاخ الشاة عن الجلد ، فشبه انصرام الأشهر بذلك.

وقوله سبحانه : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ...) الآية : قال ابن زيد : هذه الآية ، وقوله سبحانه : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) [محمد : ٤] : هما محكمتان ؛ أي : ليست إحداهما بناسخة للأخرى.

قال* ع (١) * : هذا هو الصواب.

وقوله : (وَخُذُوهُمْ) معناه : الأسر.

وقوله : (كُلَّ مَرْصَدٍ) : معناه : مواضع الغرّة ؛ حيث يرصدون ونصب «كلّ» على الظرف أو بإسقاط الخافض ، التقدير : في كلّ مرصد.

وقوله : (فَإِنْ تابُوا) ، أي : عن الكفر.

وقوله سبحانه : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) ، أي : جلب منك عهدا وجوارا / يأمن به ، (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) ، يعني القرآن ، والمعنى : يفهم أحكامه ، قال الحسن : وهذه آية محكمة ؛ وذلك سنّة إلى يوم القيامة (٢).

وقوله سبحانه : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ...) الآية : قال ابن إسحاق : هي قبائل بني بكر ؛ كانوا دخلوا وقت الحديبية في العهد ، فأمر المسلمون بإتمام العهد لمن لم يكن نقض منهم.

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٨)

(٢) ذكره ابن عطية (٣ / ٥)

١٦٤

(كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)(١١)

وقوله سبحانه : (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ...) الآية : في الكلام حذف ، تقديره : كيف يكون لهم عهد ونحوه ، وفي «كيف» هنا تأكيد للاستبعاد الذي في الأولى ، و (لا يَرْقُبُوا) معناه : لا يراعوا ، ولا يحفظوا ، وقرأ الجمهور (١) : (إِلًّا) ، وهو الله عزوجل ؛ قاله مجاهد ، وأبو مجلز ، وهو اسمه بالسّريانية (٢) ، وعرّب ، ويجوز أن يراد به العهد ، والعرب تقول للعهد والحلف والجوار ونحو هذه المعاني : «إلّا» ، والذّمة أيضا : بمعنى الحلف والجوار ونحوه.

(وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(١٣)

وقوله سبحانه : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ ...) الآية ، ويليق هنا ذكر شيء من حكم طعن الذميّ في الدّين ، والمشهور من مذهب مالك : أنه إذا فعل شيئا من ذلك ؛ مثل تكذيب الشريعة ، وسبّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتل.

وقوله سبحانه : (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) ، أي : رؤوسهم وأعيانهم الذين يقودون الناس إليه ، وأصوب ما يقال في هذه الآية : أنه لا يعنى بها معيّن وإنما وقع الأمر بقتال أئمة الناكثين للعهود من الكفرة إلى يوم القيامة ، واقتضت حال كفّار العرب ومحاربي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ أن تكون الإشارة إليهم أولا ، ثم كلّ من دفع في صدر الشريعة إلى يوم القيامة فهو بمنزلتهم.

وقرأ الجمهور (٣) : «لا أيمان لهم» (جمع يمين) ، أي : لا أيمان لهم يوفى بها وتبرّ ، وهذا المعنى يشبه الآية ، وقرأ ابن عامر وحده من السبعة : «لا إيمان لهم» ، وهذا يحتمل وجهين :

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ١٠)

(٢) ذكره ابن عطية (٣ / ١٠)

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ١٢) ، و «البحر المحيط» (٥ / ١٧)

١٦٥

أحدهما : لا تصديق لهم ، قال أبو عليّ : وهذا غير قويّ ؛ لأنه تكرير ، وذلك أنه وصف أئمّة الكفر بأنهم لا إيمان لهم ، والوجه في كسر الألف أنّه مصدر من آمنته إيمانا ؛ ومنه قوله تعالى : (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش : ٤] فالمعنى : أنهم لا يؤمنون كما يؤمّن أهل الذمّة الكتابيّون ؛ إذ المشركون ليس لهم إلا الإسلام أو السّيف ، قال أبو حاتم : فسّر الحسن قراءته : لا إسلام لهم.

قال* ع (١) * : والتكرير الذي فرّ أبو عليّ منه متّجه ، لأنه بيان المهمّ الذي يوجب قتلهم.

وقوله عزوجل : (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ ...) الآية «ألا» : عرض وتحضيض ، قال الحسن : والمراد (بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) : إخراجه من المدينة ، وهذا مستقيم ؛ كغزوة أحد والأحزاب (٢).

وقال السديّ : المراد من مكّة (٣).

وقوله سبحانه : (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) ، قيل : يراد أفعالهم بمكّة بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبالمؤمنين.

وقال مجاهد : يراد به ما بدأت به قريش من معونة بني بكر حلفائهم ، على خزاعة حلفاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان هذا بدء النقض (٤).

وقال الطبريّ (٥) : يعني فعلهم يوم بدر.

قال الفخر (٦) : قال ابن إسحاق والسّدّيّ والكلبيّ : نزلت هذه الآية في كفّار مكّة ؛ نكثوا أيمانهم بعد عهد الحديبية ، وأعانوا بني بكر على خزاعة (٧). انتهى.

وقوله سبحانه : (أَتَخْشَوْنَهُمْ) : استفهام على معنى التقرير والتوبيخ ، (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، أي : كاملي الإيمان.

(قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ(١٤)

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ١٢)

(٢) ذكره ابن عطية (٣ / ١٣)

(٣) ذكره ابن عطية (٣ / ١٣)

(٤) ذكره ابن عطية (٣ / ١٣)

(٥) ينظر : «تفسير الطبري» (٦ / ٣٣١)

(٦) ينظر : «تفسير الرازي» (١٥ / ١٨٧)

(٧) أخرجه الطبري (٦ / ٣٣١) برقم : (١٦٥٥٣) ، وذكره ابن عطية (٣ / ١٣) بنحوه.

