تفسير الثعالبي - ج ٣

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٣

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٩

الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) (٣٠)

وقوله سبحانه : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) : (بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) : كلمة الإخلاص والنجاة من النّار : «لا إله إلا الله» ، والإقرار بالنبوّة ، وهذه الآية تعمّ العالم من لدن آدم عليه‌السلام إلى يوم القيامة. قال طاوس ، وقتادة ، وجمهور من العلماء : (الْحَياةِ الدُّنْيا) هي مدّة حياة الإنسان ، (وَفِي الْآخِرَةِ) وقت سؤاله في قبره (١) ، وقال البراء بن عازب وجماعة : (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) : هي وقت سؤاله في قبره ، ورواه البراء عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في لفظ متأوّل ، وفي الآخرة : هو يوم القيامة عند العرض ، والأول أحسن ، ورجّحه الطبريّ.

* ت (٢) * : ولفظ البخاريّ عن البراء بن عازب / أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المسلم إذا سئل في القبر ، يشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمّدا رسول الله ، فذلك قوله : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ)». انتهى ، وحديث البراء خرّجه البخاريّ ومسلم وأبو داود والنسائيّ وابن ماجه (٣) ، قال صاحب «التذكرة» (٤) : وقد روى هذا الحديث أبو هريرة وابن مسعود وابن عباس وأبو سعيد الخدريّ قال أبو سعيد

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٤٥١) برقم : (٢٠٧٧٦) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣٣٧) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥٣٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه الطبري (٧ / ٤٤٩) برقم : (٢٠٧٦٣) بنحوه ، وذكره البغوي (٣ / ٣٤) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣٣٧) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥٣٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٤٨) ، وعزاه لابن أبي شيبة.

(٣) أخرجه البخاري (٣ / ٢٧٤) كتاب «الجنائز» باب : ما جاء في عذاب القبر ، حديث (١٣٦٩) ، وفي (٨ / ٢٢٩) كتاب «التفسير» باب : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) ، حديث (٤٦٩٩) ، ومسلم (٤ / ٢٢٠١) كتاب «الجنة» باب : عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه ، حديث (٧٣ / ٢٨٧١) ، وأبو داود (٢ / ٦٥١) كتاب «السنة» باب : في المسألة في القبر وعذاب القبر ، حديث (٤٧٥٠) ، والترمذي (٥ / ٢٩٥ ـ ٢٩٦) ، كتاب «التفسير» باب : ومن سورة إبراهيم ، حديث (٣١٢٠) ، والنسائي (٤ / ١٠١) كتاب «الجنائز» باب : عذاب القبر ، حديث (٢٠٥٧) ، وابن ماجه (٢ / ١٤٢٧) كتاب «الزهد» باب : ذكر القبر والبلى برقم : (٤٢٦٩) ، والطيالسي (٢ / ٢٠ ـ منحة) برقم : (١٩٥٩). كلهم من طريق سعد بن عبيدة ، عن البراء بن عازب به ، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٤٦) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه.

(٤) ينظر : «التذكرة» للقرطبي (١ / ١٦٦)

٣٨١

الخدريّ : كنّا في جنازة مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا أيّها النّاس إنّ هذه الأمّة تبتلى في قبورها فإذا الإنسان دفن وتفرّق عنه أصحابه ، جاءه ملك بيده مطراق ، فأقعده ، فقال : ما تقول في هذا الرّجل ...» الحديث ، وفيه : فقال بعض أصحاب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أحد يقوم على رأسه ملك بيده مطراق إلّا هبل ، فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) (١) انتهى.

قال أبو عمر بن عبد البرّ : وروّينا من طرق ؛ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعمر : كيف بك يا عمر ، إذا جاءك منكر ونكير ، إذا متّ ، وانطلق بك قومك ، فقاسوا ثلاثة أذرع وشبرا في ذراع وشبر ، ثمّ غسّلوك ، وكفّنوك ، وحنّطوك ، ثمّ احتملوك ، فوضعوك فيه ، ثمّ أهالوا عليك التّراب ، فإذا انصرفوا عنك أتاك فتّانا القبر : منكر ونكير ، أصواتهما كالرّعد القاصف ، وأبصارهما كالبرق الخاطف يجرّان شعورهما ، معهما مرزبة ، لو اجتمع عليها أهل الأرض لم يقلبوها ، فقال عمر : يا رسول الله ، إن فرقنا فحقّ لنا أن نفرق أنبعث على ما نحن عليه؟ قال : نعم ، إن شاء الله ، قال : إذن أكفيكهما» ، انتهى (٢) ، و «الظالمون» ؛ في هذه الآية : الكافرون ، (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) ، أي : بحقّ الملك ؛ فلا رادّ لأمره ، ولا معقّب لحكمه ، وجاءت أحاديث صحيحة في مساءلة العبد في قبره ، وجماعة السّنّة تقول : إنّ الله سبحانه يخلق للعبد في قبره إدراكات وتحصيلا : إما بحياة ؛ كالمتعارفة ، وإما بحضور النّفس ، وإن لم تتلبّس بالجسد كالعرف ، كلّ هذا جائز في قدرة الله تبارك وتعالى غير أنّ في الأحاديث الصّحيحة ؛ «أنّه يسمع خفق النّعال» ، ومنها : أنه يرى الضوء كأنّ الشمس دنت للغروب ، وفيها أنه يراجع ، وفيها : «فيعاد روحه إلى جسده» ، وهذا كلّه يتضمّن الحياة ، فسبحان من له هذه القدرة العظيمة ، وقوله سبحانه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) : المراد ب (الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ) : كفرة قريش ، وقد خرّجه البخاريّ وغيره مسندا عن ابن عباس (٣) انتهى ، والتقدير : بدّلوا شكر نعمة الله كفرا ، ونعمة الله تعالى ؛ في

__________________

(١) أخرجه أحمد (٣ / ٢٣٣) ، وابن أبي عاصم في «السنة» (٢ / ٤١٧ ـ ٤١٨) من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا ، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٣ / ٥١) ، وقال : رواه أحمد ، والبزار ، ورجاله رجال الصحيح ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٤٩) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي الدنيا في ذكر الموت ، وابن مردويه ، والبيهقي في «عذاب القبر» ، وقال السيوطي : سنده صحيح.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٥٣) ، وعزاه إلى ابن أبي داود في «البعث» ، والحاكم في «التاريخ» ، والبيهقي في «عذاب القبر».

(٣) أخرجه البخاري (٤٧٠٠) ، والطبري (٧ / ٤٥٤) برقم : (٢٠٧٩٦) ، وذكره البغوي (٣ / ٣٥) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥٣٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٥٦) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، والبخاري ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في «الدلائل».

٣٨٢

هذه الآية : هو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودينه ، (وَأَحَلُّوا / قَوْمَهُمْ) ، أي : من أطاعهم ، وكأنّ الإشارة والتعنيف إنما هو للرؤوس والأعلام ، و (الْبَوارِ) : الهلاك ، قال عطاء بن يسار : نزلت هذه الآية في قتلى (١) بدر ، و «الأنداد» : جمع ندّ ، وهو المثيل ، والمراد : الأصنام ، واللام في قوله : (لِيُضِلُّوا) ـ بضم الياء ـ : لام كي ، وبفتحها : لام عاقبة وصيرورة ، والقراءتان (٢) سبعيّتان.

(قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (٣٤)

وقوله سبحانه : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ ...) الآية : «العباد» : جمع عبد ، وعرفه في التكرمة بخلاف العبيد ، و «السر» : صدقة التنفّل ، و «العلانية» : المفروضة ؛ هذا هو مقتضى الأحاديث ، وفسر ابن عباس هذه الآية بزكاة الأموال مجملا ، وكذلك فسّر الصلاة ؛ بأنها الخمس وهذا عندي منه تقريب للمخاطب (٣). و «الخلال» : مصدر من «خالل» ، إذا وادّ وصافى ؛ ومنه الخلّة والخليل ، والمراد بهذا اليوم يوم القيامة.

وقوله سبحانه : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) : هذه الآية تذكير بآلائه سبحانه ، وتنبيه على قدرته التي فيها إحسان إلى البشر ؛ لتقوم الحجّة عليهم ، وقوله : (بِأَمْرِهِ) : مصدر أمر يأمر ، وهذا راجع إلى الكلام القديم القائم بالذات ، و (دائِبَيْنِ) : معناه : متماديين ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لصاحب الجمل

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٤٥٥) برقم : (٢٠٨١٣) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣٣٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٥٧) ، وعزاه لابن جرير.

(٢) وتفصيل هذه القراءة على ما يلي : قرأ أبو كثير وأبو عمرو : «ليضلوا» بفتح الياء ، أي : ليصيروا هم ضلّالا.

وحجتهما : قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) [النحل : ٣٠].

وقرأ الباقون : «ليضلوا» بضم الياء ، أي : ليضلوا غيرهم ، وحجتهم : أن الله سبحانه وصفهم قبل بأنهم ضالون في أنفسهم ، فقال : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) ، فكان الحال يقتضي زيادة معنى ، وهو : أنهم لم يتوقفوا عن ضلالهم هم ، بل عدوه إلى غيرهم.

ينظر : «شرح الطيبة» (٤ / ٣٩٦) ، و «العنوان» (١١٥) ، و «حجة القراءات» (٣٧٨) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (٢ / ١٦٩)

(٣) أخرجه الطبري (٧ / ٤٥٧) برقم : (٢٠٨٢٣) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣٣٩)

٣٨٣

الذي بكى وأجهش (١) إليه : «إنّ هذا الجمل شكا إليّ أنّك تجيعه وتدئبه» (٢) ، أي : تديمه في الخدمة والعمل ، وظاهر الآية أنّ معناه : دائبين في الطلوع والغروب وما بينهما من المنافع للناس التي لا تحصى كثرة ، وعن ابن عباس أنّه قال : معناه : دائبين في طاعة الله (٣) ، وقوله سبحانه : (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) المعنى : أنّ جنس الإنسان بجملته قد أوتي من كلّ ما شأنه أن يسأل وينتفع به ، وقرأ ابن عباس (٤) وغيره : «من كلّ ما سألتموه» ـ بتنوين كلّ ـ ، ورويت عن نافع ، وقوله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) ، أي : لكثرتها وعظمها في الحواس والقوى ، والإيجاد بعد العدم والهداية للإيمان وغير ذلك ، وقال طلق بن حبيب : إنّ حقّ الله تعالى : أثقل من أن يقوم به العبّاد ، ونعمه أكثر من أن يحصيها العباد ، ولكن أصبحوا توّابين ، وأمسوا توّابين.

* ت (٥) * : ومن «الكلم الفارقيّة» : أيها الحريص على نيل عاجل حظّه ومراده ؛ الغافل عن الاستعداد لمعاده تنبّه لعظمة من وجودك بإيجاده ؛ وبقاؤك بإرفاده ؛ ودوامك بإمداده ، وأنت طفل في حجر لطفه ؛ ومهد عطفه ؛ وحضانة حفظه ، يغذّك بلبان برّه ؛ ويقلّبك بأيدي أياديه وفضله ؛ وأنت غافل عن تعظيم أمره ؛ جاهل بما أولاك من لطيف سرّه ؛ وفضّلك به على كثير من خلقه ، واذكر عهد الإيجاد ، ودوام الإمداد والإرفاد ؛ وحالتي الإصدار والإيراد ؛ وفاتحة المبدإ وخاتمة المعاد. انتهى.

وقوله سبحانه : (إِنَّ الْإِنْسانَ) : يريد به النوع والجنس ، المعنى : توجد فيه هذه

__________________

(١) الجهش والإجهاش : أن يفزع الإنسان إلى غيره ، وهو مع ذلك كأنه يريد البكاء ، كالصبي يفزع إلى أمه وأبيه وقد تهيأ للبكاء.

ينظر : «النهاية» (١ / ٣٢٢) و «لسان العرب» (٧١٣)

(٢) ذكره السيوطي في «الخصائص الكبرى» (٢ / ٩٥) ، وعزاه إلى ابن أبي شيبة ، وأبي نعيم ، والبيهقي كلاهما في «الدلائل».

(٣) أخرجه الطبري (٧ / ٤٥٨) برقم : (٢٠٨٢٦) ، وذكره البغوي (٤ / ٣٦) ، وابن عطية (٣ / ٣٣٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لابن جرير.

(٤) وقرأ بها الحسن ، وجعفر بن محمد ، وسلام بن منذر ، والضحاك ، ومحمد بن علي ، وعمرو بن فائد ، ويعقوب ، قال أبو الفتح : أما على هذه القراءة فالمفعول ملفوظ به ، أي : وآتاكم ما سألتموه أن يؤتيكم منه ، وأما قراءة الجماعة ... على الإضافة ، فالمفعول محذوف : أي : وآتاكم سؤلكم من كل شيء.

ينظر : «المحتسب» (١ / ٣٦٣) ، و «الشواذ» ص : (٧٣) ، و «المحرر الوجيز» (٣ / ٣٤٠) ، و «البحر المحيط» (٥ / ٤١٦) ، و «الدر المصون» (٤ / ٢٧٢)

(٥) أخرجه الطبري (٧ / ٤٥٩) برقم : (٢٠٨٣٥) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣٤٠) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥٤٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٥٨) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وابن جرير ، والبيهقي في «الشعب».

٣٨٤

الخلال ، وهي الظّلم والكفر ، فإن كانت هذه الخلال من جاحد ، فهي بصفة ، / وإن كانت من عاص فهي بصفة أخرى.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ)(٣٩)

وقوله سبحانه : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) تقدّم تفسيره.

وقوله : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) : و (اجْنُبْنِي) : معناه : امنعني ، يقال : جنبه كذا ، وأجنبه ؛ إذا منعه من الأمر وحماه منه.

* ت* : وكذا قال* ص* : و «اجنبني» : معناه : امنعني ، أصله من الجانب ، وعبارة المهدويّ : أي : اجعلني جانبا من عبادتها.

وقال الثعلبيّ : (وَاجْنُبْنِي) ، أي : بعّدني واجعلني منها على جانب بعيد. انتهى ، وهذه الألفاظ كلّها متقاربة المعاني ، وأراد إبراهيم عليه‌السلام بنيّ صلبه ، وأما باقي نسله ، فمنهم من عبد الأصنام ، وهذا الدعاء من الخليل عليه‌السلام يقتضي إفراط خوفه على نفسه ومن حصل في رتبته ، فكيف يخاف أن يعبد صنما ، لكن هذه الآية ينبغي أن يقتدى بها في الخوف ، وطلب حسن الخاتمة ، و (الْأَصْنامَ) : هي المنحوتة على خلقة البشر ، وما كان منحوتا على غير خلقة البشر ، فهي أوثان ، قاله الطبريّ عن مجاهد (١) ، ونسب إلى الأصنام أنها أضلّت كثيرا من الناس تجوّزا ، وحقيقة الإضلال إنما هي لمخترعها سبحانه ، وقيل : أراد ب (الْأَصْنامَ) هنا : الدنانير والدّراهم.

