تفسير الثعالبي - ج ٣

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٣

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٩

قال* ع (١) * : كأنه جعله بمنزلة قوله : ربّ بقدرتك عليّ ، وقضائك ، ويحتمل أن تكون باء السّبب.

(قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ)(٤٤)

وقوله سبحانه : (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) : المعنى : هذا أمر إليّ يصير ؛ والعرب تقول : طريقك في هذا / الأمر على فلان ، أي : إليه يصير النظر في أمرك ، والآية تتضمّن وعيدا ، وظاهر قوله : (عِبادِي) : الخصوص في أهل الإيمان والتقوى ، فيكون الاستثناء منقطعا ، وإن أخذنا العباد عموما ، كان الاستثناء متصلا ، ويكون الأقلّ في القدر من حيث لا قدر للكفار ؛ والنظر الأول أحسن ، وإنما الغرض ألّا يقع في الاستثناء الأكثر من الأقل ، وإن كان الفقهاء قد جوّزوه.

وقوله : (لَمَوْعِدُهُمْ) : أي : موضع اجتماعهم ، عافانا الله من عذابه بمنّه ، وعاملنا بمحض جوده وكرمه.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ)(٥٠)

وقوله سبحانه : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوها بِسَلامٍ ...) الآية : السلام ؛ هنا : يحتمل أن يكون السّلامة ، ويحتمل أن يكون التحيّة ، والغل : الحقد ، قال الداوديّ : عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ ...) الآية ، قال : «إذا خلص المؤمنون من الصّراط ، حبسوا على صراط بين الجنّة والنّار ، فيقتصّ لبعضهم من بعض بمظالم كانت بينهم في الدّنيا ، حتّى إذا هذّبوا ونقّوا ، أذن لهم في دخول الجنّة ، والله ، لأحدهم أهدى بمنزله في الجنّة من منزله في الدّنيا» (٢). انتهى.

وال (سُرُرٍ) : جمع سرير ، و (مُتَقابِلِينَ) : الظاهر أن معناه : في الوجوه ، إذ الأسرّة متقابلة ، فهي أحسن في الرتبة.

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٣٦٢)

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٢١) رقم : (٢١٢٠٨) من حديث أبي سعيد الخدري ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٨٨) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه.

٤٠١

قال مجاهد : لا ينظر أحدهم في قفا صاحبه (١) ، وقيل غير هذا مما لا يعطيه اللفظ ، والنصب : التعب ، و (نَبِّئْ) : معناه : أعلم.

قال الغزّاليّ رحمه‌الله في «منهاجه» : «ومن الآيات اللطيفة الجامعة بين الرجاء والخوف قوله تعالى : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ، ثم قال في عقبه : (وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) ؛ لئلّا يستولي عليك الرجاء بمرّة ، وقوله تعالى : (شَدِيدِ الْعِقابِ) [غافر : ٣] ، ثم قال في عقبه : (ذِي الطَّوْلِ) [غافر : ٣] ، لئلّا يستولي عليك الخوف ، وأعجب من ذلك قوله تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران : ٣٠] ، ثم قال في عقبه : (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) [آل عمران : ٣٠] ، وأعجب منه قوله تعالى : (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) [ق : ٣٣] ، فعلّق الخشية باسم الرحمن ، دون اسم الجبّار أو المنتقم أو المتكبّر ونحوه ، ليكون تخويفا في تأمين ، وتحريكا في تسكين كما تقول : «أما تخشى الوالدة الرحيمة ، أما تخشى الوالد الشّفيق» ، والمراد من ذلك أن يكون الطّريق عدلا ، فلا تذهب إلى أمن وقنوط جعلنا الله وإيّاكم من المتدبّرين لهذا الذكر الحكيم ، العاملين بما فيه ، إنه الجواد الكريم انتهى.

(وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ)(٥٦)

وقوله سبحانه : (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ ...) الآية : هذا ابتداء قصص بعد انصرام الغرض الأول ، و «الضيف» : مصدر وصف به ، فهو للواحد والاثنين والجمع ، والمذكر والمؤنّث ؛ بلفظ واحد ، وقوله : (إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) ، أي : فزعون ، وإنما وجل منهم ؛ لما قدّم إليهم العجل الحنيذ ، فلم يرهم يأكلون ، وكانت عندهم العلامة المؤمّنة أكل الطعام ؛ وكذلك هو في غابر الدهر أمنة للنازل ، والمنزول به.

وقوله : (أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ) ، أي : في حالة قد مسّني فيها الكبر ، وقول إبراهيم عليه‌السلام : (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) : / تقرير على جهة التعجّب والاستبعاد ، لكبرهما ، أو على جهة الاحتقار وقلّة المبالاة بالمسرّات الدنيويّة ، لمضيّ العمر ، واستيلاء الكبر ، وقولهم :

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٥٢١) برقم : (٢١٢١١) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣٦٤) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥٥٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٨٩) ، وعزاه لهناد ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

٤٠٢

(بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ) : فيه شدّة ما ، أي : أبشر بما بشّرت به ، ولا تكن من القانطين ، والقنوط : أتمّ اليأس.

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ)(٦٥)

وقوله سبحانه : (قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) : لفظة الخطب إنما تستعمل في الأمور الشّداد ، وقولهم : (إِلَّا آلَ لُوطٍ) : استثناء منقطع ، و «الآل» : القوم الذي يؤول أمرهم إلى المضاف إليه ؛ كذا قال سيبويه ؛ وهذا نصّ في أن لفظة «آل» ليست لفظة «أهل» ؛ كما قال النّحّاس ، و (إِلَّا امْرَأَتَهُ) : استثناء متصل ، والاستثناء بعد الاستثناء يردّ المستثنى الثاني في حكم الأمر الأول ، و (الْغابِرِينَ) ؛ هنا : أي : الباقين في العذاب ، و «وغبر» : من الأضداد ، يقال في الماضي وفي الباقي ، وقول الرسل للوط : (بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) ، أي : بما وعدك الله من تعذيبهم الذي كانوا يشكون فيه ، و «القطع» : الجزء من الليل.

