تفسير الثعالبي - ج ٣

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٣

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٩

١
٢

٣
٤

سورة الأعراف

مكّيّة ، كلها. قاله الضحاك (١) ، وغيره.

وقال مقاتل : هي مكّيّة ، إلا قوله سبحانه : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) إلى قوله : (مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) فإن هذه الآيات مدنية (٢).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (٣)

قوله جلّت عظمته : (المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) تقدم القول في تفسير الحروف المقطعة في أوائل السور ، والحرج : الضيق ومنه : الحرجة ؛ الشجر الملتف الذي قد تضايق ، والحرج هاهنا يعم الشّك ، والخوف ، والهم ، وكل ما يضيق الصدر ، والضمير في «منه» عائد على الكتاب ، أي : بسبب من أسبابه.

وقوله سبحانه : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) اعتراض في أثناء الكلام ، ولذلك قال بعض الناس : إن فيه تقديما وتأخيرا.

وقوله : (وَذِكْرى) معناه تذكرة وإرشاد.

وقوله سبحانه : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أمر يعمّ جميع الناس ، (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ) ، أي : من دون ربكم (أَوْلِياءَ) يريد : كل من عبد ، واتبع من دون الله ، و (قَلِيلاً) : نعت لمصدر نصب بفعل مضمر.

وقال مكي : هو منصوب بالفعل الذي بعده ، و «ما» (٣) في قوله : (ما تَذَكَّرُونَ) مصدرية.

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٢ / ٣٧٢)

(٢) ذكره ابن عطية (٢ / ٣٧٢)

(٣) ذكره ابن عطية (٢ / ٣٧٣)

٥

(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ)(٥)

وقوله سبحانه : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) قالت فرقة : المراد وكم من أهل قرية.

وقالت فرقة : اللفظ يتضمّن هلاك القرية وأهلها ، وهو أعظم العقوبة ، و «الفاء» في قوله سبحانه : (فَجاءَها بَأْسُنا) لترتيب القول فقط.

وقيل : المعنى أهلكناها بالخذلان ، وعدم التوفيق ، فجاءها بأسنا بعد ذلك و (بَياتاً) ، نصب على المصدر في موضع الحال ، و (قائِلُونَ) من القائلة ، وإنما خصّ وقتي الدّعة (١) والسكون ؛ لأن مجيء العذاب فيهما أفظع وأهول ؛ لما فيه من البغتة والفجأة.

قال أبو (٢) حيان : أو للتفصيل ، أي : جاء بعضهم بأسنا ليلا ، وبعضهم نهارا (٣) انتهى.

وقوله عزوجل : (فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) هذه الآية يتبيّن منها أن المراد في الآية قبلها أهل القرى ، والدعوى (٤) في كلام العرب تأتي لمعنين :

أحدهما : الدعاء ، ومنه قوله عزوجل : (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ) [الأنبياء : ١٥].

والثاني : الادّعاء ، وهذه الآية تحتمل المعنيين ، ثم استثنى سبحانه من غير الأول كأنه قال : لم يكن منهم دعاء أو ادّعاء إلّا الإقرار (٥) ، والاعتراف ، أي : هذا كان بدل الدعاء ،

__________________

(١) الدّعة : الخفض من العيش والراحة ، والهاء عوض من الواو.

ينظر : «لسان العرب» (٤٧٩٥) (ودع)

(٢) ينظر «البحر المحيط» (٤ / ٢٦٩)

(٣) ذكره ابن عطية (٢ / ٣٧٤) بنحوه.

(٤) هي قول مقبول يقصد به الإنسان إيجاب حق له على غيره ، سواء كان ذلك حال المنازعة أو لا ، وتقول العرب : ادعى كذا ادعاء : زعم أن له حقّا أو باطلا ، والاسم منه الدعوى ، والجمع : دعاوى بالفتح ، ودعاو بالكسر ، وهو الراجح عند سيبويه عند الإضافة إلى الضمير ، وغلب الكسر في دعوى النسب ، والفتح في المأدبة ، واسم المدعي يتناول في العرف من لا حجة له ، ولا يتناول من له حجة ، ولذا يقال لمسيلمة الكذاب : مدعي النبوة ، ولا يقال ذلك بالنسبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن نبوته ثبتت بالمعجزة ، فالمطالب بحقه قبل قيام حجته يسمى مدعيا ، وبعدها يسمى محقّا.