وقوله : (وَمَنْ عَصانِي) : ظاهره بالكفر ؛ لمعادلة قوله : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) ، وإذا كان ذلك كذلك ، فقوله : (فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) : معناه : بتوبتك على الكفرة ؛ حتى يؤمنوا لا أنّه أراد أنّ الله يغفر لكافر ، وحمله على هذه العبارة ما كان يأخذ نفسه به من القول الجميل ، والنّطق الحسن ، وجميل الأدب صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال قتادة : اسمعوا قول الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والله ما كانوا طعّانين ولا لعّانين ، وكذلك قول نبيّ الله عيسى عليه‌السلام : (وَإِنْ تَغْفِرْ

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٤٦٠) برقم : (٢٠٨٣٦) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣٤١)

٣٨٥

لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١) [المائدة : ١١٨] ، وأسند الطبريّ (٢) عن عبد الله بن عمرو حديثا : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تلا هاتين الآيتين ، ثم دعا لأمته فبشّر فيهم (٣) ، وكان إبراهيم التّيميّ يقول : من يأمن على نفسه بعد خوف إبراهيم الخليل على نفسه من عبادة الأصنام.

وقوله : و (مِنْ ذُرِّيَّتِي) : يريد : إسماعيل عليه‌السلام ، وذلك أنّ سارّة لمّا غارت بهاجر بعد أن ولدت إسماعيل ، تشوّش قلب إبراهيم منهما ، فروي أنّه ركب البراق هو وهاجر ، والطفل ، فجاء في يوم واحد من الشام إلى بطن مكّة ، فتركهما هناك ، وركب منصرفا من يومه ذلك ، وكان ذلك كلّه بوحي من الله تعالى ، فلمّا ولى ، دعا بمضمّن هذه الآية ، وأمّا كيفيّة بقاء هاجر ، وما صنعت ، وسائر خبر إسماعيل ، ففي كتاب البخاريّ وغيره ، وفي السير ، ذكر ذلك كلّه مستوعبا.

* ت* : وفي «صحيح البخاري» من حديثه الطويل في قصّة إبراهيم مع هاجر وولدها ، لما حملهما إلى مكّة ، قال : وليس / بمكّة يومئذ أحد ، وليس فيها ماء ، فوضعهما هنالك ، ووضع عندهما جرابا فيه تمر ، وسقاء فيه ماء ، ثم قفّى إبراهيم منطلقا ، فتبعته أمّ إسماعيل ، فقالت : يا إبراهيم ، أين تذهب ، وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ، ولا شيء ، فقالت له ذلك مرارا ، وجعل لا يلتفت إليها ، فقالت له : آلله أمرك بهذا ، قال : نعم ، قالت : إذن لا يضيّعنا ، ثم رجعت ، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثّنيّة حيث لا يرونه ، استقبل بوجهه البيت ، ثم دعا بهؤلاء الدعوات ، ورفع يديه ، فقال : «ربّ (إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) ، حتّى بلغ : (يَشْكُرُونَ) ...» الحديث بطوله (٤) وفي طريق : «قالت : يا إبراهيم إلى من تتركنا ، قال : إلى الله عزوجل ، قالت : رضيت. انتهى. وفي هذا الحديث من الفوائد لأرباب القلوب والمتوكّلين وأهل الثقة بالله سبحانه ما يطول بنا سردها ، فإليك استخراجها ، ولما انقطعت هاجر وابنها إلى الله تعالى ، آواهما الله ، وأنبع لهما ماء زمزم المبارك الذي جعله غذاء ، قال ابن العربي : وقد قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ماء زمزم لما شرب له» (٥).

قال ابن العربيّ : ولقد كنت مقيما بمكّة سنة سبع وثمانين وأربعمائة ، وكنت أشرب

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٤٦١) برقم : (٢٠٨٤٠) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣٤١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٦٠) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(٢) ينظر : «الطبري» (٧ / ٤٦١)

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٦١) برقم : (٢٠٨٤١)

(٤) أخرجه البخاري (٦ / ٤٥٦ ، ٤٥٨) كتاب «أحاديث الأنبياء» باب : يزفون ، حديث (٣٣٦٤)

(٥) ينظر : «أحكام القرآن» (٣ / ١١٢٤)

٣٨٦

ماء زمزم كثيرا ، وكلّما شربت ، نويت به العلم والإيمان ، ونسيت أن أشربه للعمل ، ففتح لي في العلم ، ويا ليتني شربته لهما معا ؛ حتى يفتح لي فيهما ، ولم يقدّر ، فكان صغوي إلى العلم أكثر منه إلى العمل ، انتهى من «الأحكام».

و «من» ؛ في قوله : و (مِنْ ذُرِّيَّتِي) ؛ للتبعيض ؛ لأن إسحاق كان بالشّام ، و «الوادي» : ما بين الجبلين ، وليس من شرطه أن يكون فيه ماء ، وجمعه الضمير في قوله : (لِيُقِيمُوا) : يدلّ على أن الله قد أعلمه أنّ ذلك الطّفل سيعقب هناك ، ويكون له نسل ، واللام في (لِيُقِيمُوا) : لام كي ؛ هذا هو الظاهر ، ويصحّ أن تكون لام الأمر ؛ كأنه رغب إلى الله سبحانه أن يوفّقهم لإقامة الصلاة ، و «الأفئدة» القلوب جمع فؤاد ، سمّي بذلك ، لاتّقاده ، مأخوذ من «فأد» ، ومنه : «المفتأد» ، وهو مستوقد النّار حيث يشوى اللحم.

وقوله : (مِنَ النَّاسِ) : تبعيض ، ومراده المؤمنون ، وباقي الآية بيّن.

(رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ)(٤١)

وقوله : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) : دعاء إبراهيم عليه‌السلام في أمر كان مثابرا عليه ، متمسكا به ، ومتى دعا الإنسان في مثل هذا ، فإنما المقصد إدامة ذلك الأمر ، واستمراره ، قال السّهيليّ : قوله تعالى : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) بحرف التبعيض ، ولذلك أسلم بعض ذريته دون بعض ، انتهى ، وفاقا لما تقدّم الآن.

وقوله : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) : اختلف في تأويل ذلك ، فقالت فرقة : كان ذلك قبل يأسه من إيمان أبيه ، وتبيّنه أنه عدوّ لله ، فأراد أباه وأمّه ؛ لأنّها كانت مؤمنة ، وقيل : أراد آدم / ونوحا عليهما‌السلام ، وقرأ الزّهريّ (١) وغيره : «ولولديّ» ؛ على أنه دعاء لإسماعيل وإسحاق ، وأنكرها عاصم الجحدريّ ، وقال : «إن في مصحف أبيّ بن كعب ولأبويّ» (٢).

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ

__________________

(١) وقرأ بها الحسين بن علي ، وإبراهيم النخعي ، وأبو جعفر محمد بن علي.