وقوله سبحانه : (وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) ، أي : كن خلفهم ، وفي ساقتهم ، حتى لا يبقى منهم أحد ، (وَلا يَلْتَفِتْ) : مأخوذ من الالتفات الذي هو نظر العين ، قال مجاهد : المعنى : لا ينظر أحد وراءه ، (١) ونهوا عن النظر مخافة العلقة ، وتعلّق النفس بمن خلف ، وقيل : لئلّا تنفطر قلوبهم من معاينة ما جرى على القرية في رفعها وطرحها.

(وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ)(٧٧)

وقوله سبحانه : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) ، أي : أمضيناه وحتمنا به ، ثم أدخل في

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٥٢٥) برقم : (٢١٢٢٠) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣٦٨)

٤٠٣

الكلام إليه من حيث أوحي ذلك إليه ، وأعلمه الله به ، وقوله : (يَسْتَبْشِرُونَ) ، أي : بالأضياف طمعا منهم في الفاحشة ، وقولهم : (أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) : روي أنهم كانوا تقدّموا إليه في ألّا يضيف أحدا ، والعمر والعمر ـ بفتح العين وضمّها ـ واحد ، وهما مدة الحياة ، ولا يستعمل في القسم إلا بالفتح ، وفي هذه الآية شرف لنبينا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن الله عزوجل أقسم بحياته ، ولم يفعل ذلك مع بشر سواه ؛ قاله ابن عباس (١).

* ت* : وقال : * ص* : اللام في (لَعَمْرُكَ) للابتداء ، والكاف خطاب للوط عليه‌السلام ، والتقدير : قالت الملائكة له : لعمرك ، واقتصر على هذا.

وما ذكره* ع (٢) * : هو الذي عوّل عليه عياض وغيره.

وقال ابن العربيّ في «أحكامه» : قال المفسّرون بأجمعهم : أقسم الله في هذه الآية بحياة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا أدري ما أخرجهم عن ذكر لوط إلى ذكر محمّد عليه‌السلام ، وما المانع أن يقسم الله بحياة لوط ، ويبلغ به من التشريف ما شاء ، وكلّ ما يعطي الله للوط من فضل ، ويؤتيه من شرف ، فلنبيّنا محمّد عليه‌السلام ، ضعفاه ؛ لأنه أكرم على الله منه ، وإذا أقسم الله بحياة لوط ، فحياة نبينا محمّد عليه‌السلام أرفع ، ولا يخرج من كلام إلى كلام آخر غيره ، لم يجر له ذكر ؛ لغير ضرورة. انتهى.

* ت* : وما ذكره الجمهور أحسن ؛ لأن الخطاب خطاب مواجهة ؛ ولأنه تفسير صحابيّ ، وهو مقدّم على غيره.

و (يَعْمَهُونَ) : معناه : يتردّدون / في حيرتهم ، و (مُشْرِقِينَ) : معناه : قد دخلوا في الإشراق ، وهو سطوع ضوء الشمس وظهوره ؛ قاله ابن (٣) زيد ، وهذه الصّيحة هي صيحة الوجبة ، وليست كصيحة ثمود ، وأهلكوا بعد الفجر مصبحين ، واستوفاهم الهلاك مشرقين ، وباقي قصص الآية تقدّم تفسير.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٥٢٦) برقم : (٢١٢٣٠) ، وذكره البغوي (٣ / ٥٥) ، وابن عطية (٣ / ٣٦٩) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥٥٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٩٢) ، وعزاه لابن أبي شيبة والحرث بن أبي أسامة ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبي نعيم ، والبيهقي معا في «الدلائل».

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٣٦٩)

(٣) ذكره ابن عطية (٣ / ٣٧٠)

٤٠٤

و «المتوسمين» : قال مجاهد : المتفرّسون (١) ، وقال أيضا : المعتبرون (٢) ، وقيل غير هذا ، وهذا كلّه تفسير بالمعنى ، وأما تفسير اللفظة ، فالمتوسّم هو الذي ينظر في وسم المعنى ، فيستدلّ به على المعنى ، وكأن معصية هؤلاء أبقت من العذاب والإهلاك وسما ، فمن رأى الوسم ، استدلّ على المعصية به واقتاده النظر إلى تجنّب المعاصي ؛ لئلا ينزل به ما نزل بهم ؛ ومن الشّعر في هذه اللفظة قول الشاعر : [الطويل]

توسّمته لمّا رأيت مهابة

عليه وقلت المرء من آل هاشم (٣)

والضمير في قوله : (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) : يحتمل أن يعود على المدينة المهلكة ، أي : أنها في طريق ظاهر بيّن للمعتبر ، وهذا تأويل مجاهد وغيره (٤) ، ويحتمل أن يعود على الآيات ، ويحتمل أن يعود على الحجارة ، ويقوّيه ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ أنّه قال : «إنّ حجارة العذاب معلّقة بين السّماء والأرض منذ ألفي سنة لعصاة أمّتي».

(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)(٨٤)

وقوله سبحانه : (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) : (الْأَيْكَةِ) : الغيضة والشجر الملتفّ المخضرّ ، قال الشاعر : [الطويل]

ألا إنّما الدّنيا غضارة أيكة

إذا اخضرّ منها جانب جفّ جانب (٥)

وكان هؤلاء قوما يسكنون غيضة ، ويرتفقون بها في معايشهم ، فبعث إليهم شعيب ، فكفروا به ، فسلّط الله عليهم الحرّ ، فدام عليهم سبعة أيام ، ثم رأوا سحابة ، فخرجوا ،

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٥٢٧) ، وذكره البغوي (٣ / ٥٥) ، وابن عطية (٣ / ٣٧٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» وعزاه لابن جرير وابن المنذر.

(٢) ذكر السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٩٢) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ في «العظمة».

(٣) ينظر : «البحر المحيط» (٥ / ٤٤٤) ، والقرطبي (١٠ / ٤٣) ، و «الدر المصون» (٤ / ٣٠٥) ، و «روح المعاني» (١٤ / ٧٤)

(٤) أخرجه الطبري (٧ / ٥٢٩) برقم : (٢١٢٥٦) ، وذكره البغوي (٣ / ٥٥) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣٧٠) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥٥٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٩٣) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(٥) البيت من شواهد «المحرر الوجيز» (٣ / ٣٧١)

٤٠٥

فاستظلّوا بها ، فأمطرت عليهم نارا ، وحكى (١) الطبريّ قال : بعث شعيب إلى أمّتين ، فكفرتا ، فعذّبتا بعذابين مختلفين : أهل مدين عذّبوا بالصيحة ، وأصحاب الأيكة بالظّلّة (٢).

