تفسير الثعالبي - ج ٣

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٣

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٩

في كلام العرب : العطيّة.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ)(١٠٦)

وقوله سبحانه : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى ...) الآية : (ذلِكَ) : إشارة إلى ما تقدّم من ذكر العقوبات النّازلة بالأمم المذكورة ، (مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) : أي : منها قائم الجدرات ، ومتهدّم دائر ، والآية بجملتها متضمّنة التخويف وضرب المثل للحاضرين من أهل مكّة وغيرهم ، وال (تَتْبِيبٍ) : الخسران ؛ ومنه : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) [المسد : ١].

وقوله : (وَكَذلِكَ) : الإشارة إلى ما ذكر من الأخذات في الأمم ، وهذه آية وعيد يعمّ قرى المؤمنين والكافرين ، فإنّ «ظالمة» : أعمّ من «كافرة» ، وقد يمهل الله تعالى بعض الكفرة ، وأما الظّلمة ، فمعاجلون في الغالب ، وقد يملي لبعضهم ، وفي الحديث ، من رواية أبي موسى ؛ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله يملي للظّالم حتّى إذا أخذه ، لم يفلته» ، ثم قرأ : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ ...) الآية (١) ، وهذه قراءة الجماعة ، وهي تعطي بقاء الوعيد ، واستمراره في الزمان ؛ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) : أي : لعبرة وعلامة اهتداء ، (لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ) ، ثم عظّم الله أمر الآخرة ، فقال : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) ، وهو يوم الحشر ، (وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) يشهده الأوّلون والآخرون ؛ من الملائكة ، والإنس ، والجنّ والحيوان ؛ في قول الجمهور ، (وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) لا يتقدّم عنه ولا يتأخّر.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٨ / ٢٠٥) كتاب «التفسير» باب : وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة ، حديث (٤٦٨٦) ، ومسلم (٤ / ١٩٩٧ ـ ١٩٩٨) كتاب «البر والصلة» باب : تحريم الظلم ، حديث (٦١ / ٢٥٨٣) ، والترمذي (٥ / ٢٨٨) كتاب «التفسير» باب : ومن سورة هود ، حديث (٣١١٠) ، وابن ماجه (٢ / ١٣٣٢) كتاب «الفتن» باب : العقوبات ، حديث (٤٠١٨) ، والنسائي في «التفسير» رقم : (٢٦٥) ، من حديث أبي موسى الأشعري.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٦٣٢) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في «الأسماء والصفات».

٣٠١

قال* ص* : والظاهر أنّ ضمير فاعل : «يأت» : يعود على ما عاد عليه ضمير «نؤخّره» ، والناصب ل «يوم» «لا تكلّم» ، والمعنى : لا تكلّم نفس يوم يأتي ذلك اليوم إلا بإذنه سبحانه. انتهى.

وقوله تعالى : (فَمِنْهُمْ) : عائد على الجمع الذي يتضمّنه قوله : (نَفْسٌ) ، إذ هو اسم جنس يراد به الجمع (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) وهي أصوات المكروبين والمحزونين والمعذّبين ، ونحو ذلك ، قال قتادة : الزّفير : أول صوت الحمار ، والشهيق : آخره (١) ، فصياح أهل النّار كذلك ، وقال أبو العالية : «الزفير» : من الصدر ، و «الشهيق» : من الحلق (٢) ، والظاهر ما قال أبو العالية.

(خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(١١٢)

وقوله سبحانه : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) : يروى عن ابن عباس : أنّ الله خلق السموات والأرض من نور العرش ، ثم يردهما إلى هنالك / في الآخرة (٣) ، فلهما ثمّ بقاء دائم ، وقيل : معنى : (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) : العبارة عن التأبيد بما تعهده العرب ، وذلك أنّ من فصيح كلامها ، إذا أرادت أن تخبر عن تأبيد شيء أن تقول : لا أفعل كذا وكذا أمد الدهر ، وما ناح الحمام ، وما دامت السموات والأرض ، وقيل غير هذا.

قال* ص* : وقيل : المراد سموات الآخرة ، وأرضها ؛ يدلّ عليه قوله : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) [إبراهيم : ٤٨] انتهى. وأما قوله : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) : في الاستثناء ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه متّصل ، أي : إلا ما شاء ربّك من إخراج الموحّدين ؛ وعلى هذا يكون قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) عاما في الكفرة والعصاة ، ويكون الاستثناء من (خالِدِينَ) ،

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ١١٤) برقم : (١٨٥٨٢) ، وابن عطية (٣ / ٢٠٧)

(٢) أخرجه الطبري (٧ / ١١٤) برقم) (١٨٥٨٠ ، ١٨٥٨١) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٢٠٧)

(٣) ذكره ابن عطية (٣ / ٢٠٨)

٣٠٢

وهذا قول قتادة وجماعة (١).

الثّاني : أنّ هذا الاستثناء ليس بمتّصل ولا منقطع ، وإنما هو على طريق الاستثناء الذي ندب إليه الشّرع في كلّ كلام ؛ فهو على نحو قوله : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ) [الفتح : ٢٧].

الثالث : أنّ «إلا» في هذه الآية بمعنى «سوى» ، والاستثناء منقطع ، وهذا قول الفرّاء ، فإنه يقدّر الاستثناء المنقطع ب «سوى» وسيبويه يقدّره ب «لكن» ، أي : سوى ما شاء الله زائدا على ذلك ؛ ويؤيّد هذا التأويل قوله بعد : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) ، وقيل : سوى ما أعد الله لهم من أنواع العذاب ، وأشدّ من ذلك كلّه سخطه سبحانه عليهم ، وقيل : الاستثناء في الآيتين من الكون في النار والجنّة ، وهو زمان الموقف ، وقيل : الاستثناء ؛ في الآية الأولى : من طول المدّة ، وذلك على ما روي أنّ جهنم تخرب ، ويعدم أهلها ، وتخفق أبوابها ، فهم على هذا يخلدون حتّى يصير أمرهم إلى هذا.

قال* ع (٢) * : وهذا قول محتمل ، والذي روي ونقل عن ابن مسعود وغيره أنّ ما يخلى من النّار إنما هو الدّرك الأعلى المختصّ بعصاة المؤمنين (٣) ، وهذا الذي يسمّى جهنّم ، وسمّي الكلّ به تجوّزا.

* ت* : وهذا هو الصواب ـ إن شاء الله ـ وهو تأويل صاحب «العاقبة» ؛ أنّ الذي يخرب ما يخصّ عصاة المؤمنين ، وتقدّم الكلام على نظير هذه الآية ، وهو قوله في «الأنعام» : (خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) [الأنعام : ١٢٨].

قال* ع (٤) * : والأقوال المترتّبة في الاستثناء الأوّل مرتبة في الاستثناء الثاني في الذين سعدوا إلّا تأويل من قال : هو استثناء المدة التي تخرب فيها جهنّم ؛ فإنه لا يترتّب هنا ، وال (مَجْذُوذٍ) : المقطوع ، والإشارة بقوله : (مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) إلى كفّار العرب ، (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) معناه : من العقوبة ، وقال الداوديّ عن ابن عباس : (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) : قال : ما قدّر لهم من خير وشرّ انتهى (٥).