ينظر : «المحتسب» (١ / ٣٦٥) ، و «الكشاف» (٢ / ٥٦٢) ، وفيه الحسن بن علي بدلا من الحسين ، وينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٣٤٣) ، و «البحر المحيط» (٥ / ٤٢٣) ، و «الدر المصون» (٤ / ٢٧٦)

(٢) ينظر : «مختصر الشواذ» ص : (٧٣) ، و «الكشاف» (٢ / ٥٦٢) ، و «المحرر الوجيز» (٣ / ٣٤٣) ، و «البحر المحيط» (٥ / ٤٢٣) ، و «الدر المصون» (٤ / ٢٧٦)

٣٨٧

فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ)(٤٤)

وقوله عزوجل : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ ...) الآية : هذه الآية بجملتها فيها وعيد للظالمين ، وتسلية للمظلومين ، والخطاب بقوله : (تَحْسَبَنَ) للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، و (تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) ، معناه : تحدّ النظر ، لفرط الفزع ولفرط ذلك يشخص المحتضر ، و «المهطع» المسرع في مشيه ؛ قاله ابن جبير وغيره (١) ، وذلك بذلّة واستكانة ، كإسراع الأسير ونحوه ، وهذا أرجح الأقوال ، وقال ابن عباس وغيره : الإهطاع شدّة النظر من غير أن يطرف (٢) ، وقال ابن زيد : «المهطع» : الذي لا يرفع رأسه (٣) ، قال أبو عبيدة : قد يكون : الإهطاع للوجهين جميعا : الإسراع ، وإدامة النّظر (٤) ، و «المقنع» : هو الذي يرفع رأسه قدما بوجهه نحو الشيء ، ومن ذلك قول الشاعر : [الوافر]

يباكرن العضاه بمقنعات

نواجذهنّ كالحدإ الوقيع (٥)

يصف الإبل عند رعيها أعالي الشّجر ، وقال الحسن في تفسير هذه الآية : وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد (٦) ، وذكر المبرّد فيما حكى عنه مكّيّ : أن الإقناع يوجد في كلام العرب بمعنى : خفض الرأس من الذّلّة.

قال* ع (٧) * : والأول أشهر.

وقوله سبحانه : (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) ؛ أي : لا يطرفون من الحذر والجزع وشدّة الحال.

وقوله : (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) : تشبيه محض ، وجهة التشبيه يحتمل أن تكون في فراغ الأفئدة من الخير والرّجاء والطمع في الرحمة ، فهي متخرّقة مشبهة الهواء في تفرّغه من الأشياء ،

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٣ / ٣٤٤)

(٢) أخرجه الطبري (٧ / ٤٦٨) برقم : (٢٠٨٧١) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣٤٤) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٦٣) ، وعزاه لابن جرير ، وابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه الطبري (٧ / ٤٦٩) برقم : (٢٠٨٧٩) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣٤٤)

(٤) ذكره ابن عطية (٣ / ٣٤٤)

(٥) البيت للشماخ ينظر : «ديوانه» ص : (٢٢٠) ، و «اللسان» [قنع] ، و «المخصص» (١ / ١٤٦) ، و «التاج» حدأ ، نجذ ، قنع. والحدأة : بفتح الحاء : الفأس لها رأسان ، و «مجاز القرآن» (١ / ٣٤٣) ، والطبري (١٣ / ١٤٢)

(٦) ذكره البغوي (٣ / ٣٩) ، وابن عطية (٣ / ٣٤٤)

(٧) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٣٤٤)

٣٨٨

وانخراقه ، ويحتمل أن تكون في اضطراب أفئدتهم وجيشانها في صدورهم ، وأنها تذهب وتجيء وتبلغ على ما روي حناجرهم ، فهي في ذلك كالهواء الذي هو أبدا في اضطراب.

وقوله سبحانه : (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) : المراد باليوم : يوم القيامة ، ونصبه على أنه مفعول ب «أنذر» ، ولا يجوز أن يكون ظرفا ، لأن القيامة ليست بموطن إنذار ، قال الشيخ العارف بالله عبد الله بن أبي جمرة : يجب التصديق بكلّ ما أخبر الله ورسوله به ، ولا يتعرّض إلى الكيفيّة في كلّ ما جاء من أمر الساعة وأحوال يوم القيامة ، فإنه أمر لا تسعه العقول ، وطلب الكيفيّة فيه ضعف في الإيمان ، وإنما يجب الجزم بالتصديق بجميع ما أخبر الله به ، انتهى.

قال الغزّاليّ : فأعلم العلماء وأعرف الحكماء ينكشف له عقيب الموت من العجائب والآيات ما لم يخطر قطّ بباله ، ولا اختلج به ضميره ، فلو لم يكن للعاقل همّ ولا غمّ ، إلا التفكّر في خطر تلك الأحوال ، وما الذي ينكشف عنه الغطاء من شقاوة لازمة ، أو سعادة دائمة / لكان ذلك كافيا في استغراق جميع العمر ، والعجب من غفلتنا ، وهذه العظائم بين أيدينا. انتهى من «الإحياء».

وقوله : (أَوَلَمْ تَكُونُوا ...) الآية : معناه : يقال لهم ، وقوله : (ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) : هو المقسم عليه ، وهذه الآية ناظرة إلى ما حكى الله سبحانه عنهم في قوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) [النحل : ٣٨].

(وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦) فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ)(٤٧)

وقوله سبحانه : (وَسَكَنْتُمْ ...) الآية : المعنى : بقول الله عزوجل : وسكنتم أيها المعرضون عن آيات الله من جميع العالم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم بالكفر من الأمم السّالفة ، فنزلت بهم المثلات ، فكان حقّكم الاعتبار والاتعاظ. وقوله : (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) : أي : جزاء مكرهم ، وقرأ السبعة سوى الكسائي (١) : «وإن كان مكرهم لتزول»

__________________

(١) ومعنى قراءة الكسائي حينئذ : وقد كان مكرهم يبلغ في المكيدة إلى إزالة الجبال ، غير أن الله ناصر دينه ، ومزيل مكر الكفار وماحقه ، وحجته قراءة علي وابن مسعود : «وإن كاد مكرهم لتزول» ، بالدال ، واللام في قراءة الجمهور لام الجحود ، والمعنى : ما كان مكرهم ليزول به أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمر دين الإسلام. وحجتهم ما روي عن الحسن : «كان مكرهم أوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال».

ينظر : «السبعة» (٣٦٣) ، و «الحجة» (٥ / ٣١) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٦٥) ، و «إعراب القراءات» (١ / ـ

٣٨٩

بكسر اللام من «لتزول» وفتح الأخيرة ـ ؛ وهذا على أن تكون «إن» نافية بمعنى «ما» ، ومعنى الآية تحقير مكرهم ، وأنه ما كان لتزول منه الشرائع والنبوّات وإقدار الله بها التي هي كالجبال في ثبوتها وقوّتها ، هذا تأويل الحسن وجماعة المفسّرين (١) وتحتمل عندي هذه القراءة أن تكون بمعنى تعظيم مكرهم ، أي : وإن كان شديدا ، وقرأ الكسائيّ : «وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال» ـ بفتح اللام الأولى من لتزول ، وضمّ الأخيرة ـ ، وهي قراءة ابن عبّاس (٢) وغيره ، ومعنى الآية : تعظيم مكرهم وشدّته ، أي : أنه مما يشقى به ، ويزيل الجبال عن مستقرّاتها ، لقوّته ، ولكنّ الله تعالى أبطله ونصر أولياءه ، وهذا أشدّ في العبرة ، وقرأ علي وابن مسعود وعمر بن الخطاب وأبيّ : «وإن كاد مكرهم» ، وذكر أبو حاتم أنّ في قراءة أبيّ : «ولو لا كلمة الله لزال من مكرهم الجبال».