١٦٦

وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(١٥)

وقوله سبحانه : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) ، قرّرت الآيات قبلها أفعال الكفرة ، ثم حضّ على القتال مقترنا بذنوبهم ؛ لتنبعث الحميّة مع ذلك ، ثم جزم الأمر بقتالهم في هذه الآية مقترنا بوعد وكيد يتضمّن النصر عليهم ، والظّفر بهم.

وقوله سبحانه : (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) ، معناه : بالقتل والأسر ، و (وَيُخْزِهِمْ) ، معناه : يذلهم على ذنوبهم ، يقال : خزي الرجل يخزى خزيا ، إذا ذلّ من حيث وقع في عار ، وأخزاه غيره ، وخزي يخزى خزاية / إذا استحى ، وأما قوله تعالى : (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) ، فيحتمل أن يريد جماعة المؤمنين ، لأن كلّ ما يهدّ من الكفر هو شفاء من همّ صدور المؤمنين ، ويحتمل أن يريد تخصيص قوم من المؤمنين ، وروي أنهم خزاعة ؛ قاله مجاهد والسّدّيّ (١) ، ووجه تخصيصهم أنهم الذين نقض فيهم العهد ، ونالتهم الحرب ، وكان يومئذ في خزاعة مؤمنون كثير ؛ ويقتضي ذلك قول الخزاعيّ المستنصر بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [الرجز]

ثمّت أسلمنا فلم ننزع يدا

وفي آخر الرجز :

وقتّلونا ركّعا وسجّدا (٢)

__________________

(١) أخرجه الطبري (٦ / ٣٣٢) برقم : (١٦٥٥٤ ـ ١٦٥٥٧ ـ ١٦٥٥٨ ـ ١٦٥٥٩) ، وذكره ابن عطية (٣ / ١٣) ، والبغوي (٢ / ٢٧٣) رقم : (١٤) ، وابن كثير (٢ / ٣٣٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٨٩) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ.

(٢) والأبيات :

يا ربّ إنّي ناشد محمّدا

حلف أبينا وأبيه الأتلدا

كنت لنا أبا وكنّا ولدا

ثمّت أسلمنا ولم ننزع يدا

فانصر هداك الله نصرا عبدا

وادع عباد الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجرّدا

أبيض مثل الشّمس ينمو صعدا

إن سيم خسفا وجهه تربّدا

في فيلق كالبحر يجري مزبدا

إن قريشا أخلفوك الموعدا

ونقضوا ميثاقك المؤكّدا

وزعموا أن لست تدعو أحدا

وهم أذلّ وأقلّ عددا

هم بيّتونا بالحطيم هجّدا

وقتلونا ركّعا وسجّدا

ذكر السيوطي في هذه الأبيات (٣ / ٢١٥) نقلا عن ابن إسحاق والبيهقي في «الدلائل» ، وانظر القرطبي (٨ / ٤٣) ، و «روح المعاني» (١٠ / ٤٤) ، و «البحر المحيط» (٥ / ٧) ، والواحدي في «الوسيط» (٢ / ٤٨١ ـ ٤٨٢) ، وذكره الهيثمي في «المجمع» (٤ / ١٦١) ، وعزاه لأبي يعلى ، وينظر : «الاستيعاب» لابن عبد البر (٣ / ١١٧٥)

١٦٧

وقرأ جمهور الناس : و «يتوب» (١) ـ بالرفع ـ ، على القطع مما قبله ، والمعنى أن الآية استأنفت الخبر بأنه قد يتوب على بعض هؤلاء الكفرة الذين أمر بقتالهم.

وعبارة* ص* : و «يتوب» ، الجمهور بالرّفع على الاستئناف ، وليس بداخل في جواب الأمر ؛ لأن توبته سبحانه على من يشاء ليست جزاء على قتال الكفّار. انتهى.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦) ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)(١٨)

وقوله عزوجل : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ ...) الآية : خطاب للمؤمنين ؛ كقوله : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ...) الآية [آل عمران : ١٤٢] ومعنى الآية : أظننتم أن تتركوا دون اختبار وامتحان ، والمراد بقوله : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ) ، أي : لم يعلم الله ذلك موجودا ؛ كما علمه أزلا بشرط الوجود ، وليس يحدث له علم تبارك وتعالى عن ذلك ، و (وَلِيجَةً) : معناه : بطانة ودخيلة ، وهو مأخوذ من الولوج ، فالمعنى : أمرا باطنا مما ينكر ، وفي الآية طعن على المنافقين الذين اتخذوا الولائج ، قال الفخر (٢) : قال أبو عبيدة : كلّ شيء أدخلته في شيء ليس منه ، فهو وليجة ، وأصله من الولوج ، قال الواحديّ يقال : هو وليجة ، للواحد والجمع. انتهى.

وقوله سبحانه : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) ، إلى قوله : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ ...) الآية ، لفظ هذه الآية الخبر ، وفي ضمنها أمر المؤمنين بعمارة المساجد ، وروى أبو سعيد الخدريّ ؛ أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا رأيتم الرّجل يعتاد المساجد ، فاشهدوا له بالإيمان» (٣).