ينظر : «الدعوى» لشيخنا : عبد الحميد سليمان الدسوقي.

(٥) الإقرار لغة : إفعال ، من قرّ ـ الشيء : إذا ثبت ـ يقر ، من باب ضرب وعلم وثبت وسكن ، وأقره في مكانه : أثبته ـ

٦

والادعاء ، واعترافهم.

وقولهم : (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) هو في المدّة التي ما بين ظهور العذاب إلى إتيانه على أنفسهم ، وفي ذلك مهلة بحسب نوع العذاب تتّسع لهذه المقالة ، وغيرها.

وروى ابن مسعود ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم» (١).

(فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ)(٧)

وقوله سبحانه : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ...) الآية وعيد من الله عزوجل لجميع العالم أخبر سبحانه أنه يسأل الأمم أجمع عما بلغ إليهم عنه وعن جميع أعمالهم ، ويسأل النّبيين عما بلّغوا ، وهذا هو سؤال التقرير ، فإن الله سبحانه قد أحاط علما بكل ذلك قبل السؤال ، فأما الأنبياء والمؤمنون ، فيعقبهم جوابهم رحمة وكرامة ،

__________________

ـ بعد أن كان مزلزلا ، وأقرّ له بحقّه : أذعن واعترف ، إذا فالإقرار إثبات لما كان متزلزلا بين الإقرار والجحود.

ينظر : «الصحاح» (٢ / ٧٨٨) ، «لسان العرب» (٥ / ٣٥٨٢) ، «أنيس الفقهاء» ص : (٢٤٣).

واصطلاحا :

عرفه الشّافعية بأنه : إخبار بحقّ على المقر.

وعرفه المالكية بأنه : خبر يوجب حكم صدقه على قائله فقط بلفظه ، أو لفظ نائبه.

وعرفه الحنفية بأنه : إخبار بحق لآخر ، لا إثبات له عليه.

وعرفه الحنابلة بأنه : إظهار مكلّف مختار ما عليه بلفظ أو كتابة ، أو إشارة أخرس ، أو على موكله ، أو موليه ، أو مورثه بما يمكن صدقه.

ينظر : «حاشية الباجوري» (٢ / ٢) ، «الخرشي» (٦ / ٨٦ ـ ٨٧) ، «الدرر» (٢ / ٣٥٧) ، «منتهى الإرادات» (٢ / ٦٨٤).

ومحاسن الإقرار كثيرة منها ما يأتي.

(أ) إسقاط واجب النّاس عن ذمّته ، وقطع ألسنتهم عن مذمّته.

(ب) إيصال الحقّ إلى صاحبه ، وتبليغ المكسوب إلى كاسبه ، فكان فيه إنفاع صاحب الحقّ ، وإرضاء خالق الخلق.

(ج) إحماد النّاس المقرّ بصدق القول ، ووصفهم إيّاه بوفاء العهد ، وإنالة النول.

(د) حسن المعاملة بينه وبين غيره.

(١) أخرجه الطبري (٥ / ٤٢٩) برقم : (١٤٣٢٨) ، وذكره ابن عطية (٢ / ٣٧٤) ، وابن كثير (٢ / ٢٠١) ط : «دار إحياء الكتب العربية» ، والسيوطي (٢ / ١٢٦)

٧

وأما الكفار ، ومن نفذ عليه الوعيد من العصاة ، فيعقبهم جوابهم عذابا وتوبيخا.

* ت* : وروى أبو عمر بن عبد البرّ (١) في كتاب «فضل العلم» بسنده عن مالك أنه قال : بلغني أن العلماء يسألون يوم القيامة كما تسأل الأنبياء يعني عن تبليغ العلم / انتهى.

وخرج أبو نعيم الحافظ من حديث الأعمش ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من عبد يخطو خطوة إلا يسأل عنها ما أراد بها» (٢).

وقد ذكرنا حديث مسلم عن أبي برزة في غير هذا الموضع. وخرج الطبراني بسنده عن ابن عمر قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا كان يوم القيامة دعا الله بعبد من عباده ، فيوقفه بين يديه ، فيسأله عن جاهه ، كما يسأله عن عمله» (٣). انتهى.