وقوله : (وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) : الضمير في «إنهما» : يحتمل أن يعود على مدينة قوم لوط ، ومدينة أصحاب الأيكة ، ويحتمل أن يعود على لوط وشعيب عليهما‌السلام ، أي : إنهما على طريق من الله وشرع مبين ، و «الإمام» ، في كلام العرب : الشيء الذي يهتدى به ، ويؤتمّ به ؛ فقد يكون الطريق ، وقد يكون الكتاب ، وقد يكون الرّجل المقتدى به ، ونحو هذا ، ومن رأى عود الضمير على المدينتين ، قال : «الإمام» : الطريق ، وقيل على ذلك الكتاب الذي سبق فيه إهلاكهما ، و (أَصْحابُ الْحِجْرِ) : هم ثمود ، وقد تقدّم قصصهم ، و «الحجر» : مدينتهم ، وهي ما بين المدينة وتبوك ، وقال : (الْمُرْسَلِينَ) ؛ من حيث يلزم من تكذيب رسول واحد تكذيب الجميع ، إذ القول في المعتقدات واحد.

وقوله : (يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ) : «النحت» : النّقر بالمعاول ، و «آمنين» : قيل : معناه : من انهدامها ، وقيل : من حوادث الدنيا ، وقيل : من الموت ؛ لاغترارهم بطول الأعمار ، وأصحّ ما يظهر في ذلك ؛ أنهم كانوا يأمنون عواقب / الآخرة ، فكانوا لا يعملون بحسبها.

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ)(٨٧)

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) ، أي : لم تخلق عبثا ولا سدّى ، (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) ، أي : فلا تهتمّ يا محمّد بأعمال الكفرة ؛ فإن الله لهم بالمرصاد ، وقوله عزوجل ؛ (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) : ذهب ابن مسعود وغيره إلى أن السبع المثاني هنا هي السبع الطّوال : «البقرة» ، و «ال عمران» ، و «النساء» ، و «المائدة» ، و «الأنعام» ، و «المص» ، و «الأنفال» مع «براءة» (٣) ، وذهب جماعة من الصحابة ومن بعدهم

__________________

(١) ينظر : «تفسير الطبري» (٧ / ٥٣٠)

(٢) الظّلّة : سحابة أنشأها الله تعالى كان فيها عذاب مدين ؛ قيل : أصابهم ذلك اليوم حرّ عظيم إلى أن كادوا يهلكون ، فأرسل الله ظلة كثيفة ، أي : سحابة متراكمة ، فهرعوا إليها يستجيرون بها من الحر ، فلما تكاملوا تحتها أطبقت عليهم بعذابها ، فلم ير يوم مثله.

ينظر : «عمدة الحفاظ» (٣ / ١٠)

(٣) أخرجه الطبري (٧ / ٥٣٣) برقم : (٢١٢٨١) بنحوه وذكره ابن عطية (٣ / ٣٧٣) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥٥٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٩٦) ، وعزاه لابن جرير.

٤٠٦

إلى أن السبع هنا : آيات الفاتحة ، وهو نصّ حديث أبي بن كعب وغيره (١).

* ت* : وهذا هو الصحيح ، وقد تقدّم بيان ذلك أوّل الكتاب.

(لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ)(٩١)

وقوله سبحانه : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) : حكى الطبريّ عن سفيان بن عيينة ؛ أنه قال : هذه الآية آمرة بالاستغناء بكتاب الله عن جميع زينة الدنيا (٢).

قال* ع (٣) * : فكأنه قال : آتيناك عظيما خطيرا ، فلا تنظر إلى غير ذلك من أمور الدنيا وزينتها التي متّعنا بها أنواعا من هؤلاء الكفرة ؛ ومن هذا المعنى : قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أوتي القرآن ، فرأى أنّ أحدا أعطي أفضل ممّا أعطي ، فقد عظّم صغيرا وصغّر عظيما».

* ت* : وفي «صحيح مسلم» عن أبي سعيد قال : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخطب النّاس ، فقال : «لا والله ، ما أخشى عليكم ، أيّها النّاس ، إلّا ما يخرج الله لكم من زهرة الدّنيا ...» الحديث ، وفي رواية : «أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدّنيا» ، قالوا : وما زهرة الدّنيا ، يا رسول الله؟ قال : «بركات الأرض ...» الحديث ، وفي رواية : «إنّ ممّا أخاف عليكم بعدي ما يفتح لكم من زهرة الدّنيا وزينتها ...» الحديث ، انتهى. والأحاديث في هذه الباب أكثر من أن يحصيها كتاب ، قال الغزّاليّ في «المنهاج» : وإذا أنعم الله عليك بنعمة الدّين ، فإيّاك أن تلتفت إلى الدنيا وحطامها ، فإن ذلك منك لا يكون إلّا بضرب من التهاون بما أولاك مولاك من نعم الدارين ؛ أما تسمع قوله تعالى لسيّد المرسلين : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ ...) الآية ، تقديره : إن من أوتي القرآن العظيم حقّ له ألّا ينظر إلى الدنيا الحقيرة نظرة باستحلاء ، فضلا عن أن يكون له فيها رغبة ، فليلتزم الشكر على ذلك ، فإنه الكرامة التي حرص عليها الخليل لأبيه ، والمصطفى عليه‌السلام لعمّه ، فلم يفعل ، وأما حطام الدنيا ، فإن الله سبحانه يصبّه على كلّ كافر وفرعون وملحد وزنديق

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٥٣٧) برقم : (٢١٣٢٦)

(٢) ذكره الطبري (٧ / ٥٤٢) ، وذكره البغوي (٥٨١٣) بنحوه ، وابن عطية (٣ / ٣٧٣) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥٥٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٩٨) ، وعزاه لابن المنذر.

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٣٧٤)

٤٠٧

وجاهل وفاسق ؛ الذين هم أهون خلقه عليه ، ويصرفه عن كلّ نبيّ وصفيّ وصدّيق وعالم وعابد ؛ الذين هم أعزّ خلقه عليه ؛ حتى إنهم لا يكادون يصيبون كسرة وخرقة ، ويمنّ عليهم سبحانه بألّا يلطخهم بقذرها ، انتهى.