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ١١٥) برقم : (١٨٥٨٥ ـ ١٨٥٨٦) نحوه.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٢٠٨)

(٣) ذكره ابن عطية (٣ / ٢٠٨)

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٢٠٨)

(٥) أخرجه الطبري (٧ / ١٢٠) برقم : (١٨٦٠٩) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٦٣٦) ، وعزاه إلى عبد الرزاق ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر ، وأبي الشيخ.

٣٠٣

وقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) : أي : اختلف الناس عليه ، فلا يعظم عليك ، يا محمّد ، أمر من كذّبك.

وقال* ص* : «فيه» : الظاهر عوده على الكتاب ، ويجوز أن يعود على موسى ، وقيل : «في» بمعنى «على» ، أي : عليه ، انتهى.

والكلمة ؛ هنا عبارة عن الحكم والقضاء (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) : أي : لفصل بين المؤمن والكافر ؛ بنعيم هذا وعذاب هذا ، ووصف الشّك بالريب ؛ تقوية لمعنى الشك ، فهذه الآية يحتمل أن يكون المراد بها أمة موسى ، ويحتمل أن يراد بها معاصرو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن يعمهم اللفظ أحسن ، ويؤيّده قوله : (وَإِنَّ كُلًّا) ، وقرأ نافع (١) وابن كثير : «وإن كلّا لما» وقرأ أبو عمرو ، والكسائيّ بتشديد «إنّ» ، وقرأ حمزة وحفص بتشديد «إنّ» ، وتشديد «لمّا» ، فالقراءتان المتقدّمتان بمعنى ف «إنّ» فيهما على بابها ، و «كلّا» ، اسمها ، وعرفها أن تدخل على خبرها لام ، وفي الكلام قسم تدخل لامه أيضا على خبر «إنّ» ، فلما اجتمع لامان ، فصل بينهما ب «ما» ؛ هذا قول أبي عليّ ، والخبر في قوله : (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) ، وهذه الآية وعيد ، ومعنى الآية : أنّ كل الخلق موفّى في عمله.

وقوله عزوجل : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ) : أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاستقامة ، / وهو عليها إنما هو أمر بالدّوام والثبوت ، وهو أمر لسائر الأمّة ، وروي أنّ بعض العلماء رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النوم ، فقال : يا رسول الله ، بلغنا عنك أنّك قلت : «شيّبتني هود وأخواتها» ، فما الّذي شيّبك من هود؟ فقال له قوله عزوجل : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) (٢).

قال* ع (٣) * : والتأويل المشهور في قوله عليه‌السلام : «شيّبتني هود وأخواتها» أنه إشارة إلى ما فيها مما حلّ بالأمم السالفة ، فكأنّ حذره على هذه مثل ذلك شيّبه عليه‌السلام.

(وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)(١١٥)

__________________

(١) ينظر : «السبعة» (٣٣٩) ، و «الحجة» (٤ / ٣٨١) ، و «إعراب القراءات» (١ / ٢٩٤) ، و «شرح الطيبة» (٤ / ٣٧٣) ، و «العنوان» (١٠٨) ، و «شرح شعلة» (٤٣٢ ـ ٤٣٣) ، و «الإتحاف» (٢ / ١٣٥)

(٢) تقدم تخريجه في سورة «هود» دون قول : «فاستقم كما أمرت».

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٢٠٩)

٣٠٤

وقوله تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ...) الآية : الرّكّون : السّكون إلى الشيء ، والرضا به ، قال أبو العالية : الركون : الرّضا. قال ابن زيد : الرّكون : الادّهان (١).

قال* ع (٢) * : فالركون يقع على قليل هذا المعنى وكثيره ، والنهي هنا يترتّب من معنى الركون على الميل إليهم بالشّرك معهم إلى أقلّ الرّتب من ترك التّغيير عليهم مع القدرة ، و (الَّذِينَ ظَلَمُوا) هنا : هم الكفرة ، ويدخل بالمعنى أهل المعاصي.

وقوله سبحانه : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ ...) الآية : لا خلاف أنّ (الصَّلاةَ) في هذه الآية يراد بها الصلوات المفروضة ، واختلف في طرفي النّهار وزلف اللّيل ، فقيل : الطّرف الأوّل : الصّبح ، والثاني : الظّهر والعصر ، والزّلف : المغرب والعشاء ؛ قاله مجاهد وغيره (٣) ، وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنّه قال في المغرب والعشاء : «هما زلفتا اللّيل» (٤) وقيل : الطرف الأوّل : الصبح ، والثاني : العصر ؛ قاله الحسن وقتادة (٥) ، والزّلف : المغرب والعشاء ، وليست الظهر في هذه الآية على هذا القول ، بل هي في غيرها.

قال* ع (٦) * : والأول أحسن الأقوال عندي ، ورجّح الطبري (٧) القول بأن الطرفين الصّبح والمغرب ، وهو قول ابن عبّاس وغيره ، وإنه لظاهر ، إلا أن عموم الصلوات الخمس بالآية أولى ، والزّلف : الساعات القريب بعضها من بعض.

وقوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) ، ذهب جمهور المتأوّلين من صحابة وتابعين إلى أن الحسنات يراد بها الصلوات الخمس ، وإلى هذه الآية ذهب عثمان رضي الله عنه في وضوئه على المقاعد ، وهو تأويل مالك ، وقال مجاهد : (الْحَسَناتِ) :

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ١٢٤) برقم : (١٨٦٢٠) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٢١٢)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٢١٢)

(٣) أخرجه الطبري (٧ / ١٢٤) برقم : (١٨٦٢١ ـ ١٨٦٢٢ ـ ١٨٦٢٣) ، عن مجاهد برقم : (١٨٦٢٤) ، عن محمد بن كعب القرظي ، وبرقم : (١٨٦٢٦) ، عن الضحاك ، وذكر طرفا منه ، وأخرج طرفه الآخر (٧ / ١٢٧) برقم : (١٨٦٤٩ ـ ١٨٦٥٠ ـ ١٨٦٥١) ، عن مجاهد وبرقم : (١٨٦٤٦ ـ ١٨٦٤٧ ـ ١٨٦٤٨) ، عن الحسن ، وذكره ابن عطية (٣ / ٢١٢) ، والبغوي (٢ / ٤٠٤) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٦٣٧)

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٢٨) برقم : (١٨٦٥٢) عن الحسن مرسلا ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٦٣٧) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ.

(٥) أخرجه الطبري (٧ / ١٢٥) برقم : (١٨٦٣٢ ـ ١٨٦٣٣ ـ ١٨٦٣٤ ـ ١٨٦٣٥) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٢١٢) ، والبغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٠٤ ـ ٤٠٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٦٣٧) بنحوه.

(٦) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٢١٢)

(٧) ينظر : «تفسير الطبري» (٧ / ١٢٤ ـ ١٢٥)

٣٠٥

قول الرجل : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلّا الله ، والله أكبر (١).