وقوله سبحان : (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ...) الآية : تثبيت للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولغيره من أمّته ، ولم يكن النبيّ عليه‌السلام ممّن يحسبنّ مثل هذا ، ولكن خرجت العبارة هكذا ، والمراد بما فيها من الزجر غيره ؛ (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) : لا يمتنع منه شيء ، (ذُو انتِقامٍ) : من الكفرة.

(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٥٢)

وقوله سبحانه : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ ...) ، الآية : (يَوْمَ) ظرف للانتقام المذكور قبله ، وروي في تبديل الأرض أخبار منها في الصّحيح : «يبدّل الله هذه الأرض بأرض عفراء بيضاء كأنّها قرصة نقي» ، وفي الصحيح : «إنّ الله يبدّلها خبزة يأكل المؤمن منها من

__________________

ـ ٣٣٦) ، و «شرح الطيبة» (٤ / ٤٠٢) ، و «العنوان» (١١٥) ، و «حجة القراءات» (٣٧٩) ، و «شرح شعلة» (٤٥٢) ، و «النشر» (٢ / ٣٠٠) ، و «الشواذ» (٦٩) ، و «إتحاف» (٢ / ١٧١)

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٤٧٧) برقم : (٢٠٩٣٧) ، وذكره البغوي (٣ / ٤٠) ، وابن عطية (٣ / ٣٤٦) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥٤٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٦٥) ، وعزاه لابن جرير.

(٢) نعم ، قرأها هكذا ابن عباس ، وابن مسعود ، وعلي ، وعمر ، وأبيّ ، وأبو إسحاق السبيعي ، ولكن بإبدال «كاد» مكان «كان».

ينظر : «الشواذ» ص : (٧٤) ، و «المحتسب» (١ / ٣٦٥) ، و «المحرر الوجيز» (٣ / ٣٤٦) ، و «البحر المحيط» (٥ / ٤٢٦) ، و «الدر المصون» (٤ / ٢٨٠).

٣٩٠

تحت قدميه» (١) وروي أنها تبدّل أرضا من فضّة ، وروي أنها أرض كالفضّة من بياضها ، وروي أنها تبدّل من نار.

قال* ع (٢) * : وسمعت من أبي رحمه‌الله ؛ أنه روي أنّ التبديل يقع في الأرض ، ولكن يبدّل لكلّ فريق بما يقتضيه حاله ، فالمؤمن يكون على خبز يأكل منه بحسب حاجته إليه ، وفريق يكون على فضّة ، إن صحّ السند بها ، وفريق الكفرة يكونون على نار ، ونحو هذا ممّا كله واقع تحت قدرة الله عزوجل ، وأكثر المفسّرين على أنّ التبديل يكون بأرض بيضاء عفراء لم يعص الله فيها ، ولا سفك فيها دم ، وليس فيها معلم لأحد ، وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ أنه قال : «المؤمنون وقت التبديل في ظلّ العرش» ، وروي عنه أنه قال : «النّاس وقت التبديل / على الصّراط» ، وروي أنه قال : الناس حينئذ أضياف الله ، فلا يعجزهم ما لديه» (٣) وفي «صحيح مسلم» من حديث ثوبان في سؤال الحبر ، وقوله : يا محمّد ، أين يكون النّاس يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسّموات؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هم في الظلمة دون الجسر» (٤) الحديث بطوله ، وخرّجه مسلم وابن ماجه جميعا ، قالا : حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، ثم أسندا عن عائشة ، قالت : «سئل النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) فأين يكون النّاس؟ قال : على الصّراط» (٥) ، وخرّجه الترمذيّ من حديث عائشة ، قالت : يا رسول الله ، (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ

__________________

(١) أخرجه البخاري (١١ / ٣٧٩) كتاب «الرقاق» باب : يقبض الله الأرض يوم القيامة ، حديث (٦٥١٩) من حديث أبي سعيد الخدري.

(٢) ينظر : «المحرر» (٣ / ٣٤٧)

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٨٣) برقم : (٢٠٩٧٦) ، عن أبي أيوب الأنصاري به ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٦٩) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم ، وأبي نعيم في «الدلائل».

(٤) أخرجه مسلم (٢ / ٢٣٠ ـ ٢٣١ ـ نووي) ، كتاب «الحيض» باب : بيان صفة مني الرجل والمرأة ، حديث (٣٤ / ٣١٥) ، والبيهقي (١ / ١٦٩) من حديث ثوبان به.

(٥) أخرجه مسلم (٤ / ٢١٥٠) كتاب «صفات المنافقين» باب : في البعث والنشور ، حديث (٢٩ / ٢٧٩) ، والترمذي (٥ / ٢٩٦) كتاب «التفسير» باب : ومن سورة إبراهيم ، حديث (٣١٢١) ، وابن ماجه (٢ / ١٤٣٠) كتاب «الزهد» باب : ذكر البعث ، حديث (٤٢٧٩) ، وأحمد (٦ / ٣٥ ، ٢١٨) ، والدارمي (٢ / ٣٢٨) ، وابن حبان (٣٣١) ، والحاكم (٢ / ٣٥٢) من حديث عائشة به ، وقال الحاكم : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي.

قلت : وقد وهما في ذلك فقد أخرجه مسلم.

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٦٧) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه.

٣٩١

مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر : ٦٧] ، فأين يكون المؤمنون يومئذ؟ قال : «على الصّراط يا عائشة» (١) ، قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح. انتهى من «التذكرة» (٢).

(وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ) : أي الكفّار ، و (مُقَرَّنِينَ) : أي : مربوطين في قرن ، وهو الحبل الذي تشدّ به رؤوس الإبل والبقر ، و (الْأَصْفادِ) : هي الأغلال ، واحدها صفد ، والسّرابيل : القمص ، وال (قَطِرانٍ) : هو الذي تهنأ به الإبل ، وللنار فيه اشتعال شديد ، فلذلك جعل الله قمص أهل النار منه ، وقرأ عمر بن الخطاب وعليّ وأبو هريرة وابن عبّاس وغيرهم (٣) : «من قطر آن» ، والقطر : القصدير ، وقيل : النّحاس ، وروي عن عمر أنّه قال : ليس بالقطران ، ولكنّه النّحاس يسر بلونه (٤) ، و «آن» : صفة ، وهو الذائب الحارّ الذي تناهى حرّه ؛ قال الحسن : قد سعّرت عليه جهنّم منذ خلقت ، فتناهى حرّه (٥).

وقوله سبحانه : (لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ ...) الآية : جاء من لفظة الكسب بما يعم المسيء والمحسن ؛ لينبّه على أنّ المحسن أيضا يجازى بإحسانه خيرا.

وقوله سبحانه : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ ...) الآية : إشارة إلى القرآن والوعيد الذي تضمنه ، والمعنى : هذا بلاغ للناس ، وهو لينذروا به وليذّكّر أولو الألباب ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله وصحبه وسلّم تسليما.