وقال ابن العربيّ في «أحكامه» (١) : قوله تعالى : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) : المعنى : أعطيناك الآخرة ، فلا تنظر إلى الدنيا ، وقد أعطيناك العلم ، فلا تتشاغل / بالشهوات ، وقد منحناك لذّة القلب ، فلا تنظر إلى لذة البدن ، وقد أعطيناك القرآن ، فاستغن به ، فمن استغنى به ، لا يطمح بنظره إلى زخارف الدنيا ، وعنده معارف المولى ، حيي بالباقي ، وفني عن الفاني. انتهى.

وقوله سبحانه : (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ).

قال* ع (٢) * : والذي أقول به في هذا : أنّ المعنى : وقل أنا نذير ، كما قال قبلك رسلنا ، ونزّلنا عليهم كما أنزلنا عليك ، واختلف في (الْمُقْتَسِمِينَ) ، من هم؟ فقال ابن عباس ، وابن جبير : «المقتسمون» : هم أهل الكتاب الذين فرّقوا دينهم ، وجعلوا كتاب الله أعضاء ، آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض ؛ وقال نحوه مجاهد (٣) ، وقالت فرقة : «المقتسمون» : هم كفّار قريش جعلوا القرآن سحرا وشعرا وكهانة ، وجعلوه أعضاء بهذا التقسيم ، وقالت فرقة : «عضين» : جمع عضة ، وهي اسم للسحر خاصّة بلغة قريش ؛ وقاله عكرمة (٤).

* ت* : وقال الواحديّ : كما أنزلنا عذابا على المقتسمين الذين اقتسموا طرق مكّة يصدّون الناس عن الإيمان. انتهى من «مختصره».

(فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ

__________________

(١) ينظر : «أحكام القرآن» (٣ / ١١٣٦)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٣٧٤)

(٣) أخرجه الطبري (٧ / ٥٤٣) برقم : (٢١٣٦٨) ، وبرقم : (٢١٣٧٢) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣٧٤) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥٥٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٩٨) ، وعزاه للبخاري ، وسعيد بن منصور ، والحاكم ، والفريابي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه.

(٤) أخرجه الطبري (٧ / ٥٤٧) برقم : (٢١٣٩٢) ، وبرقم : (٢١٣٧٢) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣٧٤) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥٥٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٩٨) ، وعزاه لسعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن جرير.

٤٠٨

الْيَقِينُ)(٩٩)

وقوله سبحانه : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ...) الآية : ضمير عامّ ، ووعيد محض ، يأخذ كلّ أحد منه بحسب جرمه وعصيانه ، فالكافر يسأل عن التوحيد والرسالة ، وعن كفره وقصده به ، والمؤمن العاصي يسأل عن تضييعه ، وكلّ مكلّف عما كلّف القيام به ؛ وفي هذا المعنى أحاديث ، قال ابن عباس في هذه الآية يقال لهم : لم عملتم كذا وكذا ، قال : وقوله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) [الرحمن : ٣٩] : معناه : لا يقال له : ماذا أذنبت ، لأنّ الله تعالى أعلم بذنبه منه (١) ، وقوله سبحانه : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) : «اصدع» : معناه : أنفذ ، وصرّح بما بعثت به.

وقوله : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) : من آيات المهادنة التي نسختها آية السّيف (٢) ؛ قاله ابن عباس ، ثم أعلمه الله تعالى بأنه قد كفاه المستهزئين به من كفّار مكّة ببوائق أصابتهم من الله تعالى.

قال ابن إسحاق وغيره : وهم الذين قذفوا في قليب بدر ؛ كأبي جهل وغيره. انتهى.

وقوله سبحانه : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) : آية تأنيس للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، و (الْيَقِينُ) ؛ هنا : الموت ؛ قاله ابن (٣) عمر وجماعة ، قال الداوديّ : وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ أنه قال : «ما أوحي إليّ أن أجمع المال ، وأكون من التّاجرين ، ولكن أوحي إليّ أن سبّح بحمد ربّك وكن من السّاجدين ، واعبد ربّك حتّى يأتيك اليقين (٤). انتهى ، وباقي الآية بيّن ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٥٤٨) برقم : (٢١٤٠٣) ، وذكره البغوي (٣ / ٥٨) ، وابن عطية (٣ / ٣٧٥) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥٥٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٩٩) ، وعزاه لابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في «البعث».

(٢) أخرجه الطبري (٧ / ٥٥٠) برقم : (٢١٤١٥) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣٧٥)

(٣) ذكره ابن عطية (٣ / ٣٧٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٠٣) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وابن جرير.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٠٣) ، وعزاه لسعيد بن منصور ، وابن المنذر ، والحاكم في «التاريخ» ، وابن مردويه ، والديلمي.

٤٠٩

تفسير سورة النحل

وهي مكية غير آيات يسيرة يأتي بيانها إن شاء الله

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ)(٤)

قوله سبحانه : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) : روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قال جبريل في سرد الوحي : (أَتى أَمْرُ اللهِ) ، وثب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائما ، فلما قال : / (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) ، سكن ، وقوله : (أَمْرُ اللهِ) : قال فيه جمهور المفسّرين : إنه يريد القيامة ، وفيها وعيد للكفّار ، وقيل : المراد نصر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمن قال : إن الأمر القيامة ، قال : إن قوله تعالى : (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) : ردّ على المكذّبين بالبعث ، القائلين : متى هذا الوعد ، واختلف المتأوّلون في قوله تعالى : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ) ، فقال مجاهد : الرّوح : النبوّة (١) ، وقال ابن عباس : الرّوح الوحي (٢) ، وقال قتادة : بالرحمة والوحي (٣) ، وقال الربيع بن أنس : كلّ كلام الله روح ، ومنه قوله تعالى : (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) (٤) [الشورى : ٥٢] ، وقال الزّجّاج (٥) : الرّوح : ما تحيا به القلوب من هداية الله عزوجل ، وهذا قول حسن ، قال الداوديّ ، عن ابن عباس (٦) قال : الرّوح : خلق من خلق الله ، وأمر

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٥٥٨) برقم : (٢١٤٥٤) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣٧٨)

(٢) أخرجه الطبري (٧ / ٥٥٨) برقم : (٢١٤٥١) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣٧٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لابن جرير ، وابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه الطبري (٧ / ٥٥٨) برقم : (٢١٤٥٦) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣٧٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٠٥) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(٤) أخرجه الطبري (٧ / ٥٥٨) برقم : (٢١٤٥٥) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣٧٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٠٦) ، وعزاه لابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ.

