تفسير الثعالبي - ج ٣

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٣

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٩

وقوله سبحانه : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) : قيل : هو لفظ عامّ ، أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبشّر أمته جميعا بالخير من الله ، وقيل : بل هذه الألفاظ خاصّة لمن لم يغز ، أي : لما تقدّم في الآية وعد المجاهدين وفضلهم ، أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن يبشّر سائر المؤمنين ممّن لم يغز بأنّ الإيمان مخلّص من النّار ، والحمد لله رب العالمين.

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(١١٦)

وقوله سبحانه : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ...) الآية : جمهور المفسّرين أنّ هذه الآية نزلت في شأن أبي طالب ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل عليه حين احتضر ، فوعظه ، وقال : «أي عمّ ؛ قل لا إله إلّا الله كلمة أحاجّ لك بها عند الله» ، وكان بالحضرة أبو جهل وعبد الله بن أبي أميّة ، فقالا له : يا أبا طالب ؛ أترغب عن ملّة عبد المطّلب؟ فقال أبو طالب : يا محمّد ، والله ، لو لا أنّي أخاف أن يعيّر بها ولدي من بعدي ، لأقررت بها عينك ، ثمّ قال : هو على ملّة عبد المطّلب ، ومات على ذلك ؛ إذ لم يسمع منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قال العبّاس ، فنزلت (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) [القصص : ٥٦] فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والله ، لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك» ، فكان يستغفر له حتّى نزلت هذه الآية (١) ، فترك نبيّ الله الاستغفار لأبي طالب ، وروي أنّ المؤمنين لما رأوا نبيّ الله يستغفر لأبي طالب ، جعلوا يستغفرون لموتاهم ، فلذلك دخلوا في النّهي ، والآية على هذا ناسخة

__________________

(١) أخرجه البخاري (٣ / ٢٦٣) كتاب «الجنائز» باب : إذا قال المشرك عند الموت : لا إله إلّا الله ، حديث (١٣٦٠) ، وفي (٧ / ٢٣٢) كتاب «مناقب الأنصار» باب : قصة أبي طالب ، حديث (٣٨٨٤) ، وفي (٨ / ١٩٢) كتاب «التفسير» باب : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) ، حديث (٤٦٧٥) وفي (٨ / ٣٦٥) كتاب «التفسير» باب : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ، حديث (٤٧٧٢) وفي (١١ / ٥٧٥) كتاب «الأيمان والنذور» ، حديث (٦٦٨١) ، ومسلم (١ / ٢٤٤ ـ ٢٤٥) ـ شرح النووي ، كتاب «الإيمان» باب : الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ، حديث (٣٩ / ٢٤) ، والنسائي (٤ / ٩٠ ـ ٩١) كتاب «الجنائز» باب : النهي عن الاستغفار للمشركين ، حديث (٢٠٣٥) ، وأحمد (٥ / ٤٣٣) ، والطبري (٦ / ٤٨٨) رقم : (١٧٣٣٩) ، والبيهقي في «دلائل النبوة» (٢ / ٣٤٢ ـ ٣٤٣) كلهم من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب ، عن أبيه به ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٠٥) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ ، وابن مردويه.

٢٢١

لفعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ إذ أفعاله في حكم الشرع المستقرّ ، وقال ابن عبّاس وقتادة (١) وغيرهما : إنما نزلت الآية بسبب جماعة من المؤمنين قالوا : نستغفر لموتانا ؛ كما استغفر إبراهيم عليه‌السلام ، فنزلت الآية في ذلك ، وقوله سبحانه : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ ...) الآية : المعنى : لا حجّة أيّها المؤمنون في استغفار إبراهيم عليه‌السلام ، فإن ذلك لم يكن إلا عن موعدة ، واختلف في ذلك ، فقيل : عن موعدة من إبراهيم ، وذلك قوله : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) [مريم : ٤٧] وقيل : عن موعدة من أبيه له في أنّه سيؤمن ، فقوي طمعه ، فحمله ذلك على الاستغفار له ؛ حتى نهي عنه ، وموعدة من الوعد ، وأما تبيّنه أنه عدوّ لله ، قيل : ذلك بموت آزر على الكفر ، وقيل : ذلك بأنه نهي عنه ، وهو حيّ ، وقوله سبحانه : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) ثناء من الله تعالى على إبراهيم ، و «الأوّاه» معناه الخائف الذي يكثر التّأوّه من خوف الله عزوجل ، والتّأوّه : التوجّع الذي يكثر حتّى ينطق الإنسان معه ب «أوّه» ؛ ومن هذا المعنى قول المثقّب العبدي : [الوافر]

إذا ما قمت أرحلها بليل

تأوّه أهّة الرّجل الحزين (٢)

ويروى : آهة.

وروي أن إبراهيم عليه‌السلام كان يسمع وجيب قلبه (٣) من الخشية ، كما تسمع أجنحة النّسور ، وللمفسّرين في «الأوّاه» عبارات كلّها ترجع إلى ما ذكرته.

* ت* : روى ابن المبارك في «رقائقه» ، قال : أخبرنا عبد الحميد بن بهرام ، قال : حدّثنا شهر بن حوشب ، قال : حدّثني عبد الله بن شدّاد ، قال : قال رجل : يا رسول الله ، ما الأوّاه؟ قال : «الأوّاه الخاشع الدّعّاء المتضرّع ؛ قال الله سبحانه : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)» (٤) انتهى.

و (حَلِيمٌ) معناه : صابر ، محتمل ، عظيم العقل ، والحلم : العقل. وقوله سبحانه : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ ...) الآية : معناه التأنيس للمؤمنين ، وقيل : إن

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» عن قتادة ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٠٦) ، وعزاه أيضا لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم وابن مردويه.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٩١)

(٣) وجب القلب يجب : وجبا ووجيبا ووجوبا ، ووجبانا : خفق واضطرب.

ينظر : «لسان العرب» (٤٧٦٧)

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٩٨) برقم : (١٧٤٣١) من حديث عبد الله بن شداد ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٠٩) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه.

٢٢٢

بعضهم خاف على نفسه من الاستغفار للمشركين ، فنزلت الآية مؤنسة ، أي : ما كان الله بعد / أن هدى إلى الإسلام ، وأنقذ من النار ليحبط ذلك ، ويضلّ أهله ؛ لمواقعتهم ذنبا لم يتقدّم من الله عنه نهي ، فأما إذا بيّن لهم ما يتّقون من الأمور ، ويتجنّبون من الأشياء ، فحينئذ من واقع شيئا من ذلك بعد النّهي ، استوجب العقوبة ، وباقي الآية بيّن.

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(١١٨)

وقوله سبحانه : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ...) الآية : التوبة من الله تعالى هو رجوعه بعبده من حالة إلى أرفع منها ، فقد تكون في الأكثر رجوعا من حالة طاعة إلى أكمل منها ، وهذه توبته سبحانه في هذه الآية على نبيّه عليه‌السلام ، وأما توبته على المهاجرين والأنصار ، فمعرّضة لأن تكون من تقصير إلى طاعة وجدّ في الغزو ونصرة الدّين ، وأما توبته على الفريق الذي كاد يزيغ ، فرجوع من حالة محطوطة إلى حال غفران ورضا ؛ وقال الشيخ أبو الحسن الشّاذليّ رحمه‌الله : في هذه الآية ذكر الله سبحانه توبة من لم يذنب لئلا يستوحش من أذنب ؛ لأنه ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمهاجرين والأنصار ولم يذنبوا ، ثم قال : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) ، فذكر من لم يذنب ليؤنس من قد أذنب ، انتهى من «لطائف المنن».