__________________

(١) انظر الحديث السابق.

(٢) ينظر : «التذكرة» (١ / ٢٦٣)

(٣) وقرأ بها عكرمة ، وعلقمة ، وسعيد بن جبير ، وابن سيرين ، والحسن ، وسنان بن سلمة بن المحبّق ، وعمرو بن عبيد ، والكلبي ، وأبو صالح ، وعيسى بن عمر الهمداني ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، وعمرو بن فائد.

ينظر : «الشواذ» ص : (٧٤) ، و «المحتسب» (١ / ٣٦٦) ، و «المحرر الوجيز» (٣ / ٣٤٨) ، و «البحر المحيط» (٥ / ٤٢٨) ، و «الدر المصون» (٤ / ٢٨٣)

(٤) ذكره ابن عطية (٣ / ٣٤٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٧٠) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(٥) أخرجه الطبري (٧ / ٤٨٦) برقم : (٢٠٩٩٣) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣٤٨)

٣٩٢

تفسير سورة الحجر

مكية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ)(٢)

قوله عزوجل : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) : قال مجاهد وقتادة : (الْكِتابِ) : في الآية : ما نزل من الكتب قبل القرآن (١) ، ويحتمل أن يراد ب (الْكِتابِ) القرآن : ثم تعطف الصفة عليه ، و «ربّما» : للتقليل ، وقد تجيء شاذّة (٢) للتكثير.

وقال قوم : إن هذه من ذلك ، وأنكر الزّجّاج أن تجيء «ربّ» للتكثير ، واختلف المتأوّلون في الوقت الذي يودّ فيه الكفّار أن يكونوا مسلمين ، فقالت فرقة : هو عند معاينة الموت ، حكى ذلك الضّحّاك (٣) ، وقالت فرقة : هو عند معاينة أهوال يوم القيامة ، وقال ابن عبّاس وغيره : هو عند دخولهم النّار ، ومعرفتهم ، بدخول المؤمنين الجنّة (٤) ، وروي فيه حديث من طريق أبي موسى.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٤٨٨) برقم : (٢١٠٠٤) ، وابن عطية (٣ / ٣٤٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٧١) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(٢) رب : فيها قولان ، أحدهما : أنها حرف جرّ ، وزعم الكوفيون وأبو الحسن وابن الطّراوة أنها اسم ، ومعناها التقليل على المشهور. وقيل : تفيد التكثير. وقيل : تفيد التكثير في مواضع الافتخار ، وفيها لغات كثيرة أشهرها : «رب» بالضم والتشديد والتخفيف ، و «ربّ» بالفتح والتشديد والتخفيف ، و «رب» و «رب» بالضم ، والفتح مع السكون فيهما ، وتتصل تاء التأنيث بكل ذلك. وبالتاء قرأ طلحة بن مصرف ، وزيد بن علي «ربّتما» وإذا اتصلت بها التاء جاز فيها الإسكان ، والفتح ك «ثمّت» ، و «لات» فتكثر الألفاظ ، ولها أحكام كثيرة ، منها لزوم تصديرها ، ومنها تنكير مجرورها.

ينظر : «الدر المصون» (٤ / ٢٨٥)

(٣) أخرجه الطبري (٧ / ٤٩١) برقم : (٢١٠٢١)

(٤) أخرجه الطبري (٧ / ٤٩١) برقم : (٢١٠٢٥) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣٥٠) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥٤٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٢١٧٢) ، وعزاه لابن المبارك في «الزهد» ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في «البعث».

٣٩٣

(ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ)(٥)

وقوله سبحانه : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا ...) الآية : وعيد وتهديد ، وما فيه من المهادنة منسوخ بآية السيف ، وروى ابن المبارك في «رقائقه» ، قال : أخبرنا الأوزاعيّ عن عروة بن رويم ، قال : قال رسول الله / صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «شرار أمّتي الّذين ولدوا في النّعيم ، وغذوا به ، همّتهم ألوان الطّعام ، وألوان الثّياب ، يتشدّقون بالكلام». انتهى (١).

وقوله : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) : وعيد ثان ، وحكى الطبريّ (٢) عن بعض العلماء ؛ أنه قال : الأول في الدنيا ، والثّاني في الآخرة ، فكيف تطيب حياة بين هذين الوعيدين.

وقوله : (وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) : أي : يشغلهم أملهم في الدنيا ، والتزيّد منها.

قال عبد الحقّ في «العاقبة» : اعلم رحمك الله أنّ تقصير الأمل مع حبّ الدنيا متعذر ، وانتظار الموت مع الإكباب عليها غير متيسّر ، ثم قال : واعلم أنّ كثرة الاشتغال بالدنيا والميل بالكلّية إليها ، ولذّة أمانيّها تمنع مرارة ذكر الموت ؛ أن ترد على القلب ، وأن تلج فيه ؛ لأن القلب إذا امتلأ بشيء ، لم يكن لشيء آخر فيه مدخل ، فإذا أراد صاحب هذا القلب سماع الحكمة ، والانتفاع بالموعظة ، لم يكن له بدّ من تفريقه ، ليجد الذكر فيه منزلا ، وتلفي الموعظة فيه محلّا قابلا ، قال ابن السّماك رحمه‌الله : إن الموتى لم يبكوا من الموت ؛ لكنهم بكوا من حسرة الفوت ، فاتتهم والله ، دار لم يتزوّدوا منها ؛ ودخلوا دارا لم يتزوّدوا لها. انتهى. وإنما حصل لهم الفوت ؛ بسبب استغراقهم في الدنيا ، وطول الأمل الملهي عن المعاد ، ألهمنا الله رشدنا بمنّه.

وقوله سبحانه : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ ...) الآية : أي : فلا تستبطئنّ هلاكهم ، فليس من قرية مهلكة إلا بأجل ، وكتاب معلوم محدود.

(وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٩)

(وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ ...) الآية : القائلون هذه المقالة هم كفّار قريش ، و «لو ما» بمعنى : لو لا ، فتكون تحضيضا ؛ كما هي في هذه الآية ، وفي البخاريّ :

__________________

(١) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» ص : (٢٦٢) رقم : (٧٥٨)

(٢) ينظر : «تفسير الطبري» (٧ / ٤٩٢)

٣٩٤

(لَوْ ما تَأْتِينا) : هلّا تأتينا.

وقوله : (إِلَّا بِالْحَقِ) : قال مجاهد : المعنى : بالرسالة والعذاب (١) ، والظاهر أنّ معناه كما ينبغي ويحقّ من الوحي والمنافع التي أراها الله لعباده ، لا على اقتراح كافر ، ثم ذكر عادته سبحانه في الأمم من أنّه لم يأتهم بآية اقتراح ، إلا ومعها العذاب في إثرها إن لم يؤمنوا ، والنّظرة : التأخير.

وقوله سبحانه : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) : ردّ على المستخفّين في قولهم : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) ، وقوله : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) : قال مجاهد وغيره : الضمير في «له» عائد على القرآن (٢) ، المعنى : وإنا له لحافظون من أن يبدّل أو يغيّر.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ)(١٥)

وقوله سبحانه : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) الآية : تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أي : لا يضق صدرك ، يا محمّد ، بما يفعله قومك من الاستهزاء في قولهم : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) ، وغير ذلك ، و «الشيعة» : الفرقة التابعة لرأس ما.