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ١٤) ، و «البحر المحيط» (٥ / ١٩) ، و «الدر المصون» (٣ / ٤٥٢)

(٢) ينظر : «تفسير الرازي» (١٦ / ٦)

(٣) أخرجه الترمذي (٥ / ١٢) كتاب «الإيمان» باب : ما جاء في حرمة الصلاة ، حديث (٢٦١٧) ، وفي (٥ / ٢٧٧) كتاب «التفسير» باب : «ومن سورة التوبة» ، حديث (٣٠٩٣) ، وابن ماجه (١ / ٢٦٣) كتاب «المساجد» باب : لزوم المساجد وانتظار الصلاة ، حديث : (٨٠٢) ، وأحمد (٣ / ٦٨) ، والدارمي (١ / ٢٧٨) كتاب «الصلاة» باب : المحافظة على الصلوات ، وابن خزيمة (٢ / ٣٧٩) رقم : (١٥٠٢) ، وابن حبان (١٧٢١) ، والحاكم (٢ / ٣٣٢) ، والبيهقي (٣ / ٦٦) كتاب «الصلاة» باب : فضل المساجد ، ـ

١٦٨

* ت* : زاد ابن الخطيب في روايته : «فإنّ الله تعالى يقول : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). انتهى من ترجمة محمّد بن عبد الله ، وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ أنّه قال : «إنّ الله ضمن لمن كانت المساجد بيته الأمن ، والأمان ، والجواز على الصّراط يوم القيامة» خرّجه عليّ بن عبد العزيز البغوي في «المسند المنتخب» له ، وروى البغويّ أيضا في هذا «المسند» ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ أنّه قال : «إذا أوطن الرّجل المساجد بالصّلاة ، والذّكر ، تبشبش الله له كما يتبشبش أهل الغائب لغائبهم إذا قدم عليهم». انتهى من «الكوكب الدرّي» ، قيل : ومعنى «يتبشبش» : أي يفرح به.

وقوله سبحانه : (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) ، يريد : خشية التعظيم والعبادة ، وهذه مرتبة العدل من الناس ، ولا محالة أنّ الإنسان يخشى غيره ، ويخشى المحاذير الدنيويّة ، وينبغي أن يخشى في ذلك كلّه قضاء الله وتصريفه.

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)(٢٢)

وقوله سبحانه : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ ...) الآية : (سِقايَةَ الْحاجِ) : كانت في بني هاشم ، وكان العبّاس يتولّاها ، قال الحسن : ولما نزلت هذه الآية ، قال العبّاس : ما أراني إلّا أترك السقاية ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أقيموا عليها فهي خير لكم» (١) (وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) : قيل : هي حفظه ممّن يظلم فيه ، أو يقول هجرا ، وكان ذلك إلى العبّاس ، وقيل : هي السّدانة (٢) وخدمة البيت خاصّة ، وكان ذلك في بني عبد الدّار ، وكان يتولّاها عثمان بن طلحة ، وابن عمه شيبة ، وأقرّها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهما ثاني يوم الفتح ، وقال : «خذاها خالدة تالدة

__________________

ـ وأبو نعيم في «الحلية» (٨ / ٣٢٧) كلهم من طريق عمرو بن الحارث ، عن دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري به.

وقال الترمذي : حديث غريب حسن. وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والذهبي. وأخرجه أحمد (٣ / ٧٦) ، وعبد بن حميد في «المنتخب» ص : (٢٨٩) رقم : (٩٢٣) ، عن الحسن بن موسى ، ثنا ابن لهيعة عن دراج به.

والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٩١) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه.

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٩٦) ، وعزاه لأبي الشيخ عن الحسن.

(٢) سدانة الكعبة : خدمتها ، وتولي أمرها ، وفتح بابها وإغلاقه. ينظر : «النهاية» (٢ / ٣٥٥)

١٦٩

لا ينازعكموها إلّا ظالم».

واختلف الناس في سبب نزول هذه الآية ، فقال مجاهد : أمروا بالهجرة ، فقال العبّاس : أنا أسقي الحاجّ ، وقال عثمان بن طلحة : أنا حاجب الكعبة ، وقال محمد بن كعب : إن العبّاس وعليّا وعثمان بن طلحة تفاخروا فنزلت الآية ، وقيل غير هذا.

/ وقوله سبحانه : (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ ...) الآية : لما حكم سبحانه في الآية المتقدّمة بأن الصّنفين لا يستوون ، بيّن ذلك في هذه الآية الأخيرة ، وأوضحه ، فعدّد الإيمان والهجرة والجهاد بالمال والنفس ، وحكم على أنّ أهل هذه الخصال أعظم درجة عند الله من جميع الخلق ، ثم حكم لهم بالفوز برحمته ورضوانه ، والفوز : بلوغ البغية ، إمّا في نيل رغيبة ، أو نجاة من هلكة ، وينظر إلى معنى هذه الآية الحديث : «دعوا لي أصحابي ؛ فلو أنّ أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ، ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» (١) ؛ ولأن أصحاب هذه الخصال على سيوفهم انبنى الإسلام ، وتمهّد الشرع.

وقوله سبحانه : (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ) ، هذا وعد كريم من ربّ رحيم ، وفي الحديث الصحيح : «إذا استقر أهل الجنّة في الجنّة ، يقول الله عزوجل لهم : هل رضيتم؟ فيقولون : وكيف لا نرضى ، يا ربّنا؟ فيقول : إنّي سأعطيكم أفضل من ذلك! رضواني أرضى عليكم ؛ فلا أسخط عليكم أبدا ...» (٢) الحديث.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ

__________________

(١) ورد ذلك من حديث أبي سعيد ، وأبي هريرة ، وأنس بن مالك :

فأمّا حديث أبي سعيد ، فرواه البخاري (٢٥١٧) في «فضائل الصحابة» باب : قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو كنت متخذا خليلا» (٣٦٧٣) ، ومسلم (٤ / ١٩٦٧) في «فضائل الصحابة» باب : تحريم سب الصحابة (٢٢٢ / ٢٥٤١) ، وأبو داود (٢ / ٦٢٦) في «السنة» باب : في النهي عن سب أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤٦٥٨) ، والترمذي (٥ / ٦٥٣) في المناقب (٣٨٦١) ، وأحمد (٣ / ١١ ، ٥٤ ، ٦٣) ، وابن أبي عاصم في «السنة» (٢ / ٤٧٨ ـ ٤٧٩) (٩٩٠ ـ ٩٩١) ، والبيهقي (١٠ / ٢٠٩) والخطيب في «التاريخ» (٧ / ١٤٤) عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد مرفوعا. وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

وأما حديث أبي هريرة ، فرواه مسلم (٢٢١ ـ ٢٥٤٠) ، وابن ماجه (١ / ٥٧) في «المقدمة» باب : فضل أهل بدر (١٦١) عن الأعمش ، عن أبي صالح عنه مرفوعا به.