و (ساعَةِ الْعُسْرَةِ) يريد : وقت العسرة ، والعسرة الشّدّة ، وضيق الحال ، والعدم ، وهذا هو جيش العسرة الذي قال فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من جهّز جيش العسرة ، فله الجنة» (١) ، فجهزه عثمان بن عفّان رضي الله عنه بألف جمل ، وألف دينار ، وجاء أيضا رجل من الأنصار بسبعمائة وسق من تمر ، وهذه غزوة تبوك.

* ت* : وعن ابن عبّاس ؛ أنّه قيل لعمر بن الخطّاب : حدّثنا عن شأن ساعة العسرة ، فقال عمر : خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد ، فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش ، حتى ظنّنا أنّ رقابنا ستنقطع حتى إنّ الرجل لينحر بعيره ، فيعصر فرثه (٢) فيشربه ، ثم يجعل ما بقي

__________________

(١) أخرجه البخاري (٥ / ٤٧٧) كتاب «الوصايا» باب : إذا وقف أرضا أو بئرا ، حديث (٢٧٧٨) عن عثمان بن عفان به ، وأخرجه معلقا (٧ / ٦٥) كتاب «فضائل الصحابة» باب : مناقب عثمان بن عفان.

(٢) الفرث : السّرجين ما دام في الكرش.

ينظر : «لسان العرب» ص : (٣٣٦٩)

٢٢٣

على كبده ، فقال أبو بكر : يا رسول الله ؛ إنّ الله قد عوّدك في الدعاء خيرا ، فادع الله ، فقال : «أتحبّ ذلك؟» قال : نعم ، فرفع يديه ، فلم يرجعهما حتّى مالت السماء ، فأظلّت ، ثم سكبت فملؤوا ما معهم ، ثم ذهبنا ننظر ، فلم نجدها جاوزت العسكر ، رواه الحاكم في «مستدركه على الصحيحين» ، وقال : صحيح على شرط الشّيخين ، يعني : مسلما والبخاريّ (١) انتهى في «السلاح» ، ووصل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك إلى أوائل بلد العدوّ فصالحه أهل أذرح وأيلة وغيرهما على الجزية ونحوها ، وانصرف ، والزيغ المذكور هو ما همّت به طائفة من الانصراف ؛ لما لقوا من المشقّة والعسرة. قاله الحسن (٢).

وقيل : زيغها إنما كان بظنون لها ساءت في معنى عزم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تلك الغزوة ، لما رأته من شدّة الحال وقوّة العدوّ والمقصود ، ثم أخبر عزوجل ؛ أنه تاب أيضا على هذا الفريق ، وراجع به ، وآنس بإعلامه للأمّة بأنه رؤوف رحيم ، والثلاثة الذين خلّفوا هم كعب بن مالك وهلال بن أمية الواقفيّ ومرارة بن الرّبيع العامريّ ، وقد خرّج حديثهم بكماله البخاريّ ومسلم (٣) ، وهو في السّير ؛ فلذلك اختصرنا سوقه ، وهم الذين تقدّم فيهم : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) [التوبة : ١٠٦] ، ومعنى (خُلِّفُوا) أخّروا ، وترك النظر في أمرهم ، قال كعب : وليس بتخلّفنا عن الغزو ، وهو بيّن من لفظ الآية.

وقوله : (وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) ، (ظَنُّوا) ؛ هنا بمعنى : أيقنوا ، قال

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٠٢) برقم : (١٧٤٤٣) والبزار (٢ / ٣٥٤ ـ ٣٥٥ ـ كشف) ، والحاكم (١ / ١٥٩) ، وابن حبان (١٣٨٣) ، والبيهقي في «دلائل النبوة» (٥ / ٢٣١) من حديث عمر بن الخطاب ، وقال البزار : لا نعلمه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا بهذا الإسناد عن عمر بهذا اللفظ. وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبي ، وصححه ابن حبان. والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٦ / ١٩٨) وقال : رواه البزار والطبراني في «الأوسط» ورجال البزار ثقات.

(٢) ذكره ابن عطية (٣ / ٩٣)

(٣) أخرجه البخاري (٧ / ٧١٧ ، ٧١٩) كتاب «المغازي» باب : حديث كعب بن مالك ، حديث (٤٤١٨) ، ومسلم (٤ / ٢١٢٠ ، ٢١٢٨) كتاب «التوبة» باب : حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه ، حديث (٥٣ / ٢٧٦٩) ، والترمذي (٥ / ٢٨١ ـ ٢٨٢) كتاب «التفسير» باب : ومن سورة التوبة ، حديث (٣١٠٢) ، وابن حبان (٣٣٧٠) والبيهقي في «دلائل النبوة» (٥ / ٢٧٣ ، ٢٧٩) من طريق الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن كعب بن مالك به مطولا.

وقد أخرجه جزءا من هذا الحديث البخاري برقم : (٢٧٥٧ ، ٢٩٤٧ ، ٢٩٤٨ ، ٢٩٤٩ ، ٢٩٥٠ ، ٣٠٨٨ ، ٣٥٥٦ ، ٣٨٨٩ ، ٣٩٥١ ، ٤٦٧٣ ، ٤٦٧٦ ، ٤٦٧٧ ، ٤٦٧٨ ، ٦٢٥٥ ، ٦٦٩٠ ، ٧٢٢٥) ، وأيضا أبو داود (٣٣٢٠) ، والنسائي (٢ / ٥٣ ـ ٥٤) ، وابن ماجه (١٣٩٣) ، وأحمد (٦ / ٣٩٠) ، وابن أبي شيبة (١٤ / ٥٣٩) كلهم من طريق الزهري بهذا الإسناد مختصرا.

٢٢٤

الشيخ ابن أبي جمرة رحمه‌الله : قال بعض أهل التوفيق : إذا نزلت بي نازلة ما من أي نوع كانت ، فألهمت فيها اللّجأ ، فلا أبالي بها ، / واللّجأ على وجوه ؛ منها : الاشتغال بالذّكر والتعبّد وتفويض الأمر له عزوجل ، لقوله تعالى على لسان نبيه : «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السّائلين» (١) ، ومنها : الصّدقة ، ومنها : الدعاء ، فكيف بالمجموع. انتهى.

وقوله سبحانه : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) لما كان هذا القول في تعديد النعم ، بدأ في ترتيبه بالجهة الّتي هي عن الله عزوجل ؛ ليكون ذلك منها على تلقّي النعمة من عنده لا ربّ غيره ، ولو كان هذا القول في تعديد ذنب ، لكان الابتداء بالجهة التي هي على المذنب ، كما قال عزوجل : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [الصف : ٥] ليكون ذلك أشدّ تقريرا للذنب عليهم ، وهذا من فصاحة القرآن وبديع نظمه ومعجز اتّساقه.

وبيان هذه الآية ومواقع ألفاظها إنما يكمل مع مطالعة حديث الثلاثة الذين خلّفوا في الكتب المذكورة ، فانظره ، وإنما عظم ذنبهم ، واستحقّوا عليه ذلك ، لأن الشرع يطلبهم من الجدّ فيه بحسب منازلهم منه ، وتقدّمهم فيه ؛ إذ هم أسوة وحجّة للمنافقين ، والطاعنين ، إذ كان كعب من أهل العقبة ، وصاحباه من أهل بدر ، وفي هذا ما يقتضي أنّ الرجل العالم والمقتدى به أقلّ عذرا في السقوط من سواه ، وكتب الأوزاعي رحمه‌الله إلى أبي جعفر المنصور في آخر رسالة : واعلم أنّ قرابتك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لن تزيد حقّ الله عليك إلّا عظما ، ولا طاعته إلا وجوبا ، ولا النّاس فيما خالف ذلك منك إلّا إنكارا ، والسلام.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩) ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٢١)

وقوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) هذا الأمر بالكون مع الصّادقين حسن بعد قصّة الثلاثة حين نفعهم الصّدق ، وذهب بهم عن منازل المنافقين ،

__________________

(١) تقدم تخريجه في أوائل التفسير.