(٥) ينظر : «معاني القرآن» (٣ / ١٩٠)

(٦) أخرجه الطبري (٧ / ٥٥٨) برقم : (٢١٤٥١) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٠٥) ، وعزاه

٤١٠

من أمر الله على صور بني آدم ، وما ينزل من السماء ملك إلا ومعه روح ؛ كالحفيظ عليه ، لا يتكلّم ولا يراه ملك ، ولا شيء مما خلق الله ، وعن مجاهد : الرّوح : خلق من خلق الله ، لهم أيد وأرجل (١). انتهى ، والله أعلم بحقيقة ذلك ، وهذا أمر لا يقال بالرأي ، فإن صحّ فيه شيء عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجب الوقوف عنده انتهى ، و «من» في قوله : (مَنْ يَشاءُ) هي للأنبياء.

وقوله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) : يريد ب «الإنسان» الجنس ، وقوله : (خَصِيمٌ) يحتمل أن يريد به الكفرة الذين يجادلون في آيات الله ؛ قاله (٢) الحسن البصريّ ، ويحتمل أن يريد أعمّ من هذا ، على أن الآية تعديد نعمة الذّهن والبيان على البشر.

(وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(١٢)

وقوله سبحانه : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) : ال (دِفْءٌ) : السّخانة ، وذهاب البرد بالأكسية ونحوها ، وقيل : ال (دِفْءٌ) : تناسل الإبل ، وقال ابن عبّاس : هو نسل كلّ شيء (٣) ، والمعنى الأول هو الصحيح ، والمنافع : ألبانها وما تصرّف منها ، وحرثها والنّضح عليها وغير ذلك.

وقوله : (جَمالٌ) ، أي : في المنظر ، و (تُرِيحُونَ) : معناه : حين تردّونها وقت الرّواح إلى المنازل ، و (تَسْرَحُونَ) : معناه : تخرجونها غدوة إلى السّرح ، و «الأثقال» :

الأمتعة ، وقيل : الأجسام ؛ كقوله : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) [الزلزلة : ٢] أي : أجساد بني آدم ، وسمّيت الخيل خيلا ؛ لاختيالها في مشيتها.

__________________

ـ لآدم بن إياس ، وسعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي.

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٥٥٨) برقم : (٢١٤٥٤) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٠٥) ، وعزاه لابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ.

(٢) ذكره ابن عطية (٣ / ٣٧٩)

(٣) أخرجه الطبري (٧ / ٥٦٠) برقم : (٢١٤٦٤) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣٧٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لعبد الرزاق ، والفريابي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

٤١١

* ت* : ويجب على من ملكه الله شيئا من هذا الحيوان أن يرفق به ، ويشكر الله تعالى على هذه النعمة التي خوّلها ، وقد روى مالك في «الموطّأ» عن أبي عبيد مولى سليمان بن عبد الملك ، عن خالد بن معدان يرفعه ، قال : «إن الله رفيق يحبّ الرّفق ، ويرضاه ، ويعين عليه ما لا يعين على العنف ، فإذا ركبتم هذه الدوابّ العجم ، فأنزلوها منازلها ، فإن كانت الأرض جدبة ، فانجوا عليها بنقيها (١) ، وعليكم بسير اللّيل ؛ فإن الأرض تطوى باللّيل ما لا تطوى بالنهار ، وإياكم والتّعريس على الطريق ؛ فإنها طرق الدّواب ، ومأوى الحيّات» (٢).

قال أبو عمر في «التمهيد» : هذا الحديث يستند عن / النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وجوه كثيرة ، فأمّا «الرفق» ، فمحمود في كلّ شيء ، وما كان الرفق في شيء إلّا زانه ، وقد روى مالك بسنده عن عائشة ، وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «إنّ الله عزوجل يحبّ الرّفق في الأمر كلّه» (٣) ، وأمر المسافر في الخصب بأن يمشي رويدا ، ويكثر النزول ، لترعى دابته ، فأما الأرض الجدبة ، فالسّنّة للمسافر أن يسرع السير ؛ ليخرج عنها ، وبدابّته شيء من الشّحم والقوّة ، و «النّقي» في كلام العرب : الشّحم والودك. انتهى.

وروى أبو داود عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إيّاكم أن تتّخذوا ظهور دوابّكم منابر ، فإنّ الله إنّما سخّرها لكم لتبلّغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلّا بشقّ الأنفس ، وجعل لكم الأرض فعليها فاقضوا حاجاتكم» انتهى (٤).

وقوله سبحانه : (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) : عبرة منصوبة على العموم ، أي : إنّ مخلوقات الله من الحيوان وغيره لا يحيط بعلمها بشر ، بل ما يخفى عنه أكثر مما يعلمه.

وقوله سبحانه : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ...) الآية : هذه أيضا من أجلّ نعم الله تعالى ، أي : على الله تقويم طريق الهدى ، وتبيينه بنصب الأدلّة ، وبعث الرسل ، وإلى هذا ذهب المتأولون ، ويحتمل أن يكون المعنى : أنّ من سلك السبيل القاصد ، فعلى الله ،

__________________

(١) النّقو : عظم العضد ، وقيل : كل عظم فيه مخ.

ينظر : «لسان العرب» (٤٥٣٢)

(٢) أخرجه مالك في «الموطأ» (٢ / ٩٧٩) كتاب «الاستئذان» باب : ما يؤمر به من العمل في السفر ، حديث (٣٨)

(٣) تقدم تخريجه.

(٤) أخرجه أبو داود (٢ / ٣٢) كتاب «الجهاد» باب : في الوقوف على الدابة ، حديث (٢٥٦٧) ، والبيهقي (٥ / ٢٥٥) من حديث أبي هريرة.

٤١٢

ورحمته وتنعيمه طريقه ، وإلى ذلك مصيره ، و «طريق قاصد» : معناه : بيّن مستقيم قريب ، والألف واللام في (السَّبِيلِ) ، للعهد ، وهي سبيل الشرع.