وأما حديث أنس فرواه أحمد (٣ / ٢٦٦)

(٢) تقدم تخريجه.

١٧٠

وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(٢٤)

وقوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ) ، ظاهر هذه المخاطبة : أنها لجميع المؤمنين كافّة ، وهي باقية الحكم إلى يوم القيامة ، وروت فرقة أنها نزلت في الحضّ على الهجرة ، ورفض بلاد الكفر.

وقوله سبحانه : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ ...) الآية : هذه الآية تقوّي مذهب من رأى أن هذه الآية والّتي قبلها إنما مقصودهما الحضّ على الهجرة ، وفي ضمن قوله : (فَتَرَبَّصُوا) : وعيد بيّن.

وقوله : (بِأَمْرِهِ) ، قال الحسن : الإشارة إلى عذاب أو عقوبة من الله تعالى (١).

وقال مجاهد : الإشارة إلى فتح مكّة (٢) ، وذكر الأبناء في هذه الآية دون التي قبلها ، لما جلبت ذكرهم المحبّة ، والأبناء : صدر في المحبة وليسوا كذلك ، في أن تتبع آراؤهم ؛ كما في الآية المتقدمة ، واقترفتموها : معناه : اكتسبتموها ، ومساكن : جمع مسكن ـ بفتح الكاف : ، مفعل من السّكنى ، وما كان من هذا معتلّ الفاء ، فإنما يأتي على مفعل (بكسر العين) ؛ كموعد وموطن.

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢٧)

وقوله سبحانه : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) ، هذه مخاطبة لجميع المؤمنين يعدّد الله تعالى نعمه عليهم ، والمواطن المشار إليها بدر والخندق والنّضير وقريظة وخيبر وغيرها ، وحنين واد بين مكّة والطائف.

وقوله : (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) ، روي أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال حين رأى جملته اثني عشر

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٣ / ١٨)

(٢) أخرجه الطبري (٦ / ٣٣٩) برقم : (١٦٥٨٤) ، وذكره ابن عطية (٣ / ١٨) ، والبغوي (٢ / ٢٧٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٠٣) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ.

١٧١

ألفا : «لن تغلب اليوم من قلّة» (١) ، وروي أنّ رجلا من أصحابه قالها فأراد الله تعالى إظهار العجز ؛ فظهر حين فرّ الناس.

* ت* : العجب جائز في حقّ غير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو معصوم منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والصواب في فهم الحديث ، أنه خرج مخرج الإخبار ، لا على وجه العجب ؛ وعلى هذا فهمه ابن رشد وغيره ، وأنه إذا بلغ عدد المسلمين اثني عشر ألفا حرم الفرار ، وإن زاد عدد المشركين على الضّعف ؛ وعليه عوّل في الفتوى ، وقوله تعالى : (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) ، معناه : برحبها ؛ كأنه قال : على ما هي عليه في نفسها رحبة واسعة ، لشدّة الحال وصعوبتها ؛ ف «ما» : مصدرية.

وقوله سبحانه : (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) ، أي : فرارا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم واختصار هذه القصّة : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا فتح مكّة ، وكان في عشرة آلاف من أصحابه ، وانضاف إليهم ألفان من الطّلقاء ، فصار في اثني عشر ألفا ، سمع بذلك كفّار العرب ، فشقّ عليهم ، فجمعت له هوازن وألفافها ، وعليهم مالك بن عوف النصريّ ، وثقيف ، وعليهم عبد ياليل بن عمرو / وانضاف إليهم أخلاط من الناس حتى كانوا ثلاثين ألفا ، فخرج إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين اجتمعوا بحنين ، فلما تصافّ الناس ، حمل المشركون من محاني الوادي ، وانهزم المسلمون ، قال قتادة : وكان يقال : إن الطلقاء من أهل مكّة فرّوا ، وقصدوا إلقاء الهزيمة في المسلمين (٢) ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بغلته البيضاء قد اكتنفه العبّاس عمّه ، وابن عمّه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب ، وبين يديه أيمن بن أمّ أيمن ، وثمّ قتل رحمه‌الله والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول :

أنا النّبيّ لا كذب

أنا ابن عبد المطّلب

فلما رأى نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شدّة الحال ، نزل عن بغلته إلى الأرض ؛ قاله البراء بن عازب (٣) ، واستنصر الله عزوجل ، فأخذ قبضة من تراب وحصى ، فرمى بها في وجوه الكفّار ، وقال : «شاهت الوجوه» ، ونادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأنصار ، وأمر العبّاس أن ينادي : «أين أصحاب الشّجرة؟ أين أصحاب سورة البقرة؟» فرجع النّاس عنقا واحدا للحرب ، وتصافحوا بالسّيوف والطّعن والضرب ، وهناك قال عليه‌السلام : «الآن حمي الوطيس» (٤)

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٠٤) ، وعزاه للبيهقي في «دلائل النبوة».

(٢) أخرجه الطبري (٦ / ٣٤٠) برقم : (١٦٥٨٨) نحوه ، وذكره ابن عطية (٢ / ١٩)

(٣) أخرجه الطبري (٦ / ٣٤٣) برقم : (١٦٥٩٥) وذكره ابن عطية (٣ / ١٩)

(٤) تقدم في : سورة الأنفال.