٢٢٥

وكان ابن مسعود يتأوّل الآية في صدق الحديث (١) ، وإليه نحا كعب بن مالك.

وقوله سبحانه : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ ...) الآية ؛ هذه الآية معاتبة للمؤمنين من أهل يثرب وقبائل العرب المجاورة لها ، على التخلّف عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة ، وقوّة الكلام تعطي الأمر بصحبته أين ما توجّه غازيا وبذل النفوس دونه ، و «المخمصة» مفعلة من خموص البطن ، وهو ضموره واستعير ذلك لحالة الجوع ، إذ الخموص ملازم له ، ومن ذلك قول الأعشى : [الطويل]

تبيتون في المشتى ملاء بطونكم

وجاراتكم غرثى (٢) يبتن خمائصا (٣)

وقوله : (وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً) : لفظ عامّ لقليل ما يصنعه المؤمنون بالكفرة ـ من أخذ مال ، أو إيراد هوان ـ وكثيره و (نَيْلاً) : مصدر نال ينال ؛ وفي الحديث : «ما ازداد قوم من أهليهم في سبيل الله بعدا إلّا ازدادوا من الله قربا».

* ت* : وروى أبو داود في «سننه» ، عن أبي مالك الأشعريّ ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من فصل في سبيل الله ، فمات ، أو قتل ، فهو شهيد ، أو وقصه فرسه أو بعيره أو لدغته هامّة ، أو مات على فراشه بأيّ حتف شاء الله فإنّه شهيد ، وإنّ له الجنّة» ، انتهى (٤).

قال ابن العربي (٥) في «أحكامه» : قوله عزوجل : (وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) : يعني إلّا كتب لهم ثوابه ، وكذلك قال في المجاهد : «إنّ أرواث دوابّه وأبوالها حسنات له» وكذلك أعطى سبحانه لأهل العذر من الأجر ما أعطى للقويّ العامل بفضله ،

__________________

(١) أخرجه الطبري (٦ / ٥٠٩ ـ ٥١٠) برقم : (١٧٤٧٠ ـ ١٧٤٧١) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٩٥) ، والبغوي (٢ / ٣٣٧) نحوه ، وابن كثير (٢ / ٣٩٩) نحوه.

(٢) جمع غرثى وغرثانة ، والغرث : أيسر الجوع.

ينظر : «لسان العرب» (٣٢٣١)

(٣) البيت للأعشى ينظر : «ديوانه» (١٤٩) ، «الدر المصون» (٢ / ٨٧)

(٤) أخرجه أبو داود (٢ / ١٢) كتاب «الجهاد» باب : فيمن مات غازيا ، حديث (٢٤٩٩) ، والحاكم (٢ / ٧٨) ، والبيهقي (٩ / ١٦٦) كتاب «السير» باب : فضل من مات في سبيل الله ، والطبراني في «الكبير» (٣ / ٣٢٠) رقم : (٣٤١٨) كلهم من طريق ابن ثوبان ، عن أبيه ، عن مكحول ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن أبي مالك الأشعري به.

وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، وتعقبه الذهبي فقال : ابن ثوبان : لم يحتج به مسلم وليس بذاك ، وعبد الرحمن بن غنم لم يدركه مكحول فيما أظن.

(٥) ينظر : «أحكام القرآن» (٢ / ١٠٢٩)

٢٢٦

ففي الصحيح ، بأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في هذه الغزوة بعينها : «إنّ بالمدينة قوما ما سلكتم واديا ولا قطعتم شعبا إلّا وهم معكم حبسهم العذر» (١) انتهى.

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(١٢٢)

وقوله سبحانه : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ...) الآية : قالت فرقة : إن المؤمنين الذين / كانوا بالبادية سكّانا ومبعوثين لتعليم الشّرع ، لما سمعوا قول الله عزوجل : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ ...) الآية [التوبة : ١٢٠] ، أهمّهم ذلك ، فنفروا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ خشية أن يكونوا عصاة في التخلّف عن الغزو ، فنزلت هذه الآية في نفرهم ذلك.

وقالت فرقة : سبب هذه الآية أن المنافقين ، لما نزلت الآيات في المتخلّفين ، قالوا : هلك أهل البوادي ، فنزلت هذه الآية مقيمة لعذر أهل البوادي.

قال* ع (٢) * : فيجيء قوله : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ) : عموم في اللفظ ، والمراد به في المعنى الجمهور والأكثر ، وتجيء هذه الآية مبيّنة لذلك.

وقالت فرقة : هذه الآية ناسخة لكلّ ما ورد من إلزام الكافّة النّفير والقتال ، وقال ابن عبّاس ما معناه : أنّ هذه الآية مختصّة بالبعوث والسّرايا (٣) والآية المتقدّمة ثابتة الحكم مع خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الغزو ، وقالت فرقة : يشبه أن يكون التفقّه في الغزو وفي

__________________

(١) أخرجه مسلم (٣ / ١٥١٨) كتاب «الإمارة» باب : ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر ، حديث (١٥٩ / ١٩١١) ، وابن ماجه (٢ / ٩٢٣) كتاب «الجهاد» ، باب : من حبسه العذر عن الجهاد حديث (٢٧٦٥) ، وأحمد (٣ / ٣٠٠) وأبو يعلى (٤ / ١٩٣) رقم (٢٢٩١) كلهم من طريق الأعمش عن أبي سفيان ، عن جابر مرفوعا.

وله شاهد من حديث أنس بن مالك. أخرجه البخاري (٧ / ٧٣٢) كتاب «المغازي» باب : نزول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحجر ، حديث (٤٤٢٣) ، ومسلم (٣ / ١٥١٨) كتاب «الإمارة» باب : ثواب من حبسه عن الغزو مرض ، حديث (٥٩ / ١٩١١) ، وأحمد (٣ / ١٠٣) ، وابن ماجه (٢ / ٩٢٣) ، كتاب «الجهاد» ، باب : من حبسه العذر عن الجهاد حديث (٢٧٦٤) ، وأبو يعلى (٦ / ٤٥٠ ـ ٤٥١) رقم : (٣٨٣٩) ، والبغوي في «شرح السنة» (٥ / ٥٢٤ ـ بتحقيقنا)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٩٦)

(٣) أخرجه الطبري (٦ / ٥١٤) برقم : (١٧٤٨٥) نحوه ، وذكره ابن عطية (٣ / ٩٦ ـ ٩٧) ، والبغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٣٩) نحوه ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٢١) نحوه ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في «المدخل».

٢٢٧

السرايا ، لما يرون من نصرة الله لدينه ، وإظهاره العدد القليل من المؤمنين على الكثير من الكافرين ، وعلمهم بذلك صحّة دين الإسلام ومكانته.

* ع (١) * : والجمهور على أن التفقّه إنما هو بمشاهدة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحبته ، وقيل غير هذا.