وقوله : (وَمِنْها جائِرٌ) : يريد طريق اليهود والنصارى وغيرهم ، فالضمير في (مِنْها) يعود على السّبل التي يتضمّنها معنى الآية.

وقوله سبحانه : (فِيهِ تُسِيمُونَ) : يقال : أسام الرّجل ماشيته ؛ إذا أرسلها ترعى.

(وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)(١٧)

وقوله سبحانه : (وَما ذَرَأَ لَكُمْ) : ذرأ : معناه : بثّ ونشر.

و (مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) أي أصنافه ، ويحتمل أن يكون التنبيه على اختلاف الألوان من حمرة وصفرة وغير ذلك ، والأول أبين.

وقوله سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) : البحر : الماء الكثير ، ملحا كان أو عذبا.

قال ابن العربيّ في «أحكامه» (١) : قوله تعالى : (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) : يعني به اللؤلؤ والمرجان ، وهذا امتنان عامّ للرجال والنساء ، فلا يحرم عليهم شيء من ذلك. انتهى. و (مَواخِرَ) : جمع ماخرة ، والمخر ؛ في اللغة : الصّوت الذي يكون من هبوب الريح على شيء يشقّ أو يصحب في الجملة الماء ؛ فيترتّب منه أن يكون المخر من الريح ، وأن يكون من السفينة ونحوها ، وهو في هذه الآية من السّفن ، وقال بعض النحاة : المخر ؛ في كلام العرب : الشّقّ ؛ يقال : مخر الماء الأرض ، وهذا أيضا بيّن أن يقال فيه للفلك مواخر.

وقوله : (وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) : يحتمل : تهتدون في مشيكم وتصرّفكم في السّبل ،

__________________

(١) ينظر : «أحكام القرآن» (٣ / ١١٤٨)

٤١٣

ويحتمل تهتدون بالنّظر في دلالة هذه المصنوعات على صانعها. / (وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) : قال ابن عبّاس : العلامات : معالم الطّرق بالنهار ، والنجوم : هداية (١) الليل ، وهذا قول حسن ؛ فإنه عموم بالمعنى ، واللفظة عامّة ؛ وذلك أنّ كلّ ما دلّ على شيء وأعلم به ، فهو علامة ، والنجم ؛ هنا : اسم جنس ، وهذا هو الصّواب.

(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) (٢١)

وقوله سبحانه : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها ...) الآية : وبحسب العجز عن عدّ نعم الله تعالى يلزم أن يكون الشاكر لها مقصّرا عن بعضها ؛ فلذلك قال عزوجل : (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ، أي : عن تقصيركم في الشكر عن جميعها ؛ نحا هذا المنحى الطبريّ ؛ ويرد عليه أن نعمة الله في قول العبد : «الحمد لله ربّ العالمين» ، مع شرطها من النيّة والطاعة يوازي جميع النعم ، ولكن أين قولها بشروطها ، والمخاطبة بقوله : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها). عامّة لجميع الناس. (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ؛ أي : تدعونهم آلهة ، و (أَمْواتٌ) : يراد به الذين يدعون من دون الله ، ورفع (أَمْواتٌ) ؛ على أنه خبر مبتدإ مضمر ، تقديره : هم أموات ، وقوله : (غَيْرُ أَحْياءٍ) : أي : لم يقبلوا حياة قطّ ، ولا اتصفوا بها ، وقوله سبحانه : (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) : أي : وما يشعر الكفّار متى يبعثون إلى التعذيب.

(إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ)(٢٥)

وقوله سبحانه : (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) أي : منكرة اتحاد الإله.

* ت* : وهذا كما حكى عنهم سبحانه في قولهم : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) [ص : ٥].

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٥٧١) برقم : (٢١٥٤٤) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣٨٤) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه.

٤١٤

وقوله : (لا جَرَمَ) عبّرت فرقة من اللّغويّين عن معناها ب «لا بدّ ولا محالة» ، وقالت فرقة : معناها : حق أن الله ، ومذهب سيبويه أنّ «لا» نفي لما تقدّم من الكلام ، و «جرم» : معناه : وجب أو حقّ ونحوه ، هذا مذهب الزّجّاج (١) ، ولكن مع مذهبهما ، «لا» ملازمة ل «جرم» لا تنفكّ هذه من هذه.

وقوله سبحانه : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) : عامّ في الكافرين والمؤمنين يأخذ كلّ أحد منهم بقسطه ، قال الشيخ العارف بالله عبد الله بن أبي جمرة رحمه‌الله موت النفوس حياتها ، من أحبّ أن يحيا يموت ، ببذل أهل التوفيق نفوسهم وهوانها عليهم ، نالوا ما نالوا ، وبحبّ أهل الدنيا نفوسهم هانوا وطرأ عليهم الهوان هنا وهناك ، وقد ورد في الحديث : «أنّه ما من عبد إلا وفي رأسه حكمة بيد ملك ، فإن تعاظم ، وارتفع ، ضرب الملك في رأسه ، وقال له : اتّضع وضعك الله ، وإن تواضع رفعه الملك ، وقال له : ارتفع ، رفعك الله» ، منّ الله علينا بما به يقرّبنا إليه بمنّه (٢). انتهى.

وقوله سبحانه : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) : يعني : كفّار قريش : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ...) الآية ، يقال : إن سببها النضر بن الحارث ، واللام في قوله : (لِيَحْمِلُوا) يحتمل أن تكون لام العاقبة ، ويحتمل أن تكون لام كي ، ويحتمل أن تكون لام الأمر ؛ على معنى الحتم عليهم والصّغار الموجب لهم.

وقوله / سبحانه : (وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) : «من» : للتبعيض ؛ وذلك أن هذا الرأس المضلّ يحمل وزر نفسه ووزرا من وزر كلّ من ضلّ بسببه ، ولا ينقص من أوزار أولئك شيء ، والأوزار هي الأثقال.

(قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)(٢٩)

وقوله سبحانه : (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ ...) الآية : قال ابن

__________________

(١) ينظر : «معاني القرآن» (٣ / ١٩٤)

(٢) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (٤ / ٤٠٢) ، عن أنس بن مالك ، وذكره الهندي في «كنز العمال» (٥٧٤٤) ، وعزاه إلى ابن صصرى في «أماليه».