قال* ع (٢) * : وهذا كلّه إنما هو على جهة المثال في الحسنات ، ومن أجل أنّ الصلوات الخمس هي معظم الأعمال ، والذي يظهر أنّ لفظ الآية عامّ في الحسنات ، خاصّ في السيئات ؛ بقوله عليه‌السلام : «ما اجتنبت الكبائر» ، وروي أنّ هذه الآية نزلت في رجل من الأنصار ، وهو أبو اليسر بن عمرو ، وقيل : اسمه عبّاد ، خلا بامرأة ، فقبّلها ، وتلذّذ بها فيما دون الجماع ، ثم جاء إلى عمر ، فشكا إليه ، فقال له : قد ستر الله عليك ، فاستر على نفسك ، فقلق الرجل ، فجاء أبا بكر ، فشكا إليه ، فقال له مثل مقالة عمر ، فقلق الرجل ، فأتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فصلّى معه ، ثم أخبره ، وقال : اقض فيّ ما شئت فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لعلّها زوجة غاز في سبيل الله؟!» قال : نعم ، فوبّخه النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «ما أدري» ، فنزلت هذه الآية ، فدعاه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتلاها عليه ، فقال معاذ بن جبل : يا رسول الله : أهذا له خاصّة؟ فقال : «بل للنّاس عامّة» (٣).

قال ابن العربيّ في «أحكامه» (٤) : وهذا الحديث صحيح ، رواه الأئمة كلّهم ، انتهى.

قال* ع (٥) * : وروي : أن الآية قد كانت نزلت قبل ذلك ، واستعملها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك الرّجل ، وروي أنّ عمر قال ما حكي عن معاذ ، وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «الجمعة إلى الجمعة ، والصّلوات الخمس ، ورمضان إلى رمضان كفّارة لما بينها ؛ إن اجتنبت الكبائر» (٦).

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ١٣١) برقم : (١٨٦٨) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣١٣)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٢١٣)

(٣) أخرجه البخاري (٢ / ١٢) كتاب «مواقيت الصلاة» باب : «وأقم الصلاة طرفي النهار» ، حديث (٥٢٦) ، وفي (٨ / ٢٠٦) كتاب «التفسير» باب : «وأقم الصلاة طرفي النهار» ، حديث (٤٦٨٧) ، ومسلم (٤ / ٢١١٥ ، ٢١١٧) وكتاب «التوبة» باب : قوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) ، حديث (٣٩ ، ٤١ / ٢٧٦٣) ، والترمذي (٥ / ٢٩١) كتاب «التفسير» باب : ومن سورة هود ، حديث (٣١١٤) ، والنسائي في «التفسير» (٢٦٧) ، وابن ماجه (١ / ٤٤٧) كتاب «الصلاة» باب : ما جاء في أن الصلاة كفارة ، حديث (١٣٩٨) ، وفي (٢ / ١٤٢١) كتاب «الزهد» باب : ذكر التوبة ، حديث (٤٢٥٤) ، وأحمد (١ / ٤٤٥) ، وابن خزيمة (٣١٣) ، وابن حبان (١٧٢٩ ـ ١٧٣٠) ، والطبري في «تفسيره» (١٨٦٧٦) ، والبيهقي (٨ / ٢٤١) من طرق عن عبد الله بن مسعود.

(٤) ينظر : «أحكام القرآن» (٣ / ١٠٧٣)

(٥) أخرجه الطبري (٧ / ١٢٥ ـ ١٢٦) برقم : (١٨٦٣٢ ـ ١٨٦٣٣ ـ ١٨٦٣٤) ، وذكره البغوي (٢ / ٤٠٥) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٢١٢) بنحوه.

(٦) تقدم تخريجه.

٣٠٦

وقوله : (ذلِكَ ذِكْرى) : إشارة إلى الصلوات ، أي : هي سبب الذكرى ، وهي العظة ، ويحتمل أن تكون إشارة إلى الإخبار بأن الحسنات يذهبن السيئات.

/ ويحتمل أن تكون إشارة إلى جميع ما تقدّم من الأوامر والنواهي والقصص في هذه السّورة ، وهو تفسير الطبريّ.

(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)(١١٩)

(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ ...) الآية ، (فَلَوْ لا) : هي التي للتحضيض ، لكن ، يقترن بها هنا معنى التفجّع والتأسّف الذي ينبغي أن يقع من البشر على هذه الأمم التي لم تهتد ، وهذا نحو قوله سبحانه : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) [يس : ٣٠] ، والقرون من قبلنا قوم نوح وعاد وثمود ، ومن تقدم ذكره.

وقوله : (أُولُوا بَقِيَّةٍ) : أي : أولو بقية من عقل وتمييز ودين ، (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ) وإنما قيل : (بَقِيَّةٍ) ؛ لأن الشرائع والدول ونحوها ، قوّتها في أولها ، ثم لا تزال تضعف ، فمن ثبت في وقت الضعف ، فهو بقيّة الصدر الأول.

و (الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) : هو الكفر وما اقترن به من المعاصي ، وهذه الآية فيها تنبيه لهذه الأمّة وحضّ على تغيير المنكر ، ثم استثنى عزوجل القوم الذين نجّاهم مع أنبيائهم ، وهم قليل بالإضافة إلى جماعاتهم ، و (قَلِيلاً) استثناء منقطع ، أي : لكن قليلا ممن أنجينا منهم ، نهوا عن الفساد ، و «المترف» : المنعّم الذي شغلته ترفته عن الحقّ حتى هلك ؛ (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ) منه سبحانه وتعالى عن ذلك ، (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) : أي مؤمنة لا يقع منهم كفر ؛ قاله قتادة (١) ، ولكنه عزوجل لم يشأ ذلك ، فهم لا يزالون مختلفين في الأديان والآراء والملل ، هذا تأويل الجمهور ، (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) ، أي : بأن هداه إلى الإيمان ؛ وقوله تعالى : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) : قال الحسن : أي : وللاختلاف خلقهم (٢).

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ١٣٧) برقم : (١٨٧١٢) نحوه ، وذكره ابن عطية (٣ / ٢١٥)

(٢) أخرجه الطبري (٧ / ١٣٩) برقم : (١٨٧٣٣) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٢١٥) نحوه ، والسيوطي في «الدر المنثور» ((٣ / ٦٤٥) ، وعزاه إلى ابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ.

٣٠٧

قال* ع (١) * : وذلك أن الله تعالى خلق خلقا للسعادة ، وخلقا للشقاوة ، ثم يسّر كلّا لما خلق له ، وهذا نصّ في الحديث الصحيح ، وجعل بعد ذلك الاختلاف في الدّين على الحقّ هو أمارة الشقاوة ، وبه علّق العقاب ، فيصحّ أن يحمل قول الحسن هنا : وللاختلاف خلقهم ، أي : لثمرة الاختلاف ، وما يكون عنه من شقاوة أو سعادة ، وقال أشهب : سألت مالكا عن هذه الآية ، فقال : خلقهم ؛ ليكون فريق في الجنة ، وفريق في السعير ، وقيل غير هذا.

وقوله تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) أي : نفذ قضاؤه ، وحقّ أمره ، واللام في (لَأَمْلَأَنَ) : لام قسم.

(وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(١٢٣)

وقوله سبحانه : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) ، و «كلّا» مفعول مقدّم ب «نقصّ» ، و «ما» بدل من قوله : (وَكُلًّا) ، و (نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) أي : نؤنسك فيما تلقاه ، ونجعل لك الإسوة.

(وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُ) قال الحسن : (هذِهِ) إشارة إلى دار الدنيا (٢) ، وقال ابن عباس : (هذِهِ) ، إشارة إلى السورة (٣) ، وهو قول الجمهور.

قال* ع (٤) * : ووجه تخصيص هذه السّورة بوصفها بحقّ ، والقرآن كلّه حق أنّ ذلك يتضمّن معنى الوعيد للكفرة ، والتنبيه للنّاظر ، أي : جاءك في هذه السورة الحقّ الذي أصاب الأمم الماضية ، وهذا كما يقال عند الشدائد : جاء الحقّ ، وإن كان الحقّ يأتي في غير الشدائد ، ثم وصف سبحانه أنّ ما تضمّنته السورة هو موعظة وذكرى للمؤمنين.

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٢١٥)

(٢) أخرجه الطبري (٧ / ١٤٢ ـ ١٤٣) برقم : (١٨٧٥٧ ، ١٨٧٦١) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٢١٦) ، والبغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٠٧) ، وابن كثير (٢ / ٤٥٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٦٤٦)

(٣) أخرجه الطبري (٧ / ١٤٤) برقم : (١٨٧٧٧) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٢١٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٦٤٦) ، وعزاه إلى عبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه.

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٢١٦)

٣٠٨

وقوله سبحانه : (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ...) الآية : آية وعيد.

وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) الآية : آية تعظيم وانفراد بما لا حظّ لمخلوق فيه ، ثم أمر سبحانه العبد بعبادته ، والتوكّل عليه ، وفيهما زوال همّه وصلاحه ، ووصوله إلى رضوان الله تعالى ، فقال : (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ، اللهم اجعلنا ممّن توكّل عليك ، ووفّقته لعبادتك كما ترضى ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله وصحبه وسلّم تسليما ، والحمد لله على جزيل ما به أنعم.

٣٠٩

تفسير سورة يوسف

هذه السورة مكّيّة ، والسبب في نزولها أنّ اليهود أمروا كفّار مكّة ؛ أن يسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن السبب الذي أحلّ بني إسرائيل بمصر ، فنزلت السورة.

وقيل : سبب نزولها تسلية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمّا / يفعله به قومه بما فعل إخوة يوسف بيوسف ، وسورة يوسف لم يتكرّر من معانيها في القرآن شيء ؛ كما تكرّرت قصص الأنبياء ، ففيها حجّة على من اعترض بأن الفصاحة تمكّنت بترداد القول ، وفي تلك القصص حجّة على من قال في هذه : لو كرّرت ، لفترت فصاحتها.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ)(٣)

وقوله عزوجل : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ الْكِتابِ) ؛ هنا القرآن ، ووصفه ب (الْمُبِينِ) من جهة بيان أحكامه وحلاله وحرامه ومواعظه وهداه ونوره ، ومن جهة بيان اللسان العربيّ وجودته ، والضمير في (أَنْزَلْناهُ) : للكتاب ، و (قُرْآناً) حال ، و (عَرَبِيًّا) : صفة له ، وقيل : (قُرْآناً) : توطئة للحال ، و (عَرَبِيًّا) حال.

وقوله سبحانه : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ...) الآية : روى ابن مسعود ، أنّ أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ملّوا ملّة ، فقالوا : لو قصصت علينا ، يا رسول الله! فنزلت هذه الآية ، ثم ملّوا ملّة أخرى ، فقالوا : لو حدّثتنا ، يا رسول الله ، فنزلت : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً) (١) (...) الآية [الزمر : ٢٣] و (الْقَصَصِ) : الإخبار بما جرى من الأمور.

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٥) ، وعزاه لابن جرير عن عون بن عبد الله.

٣١٠

وقوله : (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) : أي : بوحينا إليك هذا ، و (الْقُرْآنَ) : نعت ل «هذا» ويجوز فيه البدل ، والضمير في «قبله» : للقصص العام ؛ لما في جميع القرآن منه ، و (لَمِنَ الْغافِلِينَ) ، أي : عن معرفة هذا القصص ، وعبارة المهدويّ : قال قتادة : أي : نقصّ عليك من الكتب الماضية ، وأخبار الأمم السالفة أحسن القصص ؛ بوحينا إليك هذا القرآن ، (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) عن أخبار الأمم ، انتهى.

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٦)

وقوله سبحانه : (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) : قيل : إنه رأى كواكب حقيقة ، والشمس والقمر ، فتأوّلها يعقوب إخوته وأبويه ، وهذا هو قول الجمهور ، وقيل : الإخوة والأب والخالة ؛ لأنّ أمّه كانت ميّتة ، وروي أن رؤيا يوسف خرجت بعد أربعين سنة ، وقيل : بعد ثمانين سنة.

وقوله : (يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) من هنا ومن فعل إخوة يوسف بيوسف : يظهر أنّهم لم يكونوا أنبياء في ذلك الوقت ، وما وقع في «كتاب الطّبريّ» لابن زيد ؛ أنهم كانوا أنبياء يردّه القطع بعصمة الأنبياء عن الحسد الدنيوي ، وعن عقوق الآباء ، وتعريض مؤمن للهلاك ، والتآمر في قتله.

(وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) : أي : يختارك ويصطفيك.

(وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) قال مجاهد وغيره : هي عبارة الرؤيا (١) وقال الحسن : هي عواقب الأمور (٢) وقيل : هي عامّة لذلك وغيره من المغيّبات.

(وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ...) الآية : يريد بالنبوّة وما انضاف إليها من سائر النّعم ، ويروى : أنّ يعقوب علم هذا من دعوة إسحاق له حين تشبّه ب «عيصو» ، وباقي الآية بيّن.

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ١٥١) برقم (١٨٨٠٣) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٢٢٠) ، وابن كثير (٣ / ٤٦٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٧) ، وعزاه إلى ابن أبي شيبة ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ.

(٢) ذكره ابن عطية (٣ / ٢٢٠)

٣١١

وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ)(١٠)

وقوله سبحانه : (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) ؛ إذ كلّ أحد ينبغي أن يسأل عن مثل هذا القصص ، إذ هي مقرّ العبر والاتعاظ ؛ وقولهم : (وَأَخُوهُ) : يريدون به «يامين» ، وهو أصغر من يوسف ، ويقال له : «بنيامين» قيل : وهو شقيقه ، (أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا) : أي : لصغرهما وموت أمهما ، وهذا من حبّ الصغير هي فطرة البشر ، وقولهم : (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) : أي : جماعة تضرّ وتنفع ، وتحمي وتخذل ، أي : لنا كانت تنبغي المحبّة والمراعاة ، والعصبة في اللغة : الجماعة ، وقولهم : (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ، أي : لفي انتلاف وخطإ في محبّة يوسف وأخيه ، وهذا هو معنى الضّلال ، وإنما يصغر قدره ، ويعظم بحسب الشّيء الذي فيه يقع الانتلاف ، و (مُبِينٍ) : معناه : ظاهر للمتأمّل ، وقولهم : (أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) : أي : بأرض بعيدة ؛ ف «أرضا» مفعول ثان بإسقاط حرف الجرّ ، والضمير في «بعده» عائد على يوسف ، أو قتله ، أو طرحه ، و (صالِحِينَ) : قال مقاتل وغيره : إنهم أرادوا صلاح الحال عند أبيهم (١) ، والقائل منهم : «لا تقتلوه» هو : «روبيل» أسنّهم ؛ قاله قتادة (٢) وابن إسحاق ، وقيل : هو شمعون ؛ قاله مجاهد (٣) ، وهذا عطف منه على أخيه لا محالة ؛ لما أراد الله من إنفاذ قضائه ، و «الغيابة» : ما غاب عنك ، و (الْجُبِ) البئر التي لم تطو ؛ لأنها جبّت من الأرض فقط ، قال المهدويّ : والجبّ ؛ في اللغة : البئر المقطوعة التي لم تطو ، انتهى. والسيارة : جمع سيّار ، وروي أن جماعة من الأعراب التقطت يوسف عليه‌السلام.

(قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)(١٥)

وقوله سبحانه : (قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ ...) الآية المتقدّمة تقتضي أن أباهم قد كان علم منهم إرادتهم السّوء في جهة يوسف ، وهذه

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٣ / ٢٢٢)

(٢) أخرجه الطبري (٧ / ١٥٣) برقم : (١٨٨١١) ، وبرقم : (١٨٨١٢) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٢٢٢) ، والبغوي (٢ / ٤١٢)

(٣) ذكره ابن عطية (٣ / ٢٢٢)

٣١٢

الآية تقتضي أنهم علموا هم منه بعلمه ذلك ، وقرأ أبو عامر (١) وابن عمرو : «نرتع ونلعب» ـ بالنون فيهما وإسكان العين والباء ـ ، و «نرتع» ؛ على هذا : من الرّتوع ، وهي الإقامة في الخصب والمرعى في أكل وشرب ، وقرأ ابن كثير : «نرتع ونلعب» ـ بالنون فيهما وكسر العين وإسكان الباء ـ ، وقد روي عنه «ويلعب» ـ بالياء ـ و «نرتع» على هذا : من رعاية الإبل. وقال مجاهد : من المراعاة ، أي : يرعى بعضنا بعضا ، ويحرسه (٢) ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي : «يرتع ويلعب» بإسناد ذلك كلّه إلى يوسف ، وقرأ نافع «يرتع ويلعب» ، ف «يرتع» ؛ على هذا : من رعاية الإبل ، قال أبو على : وقراءة ابن كثير «نرتع» ـ بالنون ـ و «يلعب» ـ بالياء ـ : منزعها حسن ؛ لإسناد النظر في المال ، والرعاية إليهم ، واللعب إلى يوسف لصباه ، ولعبهم هذا داخل في اللعب المباح والمندوب كاللعب بالخيل والرمي ؛ وعلّلوا طلبه والخروج به بما يمكن أن يستهوي يوسف لصباه من الرتوع واللعب والنّشاط ، وإنما خاف يعقوب عليه‌السلام الذئب دون سواه ، وخصّصه ؛ لأنه كان الحيوان العادي المنبثّ في القطر ، ولصغر يوسف ، و (أَجْمَعُوا) : معناه : عزموا.

وقوله سبحانه : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) يحتمل أن يكون الوحي إلى يوسف حينئذ برسول ، ويحتمل أن يكون بإلهام أو بنوم ، وكلّ ذلك قد قيل ، وقرأ الجمهور (٣) : «لتنبّئنّهم» بالتاء من فوق.

وقوله : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) : قال ابن جريج : معناه : لا يشعرون وقت التنبئة ؛ أنّك يوسف (٤) ، وقال قتادة : لا يشعرون بوحينا إليك (٥).

__________________

(١) الصواب فيهما أبو عمرو ، وابن عامر ، ولعله سبق قلم من المصنف أو الناسخ.

وقد قرأ بقراءتهما ابن كثير ، وحجتهم هي قولهم بعد : (إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) ، فكأنهم أسندوا جميع ذلك إلى جماعتهم إذا أسندوا الاستباق ، فقيل لأبي عمرو : فكيف يلعبون وهم أنبياء الله؟ فقال : إذ ذاك لم يكونوا أنبياء الله.

ينظر : «السبعة» (٣٤٥ ـ ٣٤٦) ، و «الحجة» (٤ / ٤٠٢ ـ ٤٠٣) ، و «إعراب القراءات» (١ / ٣٠٣) ، و «شرح الطيبة» (٤ / ٣٧٧ ـ ٣٧٨) ، و «العنوان» (١١٠) ، و «إتحاف» (٢ / ١٤١)

(٢) أخرجه الطبري (٧ / ١٥٦) برقم : (١٨٨٣٨) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٢٤٤)

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٢٢٥) ، و «البحر المحيط» (٥ / ٢٢٨) ، و «الدر المصون» (٤ / ١٦٢)

(٤) أخرجه الطبري (٧ / ١٥٩) برقم : (١٨٨٥٠) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٢٢٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٥)

(٥) أخرجه الطبري (٧ / ١٥٨) برقم : (١٨٨٤٨) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٢٢٦) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٤٧١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٤) ، وعزاه إلى عبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ.

٣١٣

(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ)(١٨)

وقوله : (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) : أي : وقت العشاء ، وقرأ الحسن : «عشى» (١) ؛ على مثال «دجىّ» ، جمع «عاش» ، ومعنى ذلك : أصابهم عشى من البكاء أو شبه العشى ، إذ كذلك هي عين الباكي ؛ لأنه يتعاشى ، ومثّل شريح امرأة بكت ، وهي مبطلة ببكاء هؤلاء ؛ وقرأ الآية ، و (نَسْتَبِقُ) : معناه : على الأقدام ، وقيل : بالرمي ، أي : ننتضل ، وهو نوع من المسابقة ؛ قاله الزّجّاج ، وقولهم : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) : أي بمصدّق لنا ، (وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) ، أي : ولو كنا موصوفين بالصّدق ، ويحتمل أن يكون قولهم : (وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) : بمعنى : وإن كنا صادقين في معتقدنا.

وقوله سبحانه : (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) : روي أنهم أخذوا سخلة أو جديا ، فذبحوه ، ولطّخوا به قميص يوسف ، وقالوا ليعقوب : هذا قميصه ، فأخذه وبكى ثم تأمّله ، فلم ير خرقا ، ولا أثر ناب ؛ فاستدلّ بذلك على كذبهم ، وقال لهم : متى كان الذئب حليما يأكل يوسف ، ولا يخرق قميصه ؛ قصّ هذا القصص ابن عباس وغيره (٢) ، وأجمعوا على أنه استدلّ على كذبهم بصحّة القميص ، واستند الفقهاء إلى هذا في إعمال الأمارات في مسائل ؛ كالقسامة (٣) بها في قول مالك إلى غير ذلك. قال الشعبيّ : كان في القميص ثلاث

__________________

(١) قال أبو الفتح : وكان قياسه عشاة كماش ومشاة ، إلا أنه حذف الهاء تخفيفا وهو يريدها ، كقوله :

أبلغ النعمان عني مألكا

أنه قد طال حبسي وانتظار

أراد مألكة ، فحذف الهاء.