* ت* : وصحّ عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونيّة ، وإذا استنفرتم فانفروا» (٢) ، وقد استنفر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس في غزوة تبوك ، وأعلن بها حسب

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٩٧)

(٢) ورد ذلك من حديث ابن عباس ، وعائشة ، ومجاشع بن مسعود ، وصفوان بن أمية ، ويعلى بن أمية التيمي ، وقول ابن عمر ، وقول عمر ، وحديث أبي سعيد الخدري.

فأما حديث ابن عباس : فأخرجه البخاري (٦ / ٤٥) في «الجهاد» باب : وجوب النفير (٢٨٢٥) ، (٦ / ٢١٩) باب : لا هجرة بعد الفتح (٣٠٧٧) ، ومسلم (٣ / ١٤٨٧) في «الإمارة» باب : المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام ، والجهاد ، والخير ، وبيان معنى : لا هجرة بعد الفتح (٨٥ / ١٣٥٣) ، وأبو داود (٢ / ٦) في «الجهاد» باب : في الهجرة ، هل انقطعت؟ (٢٤٨٠) ، والنسائي (٧ / ١٤٦) في «البيعة» باب : الاختلاف في انقطاع الهجرة ، والترمذي (١٥٩٠) ، وأحمد (١ / ٢٦٦ ، ٣١٥ ، ٣١٦ ، ٣٤٤) ، وعبد الرزاق (٥ / ٣٠٩) برقم : (٩٧١٣) ، والدارمي (٢ / ٢٣٩) في «السير» باب : لا هجرة بعد الفتح ، وابن حبان (٧ / ٤٨٤٥) ، والطبراني في «الكبير» (١١ / ٣٠ ـ ٣١) برقم : (١٠٩٤٤) ، وابن الجارود في «المنتقى» (١٠٣٠) ، والبيهقي (٥ / ١٩٥) ، (٩ / ١٦) ، وفي «دلائل النبوة» (٥ / ١٠٨) ، والبغوي في «شرح السنة» بتحقيقنا (٤ / ١٧٩) برقم : (١٩٩٦) ، و (٥ / ٥٢٠) برقم : (٢٦٣٠) من طريق منصور ، عن مجاهد ، عن طاووس ، عن ابن عباس مرفوعا به.

وتابعه إبراهيم بن يزيد ، عن عمرو بن دينار ، عن طاووس ، أخرجه الطبراني (١١ / ١٨) برقم : (١٠٨٩٨).

وأخرجه الطبراني (١٠ / ٤١٣) برقم : (١٠٨٤٤) عن شيبان ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس.

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

وأما حديث عائشة : فأخرجه البخاري (٦ / ٢٢٠) في «الجهاد» باب : لا هجرة بعد الفتح (٣٠٨٠) ، (٧ / ٢٦٧) في «مناقب الأنصار» باب : هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه إلى المدينة (٣٩٠٠) ، وفي (٧ / ٦٢٠) في «المغازي» باب : (٥٣) برقم : (٤٣١٢) ، ومسلم (٣ / ١٤٨٨) في «الإمارة» باب : المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام ، والجهاد ، والخير ... (٨٦ ـ ١٨٦٤) ، وأبو يعلى (٤٩٥٢) ، واللفظ لمسلم ، ولأبي يعلى من طريق عطاء ، عن عائشة قالت : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الهجرة؟ فقال : «لا هجرة بعد الفتح ...» الحديث ، وفي لفظ البخاري عن عطاء قال : زرت عائشة مع عبيد بن عمير فسألتها عن الهجرة؟ فقالت : «لا هجرة اليوم ، كان المؤمن يفر أحدهم بدينه إلى الله وإلى رسوله مخافة أن يفتن عليه ، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام ، فالمؤمن يعبد ربه حيث شاء ، ولكن جهاد ونية». وهكذا أخرجه البيهقي (٩ / ١٧). وأما حديث مجاشع بن مسعود فأخرجه البخاري (٦ / ١٣٧) في «الجهاد» باب : البيعة في الحرب ألا

٢٢٨

ما هو مصرّح به في حديث كعب بن مالك في «الصّحاح» ، فكان العتب متوجّها على من

__________________

ـ يفروا ... (٢٩٦٢ ، ٢٩٦٣) ، و (٦ / ٢١٩) باب : لا هجرة بعد الفتح (٣٠٧٨ ـ ٣٠٧٩) ، و (٧ / ٦١٩) في «المغازي» باب : (٥٣) (٤٣٠٥ ـ ٤٣٠٨) ، ومسلم (٣ / ١٤٨٧) في «الإمارة» باب : المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام ، والجهاد والخير ، (٨٣ ـ ٨٤ / ١٨٦٣) ، وأحمد (٣ / ٤٦٨ ـ ٤٦٩) ، و (٥ / ٧١) ، والحاكم (٣ / ٣١٦) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (٣ / ٢٥٢) ، والبيهقي (٩ / ١٦) ، وفي «الدلائل» (٥ / ١٠٩) من طريق أبي عثمان النهدي : حدثني مجاشع قال : أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأخي بعد الفتح ، فقلت : يا رسول الله ، جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة ، قال : «ذهب أهل الهجرة بما فيها» ، فقلت : على أي شيء تبايعه؟ قال : «أبايعه على الإسلام ، والإيمان ، والجهاد» ، فلقيت معبدا بعد ـ وكان أكبرهما ـ فسألته ، فقال : صدق مجاشع ..

وأما حديث صفوان بن أمية : فأخرجه النسائي (٧ / ١٤٥) في «البيعة» باب : الاختلاف في انقطاع الهجرة ، وأحمد (٣ / ٤٠١) عن وهيب بن خالد ، عن عبد الله بن طاوس ، عن أبيه ، عن صفوان بن أمية قال : قلت : يا رسول الله ، إنهم يقولون إن الجنة لا يدخلها إلا مهاجر ، قال : «لا هجرة بعد فتح مكة ، ولكن جهاد ونية ، فإذا استنفرتم فانفروا».

وأخرجه أحمد (٣ / ٤٠١) ، (٦ / ٤٦٥) عن الزهري ، عن صفوان بن عبد الله بن صفوان ، عن أبيه أن صفوان بن أمية بن خلف قيل له : هلك من لم يهاجر ، قال : فقلت : لا أصل إلى أهلي حتى آتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فركبت راحلتي ، فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله زعموا أنه هلك من لم يهاجر ، قال : «لا أبا وهب ، فارجع إلى أباطح مكة».

وأما حديث يعلى بن أمية : فأخرجه النسائي (٧ / ١٤١) في «البيعة» باب : البيعة على الجهاد ، (٧ / ١٤٥) في ذكر الاختلاف في انقطاع الهجرة ، وأحمد (٤ / ٣٢٣ ـ ٣٢٤) ، والطبراني في «الكبير» (٢٢ / ٢٥٧) رقم : (٦٦٤ ـ ٦٦٥) ، والبيهقي (٩ / ١٦) من طريق ابن شهاب ، عن عمرو بن عبد الرحمن بن أمية أن أباه أخبره أن يعلى قال : جئت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأبي يوم الفتح ، فقلت : يا رسول الله : بايع أبي على الهجرة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبايعه على الجهاد ، وقد انقطعت الهجرة».