١٧٢

وهزم الله المشركين ، وأعلى كلمة الإسلام إلى يوم الدين ، قال يعلى بن عطاء : فحدّثني أبناء المنهزمين عن آبائهم ، قالوا : لم يبق منّا أحد إلا دخل عينيه من ذلك التّراب واستيعاب هذه القصة في كتب «السّير».

و (مُدْبِرِينَ) : نصب على الحال المؤكّدة ؛ كقوله : (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً) [البقرة : ٩١] ، والمؤكّدة هي التي يدلّ ما قبلها عليها كدلالة التولّي على الإدبار.

وقوله سبحانه : (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ ...) الآية : السكينة : النّصر الذي سكنت إليه ومعه النفوس ، والجنود : الملائكة ، والرّعب ؛ قال أبو حاجز يزيد بن عامر : كان في أجوافنا مثل ضربة الحجر في الطّست من الرّعب ، (وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، أي : بالقتل والأسر ، وروى أبو داود ، عن سهل بن الحنظليّة (١) أنهم ساروا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين ، فأطنبوا السّير حتّى كان عشيّة ، فحضرت الصّلاة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاء رجل فارس ، فقال : يا رسول الله ، إنّي انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا ، فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم ، وشياههم ، اجتمعوا إلى حنين ، فتبسّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال : «تلك غنيمة المسلين غدا ، إن شاء الله ...» الحديث. انتهى (٢) ، فكانوا كذلك غنيمة بحمد الله ، كما أخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨) قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ)(٢٩)

__________________

(١) هو : سهل بن الربيع بن عمرو بن عدي بن زيد ، الأوسي ، الأنصاري.

قال ابن الأثير في «الأسد» : كان ممن بايع تحت الشجرة ، وكان فاضلا معتزلا عن الناس ، كثير الصلاة والذكر ، كان لا يزال يصلي مهما هو في المسجد ، فإذا انصرف لا يزال ذاكرا ، روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وروى عنه أبو كبشة.

ينظر ترجمته في : «أسد الغابة» (٢ / ٤٦٩) ، «الإصابة» (٣ / ١٣٨) ، «الثقات» (٣ / ١٧٠) ، «نقعة الصديان» (١٩٢) ، «تجريد أسماء الصحابة» (١ / ٢٤٣) ، «الاستيعاب» (٢ / ٦٦٢) ، «بقي بن مخلد» (٣٩١) ، «تقريب التهذيب» (١ / ٣٣٦) ، «تهذيب التهذيب» (٤ / ٢٥١) ، «تهذيب الكمال» (١ / ٥٥٤) ، «الجرح والتعديل» (٤ / ت ٨٤١) ، «التاريخ الكبير» ، (٤ / ٩٨) ، «الطبقات الكبرى» (٨ / ٣٢٨)

(٢) أخرجه أبو داود (٢ / ١٢ ـ ١٣) كتاب «الجهاد» باب : في فضل الحرس في سبيل الله عزوجل ، حديث (٢٥٠١) ، والحاكم (٢ / ٨٣ ـ ٨٤) ، والبيهقي في «دلائل النبوة» (٥ / ١٢٥ ـ ١٢٦) ، والطبراني في «الكبير» (٦ / ٩٦) ، رقم : (٥٦١٩) من حديث سهل بن الحنظلية.

١٧٣

وقوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) ، قال ابن عباس وغيره : معنى الشّرك هو الذي نجّسهم ؛ كنجاسة الخمر (١) ، ونصّ الله سبحانه في هذه الآية على المشركين ، وعلى المسجد الحرام ، فقاس مالك رحمه‌الله وغيره جميع الكفّار من أهل الكتاب وغيرهم ؛ على المشركين ، وقاس سائر المساجد على المسجد الحرام ، ومنع من دخول الجميع في جميع المساجد ، وقوّة قوله سبحانه : (فَلا يَقْرَبُوا) يقتضي أمر المسلمين بمنعهم.

وقوله : (بَعْدَ عامِهِمْ هذا) ، يريد : بعد عام تسع من الهجرة ، وهو عام حجّ أبو بكر بالنّاس.

وقوله سبحانه : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) ، أي : فقرا ، (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) ، وكان المسلمون ، لمّا منع المشركون من الموسم ، وهم كانوا يجلبون الأطعمة والتجارات ، قذف الشيطان في نفوسهم الخوف من الفقر ، وقالوا : من أين نعيش؟ فوعدهم الله سبحانه بأن يغنيهم من فضله ، فكان الأمر كما وعد الله سبحانه ، فأسلمت العرب ، فتمادى حجّهم وتجرهم ، وأغنى الله من فضله بالجهاد والظهور على الأمم.

وقوله سبحانه : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ / ...) الآية : هذه الآية تضمّنت قتال أهل الكتاب ، قال مجاهد : وعند نزول هذه الآية أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزو الرّوم ، ومشى نحو تبوك ، ونفى سبحانه عن أهل الكتاب الإيمان بالله واليوم الآخر ؛ حيث تركوا شرع الإسلام ؛ وأيضا فكانت اعتقاداتهم غير مستقيمة ، لأنهم تشعّبوا ، وقالوا عزير ابن الله ، والله ثالث ثلاثة ، وغير ذلك ؛ ولهم أيضا في البعث آراء فاسدة ؛ كشراء منازل الجنّة من الرّهبان ؛ إلى غير ذلك من الهذيان ، (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ) ، أي : لا يطيعون ، ولا يمتثلون ؛ ومنه قول عائشة : «ما عقلت أبويّ إلّا وهما يدينان الدّين» ، والدّين هنا : الشريعة ، قال ابن القاسم وأشهب وسحنون : وتؤخذ الجزية من مجوس العرب والأمم كلّها ، وأما عبدة الأوثان والنّيران وغير ذلك ، فجمهور العلماء على قبول الجزية منهم ، وهو قول مالك في «المدونة».