وروى مالك عن يحيى بن سعيد ، قال : بلغني أن أوّل ما ينظر فيه من عمل المرء ، الصلاة ، فإن قبلت منه نظر في ما بقي من عمله ، وإن لم تقبل منه لم ينظر في شيء من عمله.

وروى أبو داود ، والترمذي ، والنّسائي ، وابن ماجه معنى هذا الحديث مرفوعا عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أول ما يحاسب به النّاس يوم القيامة من أعمالهم الصّلاة» قال : يقول ربّنا عزوجل للملائكة انظروا في صلاة عبدي أتمّها أم نقصها ، فإن كانت تامّة كتبت تامّة ، وإن كان انتقص منها شيء ، قال الله : انظروا هل لعبدي من تطوّع؟ فإن كان له تطوّع قال : أتموا لعبدي فريضته من تطوّعه ، ثم تؤخذ الأعمال (٤) على ذلك. انتهى.

واللفظ لأبي داود.

وقال النسائي : ثم سائر الأعمال تجري على ذلك انتهى من «التذكرة» (٥).

وقوله سبحانه : (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) أي : فلنسردنّ عليهم أعمالهم قصّة قصة ، (بِعِلْمٍ) أي : بحقيقة ويقين (وَما كُنَّا غائِبِينَ).

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ

__________________

(١) ينظر : «جامع بيان العلم وفضله» (١ / ٤٩٣)

(٢) أخرجه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (٨ / ٢١٢) ، عن الأعمش مرسلا.

(٣) ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠ / ٣٤٩) ، وقال : رواه الطبراني في «الصغير» ، وفيه يوسف بن يونس أخو أبي مسلم الأفطس ، وهو ضعيف جدا.

(٤) تقدم تخريجه.

(٥) ينظر : «التذكرة» (١ / ٣٧٩)

٨

فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ)(١٠)

وقوله عزوجل : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) التقدير : والوزن الحق ثابت ، أو ظاهر يومئذ ، أي يوم القيامة.

قال جمهور الأمّة : إنّ الله عزوجل أراد أن يبين لعباده أن الحساب والنظر يوم القيامة هو في غاية التحرير ، ونهاية العدل بأمر قد عرفوه في الدّنيا ، وعهدته أفهامهم ، فميزان القيامة له عمود وكفّتان على هيئة موازين الدنيا ، جمع لفظ «الموازين» ؛ إذ في الميزان موزونات كثيرة ، فكأنه أراد التّنبيه عليها.

قال الفخر (١) : والأظهر إثبات موازين في يوم القيامة لا ميزان واحد ، لظواهر الآيات ، وحمل الموازين على الموزونات ، أو على الميزان الواحد يوجبان العدول عن ظاهر اللفظ ، وذلك إنما يصار إليه عند تعذّر حمل الكلام على ظاهره ، ولا مانع هاهنا منه ، فوجب إجراء اللفظ على حقيقته ، فكما لم يمتنع إثبات ميزان له كفّتان ، فكذلك لا يمتنع إثبات موازين بهذه الصّفة ، وما الموجب لتركه ، والمصير إلى التأويل. انتهى. قال أبو حيّان (٢) : موازينه جمع باعتبار الموزونات (٣) ، وهذا على مذهب الجمهور ؛ في أن الميزان واحد.

وقال الحسن : لكل واحد ميزان (٤) ، فالجمع إذن حقيقة انتهى.

والآيات هنا البراهين والأوامر والنواهي.

وقوله سبحانه : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ ...) الآية خطاب لجميع الناس ، والمعايش : بكسر الياء دون همز جمع معيشة ، وهي لفظة تعمّ جميع المأكول الذي يعاش به ، والتحرف الذي يؤدّي إليه ، و (قَلِيلاً) نصب ب (تَشْكُرُونَ) ويحتمل أن تكون (ما) مع الفعل بتأويل المصدر ، و (قَلِيلاً) نعت لمصدر محذوف ، تقديره : شكرا قليلا شكركم ، أو شكرا قليلا تشكرون.

(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ

__________________

(١) ينظر : «تفسير الرازي» (١٤ / ٢٣)

(٢) ينظر : «البحر المحيط» (٤ / ٢٧١)

(٣) ذكره ابن عطية (٢ / ٣٧٦) بنحوه.