وأما حديث أبي سعيد الخدري : فأخرجه أحمد (٣ / ٢٢) (٥ / ١٨٧) ، والطيالسي (٦٠١ ، ٩٦٧ ، ٢٢٠٥) ، والبيهقي في «دلائل النبوة» (٥ / ١٠٩) عن أبي البختري الطائي ، عن أبي سعيد الخدري قال : لما نزلت هذه السورة : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ ...) قرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى ختمها وقال : «الناس حيز ، وأنا وأصحابي حيز» ، وقال : «لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية» ، فحدثت به مروان بن الحكم وكان على المدينة ، فقال له مروان : كذبت ، وعنده رافع بن خديج وزيد بن ثابت ، وهما قاعدان معه على السرير ، فقال أبو سعيد : لو شاء هذان لحدثاك ، ولكن هذا يخاف أن تنزعه من عرافة قومه ، وهذا يخشى أن تنزعه عن الصدقة ، فسكتا ، فرفع مروان عليه الدرة ليضربه ، فلما رأيا ذلك ، قالا : صدق.

أما قول ابن عمر : فأخرجه البخاري (٧ / ٢٦٧) في «مناقب الأنصار» باب : هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه إلى المدينة (٣٨٩٩) ، و (٧ / ٦٢٠) في «المغازي» باب : (٥٣) ، و (٤٣٠٩ ، ٤٣١١) من طريق عطاء ، عن ابن عمر كان يقول : لا هجرة بعد الفتح.

وفي لفظ آخر : قلت لابن عمر رضي الله عنهما : إني أريد أن أهاجر إلى الشام ، قال : لا هجرة ، ولكن جهاد ، فانطلق فاعرض نفسك ، فإن وجدت شيئا وإلا رجعت.

وأما قول عمر : فأخرجه النسائي (٧ / ١٤٦) في «البيعة» باب : الاختلاف في انقطاع الهجرة ، وأبو يعلى ـ

٢٢٩

تأخّر عنه بعد العلم ، فيظهر والله أعلم ، أنّ الآية الأولى باق حكمها ؛ كما قال ابن عباس ، وتكون الثانية ليست في معنى الغزو ، بل في شأن التفقّه في الدّين على الإطلاق (١) وهذا هو الذي يفهم من استدلالهم بالآية على فضل العلم ، وقد قالت فرقة : إن هذه الآية ليست في معنى الغزو ، وإنما سببها قبائل من العرب أصابتهم مجاعة ، فنفزوا إلى المدينة لمعنى المعاش ، فكادوا يفسدونها ، وكان أكثرهم غير صحيح الإيمان ، وإنما أضرعه الجوع ، فنزلت الآية في ذلك ، والإنذار في الآية عامّ للكفر والمعاصي ، والحذر منها أيضا ؛ كذلك قال ابن المبارك في «رقائقه» أخبرنا موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب القرظيّ ، قال : إذا أراد الله تبارك وتعالى بعبد خيرا ، جعل فيه ثلاث خصال : فقها في الدّين ، وزهادة في الدنيا ، وبصّره بعيوبه (٢). انتهى.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ)(١٢٧)

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) قيل : إنّ هذه الآية نزلت قبل الأمر بقتال الكفّار كافّة ، فهي من التدريج الذي كان في أوّل الإسلام.

قال* ع (٣) * : وهذا ضعيف فإن هذه السورة من آخر ما نزل.

وقالت فرقة : معنى الآية أنّ الله تبارك وتعالى أمر فيها المؤمنين أن يقاتل كلّ فريق منهم الجنس الذي يليه من الكفرة.

وقوله سبحانه : (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) : أي : خشونة وبأسا ، ثم وعد سبحانه في آخر الآية وحضّ على التقوى التي هي ملاك الدّين والدنيا ، وبها يلقى العدوّ ، وقد قال

__________________

في «مسنده» (١٨٦) ، عن شعبة ، عن يحيى بن هانىء ، عن نعيم بن دجاجة قال : سمعت عمر يقول : لا هجرة بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(١) أخرجه الطبري (٦ / ٥١٤) برقم : (١٧٤٨٨) ، وابن كثير (٢ / ٤٠١) ، والبغوي في «تفسيره» (٢ / ٥٢٢)

(٢) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» ص : (٩٥ ـ ٩٦) رقم : (٢٨٢) ومن طريقه أبي نعيم في «حلية الأولياء» (٣ / ٢١٣)

(٣) ينظر : «المحرر» (٣ / ٩٧)

٢٣٠

بعض الصحابة : إنما تقاتلون النّاس بأعمالكم ، ووعد سبحانه أنه مع المتّقين ، ومن كان الله معه ، فلن يغلب.

وقوله تعالى : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً ...) الآية : هذه الآية نزلت في شأن المنافقين ، وقولهم : (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً) يحتمل أن يكون لمنافقين مثلهم ، أو لقوم من قراباتهم ؛ على جهة الاستخفاف والتحقير لشأن السّورة ، ثم ابتدأ عزوجل الردّ عليهم بقوله : (فَأَمَّا / الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) وذلك أنه إذا نزلت سورة ، حدث للمؤمنين بها تصديق خاصّ ، لم يكن قبل ، فتصديقهم بما تضمّنته السورة من أخبار وأمر ونهي أمر زائد على الذي كان عندهم قبل ، وهذا وجه من زيادة الإيمان.

ووجه آخر ؛ أنّ السورة ربّما تضمّنت دليلا أو تنبيها على دليل ، فيكون المؤمن قد عرف الله بعدّة أدلّة ، فإذا نزلت السورة ، زادت في أدلّته ، ووجه آخر من وجوه الزيادة أنّ الإنسان ربّما عرضه شكّ يسير ، أو لاحت له شبهة مشغّبة ، فإذا نزلت السورة ، ارتفعت تلك الشبهة ، وقوي إيمانه وارتقى اعتقاده عن معارضة الشبهات ، و (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) : هم المنافقون ، و «الرجس» ؛ في اللغة : يجيء بمعنى القذر ، ويجيء بمعنى العذاب ، وحال هؤلاء المنافقين هي قذر ، وهي عذاب عاجل ، كفيل بآجل ، وإذا تجدّد كفرهم بسورة ، فقد زاد كفرهم ، فذلك زيادة رجس إلى رجسهم.

وقوله سبحانه : (أَوَلا يَرَوْنَ) يعني : المنافقين ، وقرأ حمزة : «أولا ترون» ـ بالتاء من فوق ـ ؛ على معنى : أو لا ترون أيّها المؤمنون ؛ (أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ) ، أي : يختبرون ، وقرأ مجاهد : «مرضة أو مرضتين» ، والذي يظهر مما قبل الآية ، ومما بعدها أنّ الفتنة والاختبار إنما هي بكشف الله أسرارهم وإفشائه عقائدهم ؛ إذ يعلمون أنّ ذلك من عند الله ، وبهذا تقوم الحجّة عليهم ، وأما الاختبار بالمرض فهو في المؤمنين.

وقوله سبحانه : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ) : المعنى : وإذا ما أنزلت سورة فيها فضيحة أسرار المنافقين ، (نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) : أي : هل معكم من ينقل عنكم ، هل يراكم من أحد حين تدبّرون أموركم ، (ثُمَّ انْصَرَفُوا) عن طريق الاهتداء ؛ وذلك أنهم وقت كشف أسرارهم والإعلام بمغيّبات أمورهم ، يقع لهم لا محالة تعجّب وتوقّف ونظر ، فلو أريد بهم خير ، لكان ذلك الوقت مظنّة الاهتداء ، وقد تقدّم بيان قوله : (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ).

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ

٢٣١

بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)(١٢٩)

وقوله عزوجل : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ...) الآية مخاطبة للعرب في قول الجمهور ، وهذا على جهة تعديد النعمة عليهم ؛ إذ جاءهم بلسانهم ، وبما يفهمونه من الأغراض والفصاحة ، وشرّفوا به غابر الدهر.