وقال الشافعيّ وأبو ثور : لا تؤخذ الجزية إلا من اليهود والنصارى والمجوس فقط ، وأما قدرها في مذهب مالك وغيره ، فأربعة دنانير على أهل الذّهب ، وأربعون درهما على أهل الفضّة ، وهذا في العنوة ، وأما الصّلح ، فهو ما صالحوا عليه ، قليل أو كثير.

وقوله : (عَنْ يَدٍ) يحتمل وجوها :

__________________

(١) أخرجه الطبري (٦ / ٣٤٥) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٢ / ٢٠)

١٧٤

منها : أن يريد عن قوّة منكم عليهم ، وقهر ، واليد في كلام العرب : القوّة.

ومنها : أن يريد سوق الذّمي لها بيده ، لا أن يبعثها مع رسول ؛ ليكون في ذلك إذلال لهم.

ومنها : أن يريد نقدها ناجزا ، تقول : بعته يدا بيد ، أي : لا يؤخّروا بها.

ومنها : أن يريد عن استسلام ، يقال : ألقى فلان بيده ، إذا عجز واستسلم.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(٣٣)

وقوله سبحانه : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) : الذي كثر في كتب أهل العلم ؛ أنّ فرقة من اليهود قالت هذه المقالة وروي أنه قالها نفر يسير منهم فنحاص وغيره ، قال النّقّاش : ولم يبق الآن يهودي يقولها ، بل انقرضوا.

قال* ع (١) * : فإذا قالها ولو واحد من رؤسائهم ، توجّهت شنعة المقالة على جماعتهم ، وحكى الطبريّ وغيره ؛ أن بني إسرائيل أصابتهم فتن وجلاء ، وقيل : مرض ، وأذهب الله عنهم التّوراة في ذلك ، ونسوها ، وكان علماؤهم قد دفنوها أول ما أحسّوا بذلك البلاء ، فلما طالت المدة ، فقدت التوراة جملة ، فحفّظها الله عزيرا ؛ كرامة منه له ، فقال لبني إسرائيل : إن الله قد حفّظني التوراة ، فجعلوا يدرسونها من عنده ، ثم إن التوراة المدفونة وجدت ، فإذا هي مساوية لما كان عزيز يدرّس ، فضلّوا عند ذلك ، وقالوا : إن هذا لم يتهيّأ لعزيز إلا وهو ابن الله ، نعوذ بالله من الضّلال.

وقوله : (بِأَفْواهِهِمْ) ، أي : بمجرّد الدعوى من غير حجّة ولا برهان ، و (يُضاهِؤُنَ) ، قراءة الجماعة (٢) ، ومعناه : يحاكون ويماثلون ، والإشارة بقوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) :

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٢٣)

(٢) وقرأ عاصم وحده من «السبعة» «يضاهئون» ، وكذلك طلحة بن مصرف. وهي من «ضاهأ» بمعنى «ضاهى» ، وهي لغة ثقيف. ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٢٥) ، و «العنوان في القراءات السبع» (١٠٢) ، و «الحجة» (٤ / ١٨٦) ، و «السبعة» (٣١٤) ، و «معاني القراءات» (١ / ٤٥١)

١٧٥

إما لمشركي العرب ؛ إذ قالوا : الملائكة بنات الله ؛ قاله الضّحّاك ، وإما لأمم سالفة قبلها ، وإما للصّدر الأول من كفرة اليهود والنصارى ، ويكون (يُضاهِؤُنَ) لمعاصري النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن كان الضمير في (يُضاهِؤُنَ) للنصارى فقط ، كانت الإشارة ب (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) إلى اليهود ؛ وعلى هذا فسّر الطبريّ ، وحكاه غيره عن قتادة (١).

وقوله : (قاتَلَهُمُ اللهُ) : دعاء عليهم عامّ لأنواع الشّر ، وعن ابن عباس ؛ أن المعنى : لعنهم الله (٢). قال الداوديّ : وعن ابن عباس قاتلهم الله : لعنهم الله ، وكلّ شيء في القرآن : قتل ، فهو لعن. انتهى. و (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) ، أي : يصرفون عن الخير.

وقوله سبحانه : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ ...) الآية : هذه الآية يفسّرها ما حكاه الطّبريّ (٣) ؛ أن عدي بن حاتم قال : «جئت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي عنقي صليب ذهب ، فقال : يا عديّ / اطرح هذا الصّليب من عنقك ، فسمعته يقرأ : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) ، فقلت : يا رسول الله ، وكيف ذلك ، ونحن لم نعبدهم؟ فقال : أليس تستحلّون ما أحلّوا وتحرّمون ما حرّموا؟ قلت : نعم ، قال : فذلك (٤)».

ومعنى : (سُبْحانَهُ) تنزيها له ، و (نُورَ اللهِ) ؛ في هذه الآية : هداه الصادر عن القرآن والشّرع.

وقوله : (بِأَفْواهِهِمْ) ؛ عبارة عن قلّة حيلتهم وضعفها.

وقوله : (بِالْهُدى) : يعم القرآن وجميع الشّرع.

وقوله : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ، وقد فعل ذلك سبحانه ، فالضمير في (لِيُظْهِرَهُ) : عائد على الدّين ، وقيل : على الرسول ، وهذا وإن كان صحيحا ، فالتأويل الأول أبرع منه ، وأليق بنظام الآية.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٦ / ٣٥٢) برقم : (١٦٦٣٩) نحوه ، وذكره ابن عطية (٣ / ٢٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤١٥) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ.