(٤) ذكره ابن عطية (٢ / ٣٧٦) بنحوه.

٩

مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ)(١٨)

وقوله سبحانه : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ...) الآية : هذه الآية معناها التّنبيه على مواضع العبرة ، والتعجيب من غريب الصنعة ، وإسداء النعمة.

واختلف العلماء في ترتيب هذه الآية ؛ لأن ظاهرها / يقتضي أن الخلق والتصوير لبني آدم قبل القول للملائكة أن يسجدوا ، وقد صححت الشريعة أن الأمر لم يكن كذلك ، فقالت فرقة : المراد بقوله سبحانه : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) آدم ، وإن كان الخطاب لبنيه.

وقال مجاهد : المعنى : ولقد خلقناكم ، ثم صورناكم في صلب آدم ، وفي وقت استخراج ذريّة آدم من ظهره أمثال الذّر في صورة البشر (١) ، ويترتب في هذين القولين أن تكون «ثم» على بابها في الترتيب ، والمهلة.

وقال ابن عباس ، والربيع بن أنس : أما «خلقناكم» فآدم ، وأما «صورناكم» فذريّته في بطون الأمهات (٢).

وقال قتادة ، وغيره : بل ذلك كله في بطون الأمهات من خلق ، وتصوير (٣) ، و (ثُمَ) لترتيب الأخبار بهذه الجمل لا لترتيب الجمل في أنفسها.

وقوله سبحانه : (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) تقدم الكلام على قصص الآية في «سورة البقرة».

__________________

(١) أخرجه الطبري (٥ / ٤٣٧) برقم : (١٤٣٥٦) بلفظ : «في صلب آدم» ، وذكره ابن عطية (٢ / ٣٧٨) ، وذكر نحوه البغوي (٢ / ١٥٠) بلا نسبة.

(٢) أخرجه الطبري (٥ / ٤٣٦) ، برقم : (١٤٤٣ ـ ١٤٤٤) ، وذكره ابن عطية (٢ / ٣٧٨) ، وذكره ابن كثير (٢ / ٢٠٣) بنحوه ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٣٤)

(٣) ذكره ابن عطية (٢ / ٣٧٨)

١٠

«وما» في قوله : (ما مَنَعَكَ) استفهام على جهة التوبيخ والتقريع ، و «لا» في قوله : (أَلَّا تَسْجُدَ) قيل : هي زائدة ، والمعنى : ما منعك أن تسجد ، وكذلك قال أبو حيّان (١) : إنها زائدة (٢) ، كهي في قوله تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) [الحديد : ٢٩].

قال : ويدلّ على زيادتها سقوطها في قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ) [ص : ٧٥] في «ص» انتهى. وجواب إبليس اللعين ليس بمطابق لما سئل عنه ، لكن [لما] جاء بكلام يتضمن الجواب والحجة ، فكأنه قال : منعني فضلي عليه ، إذ أنا خير منه ، وظن إبليس أنّ النار أفضل من الطين ، وليس كذلك بل هما في درجة واحدة من حيث إنهما جماد مخلوق ، ولما ظن إبليس أن صعود النار ، وخفّتها يقتضي فضلا على سكون الطين وبلادته ، قاس أن ما خلق منها أفضل مما خلق من الطين ، فأخطأ قياسه ، وذهب عليه أن الروح الذي نفخ في آدم ليس من الطّين.

وقال الطبري (٣) : ذهب عليه ما في النّار من الطّيش ، والخفّة ، والاضطراب ، وفي الطين من الوقار ، والأناة والحلم ، والتثبت وروي عن الحسن ، وابن سيرين أنهما قالا : أول من قاس إبليس ، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالقياس (٤) ، وهذا القول منهما ليس هو بإنكار للقياس (٥). وإنما خرّج كلاهما نهيا عما كان في زمانهما من مقاييس الخوارج

__________________

(١) ينظر : «البحر المحيط» (٤ / ٢٧٣)

(٢) ذكره ابن عطية (٢ / ٣٧٨) ، ولم يعزه لأحد.

(٣) ينظر : «تفسير الطبري» (٥ / ٤٤٠)

(٤) أخرجه الطبري (٥ / ٤٤١) ، برقم : (١٤٣٦٠) ، وبرقم : (١٤٣٦١) ، بلفظ : «قاس إبليس ، وهو أول من قاس» ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣٧٩) ، والبغوي (٢ / ١٥٠) ، وذكره ابن كثير (٢ / ٢٠٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٣٤) عن الحسن نحوه.