وقوله : (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) : يقتضي مدحا لنسبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه من صميم العرب ، وشرفها ، وقرأ عبد الله بن قسيط المكّيّ : «من أنفسكم» ـ بفتح الفاء ـ ؛ من النّفاسة ، ورويت عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله : (ما عَنِتُّمْ) : معناه عنتكم ؛ ف «ما» مصدرية ، والعنت : المشقّة ، وهي هنا لفظة عامّة ، أي : عزيز عليه ما شقّ عليكم : من قتل وإسار وامتحان ؛ بحسب الحقّ واعتقادكم أيضا معه ، (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أي : على إيمانكم وهداكم.

وقوله : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ) أي : مبالغ في الشفقة عليهم ، قال أبو عبيدة : الرّأفة أرقّ الرحمة.

ثم خاطب سبحانه نبيّه بقوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) ، أي : أعرضوا ، (فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) : هذه الآية من آخر ما نزل ، وصلّى الله على سيّدنا ومولانا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.

٢٣٢

تفسير سورة يونس

بعضها نزل بمكة ، وبعضها بالمدينة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ)(٢)

قوله عزوجل : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) المراد ب (الْكِتابِ) : القرآن ، و (الْحَكِيمِ) : بمعنى محكم ، ويمكن أن يكون : «حكيم» بمعنى ذي حكمة ، فهو على النّسب.

وقوله عزوجل : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً ...) الآية : قال ابن عباس وغيره : سبب هذه الآية استبعاد قريش أن يبعث الله بشرا رسولا (١) ، والقدم هنا ما قدّم ، واختلف في المراد بها هاهنا ، فقال ابن عبّاس ومجاهد والضحاك وغيرهم : هي الأعمال الصّالحات من العبادات (٢). وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة : هي شفاعة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣) ، وقال ابن عباس أيضا وغيره : هي السعادة السّابقة لهم في اللّوح المحفوظ (٤) ، وهذا أليق الأقوال

__________________

(١) أخرجه الطبري (٦ / ٥٢٧) برقم : (١٧٥٤٢) وبرقم : (١٧٥٤٣) عن ابن جريج ، وذكره ابن عطية (٣ / ١٠٢) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٤٠٦) نحوه ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٣٥) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه.

(٢) أخرجه الطبري (٦ / ٥٢٧ ـ ٥٢٨) برقم : (١٧٥٤٤ ، ١٧٥٤٧) ، وذكره ابن عطية (٣ / ١٠٣) ، والبغوي (٢ / ٣٤٣) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٤٠٦) كلهم بنحوه.

(٣) أخرجه الطبري (٦ / ٥٢٨) برقم : (١٧٥٥٥) ، وذكره ابن عطية (٣ / ١٠٣) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٤٠٦) بنحوه ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٣٦) ، وزاد نسبته إلى أبي الشيخ.

(٤) أخرجه الطبري (٦ / ٥٢٨) برقم : (١٧٥٥٤) ، وذكره ابن عطية (٣ / ١٠٣) ، والبغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٤٣) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٤٠٦) بنحوه ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٣٥) ، وزاد نسبته إل ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ.

٢٣٣

بالآية ؛ ومن هذه اللفظة قول حسّان رضي الله عنه (١) : [الطويل]

لنا القدم العليا إليك وخلفنا

لأوّلنا في طاعة الله تابع (٢)

ومن هذه اللفظة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حتّى يضع الجبّار فيها قدمه» (٣) أي ما قدّم لها ، هذا على أن الجبّار اسم الله تعالى ، و «الصّدق» هنا بمعنى الصّلاح ، وقال البخاريّ : قال زيد بن أسلم : (قَدَمَ صِدْقٍ) محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤). انتهى.

وقولهم : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) : إنما هو بسبب أنّه فرّق بذلك كلمتهم ، وحال بين القريب وقريبه ؛ فأشبه ذلك ما يفعله السّاحر في ظنّهم القاصر ؛ فسمّوه ساحرا.

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ)(٤)

وقوله سبحانه : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ...) الآية : هذا ابتداء دعاء إلى عبادة الله عزوجل وتوحيده ، وذكر بعض الناس أنّ الحكمة في خلق الله تعالى هذه الأشياء في مدّة محدودة ممتدّة ، وفي القدرة أن يقول لها : كن ؛ فتكون ، إنما هي ليعلّم عباده التّؤدة والتماهل في الأمور ، قال* ع (٥) * : وهذا مما لا يوصل إلى تعليله ، وعلى هذا هي الأجنة في البطون ، وخلق الثمار ، وغير ذلك ، والله عزوجل قد جعل لكلّ شيء قدرا ، وهو أعلم بوجه الحكمة في ذلك.

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٣ / ١٠٣)

(٢) البيت في «ديوانه» (٢٤١) ، والطبري (١٣ / ٢٠٩) ، و «البحر» (٥ / ١٢٤) ، و «الدر المصون» (٣ / ٣٦٦) ، و «المحرر الوجيز» (٣ / ١٠٣)

(٣) أخرجه البخاري (٨ / ٤٦٠) كتاب «التفسير» باب : وتقول : (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) ، حديث (٤٨٤٨) ، ومسلم (٤ / ٢١٨٧) كتاب «الجنة» باب : النار يدخلها الجبارون ، حديث (٣٧ / ٢٨٤٨) ، والترمذي (٥ / ٣٩٠) كتاب «التفسير» باب : ومن سورة ق ، حديث (٣٢٧٢) ، وأحمد (٣ / ١٣٤ ، ١٤١ ، ٢٣٤) ، وأبو يعلى (٥ / ٤٣٨ ـ ٤٣٩) ، رقم : (٣١٤٠) ، وابن حبان (٢٦٨) ، والبيهقي في «الأسماء والصفات» ص : (٣٤٩) من حديث أنس.

(٤) أخرجه البخاري (٨ / ١٩٦) كتاب «التفسير» باب : «سورة يونس» ، وذكر معلقا بصيغة الجزم ، ووصله ابن جرير من طريق ابن عيينة ، عنه بهذا الحديث. كما قال ابن حجر ، والطبري (٦ / ٥٢٩) برقم : (١٧٥٥٧) ، وذكره ابن عطية (٣ / ١٠٣) بنحوه ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٣٦)

(٥) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ١٠٤)

٢٣٤

وقوله سبحانه : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) يصحّ أن يريد بالأمر اسم الجنس من الأمور ، ويصحّ أن يريد الأمر الذي هو مصدر أمر يأمر ، وتدبيره لا إله إلا هو إنما هو الإنفاذ ؛ لأنه قد أحاط بكلّ شيء علما ، قال مجاهد : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) : معناه : يقضيه وحده (١).

وقوله سبحانه : (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) ؛ ردّ على العرب في اعتقادها ؛ أن الأصنام تشفع لها عند الله.

(ذلِكُمُ اللهُ) أي : الذي هذه صفاته فاعبدوه ، ثم قرّرهم على هذه الآيات والعبر ، فقال : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ).

وقوله : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ...) الآية إنباء بالبعث.

وقوله : (يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) يريد : النشأة الأولى ، والإعادة : هي البعث من القبور.

(لِيَجْزِيَ) : هي لام كي ، والمعنى : أنّ الإعادة إنما هي ليقع الجزاء على الأعمال.

وقوله : (بِالْقِسْطِ) : أي : بالعدل.

وقوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا) : ابتداء ، والحميم الحارّ المسخّن ، وحميم النار فيما ذكر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أدناه الكافر من فيه ، تساقطت فروة رأسه» (٢) وهو كما وصفه سبحانه : (يَشْوِي الْوُجُوهَ) [الكهف : ٢٩].