* ت* : قال الفرّاء (فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) إنّه من إضافة الموصوف إلى صفته ك (حَقُّ الْيَقِينِ) [الواقعة : ٩٥] ، و «جانب الغربيّ» [القصص : ٤٤] ، وتأوّله البصريّون على حذف الموصوف ، أي : شيع الأمم الأولين. انتهى من* ص*.

وقوله سبحانه : (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) : يحتمل أن يكون الضّمير في (نَسْلُكُهُ) يعود على الذكر المحفوظ المتقدّم ، وهو القرآن ، ويكون الضمير في «به» عائدا عليه أيضا ، ويحتمل أن يعود الضميران معا على الاستهزاء والشرك ونحوه ، والباء في «به» : باء السبب ، أي : لا يؤمنون بسبب شركهم واستهزائهم ، ويحتمل أن يكون الضمير في (نَسْلُكُهُ) عائدا على الاستهزاء والشرك ، والضمير في «به» عائدا على القرآن ، والمعنى ، في ذلك كلّه ، ينظر بعضه إلى بعض ،

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٤٩٣) برقم : (٢١٠٢٨) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣٥١) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥٤٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٧٥) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(٢) ذكره ابن عطية (٣ / ٣٥٢)

٣٩٥

و (نَسْلُكُهُ) : معناه ، ندخله ، و (الْمُجْرِمِينَ) ؛ هنا : يراد بهم كفّار قريش ، ومعاصرو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) عموم ، معناه الخصوص فيمن حتم عليه ، وقوله : (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) : أي : على هذه الوتيرة ، (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ) ، أي : على قريش وكفرة العصر ، والضمير في قوله : (فَظَلُّوا) عائد عليهم ، وهو تأويل الحسن ، و (يَعْرُجُونَ) : معناه يصعدون ، ويحتمل أن يعود على الملائكة ، أي : ولو رأوا الملائكة يصعدون ويتصرّفون في باب مفتوح في السماء لما آمنوا ، وهذا تأويل ابن عبّاس (١) ، وقرأ السبعة سوى ابن كثير : «سكّرت» ـ بضم السّين وشدّ الكاف ـ ، وقرأ ابن كثير (٢) بتخفيف الكاف ، تقول العرب : سكرت الرّيح تسكر سكورا ، إذا ركدت ، ولم تنفذ لما كانت بسبيله أولا ، وسكر الرجل من الشّراب ، إذا تغيّرت حاله وركد ، ولم ينفذ لما كان بسبيله أن ينفذ فيه ، وتقول العرب : سكرت البثق (٣) في مجاري الماء سكرا ؛ إذا طمسته وصرفت الماء عنه ، فلم ينفذ لوجهه.

قال* ع (٤) * : فهذه اللفظة «سكّرت» ـ بشدّ الكاف ـ إن كانت من سكر الشراب ، أو من سكور الريح ، فهي فعل عدّي بالتضعيف ، وإن كانت من سكر مجاري الماء ، فتضعيفها للمبالغة ، لا للتعدّي ، لأن المخفّف من فعله متعدّ ، ومعنى هذه المقالة منهم : أي : غيّرت أبصارنا عما كانت عليه ، فهي لا تنفذ وتعطينا حقائق الأشياء : كما كانت تفعل.

(وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)(٢١)

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٤٩٦) برقم : (٢١٠٤٣) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣٥٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٧٦) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(٢) ينظر : «السبعة» (٣٦٦) ، و «الحجة» (٥ / ٤٣) ، و «إعراب القراءات» (١ / ٣٤٣) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٦٨) ، و «العنوان» (١١٦) ، و «شرح الطيبة» (٤ / ٤٠٦) ، و «شرح شعلة» (٤٥٣) ، و «حجة القراءات» (٣٨١ ـ ٣٨٢) ، و «إتحاف» (٢ / ١٧٤)

(٣) البثق : موضع انبثاق الماء من نهر ونحوه.

ينظر : «لسان العرب» (٢٠٨) ، و «المعجم الوسيط» (٣٨)

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٣٥٣)

٣٩٦

وقوله سبحانه : (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً) : «البروج» : المنازل ، واحدها برج ، وسمي بذلك لظهوره ؛ ومنه تبرّج المرأة : ظهورها وبدوّها ، و «حفظ السماء» : هو بالرجم بالشّهب ؛ على ما تضمنته الأحاديث الصّحاح ، قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الشّياطين تقرب من السّماء أفواجا ، قال : فينفرد المارد منها ، فيعلو فيسمع ، فيرمى بالشّهاب ، فيقول لأصحابه : إنّه من الأمر كذا وكذا ، فيزيد الشّياطين في ذلك ، ويلقون إلى الكهنة ، فيزيدون مع الكلمة مائة ونحو هذا ...» الحديث (١) : و «إلّا» : بمعنى : «لكن» ، ويظهر أن الاستثناء من الحفظ : وقال محمّد بن يحيى عن أبيه : (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) ، فإنها لم تحفظ منه.

وقوله : / (مَوْزُونٍ) : قال الجمهور : معناه : مقدّر محرّر بقصد وإرادة ، فالوزن على هذا : مستعار.

وقال ابن زيد : المراد ما يوزن حقيقة ؛ كالذهب والفضة وغير ذلك مما يوزن (٢) ، والمعايش : جمع معيشة ، وقوله : (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) : يحتمل أن يكون عطفا على (مَعايِشَ) ؛ كأن الله تعالى عدّد النعم في المعايش ، وهي ما يؤكل ويلبس ، ثم عدّد النعم في الحيوان والعبيد وغير ذلك ممّا ينتفع به النّاس ، وليس عليهم رزقهم.

وقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ).

قال ابن جريج : هو المطر خاصّة (٣).

قال* ع (٤) * : وينبغي أن يكون أعمّ من هذا في كثير من المخلوقات.

(وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)(٢٥)

وقوله سبحانه : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) : أي : ذات لقح ؛ يقال : لقحت الناقة والشجر ، فهي لاقحة ، إذا حملت ، فالوجه في الرّيح ملقحة ، لا لاقحة ، قال الداوديّ :

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) أخرجه الطبري (٧ / ٥٠٤) برقم : (٢١٠٨٨) ، والبغوي ذكره (٣ / ٤٧) ، وابن عطية (٣ / ٣٥٥) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥٤٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٧٧) ، وعزاه لابن جرير ، وابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه الطبري (٧ / ٥٠٤) برقم : (٢١٠٩٥) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣٥٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٧٨) ، وعزاه لابن جرير.

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٣٥٥)

٣٩٧

وعن ابن عمر : الرّياح ثمان ، أربع رحمة ، وأربع عذاب ؛ فالرحمة : المرسلات ، والمبشّرات ، والنّاشرات ، والذّاريات ، وأما العذاب : فالصّرصر ، والعقيم ، والقاصف ، والعاصف ، وهما في البحر. انتهى.

وقوله جلّت عظمته : (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ ...) الآيات : هذه الآيات مع الآيات التي قبلها تضمّنت العبرة والدلالة على قدرة الله تعالى ، وما يوجب توحيده وعبادته ، المعنى : وإنا لنحن نحيي من نشاء بإخراجه من العدم إلى وجود الحياة ، ونميت بإزالة الحياة عمّن كان حيّا ، (وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) ، أي : لا يبقى شيء سوانا ، وكلّ شيء هالك إلّا وجهه ، لا ربّ غيره.

(وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) : أي : من لدن آدم إلى يوم القيامة ، قال ابن العربيّ في «أحكامه» : روى الترمذيّ وغيره في سبب نزول هذه الآية ، عن ابن عبّاس ؛ أنّه قال : كانت امرأة تصلّي خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال ابن عبّاس : ولا ، والله ، ما رأيت مثلها قطّ ، قال : فكان بعض المسلمين ، إذا صلّوا تقدّموا ، وبعضهم يستأخر ، فإذا سجدوا نظروا إليها من تحت أيديهم ، فأنزل الله الآية (١) ، ثم قال ابن العربيّ : في شرح المراد بهذه الآية خمسة أقوال :

أحدها : هذا.

القول الثاني : المتقدّمين في الخلق إلى اليوم ، والمتأخّرين الذين لم يخلقوا بعد ، بيان أن الله يعلم الموجود والمعدوم ، قاله قتادة وجماعة (٢).

الثّالث : من مات ، ومن بقي ؛ قاله ابن عبّاس أيضا (٣).

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٥ / ٢٩٦) كتاب «التفسير» باب : ومن سورة الحجر ، حديث (٣١٢٢) ، وأحمد (١ / ٣٠٥) ، والنسائي (٢ / ١١٨) كتاب «الإمامة» باب : المنفرد خلف الصف ، حديث (٨٧٠) ، وابن ماجه (١ / ٣٣٢) كتاب «الصلاة» باب : الخشوع في الصلاة ، حديث (١٠٤٦) ، والطيالسي (٢ / ٢٠ ـ منحة) رقم : (١٩٦٠) ، وابن خزيمة (١٦٩٦ ـ ١٦٩٧) ، وابن حبان (١٧٤٩ ـ موارد) ، والحاكم (٢ / ٣٥٣) ، والبيهقي (٣ / ٧٨) ، والطبراني في «الكبير» (١٢ / ١٧١) رقم : (١٢٧٩١) ، من طريق أبي الجوزاء ، عن ابن عباس مرفوعا به ، وقال الحاكم : صحيح الإسناد ، ووافقه الذهبي ، وصححه ابن خزيمة ، وابن حبان ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» ، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وينظر : «الدر المنثور» (٤ / ١٨٠)

(٢) أخرجه الطبري (٧ / ٥٠٧) برقم : (٢١١١٦) بنحوه ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥٤٩)

(٣) أخرجه الطبري (٧ / ٥٠٨) برقم : (٢١١٢١) ، وذكره البغوي (٤٨١٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٨١) ، وعزاه لابن جرير ، وابن أبي حاتم.

٣٩٨

الرابع : المستقدمين : سائر الأمم ، والمستأخرين أمّة سيّدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله مجاهد (١).

الخامس : قال الحسن : معناه : المتقدّمين في الطاعة ، والمستأخرين في المعصية (٢). انتهى.

* ت* : والحديث المتقدّم ، إن صحّ ، فلا بد من تأويله ، فإن الصحابة ينزّهون عن فعل ما ذكر فيه ، فيؤوّل بأنّ ذلك صدر من بعض المنافقين ، أو بعض الأعراب الذين قرب عهدهم بالإسلام ، ولم يرسخ الإيمان في قلوبهم ، وأما ابن عبّاس ، فإنه كان يومئذ / صغيرا بلا شك ، هذا إن كانت الآية مدنيّة ، فإن كانت مكيّة ، فهو يومئذ في سنّ الطفوليّة ، وبالجملة فالظاهر ضعف هذا الحديث من وجوه. انتهى ، وباقي الآية بيّن.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ)(٣٣)

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) : يعني : آدم ، قال ابن عباس : خلق من ثلاثة : من طين لازب ، وهو اللازق الجيّد ، ومن صلصال ، وهو الأرض الطّيّبة يقع عليها الماء ، ثم ينحسر ؛ فيتشقّق وتصير مثل الخزف ، ومن حمإ مسنون ، وهو الطين فيه الحمأة (٣) ، وال (مَسْنُونٍ) : قال معمر : هو المنتن (٤) ، وهو من أسن الماء ؛ إذا تغيّر ، وردّ من جهة التصريف ، وقيل غير هذا ، وفي الحديث : «إنّ الله تعالى عزوجل خلق آدم من جميع أنواع التّراب : الطّيّب والخبيث ، والأسود والأحمر» (٥).

وقوله : (وَالْجَانَ) : يراد به : جنس الشياطين ، وسئل وهب بن منبّه عنهم ، فقال هم

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٥٠٩) برقم : (٢١١٢٩) ، وذكره البغوي (٤٨١٣)

(٢) أخرجه الطبري (٧ / ٥٠٩) برقم : (٢١١٣٢) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣٥٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٨١) ، وعزاه لابن جرير ، وابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه الطبري (٧ / ٥١١) برقم : (٢١١٤٧) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣٥٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٨٢) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وأبي الشيخ في «العظمة».

(٤) أخرجه الطبري (٧ / ٥١١) برقم : (٢١١٦٠) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣٥٩)

(٥) تقدم تخريجه من سورة البقرة.

٣٩٩

أجناس (١).

قال* ع (٢) * : والمراد بهذه الخلقة إبليس أبو الجنّ ، وقوله : (مِنْ قَبْلُ) ؛ لأن إبليس خلق قبل آدم بمدّة ، و (السَّمُومِ) ؛ في كلام العرب : إفراط الحرّ حتى يقتل : من نار ، أو شمس ، أو ريح ، وأمّا إضافة «النار» إلى «السموم» في هذه الآية ، فيحتمل أن تكون النار أنواعا ، ويكون السموم أمرا يختصّ بنوع منها ، فتصحّ الإضافة حينئذ ، وإن لم يكن هذا ، فيخرج هذا على قولهم : «مسجد الجامع ، ودار الآخرة» ؛ على حذف مضاف.

قوله عزوجل : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) :

أخبر الله سبحانه الملائكة بعجب عندهم ، وذلك أنهم كانوا مخلوقين من نور ، فهي مخلوقات لطاف ، فأخبرهم سبحانه أنه يخلق جسما حيّا ذا بشرة ، وأنه يخلقه من صلصال ، والبشرة هي وجه الجلد في الأشهر من القول ، وقوله : (مِنْ رُوحِي) : إضافة خلق وملك إلى خالق ومالك ، وقول إبليس : (لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ ...) الآية : ليس إباءته نفس كفره عند الحذّاق ؛ لأن إباءته إنما هي معصية فقط ، وإنما كفره بمقتضى قوله ، وتعليله ، إذ يقتضي أنّ الله خلق خلقا مفضولا ، وكلّف خلقا أفضل منه ؛ أن يذلّ له ، فكأنه قال : وهذا جور ، وقد تقدّم تفسير أكثر هذه المعاني.

(قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)(٤٠)

وقوله عزوجل : (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ...) الآية : قوله : (بِما أَغْوَيْتَنِي) : قال أبو عبيدة وغيره : أقسم بالإغواء (٣).

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٥١٤) برقم : (٢١١٧٠) ، وذكره البغوي (٤٩١٣) بنحوه ، وابن عطية (٣ / ٣٥٩)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٣٥٩)

(٣) ذكره ابن عطية (٣ / ٣٦٢)

٤٠٠