(٥) ينظر : الكلام على القياس في :

«البرهان» لإمام الحرمين (٢ / ٧٤٣) ، «البحر المحيط» للزركشي (٥ / ٥) ، «الإحكام في أصول الأحكام للآمدي» (٣ / ١٦٧) ، «سلاسل الذهب» للزركشي ص : (٣٦٤) ، «التمهيد» للأسنوي ص : (٤٦٣) ، «نهاية السول» له (٤ / ٢) ، «زوائد الأصول» له ص : (٣٧٤) ، «منهاج العقول» للبدخشي (٣ / ٣) ، «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري ص : (٢١١) ، «التحصيل من المحصول» للأرموي (٢ / ١٥٥) ، «المنخول» للغزالي ص : (٣٢٣) ، «المستصفى» له (٢ / ٢٢٨) ، «حاشية البناني» (٢ / ٢٠٢) ، «الإبهاج» لابن السبكي (٣ / ٣) ، «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (٤ / ٢) ، «حاشية العطار على جمع الجوامع» (٢ / ٢٣٩) ، «المعتمد» لأبي الحسين (٢ / ١٩٥) ، «إحكام الفصول من أحكام الأصول» للباجي ص : (٥٢٨) ، «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم (٧ / ٣٦٨) ، (٨ / ٤٨٧) ، «أعلام الموقعين» لابن القيم (١ / ١٠١) ، «التحرير» لابن الهمام ص : (٤١٥) ، «تيسير التحرير» لأمير باد شاه (٣ / ٢٦٣) «التقرير والتحبير» لابن أمير الحاج (٣ / ١١٧).

١١

وغيرهم ، فأرادا حمل الناس على الجادّة.

وقوله سبحانه : (فَاهْبِطْ مِنْها) الآية : يظهر منه أنه أهبط أولا ، وأخرج من الجنّة ، وصار في السماء ؛ لأن الأخبار تظاهرت أنه أغوى آدم وحواء من خارج الجنّة ، ثم أمر آخرا بالهبوط من السماء مع آدم ، وحواء ، والحية. وقوله : (إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) حكم عليه بضدّ معصيته التي عصى بها ، وهي الكبرياء ، فعوقب بالحمل عليه ، بخلاف شهوته ، وأمله والصّغار : الذل قاله السدي.

ومعنى : (أَنْظِرْنِي) أخّرني (١) فأعطاه الله النّظرة إلى النفخة الأولى. قاله / أكثر الناس (٢) وهو الأصح والأشهر في الشّرع.

وقوله : (فَبِما) يريد به القسم ، كقوله في الآية الأخرى : (فَبِعِزَّتِكَ) [ص : ٨٢] و (أَغْوَيْتَنِي) قال الجمهور : معناه : أضللتني من الغيّ ، وعلى هذا المعنى قال محمد بن كعب القرظي : قاتل الله القدرية لإبليس أعلم بالله منهم ، يريد في أنه علم أن الله يهدي ويضل (٣).

وقوله : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ) المعنى : لاعترضنّ لهم في طريق شرعك ، وعبادتك ، ومنهج النجاة ، فلأصدّنهم عنه.

ومنه قوله عليه‌السلام : «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه (٤) نهاه عن الإسلام ، وقال : تترك دين آبائك ، فعصاه فأسلم ، فنهاه عن الهجرة فقال : تدع أهلك وبلدك ، فعصاه فهاجر ، فنهاه عن الجهاد ، فقال : تقتل وتترك ولدك ، فعصاه فجاهد فله الجنّة (٥) ...» الحديث.

وقوله سبحانه : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا

__________________

(١) وذكره ابن عطية (٢ / ٣٧٩) ، والبغوي (٢ / ١٥١)

(٢) أخرجه الطبري (٥ / ٤٤٢) ، برقم : (١٤٣٦٥) نحوه ، وذكره ابن عطية (٢ / ٣٧٩) ، والبغوي (٢ / ١٥١)

(٣) أخرجه الطبري (٥ / ٤٤٤) ، برقم : (١٤٣٦٨) ، وذكره ابن عطية (٢ / ٣٨٠)

(٤) هي جمع طريق على التأنيث ؛ لأن الطريق تذكر وتؤنث ، فجمعه على التذكير : أطرقة : كرغيف وأرغفة ، وعلى التأنيث : أطرق ، كيمين وأيمن.