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ)(٩)

__________________

(١) أخرجه الطبري (٦ / ٥٣٠) برقم : (١٧٥٥٩ ، ١٧٥٦٢) ، وذكره ابن عطية (٣ / ١٠٤) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٣٦) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ.

(٢) أخرجه الترمذي (٤ / ٧٠٦) كتاب «صفة جهنم» باب : ما جاء في صفة شراب أهل النار ، حديث (٢٥٨٤) ، وفي (٥ / ٤٢٦) كتاب «التفسير» باب : ومن سورة سأل سائل ، حديث (٣٣٢٢) ، وأحمد (٣ / ٧٠ ـ ٧١) ، وأبو يعلى (٢ / ٥٢٠) رقم : (١٣٧٥) ، والحاكم (٤ / ٦٠٢) من حديث أبي سعيد الخدري. وقال الترمذي : هذا حديث غريب.

٢٣٥

وقوله سبحانه : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً ...) الآية : هذا استمرار على وصف / آياته سبحانه ، والتنبيه على صنعته الدّالة على وحدانيته ، وعظيم قدرته.

وقوله : (قَدَّرَهُ مَنازِلَ) : يحتمل أن يعود الضمير على «القمر» وحده ؛ لأنه المراعى في معرفة عدد السّنين والحساب عند العرب ، ويحتمل أن يريد الشّمس والقمر معا ، لكنه اجتزأ بذكر أحدهما ؛ كما قال : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢].

وقوله : (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) أي : رفقا بكم ، ورفعا للالتباس في معايشكم وغير ذلك مما يضطرّ فيه إلى معرفة التواريخ.

وقوله : (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) : إنما خصهم ، لأن نفع هذا فيهم ظهر.

وقوله سبحانه : (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) الآية : آية اعتبار وتنبيه ، والآيات : العلامات ، وخصّص القوم المتّقين ؛ تشريفا لهم ؛ إذ الاعتبار فيهم يقع ، ونسبتهم إلى هذه الأشياء المنظور فيها أفضل من نسبة من لم يهتد ولا اتّقى.

وقوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا ...) الآية : قال أبو عبيدة (١) وغيره : (يَرْجُونَ) ، في هذه الآية : بمعنى يخافون (٢) ؛ واحتجّوا ببيت أبي ذؤيب : [الطويل]

إذا لسعته النّحل لم يرج لسعها

وحالفها في بيت نوب عوامل (٣)

وقال ابن سيده والفرّاء : لفظة الرّجاء ، إذا جاءت منفيّة ، فإنها تكون بمعنى الخوف ، فعلى هذا التأويل معنى الآية : إنّ الذين لا يخافون لقاءنا ، وقال بعض أهل العلم : الرجاء ، في هذه الآية : على بابه ؛ وذلك أن الكافر المكذّب بالبعث لا يحسن ظنّا بأنه يلقى الله ، ولا له في الآخرة أمل ؛ إذ لو كان له فيها أمل ؛ لقارنه لا محالة خوف ، وهذه الحال من الخوف المقارن هي القائدة إلى النجاة.

قال* ع (٤) * : والذي أقول به : إنّ الرجاء في كلّ موضع هو على بابه ، وأنّ بيت

__________________

(١) ينظر : «مجاز القرآن» لأبي عبيدة (١ / ٢٧٥)

(٢) ذكره ابن عطية (٣ / ١٠٦)

(٣) البيت لأبي ذؤيب كما ذكر المصنف ، ينظر : «ديوان الهذليين» (١ / ١٤٣) ، «الكشاف» (٤ / ٤٩٩) ، و «الدر المصون» (١ / ٥٣٤) و «جمهرة الشعراء» (٩)

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ١٠٧)

٢٣٦

الهذليّ معناه : لم يرج فقد لسعها ، قال ابن زيد : هذه الآية في الكفّار (١).

وقوله سبحانه : (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) : يريد : كانت منتهى غرضهم ، وقال قتادة في تفسير هذه الآية : إذا شئت رأيت هذا الموصوف صاحب دنيا ، لها يغضب ، ولها يرضى ، ولها يفرح ، ولها يهتمّ ويحزن ، فكأنّ قتادة صوّرها في العصاة (٢) ، ولا يترتب ذلك إلا مع تأوّل الرّجاء على بابه ؛ لأن المؤمن العاصي مستوحش من آخرته ، فأما على التأويل الأول ، فمن لا يخاف الله ، فهو كافر.

وقوله : (وَاطْمَأَنُّوا بِها) : تكميل في معنى القناعة بها ، والرفض لغيرها.

وقوله : (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) : يحتمل أن يكون ابتداء إشارة إلى فرقة أخرى ، ثم عقّب سبحانه بذكر الفرقة الناجية ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ ...) الآية ، الهداية في هذه الآية تحتمل وجهين :

أحدهما : أن يريد أنّه يديمهم ويثبّتهم.

الثّاني : أن يريد أنه يرشدهم إلى طريق الجنان في الآخرة.

وقوله : (بِإِيمانِهِمْ) يحتمل أن يريد : بسبب إيمانهم ، ويحتمل أن يكون الإيمان هو نفس الهدى ، أي ، يهديهم إلى طريق الجنة بنور إيمانهم. قال مجاهد : يكون لهم إيمانهم نورا يمشون به ، ويتركّب هذا التأويل ، على ما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنّ العبد المؤمن ، إذا قام من قبره للحشر تمثّل له رجل جميل الوجه طيّب الرّائحة ، فيقول : من أنت؟ فيقول : أنا عملك الصّالح فيقوده إلى الجنّة ، وبعكس هذا في الكافر ، ونحو هذا مما أسنده الطبري (٣) وغيره.

(دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(١٠)

وقوله سبحانه : (دَعْواهُمْ) : أي : دعاؤهم فيها و (سُبْحانَكَ اللهُمَ) : تقديس وتسبيح وتنزيه لجلاله سبحانه عن كلّ ما لا يليق به ، وقال علي بن أبي طالب في ذلك : هي كلمات رضيها الله تعالى لنفسه (٤) ، وقال طلحة بن عبيد الله / : قلت : يا رسول الله ؛ ما

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٣ / ١٠٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٣٧) ، وزاد نسبته إلى أبي الشيخ.

(٢) ذكره ابن عطية (٣ / ١٠٧)

(٣) تقدم تخريجه.

(٤) أخرجه الطبري (٦ / ٥٣٦) برقم : (١٧٥٨٣) ، وذكره ابن عطية (٣ / ١٠٧)

٢٣٧

معنى سبحان الله؟ فقال : معناها : «تنزيها لله من السّوء» ، وحكي عن بعض المفسّرين أنهم رووا أنّ هذه الكلمة إنّما يقولها المؤمن عند ما يشتهي الطّعام ، فإنه إذا رأى طائرا أو غير ذلك ، قال : (سُبْحانَكَ اللهُمَ) ، فنزلت تلك الإرادة بين يديه فوق ما اشتهى. رواه ابن جريج وسفيان بن عيينة ، وعبارة الداوديّ عن ابن جريج : «دعواهم فيها» : قال : إذا مرّ بهم الطائر يشتهونه ، كان دعواهم به (سُبْحانَكَ اللهُمَ) ، فيأكلون منه ما يشتهون ، ثم يطير ، وإذا جاءتهم الملائكة بما يشتهون ، سلّموا عليهم ، فذلك قوله : (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) ، وإذا أكلوا حاجتهم ، قالوا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، فذلك قوله : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