٤١٥

عبّاس وغيره من المفسّرين (١) : الإشارة ب (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) إلى نمروذ الذي بنى صرحا ؛ ليصعد فيه إلى السماء بزعمه ، فلما أفرط في علوّه ، وطوّله في السماء فرسخين ؛ على ما حكى النّقّاش ، بعث الله عليه ريحا ، فهدمته ، وخرّ سقفه عليه ، وعلى أتباعه ، وقيل : إن جبريل هدمه بجناحه ، وألقى أعلاه في البحر ، وانجعف من أسفله ، وقالت فرقة : المراد ب (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : جميع من كفر من الأمم المتقدّمة ، ومكر ، ونزلت به عقوبة ، وقوله ؛ على هذا : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ ...) إلى آخر الآية ، تمثيل وتشبيه ، أي : حالهم كحال من فعل به هذا.

وقوله : (يُخْزِيهِمْ) : لفظ يعمّ جميع المكاره التي تنزل بهم ؛ وذلك كلّه راجع إلى إدخالهم النّار ، ودخولهم فيها.

و (تُشَاقُّونَ) : معناه : تحاربون ، أي : تكونون في شقّ ، والحقّ في شقّ ، و (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) : هم الملائكة فيما قال بعض المفسّرين ، وقال يحيى بن سلام : هم المؤمنون.

قال* ع (٢) * : والصواب أن يعمّ جميع من آتاه الله علم ذلك من ملائكة وأنبياء وغيرهم ، وقد تقدّم تفسير الخزي ، وأنه الفضيحة المخجلة ، وفي الحديث : «إنّ العار والتّخزية لتبلغ من العبد في المقام بين يدي الله تعالى ما أن يتمنّى أن ينطلق به إلى النّار وينجو من ذلك المقام» (٣) أخرجه البغويّ في «المسند المنتخب» له. انتهى من «الكوكب الدري».

وقوله سبحانه : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) : (الَّذِينَ) : نعت للكافرين ؛ في قول أكثر المتأوّلين ، و (الْمَلائِكَةُ) يريد القابضين لأرواحهم ، و (السَّلَمَ) ؛ هنا : الاستسلام ، واللام في قوله : (فَلَبِئْسَ) لام تأكيد ، والمثوى : موضع الإقامة.

(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٥٧٧) برقم : (٢١٥٦٧) ، وذكره البغوي (٣ / ٦٦) ، وابن عطية (٣ / ٣٨٨) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥٦٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢١٨) ، وعزاه لابن جرير ، وابن أبي حاتم.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٣٨٩)

(٣) أخرجه ابن عدي في «الكامل» (٦ / ٢٠٣٩)

٤١٦

الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٣٢)

وقوله سبحانه : (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ...) الآية : لما وصف سبحانه مقالة الكفّار الذين قالوا : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ...) [النحل : ٢٤] عادل ذلك بذكر مقالة المؤمنين من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأوجب لكلّ فريق ما يستحقّ ، وقولهم : (خَيْراً) جواب بحسب السؤال ، واختلف في قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا ...) إلى آخر الآية ، هل هو ابتداء كلام أو هو تفسير ل «الخير» الذي أنزل الله في الوحي على نبيّنا خبرا أنّ من أحسن في الدنيا بالطّاعة ، فله حسنة في الدنيا ونعيم في الآخرة ، وروى أنس بن مالك ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله لا يظلم المؤمن حسنة ؛ يثاب عليها الرّزق في الدّنيا ، ويجزى بها في الآخرة» (١).

وقوله سبحانه : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها ...) الآية : تقدّم تفسير نظيرها ، و (طَيِّبِينَ) : عبارة عن صالح حالهم ، واستعدادهم للموت ، و «الطّيّب» ؛ الذي لا خبث معه ، وقول الملائكة : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) : بشارة من الله تعالى ، / وفي هذا المعنى أحاديث صحاح يطول ذكرها ، وروى ابن المبارك في «رقائقه» عن محمد بن كعب القرظيّ قال : إذا استنقعت نفس العبد المؤمن ، جاءه ملك ، فقال : السلام عليك ، وليّ الله ، الله يقرىء عليك السّلام ، ثمّ نزع بهذه الآية : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ...) انتهى. (٢).

وقوله سبحانه : (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) : علّق سبحانه دخولهم الجنّة بأعمالهم ؛ من حيث جعل الأعمال أمارة لإدخال العبد الجنّة ، ولا معارضة بين الآية ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يدخل أحد الجنّة بعمله!» قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : «ولا أنا إلّا أن يتغمّدني الله بفضل منه ورحمة» (٣) ، فإن الآية تردّ بالتأويل إلى معنى الحديث.

__________________

(١) أخرجه مسلم (٤ / ٢١٦٢) كتاب «صفات المنافقين وأحكامهم» باب : جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا ، حديث (٥٦ / ٢٨٠٨) ، وأحمد (٣ / ١٢٥)

(٢) أخرجه الطبري (٧ / ٥٨٠) برقم : (٢١٥٧٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢١٩) ، وعزاه لابن أبي مالك ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ في «العظمة» ، وأبي القاسم بن منده في كتاب «الأحوال» ، والبيهقي في «شعب الإيمان».

(٣) تقدم تخريجه.

٤١٧

قال* ع (١) * : ومن الرحمة والتغمّد أن يوفّق الله العبد إلى أعمال برّة ، ومقصد الحديث نفي وجوب ذلك على الله تعالى بالعقل ؛ كما ذهب إليه فريق من المعتزلة.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(٣٥)

وقوله سبحانه : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : (يَنْظُرُونَ) : معناه : ينتظرون ، و «نظر» متى كانت من رؤية العين ، فإنما تعدّيها العرب ب «إلى» ومتى لم تتعدّ ب «إلى» ، فهي بمعنى «انتظر» ؛ ومنها : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) [الحديد : ١٣] ، ومعنى الكلام : أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم ظالمي أنفسهم.

وقوله : (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) : وعيد يتضمّن قيام الساعة ، أو عذاب الدنيا ، ثم ذكر تعالى أنّ هذا كان فعل الأمم قبلهم ، فعوقبوا.

وقوله سبحانه : (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) : أي : جزاء ذلك في الدنيا والآخرة ، و (حاقَ) : معناه : نزل وأحاط.

وقوله سبحانه : (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ...) الآية : تقدّم تفسير نظيرها في «الأنعام» ، وقولهم : (وَلا حَرَّمْنا) : يريد : من البحيرة والسّائبة والوصيلة وغير ذلك.

(وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(٤٠)

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٣٩١)

٤١٨

وقوله سبحانه : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ...) الآية : إلى قوله : (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) ، وقرأ حمزة والكسائيّ وعاصم (١) : «لا يهدي» ـ بفتح الياء وكسر الدال ـ ، وذلك على معنيين : أي : إن الله لا يهدي من قضى بإضلاله ، والمعنى الثاني : أنّ العرب تقول : هدى الرّجل ، بمعنى اهتدى.

وقوله سبحانه : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) : الضمير في (أَقْسَمُوا) لكفّار قريش ، ثم ردّ الله تعالى عليهم بقوله : (بَلى) ، فأوجب بذلك البعث ، و (أَكْثَرَ النَّاسِ) في هذه الآية : الكفّار المكذّبون بالبعث.

وقوله سبحانه : (لِيُبَيِّنَ) : التقدير : بلى يبعثه ؛ ليبيّن لهم الذي يختلفون فيه.

وقوله سبحانه : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ ...) الآية : المقصد بهذه الآية إعلام منكري البعث بهوان أمره على الله تعالى ، وقربه في قدرته ، لا رب غيره.

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)(٤٧)

وقوله سبحانه : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) : هؤلاء هم الذين هاجروا إلى أرض الحبشة ، هذا قول الجمهور ، / وهو الصحيح في سبب نزول الآية ؛ لأن هجرة المدينة لم تكن وقت نزول الآية ، والآية تتناول كلّ من هاجر أولا وآخرا ، وقرأ جماعة (٢) خارج السبع : «لنثوينّهم» ، واختلف في معنى الحسنة هنا ، فقالت فرقة : الحسنة عدّة ببقعة شريفة ، وهي المدينة ، وذهبت فرقة إلى أن الحسنة عامّة في كلّ أمر

__________________

(١) وقرأ الباقون : «فإن الله لا يهدى» بضم الياء وفتح الدال ، والمعنى أي : من أضله الله لا يهديه أحد». ينظر : «السبعة» (٣٧٢) ، و «الحجة» (٥ / ٦٤) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٧٩) ، و «إعراب القراءات» (١ / ٣٥٣) ، و «حجة القراءات» (٣٨٨) ، و «العنوان» (١١٧) ، و «شرح الطيبة» (٤ / ٤١٣) ، و «شرح شعلة» (٤٥٧) ، و «إتحاف» (٢ / ١٨٤)

(٢) وقد رويت عن علي ، وابن مسعود ، ونعيم بن ميسرة ، والربيع بن خيثم. ينظر : «المحتسب» (٢ / ٩) ، و «الكشاف» (٢ / ٦٠٧) ، و «المحرر الوجيز» (٣ / ٣٩٤) ، و «البحر المحيط» (٥ / ٤٧٧) ، و «الدر المصون» (٤ / ٣٢٧)

٤١٩

مستحسن يناله ابن آدم ، وفي هذا القول يدخل ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أنه كان يعطي المال وقت القسمة الرّجل من المهاجرين ، ويقول له : خذ ما وعدك الله في الدنيا ، ولأجر الآخرة أكبر ، ثم يتلو هذه (١) الآية ، ويدخل في هذا القول النّصر على العدوّ ، وفتح البلاد ، وكلّ أمل بلغه المهاجرون ، والضمير في (يَعْلَمُونَ) عائد على كفار قريش.

وقوله : (الَّذِينَ صَبَرُوا) : من صفة المهاجرين.

وقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) : هذه الآية ردّ على كفّار قريش الذين استبعدوا أن يبعث الله بشرا رسولا ، ثم قال تعالى : (فَسْئَلُوا) ، أي : قل لهم : (فَسْئَلُوا) ، و (أَهْلَ الذِّكْرِ) ؛ هنا : أحبار اليهود والنصارى ؛ قاله ابن عباس وغيره (٢) ، وهو أظهر الأقوال ، وهم في هذه النازلة خاصّة إنما يخبرون بأنّ الرسل من البشر ، وأخبارهم حجّة على هؤلاء ، وقد أرسلت قريش إلى يهود يثرب يسألونهم ويسندون إليهم.

وقوله : (بِالْبَيِّناتِ) : متعلّق بفعل مضمر ، تقديره : أرسلناهم بالبيّنات ، وقالت فرقة : الباء متعلّقة ب (أَرْسَلْنا) في أول الآية ، والتقدير على هذا : وما أرسلنا من قبلك بالبيّنات والزّبر إلّا رجالا ، ففي الآية تقديم وتأخير ، و (الزُّبُرِ) : الكتب المزبورة.

وقوله سبحانه : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ...) الآية.

* ت* : وقد فعل صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ، فبيّن عن الله ، وأوضح ، وقد أوتي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جوامع الكلم ، فأعرب عن دين الله ، وأفصح ، ولنذكر الآن طرفا من حكمه ، وفصيح كلامه بحذف أسانيده ، قال عياض في «شفاه» : وأما كلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم المعتاد ، وفصاحته المعلومة ، وجوامع كلمه ، وحكمه المأثورة ، فمنها ما لا يوازى فصاحة ، ولا يبارى بلاغة ؛ كقوله : «المسلمون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمّتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم» (٣) ، وقوله : «النّاس

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٥٨٦) برقم : (٢١٥٩٥) ، وذكره البغوي (٣ / ٦٩) ، وابن عطية (٣ / ٣٩٥) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥٧٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٢١) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر.

(٢) أخرجه الطبري (٧ / ٥٨٧) برقم : (٢١٦٠٢) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣٩٥) بنحوه ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٢٢) ، وعزاه لابن جرير ، وابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه الطيالسي (٢ / ٣٧ ـ منحة) ، وأحمد (٢ / ٢١١) ، وأبو داود (٣ / ١٨٣) كتاب «الجهاد» باب : في السرية ترد على أهل العسكر ، حديث (٢٧٥١) ، وابن ماجه (٢ / ٨٩٥) كتاب «الديات» باب : المسلمون تتكافأ دماؤهم ، حديث (٢٦٨٥) ، وابن الجارود في «المنتقى» (٧٧١) ، والبيهقي (٨ / ٢٩) كتاب ـ

٤٢٠