(٢) أخرجه الطبري (٦ / ٣٥٣) برقم : (١٦٦٤٣) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٢٥) ، وابن كثير (٢ / ٣٤٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤١٥) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ.

(٣) ينظر : «تفسير الطبري» (٦ / ٣٥٤)

(٤) أخرجه الترمذي (٥ / ٢٧٨) كتاب «التفسير» باب : «ومن سورة التوبة» ، حديث (٣٠٩٥) من طريق عبد السلام بن حرب ، عن غطيف بن أعين ، عن مصعب بن سعد ، عن عدي بن حاتم به.

وقال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب ، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث.

١٧٦

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)(٣٥)

وقوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) ، المراد بهذه الآية : بيان نقائص المذكورين ، ونهي المؤمنين عن تلك النقائص مترتّب ضمن ذلك ، واللام في (لَيَأْكُلُونَ) : لام التوكيد ، وصورة هذا الأكل هي بأنهم يأخذون من أموال أتباعهم ضرائب وفروضا باسم الكنائس والبيع وغير ذلك ممّا يوهمونهم أنّ النفقة فيه من الشّرع والتقرّب إلى الله ، وهم خلال ذلك يحتجنون تلك الأموال ، كالذي ذكره سلمان في كتاب «السير» ، عن الراهب الذي استخرج كنزه.

وقوله سبحانه : (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ، أي : عن شريعة الإسلام والإيمان بنبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله سبحانه : (وَالَّذِينَ) ابتداء ، وخبره (فَبَشِّرْهُمْ) والذي يظهر من ألفاظ الآية : أنه لما ذكر نقص الأحبار والرهبان الآكلين للمال بالباطل ، ذكر بعد ذلك بقول عامّ نقص الكانزين المانعين حقّ المال ، وقرأ طلحة بن مصرّف : «الّذين يكنزون» (١) بغير واو ، ؛ وعلى هذه القراءة يجري قول معاوية : أنّ الآية في أهل الكتاب ، وخالفه أبو ذرّ ، فقال : بل هي فينا.

و (يَكْنِزُونَ) : معناه : يجمعون ويحفظون في الأوعية ، وليس من شرط الكنز : الدفن ، والتوعّد في الكنز ، إنما وقع على منع الحقوق منه ، وعلى هذا كثير من العلماء ، وقال عليّ رضي الله عنه : أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة ، وما زاد عليها فهو كنز ، وإن أدّيت زكاته.

وقال أبو ذرّ وجماعة معه : ما فضل من مال الرّجل على حاجة نفسه ، فهو كنز ، وهذان القولان يقتضيان أنّ الذمّ في حبس المال ، لا في منع زكاته فقط.

* ت* : وحدّث أبو بكر بن الخطيب بسنده ، عن عليّ بن أبي طالب ، وابن عمر ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «إنّ الله فرض للفقراء في أموال الأغنياء قدر ما يسعهم ، فإن

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٢٧) ، و «البحر المحيط» (٥ / ٣٨) ، و «الدر المصون» (٣ / ٤٦٠)

١٧٧

منعوهم حتّى يجوعوا ويعروا ويجهدوا ، حاسبهم الله حسابا شديدا ، وعذّبهم عذابا نكرا» انتهى (١).

وقوله سبحانه : (فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ ...) الآية : قال ابن مسعود : والله ، لا يمسّ دينار دينارا ، بل يمدّ الجلد حتى يكوى بكلّ دينار ، وبكلّ درهم (٢) قال الفخر (٣) : قال أبو بكر الورّاق : وخصّت هذه المواضع بالذكر ؛ لأن صاحب المال ، إذا رأى الفقير ، قبض جبينه ، وإذا جلس إلى جنبه ، تباعد عنه ، وولّاه ظهره. انتهى.

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(٣٦)

وقوله سبحانه : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ) ، هذه الآية والتي بعدها تتضمّن ما كانت العرب عليه في جاهليّتها من تحريم شهور الحلّ ، وتحليل شهور الحرمة ، وإذا نصّ ما كانت العرب تفعله ، تبيّن معنى الآيات ، فالذي تظاهرت به الروايات ، ويتخلّص من مجموع ما ذكره النّاس : أن العرب كانت لا عيش لأكثرها إلا من الغارات وإعمال سلاحها ، فكانوا إذا توالت عليهم حرمة الأشهر الحرم ، صعب عليهم ، وأملقوا (٤) / وكان بنو فقيم من كنانة أهل دين في العرب ، وتمسّك بشرع إبراهيم عليه‌السلام ، فانتدب منهم القلمس ، وهو حذيفة بن عبد فقيم ، فنسي الشهور للعرب ، ثم خلفه على ذلك بنوه ، وذكر الطبريّ وغيره ؛ أن الأمر كان في عدوان قبل بني مالك بن كنانة ، وكانت صورة فعلهم : أن العرب كانت إذا فرغت من حجّها ، جاء إليه من شاء منهم مجتمعين ، فقالوا : أنسانا شهرا ، أي : أخّر عنا حرمة المحرّم ، فاجعلها في صفر ، فيحلّ لهم المحرّم ، فيغيرون فيه ، ثم يلتزمون حرمة صفر ؛ ليوافقوا عدّة الأشهر الحرم الأربعة قال مجاهد : ويسمّون ذلك الصّفر المحرّم ، ثم يسمعون ربيعا الأوّل صفرا وربيعا الآخر ربيعا الأوّل ، وهكذا في سائر الشهور ، وتجيء السنة من ثلاثة عشر شهرا أولها : المحرّم

__________________

(١) أخرجه الخطيب في «تاريخه» (٥ / ٣٠٨) عن علي وذكره الهندي في «كنز العمال» (١٥٨٢٣) وقال : وفيه محمد بن سعيد البورقي ، كذاب يضع.