وقوله سبحانه : (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) : يريد تسليم بعضهم على بعض ، والتحيّة : مأخوذة من تمنّي الحياة للإنسان والدّعاء بها ، يقال : حيّاه ويحيّيه ؛ ومنه قول زهير بن جناب : [الكامل]

من كلّ ما نال الفتى

قد نلته إلّا التّحيّة (١)

يريد : دعاء الناس للملوك بالحياة ، وقال بعض العلماء : (وَتَحِيَّتُهُمْ) يريد : تسليم الله تعالى عليهم ، والسّلام : مأخوذ من السّلامة ، (وَآخِرُ دَعْواهُمْ) : أي : خاتمة دعائهم وكلامهم في كلّ موطن حمد الله وشكره ، على ما أسبغ عليهم من نعمه ، وقال ابن العربيّ في «أحكامه» (٢). في تفسير هذه الآية قولان :

الأول : أنّ الملك يأتيهم بما يشتهون ، فيقول : سلام عليكم ، أي : سلمتم ، فيردّون عليه ، فإذا أكلوا ، قالوا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

الثاني : أنّ معنى «تحيّتهم» : أي : تحيّة بعضهم بعضا ، فقد ثبت في الخبر : «أن الله تعالى خلق آدم ، ثم قال له : اذهب إلى أولئك النّفر من الملائكة فسلّم عليهم ، فجاءهم ، فقال لهم : سلام عليكم ، فقالوا له : وعليك السّلام ورحمة الله ، فقال له : هذه تحيّتك ، وتحيّة ذرّيّتك من بعدك إلى يوم القيامة» (٣) ، وبيّن في القرآن هاهنا أنها تحيتهم في الجنّة ،

__________________

(١) البيت لزهير بن جناب في «إصلاح المنطق» ص : (٣١٦) ، و «الأغاني» (١٨ / ٣٠٧) ، و «الشعر والشعراء» (١ / ٣٨٦) ، و «لسان العرب» (١١ / ٤٦) (بجل) ، (١٤ / ٢١٦) (حيا) ، و «المؤتلف والمختلف» ص : (١٣٠) ، وبلا نسبة في «خزانة الأدب» (٥ / ٢٩٩) ، و «شرح التصريح» (١ / ٣٢٦) ، و «شرح ديوان الحماسة» للمرزوقي : ص (١٠٠) ، و «لسان العرب» (١٤ / ٢١٧) (حيا)

(٢) ينظر : «أحكام القرآن» (٣ / ١٠٥٠)

(٣) تقدم تخريجه.

٢٣٨

فهي تحيّة موضوعة من أول الخلقة إلى غير نهاية ، وقد روى ابن القاسم ، عن مالك في قوله تعالى : (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) أي : هذا السّلام الذي بين أظهركم ، وهذا أظهر الأقوال ، والله أعلم. انتهى.

وقرأ الجمهور (١) : «أن الحمد لله» ، وهي عند سيبويه (٢) «أن» المخفّفة من الثقيلة ؛ قال أبو الفتح : فهي بمنزلة قول الأعشى : [البسيط] :

في فتية كسيوف الهند قد علموا

أن هالك كلّ من يحفى وينتعل (٣)

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)(١٤)

وقوله سبحانه : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ...) الآية : هذه الآية نزلت ، في دعاء الرّجل على نفسه أو ولده ، أو ماله ، فأخبر سبحانه أنّه لو فعل مع النّاس في إجابته إلى المكروه مثل ما يريد فعله معهم في إجابته إلى الخير ، لأهلكهم ، وحذف بعد ذلك جملة يتضمّنها الظاهر ، تقديرها : فلا يفعل ذلك ، ولكن يذر (الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا ...) الآية ، وقيل : إن هذه الآية نزلت في قولهم : (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [الأنفال : ٣٢] ، وقيل : نزلت في قولهم : (ائْتِنا بِما تَعِدُنا) [هود : ٣٢] ، وما جرى مجراه ، والعمه : الخبط في ضلال.

وقوله سبحانه : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ ...) الآية : هذه الآية أيضا

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ١٠٨) ، و «البحر المحيط» (٥ / ١٣٢)

(٢) ينظر : «الكتاب» (١ / ٤٨٠)

(٣) ينظر : «ديوانه» ص : (١٠٩) ، و «الأزهية» ص : (٦٤) ، و «الإنصاف» ص : (١٩٩) ، و «تلخيص الشواهد» ص : (٣٨٢) ، و «خزانة الأدب» (٥ / ٤٢٦) ، (٨ / ٣٩٠) ، (١٠ / ٣٩٣) ، (١١ / ٣٥٣ ـ ٣٥٤) ، و «الدرر» (٢ / ١٩٤) ، و «شرح أبيات سيبويه» (٢ / ٧٦) ، و «الكتاب» (٢ / ١٣٧) ، (٣ / ٧٤ ، ١٦٤ ، ٤٥٤) ، و «المحتسب» (١ / ٣٠٨) ، و «مغني اللبيب» (١ / ٣١٤) ، و «المقاصد النحويّة» (٢ / ٢٨٧) ، و «المنصف» (٣ / ١٢٩) ، وبلا نسبة في «خزانة الأدب» (١٠ / ٣٩١) و «رصف المباني» ص : (١١٥) ، و «شرح المفصل» (٨ / ٧١) ، و «المقتضب» (٣ / ٩) ، و «همع الهوامع» (١ / ١٤٢)

٢٣٩

عتاب على سوء الخلق من بعض الناس ، ومضمّنه النهي عن مثل هذا ، والأمر بالتسليم إلى الله والضّراعة إليه في كلّ حال ، والعلم بأنّ الخير والشر منه ، لا ربّ غيره ، وقوله : (لِجَنْبِهِ) ، في موضع الحال ؛ كأنه قال : مضطجعا ، والضّرّ عام لجميع الأمراض والرزايا.

وقوله : (مَرَّ) يقتضي أن نزولها في الكفّار ، ثم هي بعد تتناول كلّ من دخل تحت معناها من كافر وعاص.

وقوله سبحانه : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ / قَبْلِكُمْ ...) الآية : آية وعيد للكفّار ، وضرب أمثال لهم ، و (خَلائِفَ) : جمع خليفة.

وقوله : (لِنَنْظُرَ) : معناه : لنبيّن في الوجود ما علمناه أزلا ، لكن جرى القول على طريق الإيجاز والفصاحة والمجاز ، وقال عمر رضي الله عنه : إنّ الله تعالى إنما جعلنا خلفاء ؛ لينظر كيف عملنا ؛ فأروا الله حسن أعمالكم في السر والعلانية (١).

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(١٨)

وقوله سبحانه : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا) يعني : بعض كفار قريش : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) ، ثم أمر سبحانه نبيه أن يردّ عليهم بالحق الواضح ، فقال : (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ) ولا أعلمكم به ، و (أَدْراكُمْ) بمعنى : أعلمكم ، تقول : دريت بالأمر ، وأدريت به غيري ، ثم قال : (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ) يعني : الأربعين سنة قبل بعثته عليه‌السلام ، أي : فلم تجرّبوني في كذب ، ولا تكلّمت في شيء من هذا (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ؛ أنّ من كان على هذه الصفة لا يصحّ منه كذب بعد أن ولّى عمره ، وتقاصر أمله ، واشتدّت حنكته وخوفه لربّه.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٦ / ٥٣٩) برقم : (١٧٥٩٤) ، وذكره ابن عطية (٣ / ١١٠) ، والسيوطي (٣ / ٥٤٠) ، وعزاه لابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، عن قتادة.

٢٤٠