ينظر : «المحتسب» (١ / ٣٣٥) ، و «المحرر الوجيز» (٣ / ٢٢٦) ، و «البحر المحيط» (٥ / ٢٨٨) ، و «الدر المصون» (٤ / ١٦٢). وهي من «شواذ ابن خالويه» ص : (٦٧) ، «عشاء» بالمد منسوبة للحسن والأعمش.

(٢) أخرجه الطبري (٧ / ١٦١) برقم : (١٨٨٧١) ، ورقم : (١٨٨٦٥ ـ ١٨٨٦٦ ـ ١٨٨٦٧) ، وبرقم : (١٨٨٦٨) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٢٢٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٦) ، وعزاه إلى الفريابي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ.

(٣) القسامة : في اللغة مأخوذة من القسم ، وهو اليمين ، والقسامة الأيمان تقسم على أولياء القتيل إذا ادّعوا الدم ، يقال : قتل فلان بالقسامة إذا اجتمعت جماعة من أولياء القتيل ، فادّعوا على رجل أنه قتل صاحبهم ، ومعهم دليل دون البيّنة فكلفوا خمسين يمينا أن المدعى عليه قتل صاحبهم.

وفي اصطلاح الفقهاء هي الأيمان المكررة في دعوى القتل.

ذهب جمهور الفقهاء إلى أن القسامة مشروعة ، وقد استدلّوا على ذلك بأحاديث منها : ما روي عن سهل بن أبي حثمة قال : انطلق عبد الله بن سهل ، ومحيصة بن مسعود إلى «خيبر» وهي يومئذ صلح ،

٣١٤

آيات : دلالته على كذبهم ، وشهادته في قدّه ، وردّ بصر يعقوب به ، ووصف الدّم بالكذب الّذي هو مصدر على / جهة المبالغة ، ثم قال لهم يعقوب : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ) ، أي : رضيت وجعلت سؤلا ومرادا (أَمْراً) ، أي : صنعا قبيحا بيوسف (١).

وقوله : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) : إما على حذف المبتدأ ، أي : فشأني صبر جميل ، وإما على حذف الخبر ، تقديره : فصبر جميل أمثل ، وجميل الصّبر : ألّا تقع شكوى إلى البشر ، وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من بثّ ، لم يصبر صبرا جميلا» (٢).

وقوله : (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) : تسليم لأمر الله تعالى ، وتوكّل عليه.

(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠) وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)(٢٢)

وقوله سبحانه : (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ) : قيل : إن السيارة جاءت في اليوم الثاني من طرحه ، و «السيارة» : بتاء مبالغة للذين يردّدون السير في الطرق.

قال* ص* : و «السّيّارة» : جمع سيّار ، وهو الكثير السّير في الأرض. انتهى.

و «الوارد» : هو الذي يأتي الماء يستقي منه لجماعته ، وهو يقع على الواحد وعلى الجماعة.

__________________

ـ فتفرقا ، فأتى محيّصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحّط في دمه قتيلا ، فدفنه ، ثم قدم «المدينة» فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيّصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذهب عبد الرحمن يتكلّم فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كبر كبر» وهو أحدث القوم ، فسكت فتكلما ، فقال : «أتحلفون وتستحقّون دم صاحبكم» ، فقالوا : كيف نحلف ولم نشهد ولم نر ، قال : «فتبرئكم يهود بخمسين يمينا» ، فقالوا له : كيف نأخذ بأيمان قوم كفّار ، فعقله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عنده.

وفي رواية متفق عليها قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقسم خمسون منكم على رجل منهم ، فيدفع برمته» ، فقالوا : أمر لم نشهده كيف نحلف؟ ، قال : «فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم» ، قالوا : يا رسول الله قوم كفار ، الحديث. فقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم» دليل على مشروعية القسامة ، وإلى هذا ذهب جمهور الصحابة والتابعين ، والعلماء ، من «الحجاز» و «الكوفة» و «الشام» ، كما حكى ذلك القاضي عياض ، ولم يختلفوا في الجملة ، ولكن اختلفوا في التفاصيل.

(١) أخرجه الطبري (٧ / ١٦١ ـ ١٦٢) ، برقم : (١٨٨٧٢ ـ ١٨٨٧٣ ـ ١٨٨٧٤) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٢٢٧) ، وعزاه للشافعي.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٨٤) برقم : (١٩٧٣٨) ، عن مسلم بن يسار به وذكره السيوطي في ـ

٣١٥

وروي أنّ مدلي الدّلو كان يسمّى مالك بن دعر ، ويروى أنّ هذا الجبّ كان بالأردن على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب ، ويقال : أدلى دلوه ؛ إذا ألقاه ليستقي الماء ، وفي الكلام حذف ، تقديره : فتعلّق يوسف بالحبل ، فلما بصر به المدلي ، قال : (يا بُشْرى) ، وروي أنّ يوسف كان يومئذ ابن سبع سنين ؛ ويرجّح هذا لفظة (غُلامٌ) ؛ فإنها لما بين الحولين إلى البلوغ ، فإن قيلت فيما فوق ذلك ، فعلى استصحاب حال ، وتجوّز ، وقرأ نافع (١) وغيره : «يا بشراي» بإضافة البشرى إلى المتكلّم ، وبفتح الياء على ندائها ؛ كأنه يقول : احضري ، فهذا وقتك ، وقرأ حمزة والكسائي : «يا بشرى» ، ويميلان ولا يضيفان ، وقرأ عاصم كذلك إلّا أنه يفتح الراء ولا يميل ، واختلف في تأويل هذه القراءة ، فقال السدي : كان في أصحاب هذا الوارد رجل اسمه «بشرى» ؛ فناداه ، وأعلمه بالغلام (٢) ، وقيل : هو على نداء البشرى ؛ كما قدّمنا.

وقوله سبحانه : (وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً) قال مجاهد : وذلك أنّ الورّاد خشوا من تجّار الرفقة ، إن قالوا وجدناه ؛ أن يشاركوهم في الغلام الموجود ، يعني : أو يمنعوهم من تملّكه (٣) ، إن كانوا أخيارا ، فأسروا بينهم أن يقولوا : أبضعه معنا بعض أهل المصر ، و «بضاعة» : حال ، والبضاعة : القطعة من المال يتجر فيها بغير نصيب من الرّبح ؛ مأخوذ من قولهم : «بضعة» ؛ أي : قطعة ، وقيل : الضمير في «أسرّوه» يعود على إخوة يوسف.

وقوله سبحانه : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ) : «شروه» ؛ هنا : بمعنى باعوه ، قال الداوديّ : وعن أبي عبيدة : (وَشَرَوْهُ) أي : باعوه ، فإذا ابتعت أنت ، قلت : اشتريت

__________________

ـ «الدر المنثور» (٤ / ٥٩) ، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق. وله شاهد من حديث ابن عمر ، بلفظ : «من كنوز البر إخفاء الصدقة وكتمان المصائب والأمراض ومن بث لم يصبر» ، ذكره السيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه إلى ابن عدي ، والبيهقي في «شعب الإيمان».

(١) وقراءة الباقين فيها وجهان : أحدهما : أنهم جعلوه اسم رجل ، فيكون دعا إنسانا اسمه بشرى. وحجتهم ما قد روي عن جماعة من المفسرين أنهم قالوا : كان اسمه «بشرى» ، فدعاه المستقي باسمه.