ينظر : «النهاية» (٣ / ١٣٣)

(٥) أخرجه ابن أبي شيبة (٥ / ٢٩٣) ، والنسائي (٦ / ٢١ ـ ٢٢) ، كتاب «الجهاد» ، باب : ما لمن أسلم وهاجر وجاهد ، وابن حبان (١٦٠١ ـ موارد) ، والطبراني في «الكبير» (٧ / ١٣٨) ، من حديث سبرة بن أبي الفاكه.

١٢

تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) مقصد الآية أن إبليس أخبر عن نفسه أنه يأتي إضلال بني آدم من كلّ جهة ، فعبر عن ذلك بألفاظ تقتضي الإحاطة بهم ، وفي اللفظ تجوّز ، وهذا قول جماعة من المفسرين.

قال الفخر (١) : وقوله : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) أي : على صراطك. أجمع النحاة على تقدير «على» في هذا الموضع. انتهى.

وقوله : (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) أخبر اللعين أن سعايته تفعل ذلك ظنّا منه ، وتوسّما في خلقة آدم حين رأى خلقته من أشياء مختلفة ، فعلم أنه ستكون لهم شيم تقتضي طاعته ، كالغلّ ، والحسد ، والشهوات ، ونحو ذلك.

قال ابن عباس ، وقتادة : إلا أن إبليس لم يقل : إنه يأتي بني آدم من فوقهم ، ولا جعل الله له سبيلا إلى أن يحول بينهم وبين رحمة الله وعفوه ومنّه ، وما ظنه إبليس صدقه الله عزوجل (٢).

ومنه قوله سبحانه : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [سبأ : ٢٠] فجعل أكثر العالم كفرة ، ويبيّنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصّحيح : «يقول الله عزوجل : يا آدم أخرج بعث النّار ، فيقول : يا ربّ وما بعث النّار ، فيقول : من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النّار ، وواحدا إلى الجنّة» (٣).

ونحوه مما يخصّ أمة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أنتم في الأمم إلا كالشّعرة البيضاء في الثور الأسود» (٤) و (شاكِرِينَ) معناه : مؤمنين ؛ لأن ابن آدم لا يشكر نعمة الله إلا بأن يؤمن. قاله ابن عباس وغيره(٥).

وقوله سبحانه : (اخْرُجْ مِنْها) أي : من الجنة (مَذْؤُماً) أي معيبا (مَدْحُوراً) ؛ أي : مقصيّا مبعدا.

(لَمَنْ تَبِعَكَ) بفتح اللام هي لام قسم.

__________________

(١) ينظر : «تفسير الرازي» (١٤ / ٣٢)

(٢) ينظر : «تفسير الرازي» (١٤ / ٣٢)

(٣) تقدم تخريجه.

(٤) تقدم تخريجه.

(٥) ذكره ابن عطية (٢ / ٣٨١)

١٣

وقال أبو حيان (١) : الظاهر أنها الموطّئة للقسم (٢) ، و «من» شرطية في موضع رفع بالابتداء ، وحذف جواب الشرط لدلالة جواب القسم عليه ، ويجوز أن تكون لام ابتداء ، و «من» موصولة في موضع رفع بالابتداء ، والقسم المحذوف ، وجوابه ، وهو «لأملأن» في موضع خبرها. انتهى.

وقال الفخر (٣) : وقيل / : (مَذْؤُماً) ، أي : محقورا ؛ فالمذؤوم المحتقر. قاله الليث.

وقال ابن الأنباري (٤) : المذءوم المذموم.

وقال الفرّاء : أذأمته إذا عيّبته. انتهى.

وباقي الآية بيّن. اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء ، وسوء القضاء ، ودرك الشّقاء ، وشماتة الأعداء.

(وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ)(٢١)

وقوله جل وعلا : (وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) إذا أمر الإنسان بشيء ، وهو متلبس به ، فإنما المقصد من ذلك أن يستمر على حاله ، ويتمادى في هيئته.