(٢) أخرجه الطبري (٦ / ٣٦٣ ، ٣٦٤) برقم : (١٦٦٩٧ ـ ١٦٦٩٨) نحوه ، وابن عطية (٣ / ٢٩) ، والبغوي (٢ / ٢٨٩) نحوه ، وابن كثير (٢ / ٣٥٢) نحوه.

(٣) ينظر : «تفسير الرازي» (١٦ / ٣٩)

(٤) يعني : افتقروا ، وضربهم الإملاق ، وهو الافتقار. ينظر : «لسان العرب» (٥ / ٤٢٦)

١٧٨

المحلّل ، ثم المحرّم الذي هو في الحقيقة صفر (١) ، وفي هذا قال الله عزوجل : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً) ، أي : ليست ثلاثة عشر ، ثم كانت حجّة أبي بكر في ذي القعدة حقيقة ، وهم يسمّونه ذا الحجّة ، ثم حجّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سنة عشر في ذي الحجّة حقيقة ، فذلك قوله عليه‌السلام : «إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السّموات والأرض ؛ السّنة اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حرم : ذو القعدة ، وذو الحجّة ، والمحرّم ، ورجب مضر الّذي بين جمادى وشعبان» (٢).

وقوله في (كِتابِ اللهِ) ، أي : فيما كتبه ، وأثبته في اللّوح المحفوظ ، أو غيره ، فهي صفة فعل مثل خلقه ورزقه ، وليست بمعنى قضاءه وتقديره ؛ لأن تلك هي قبل خلق السموات والأرض.

وقوله سبحانه : (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) : نصّ على تفضيل هذه الأربعة وتشريفها ، قال قتادة : «اصطفى الله من الملائكة والبشر رسلا ، ومن الشهور المحرّم ورمضان ، ومن البقع المساجد ، ومن الأيام الجمعة ، ومن الليالي ليلة القدر ، ومن الكلام ذكره ، فينبغي أن يعظّم ما عظّم الله» (٣).

وقوله سبحانه : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) ، قالت فرقة : معناه : الحساب المستقيم ، وقال ابن عباس ، فيما حكى المهدويّ : معناه : القضاء المستقيم.

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٣ / ٣٠)

(٢) أخرجه البخاري (٦ / ٣٣٨) في بدء الخلق ، باب : ما جاء في سبع أرضين (٣١٩٧) ، و (٧ / ٧١١) في «المغازي» باب : حجة الوداع

(٤٤٠٦) ، و (٨ / ١٧٥) في «التفسير» باب : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً) (٤٦٦٢) ، و (١٠ / ١٠) في الأضاحي باب : من قال : الأضحى يوم النحر (٥٥٥٠) ، و (١٣ / ٤٣٣) في التوحيد ، باب : قول الله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) ، (٧٤٤٧) ، ومسلم (٣ / ١٣٠٥) ، في القسامة باب : تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (٢٩ / ١٦٧٩) ، وأبو داود (١ / ٥٩٩) في : المناسك ، باب : الأشهر الحرم (١٩٤٨) ، عن أيوب ، عن محمد بن سيرين ، عن ابن أبي بكرة به.

وأخرجه أبو داود برقم : (١٩٤٧) ، عن أيوب ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي بكرة به ، بدون ذكر ابن أبي بكرة ، وقال أبو داود : وسماه ابن عون فقال : عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبي بكرة في هذا الحديث.

ويشهد له حديث أبي هريرة عند البزار (١١٤٢) ـ «كشف الأستار» ، عن شعث بن سوّار ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة رفعه.

وقال الهيثمي في «المجمع» (٣ / ٢٧١) فيه أشعث بن سوار ، وهو ضعيف ، وقد وثق.

(٣) ذكره ابن عطية (٣ / ٣١)

١٧٩

قال* ع (١) * : والأصوب عندي أن يكون (الدِّينُ) هاهنا على أشهر وجوهه ، أي : ذلك الشّرع والطّاعة.

وقوله : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَ) ، أي : في الاثني عشر شهرا ، أي : لا تظلموا أنفسكم بالمعاصي في الزمان كلّه ، وقال قتادة : المراد الأربعة الأشهر ، وخصّصت تشريفا لها.

قال سعيد بن المسيّب : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرّم القتال في الأشهر الحرم ؛ بما أنزل الله في ذلك ؛ حتّى نزلت «براءة».

وقوله تعالى : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ) ، معناه : فيهنّ فأحرى في غيرهن ، وقوله : (كَافَّةً) ، معناه : جميعا.

(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٣٩)

وقوله سبحانه : (إِنَّمَا النَّسِيءُ) ، يعني : فعل العرب في تأخيرهم الحرمة ، (زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) ، أي : جار مع كفرهم بالله ، وخلافهم للحقّ ، فالكفر متكثّر بهذا الفعل الذي هو باطل في نفسه ؛ وممّا وجد في أشعارهم قول جذل الطّعان : [الوافر]

وقد علمت معدّ أنّ قومي

كرام النّاس إنّ لهم كراما

ألسنا النّاسئين على معدّ

شهور الحلّ نجعلها حراما (٢)

وقوله سبحانه : (يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً) ، معناه : عاما من الأعوام ، وليس يريد أنّ تلك كانت مداولة.

وقوله سبحانه : (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) ، معناه : ليوافقوا ، والمواطأة : الموافقة.

وقوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٣١)

(٢) الشعر لعمير بن قيس ، ينظر : «أما لي القالي» (١ / ٤) ، «التهذيب» ، و «اللسان» (نسا) ، و «الدر المصون» (٣ / ٤٦٣)

١٨٠