والثاني : أن يكون أضاف البشرى إلى نفسه ، ثم حذف الياء ، كما تقول : يا غلام لا تفعل ، يكون مفردا بمعنى الإضافة.

ينظر : «حجة القراءات» (٣٥٧) ، و «السبعة» (٣٤٨) ، و «الحجة» (٤ / ٤١٠) ، و «إعراب القراءات» (١ / ٣٠٦) ، و «شرح الطيبة» (٤ / ٣٨٠) ، و «العنوان» (١١٠) ، و «شرح شعلة» (٤٣٧) ، و «إتحاف» (٢ / ١٤٣)

(٢) أخرجه الطبري (٧ / ١٦٤) برقم : (١٨٨٩١) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٢٢٩)

(٣) أخرجه الطبري (٧ / ١٦٥ ـ ١٦٦) برقم : (١٨٨٩٩ ، ١٨٩٠٢) ، والبغوي في «تفسيره» (٢ / ٤١٥) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٢٢٩)

٣١٦

انتهى ، وقال ابن العربيّ في «أحكامه» (١) : قوله تعالى : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ) : يقال : اشتريت بمعنى بعت ، وشريت بمعنى اشتريت ؛ لغة انتهى ، وعلى هذا ، فلا مانع من حمل اللفظ على ظاهره ، ويكون «شروه» بمعنى : «اشتروه».

قال* ع (٢) * : روي أن إخوة يوسف لمّا علموا أن الورّاد قد أخذوه جاؤوهم ، فقالوا : هذا عبد قد أبق منا ، ونحن نبيعه منكم ، فقارّهم يوسف على هذه المقالة ؛ خوفا منهم ، ولينفذ الله أمره ، والبخس : مصدر وصف به الثمن ، وهو بمعنى النّقص.

وقوله : (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) : عبارة عن قلة الثمن ؛ لأنها دراهم ، لم تبلغ أن توزن لقلّتها ، وذلك أنهم كانوا لا يزنون ما كان دون الأوقية ، وهي أربعون درهما.

وقوله سبحانه : (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) : وصف يترتب في إخوة يوسف ، وفي الورّاد ، ولكنّه في إخوة يوسف أرتب ؛ إذ حقيقة الزهد في الشيء إخراج حبّه من القلب ورفضه من اليد ، وهذه كانت حال إخوة يوسف في يوسف ، وأمّا الورّاد ، فإنّ تمسّكهم به وتجرهم يمانع زهدهم إلا على تجوّز ، قال ابن العربيّ في «أحكامه» (٣) : (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) : أي : إخوته والواردة ، أما إخوته ؛ فلأنّ مقصودهم زوال عينه ، وأما الواردة ، فلأنهم خافوا اشتراك أصحابهم معهم. انتهى.

وقوله سبحانه : (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) : روي أنّ مبتاع يوسف ورد به مصر البلد المعروف ؛ ولذلك لا ينصرف ، فعرضه في السّوق ، وكان أجمل الناس ، فوقعت فيه مزايدة / حتى بلغ ثمنا عظيما ، فقيل : وزنه من ذهب ، ومن فضة ، ومن حرير ، فاشتراه العزيز ، وهو كان حاجب الملك وخازنه ، واسم الملك الرّيّان بن الوليد ، وقيل : مصعب بن الرّيّان ، وهو أحد الفراعنة ، واسم العزيز المذكور : «قطيفين» ؛ قاله ابن عباس ، وقيل : «أظفير» ، وقيل : «قنطور» ، واسم امرأته : «راعيل» ، قاله ابن إسحاق ، وقيل : «زليخا» ، قال البخاريّ : و (مَثْواهُ) : مقامه.

وقوله : (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) أي : نتبنّاه ، وكان فيما يقال : لا ولد له ، ثم قال تعالى : (وَكَذلِكَ) ، أي : وكما وصفنا (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ) فعلنا ذلك ، و (الْأَحادِيثِ) : الرؤيا في النوم ؛ قاله مجاهد ، وقيل : أحاديث الأنبياء والأمم ، والضمير

__________________

(١) ينظر : «أحكام القرآن» (٣ / ١٠٧٩)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٢٢٩)

(٣) ينظر : «أحكام القرآن» (٣ / ١٠٧٩)

٣١٧

في «أمره» يحتمل أن يعود على يوسف ؛ قاله الطبري (١) ، ويحتمل أن يعود على الله عزوجل ؛ قاله ابن جبير ، فيكون إخبارا منبّها على قدرة الله عزوجل ليس في شأن يوسف خاصّة ، بل عامّا في كل أمر ، و «الأشدّ» : استكمال القوة وتناهي بنية الإنسان ، وهما أشدّان : أولهما ، البلوغ ، والثاني : الذي يستعمله العرب.

وقوله سبحانه : و (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) : يحتمل أن يريد بالحكم : الحكمة والنبوّة ، وهذا على الأشد الأعلى ، ويحتمل أن يريد بالحكم : السلطان في الدنيا وحكما بين الناس ، وتدخل النبوّة وتأويل الأحاديث وغير ذلك في قوله : (وَعِلْماً) ، وقال ابن (٢) العربيّ : (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) : الحكم : هو العمل بالعلم. انتهى.

وقوله سبحانه : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) : عبارة فيها وعد للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : فلا يهولنّك فعل الكفرة وعتوّهم عليك ، فالله تعالى يصنع للمحسنين أجمل صنع.

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ)(٢٤)

وقوله سبحانه : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ) : المراودة : الملاطفة في السّوق إلى غرض ، و (الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها) هي زليخا امرأة العزيز ، وقوله : (عَنْ نَفْسِهِ) : كناية عن غرض المواقعة ، وظاهر هذه النازلة أنها كانت قبل أن ينبّأ عليه‌السلام ، وقولها : (هَيْتَ لَكَ) : معناه : الدّعاء ، أي : تعال وأقبل على هذا الأمر ، قال الحسن : معناها : هلمّ ، قال البخاريّ : قال عكرمة : (هَيْتَ لَكَ) بالحورانيّة : هلمّ.

وقال ابن جبير : تعاله ، انتهى.

وقرأ هشام عن ابن عامر (٣) : «هئت لك» ـ بكسر الهاء والهمز وضمّ التاء ـ ، ورويت عن أبي عمرو ، وهذا يحتمل أن يكون من هاء الرجل يهيء ، إذا حسن هيئته ، ويحتمل أن يكون بمعنى : تهيّأت ، و (مَعاذَ) : نصب على المصدر ، ومعنى الكلام : أعوذ بالله ، ثم

__________________

(١) ينظر : «تفسير الطبري» (٧ / ١٧٤)

(٢) ينظر : «أحكام القرآن» (٣ / ١٠٨٢)

(٣) ينظر : «السبعة» (٣٤٧) ، و «الحجة» (٤ / ٢٣) ، و «إعراب القراءات» (١ / ٣٠٧) ، و «شرح الطيبة» (٤ / ٣٨٠) ، و «العنوان» (١١٠) ، و «شرح شعلة» (٤٣٨) ، و «إتحاف» (٢ / ١٤٣) ، و «حجة القراءات» (٣٥٨)

٣١٨

قال : (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) ، فيحتمل أن يعود الضمير في «إنه» على الله عزوجل ، ويحتمل أن يريد العزيز سيّده ، أي : فلا يصلح لي أن أخونه ، وقد أكرم مثواي ، وائتمنني ، قال مجاهد وغيره : «ربّي» معناه سيّدي (١) وإذا حفظ الآدميّ لإحسانه فهو عمل زاك ، وأحرى أن يحفظ ربه ، والضمير في قوله : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ) مراد به الأمر والشأن فقط ، وحكى بعض المفسّرين أنّ يوسف عليه‌السلام لمّا قال : معاذ الله ، ثم دافع الأمر باحتجاج وملاينة ، امتحنه الله تعالى بالهمّ بما همّ به ، ولو قال : لا حول ولا قوّة إلا بالله ، ودافع بعنف وتغيير ، لم يهمّ بشيء من المكروه.

وقوله سبحانه : (وَهَمَّ بِها) : اختلف في همّ يوسف.

قال* ع (٢) * : والذي أقول به في هذه الآية : أنّ كون يوسف عليه‌السلام نبيّا في وقت هذه النازلة لم يصحّ ، ولا تظاهرت به رواية ، فإذا كان ذلك ، فهو مؤمن قد أوتي حكما وعلما ، ويجوز عليه الهمّ الذي هو إرادة الشيء دون مواقعته ، وأن يستصحب الخاطر الرديء ؛ على ما في ذلك من الخطيئة ، وإن فرضناه نبيّا في ذلك الوقت ، فلا يجوز عليه عندي إلّا الهمّ الذي هو الخاطر ، ولا يصحّ عندي شيء مما ذكر من حلّ تكّة ، ونحو ذلك ؛ لأنّ العصمة مع النبوّة ، وللهمّ بالشيء مرتبتان ، فالخاطر المجرّد دون استصحاب يجوز عليه ، ومع استصحاب لا يجوز عليه ؛ إذ الإجماع منعقد أنّ الهمّ بالمعصية واستصحاب التلذّذ بها غير جائز ، / ولا داخل في التجاوز.

* ت* : قال عياض : والصحيح إن شاء الله تنزيههم أيضا قبل النبوّة من كلّ عيب ، وعصمتهم من كلّ ما يوجب الرّيب ، ثم قال عياض بعد هذا : وأما قول الله سبحانه : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) ، فعلى طريق كثير من الفقهاء والمحدّثين ؛ أنّ همّ النفس لا يؤاخذ به ، وليس بسيّئة ، لقوله عليه‌السلام عن ربّه : «إذا همّ عبدي بسيّئة ، فلم يعملها كتبت له حسنة» (٣) ؛ فلا معصية في همه إذن ، وأما على مذهب المحقّقين من الفقهاء والمتكلّمين ، فإن الهمّ إذا وطّنت عليه النفس سيئة ، وأما ما لم توطّن عليه النفس من همومها وخواطرها ، فهو المعفوّ عنه ، وهذا هو الحقّ ، فيكون إن شاء الله همّ يوسف من هذا ، ويكون قوله : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي ...) الآية [يوسف : ٥٣] : أي :

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ١٨٠) برقم : (١٩٠١٤ ـ ١٩٠١٥ ـ ١٩٠١٦) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٢٣٣) ، والسيوطي (٤ / ٢٢) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٢٣٤)

(٣) تقدم تخريجه.

٣١٩

من هذا الهمّ ، أو يكون ذلك منه على طريق التواضع. انتهى.

واختلف في البرهان الذي رآه يوسف ، فقيل : ناداه جبريل : يا يوسف ، تكون في ديوان الأنبياء ، وتفعل فعل السفهاء ، وقيل : رأى يعقوب عاضّا على إبهامه ، وقيل غير هذا ، وقيل : بل كان البرهان فكرته في عذاب الله ووعيده على المعصية ، والبرهان في كلام العرب : الشيء الذي يعطي القطع واليقين ، كان مما يعلم ضرورة أو بخبر قطعيّ أو بقياس نظريّ «وأن» في قوله : (لَوْ لا أَنْ رَأى) في موضع رفع ، تقديره : لو لا رؤيته برهان ربّه ، لفعل ، وذهب قوم إلى أنّ الكلام تمّ في قوله : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) ، وأن جواب «لو لا» في قوله : (وَهَمَّ بِها) ، وأن المعنى : لو لا أن رأى البرهان لهمّ ، أي : فلم يهمّ عليه‌السلام ، وهذا قول يردّه لسان العرب ، وأقوال السلف* ت* : وقد ساق عياض هذا القول مساق الاحتجاج به متّصلا بما نقلناه عنه آنفا ، ولفظه : فكيف ، وقد حكى أبو حاتم عن أبي عبيدة ، أن يوسف لم يهمّ ، وأنّ الكلام فيه تقديم وتأخير ، أي : ولقد همّت به ، ولو لا أن رأى برهان ربه لهمّ بها ، وقد قال الله تعالى عن المرأة : (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) ، [يوسف : ٢٣] وقال تعالى : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) ، وقال : (مَعاذَ اللهِ ...) الآية. انتهى. وكذا نقله الداوديّ ولفظه : وقد قال سعيد بن الحدّاد : في الكلام تقديم وتأخير ، ومعناه : أنه لو لا أن رأى برهان ربّه لهمّ بها ، فلمّا رأى البرهان لم يهمّ ، انتهى. قال ابن العربيّ في «أحكامه» (١) : وقد أخبر الله سبحانه عن حال يوسف من حين بلوغه بأنه آتاه حكما وعلما ، والحكم : هو العمل بالعلم ، وكلام الله صادق ، وخبره صحيح ، ووصفه حقّ ، فقد عمل يوسف بما علّمه الله من تحريم الزنا ، وتحريم خيانة السيّد في أهله ، فما تعرّض لامرأة العزيز ، ولا أناب إلى المراودة ، بل أدبر عنها ، وفرّ منها ؛ حكمة خصّ بها ، وعمل بما علّمه الله تعالى ، وهذا يطمس وجوه الجهلة من النّاس والغفلة من العلماء في نسبتهم إلى الصّدّيق ما لا يليق ، وأقلّ ما اقتحموا من ذلك هتك السراويل ، والهمّ بالفتك فيما رأوه من تأويل ، وحاشاه من ذلك ، فما لهؤلاء المفسّرين لا يكادون يفقهون حديثا ؛ يقولون : فعل فعل ، والله تعالى إنما قال همّ بها ، قال علماء الصوفيّة : إن فائدة قوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً ...) [يوسف : ٢٢] أن الله عزوجل أعطاه العلم والحكمة ؛ بأن غلب الشهوة ؛ ليكون ذلك سببا للعصمة ، انتهى.

والكاف من قوله تعالى : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ) : متعلّقة بمضمر ، تقديره : جرت أفعالنا وأقدارنا كذلك ؛ لنصرف ، ويصحّ أن تكون الكاف في موضع رفع بتقدير

__________________

(١) ينظر : «أحكام القرآن» (٣ / ١٠٨٢)

٣٢٠