وقوله سبحانه لآدم : (اسْكُنْ) هو من هذا الباب ، وقد تقدّم الكلام في «سورة البقرة» على «الشّجرة» وتعيينها ، وقوله سبحانه : «هذه» قال (م) : الأصل هذي ، والهاء بدل من الياء ، ولذلك كسرت الذال ، إذ ليس في كلامهم هاء تأنيث قبلها كسرة انتهى.

__________________

(١) ينظر : «البحر المحيط» (٤ / ٢٧٨)

(٢) ذكره ابن عطية (٢ / ٣٨٢)

(٣) ينظر : «تفسير الرازي» (١٤ / ٣٧)

(٤) عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله الأنصاري ، كمال الدين الأنباري ، ولد في ٥١٣ ه‍ ، من علماء اللغة والأدب وتاريخ الرجال ، كان زاهدا عفيفا ، لا يقبل من أحد شيئا ، له مصنفات منها : «نزهة الألباء في طبقات الأدباء» ، «لمعة الأدلة» ، «الميزان» ، توفي في ٥٧٧ ه‍.

ينظر : «الفوات» (١ / ٢٦٢) ، «بغية الوعاة» (٣٠١) ، «الوفيات» (١ / ٢٧٩) ، «أدب اللغة» (٣ / ٤١) ، «الأعلام» (٣ / ٣٢٧)

١٤

وقوله عزوجل : (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) الوسوسة الحديث في إخفاء همسا وإسرارا من الصوت ، والوسواس صوت الحليّ ، فشبه الهمس به ، وسمى إلقاء الشيطان في نفس ابن آدم وسوسة ، إذ هي أبلغ الإسرار وأخفاه. هذا في حال الشيطان معنا الآن ، وأما مع آدم ، فممكن أن تكون وسوسة بمحاورة خفية ، أو بإلقاء في نفس ، واللام في «ليبدي» هي في قول الأكثرين لام الصّيرورة والعاقبة ، ويمكن أن تكون لام «كي» على بابها (١).

وما (وُورِيَ) معناه ما ستر من قولك : وارى يواري إذا ستر ، والسّوأة الفرج والدّبر ، ويشبه أن يسمى بذلك ؛ لأن منظره يسوء.

وقالت طائفة : إن هذه العبارة إنما قصد بها أنها كشفت لهما معائبهما ، وما يسوءهما ، ولم يقصد بها العورة ، وهذا القول محتمل ، إلا أن ذكر خصف الورق يردّه إلا أن يقدّر الضمير في (عَلَيْهِما) عائد على بدنيهما فيصحّ.

وقوله سبحانه : (وَقالَ ما نَهاكُما ...) الآية ، هذا القول المحكيّ عن إبليس يدخله من التأويل ما دخل الوسوسة ، فممكن أن يقول هذا مخاطبة وحوارا ، وممكن أن يقولها إلقاء في النفس ، ووحيا.

و (إِلَّا أَنْ) تقديره عند سيبويه والبصريين : إلا كراهية أن ، وتقديره عند الكوفيين : (٢) «إلا أن لا» على إضمار «لا» ، ويرجح قول البصريين أن إضمار الأسماء أحسن من إضمار الحروف.

وقرأ جمهور الناس «ملكين» بفتح اللام.

وقرأ ابن عباس : «ملكين (٣)» بكسرها ، ويؤيده قوله : (وَمُلْكٍ لا يَبْلى) [طه : ١٢٠]

__________________

(١) في هذه اللام قولان :

أظهرهما أنها لام العلة على أصلها ، لأن قصد الشيطان ذلك. وقال بعضهم : اللام للصيرورة والعاقبة ، وذلك أن الشيطان لم يكن يعلم أنهما يعاقبان بهذه العقوبة الخاصة ، فالمعنى : أن أمرهما آيل إلى ذلك. والجواب أنه يجوز أن يعلم ذلك بطريق من الطرق.

ينظر : «الدر المصون» (٣ / ٢٤٧)

(٢) وقول البصريين أولى : لأن إضمار الاسم أحسن من إضمار الحرف.

(٣) وقرأ بها يحيى بن أبي كثير ، والضحاك ، والحسن بن علي ، والزهري ، وابن حكيم.

ينظر : «الشواذ» ص : (٤٨) و «البحر المحيط» (٤ / ٢٨٠) ، و «الدر المصون» (٣ / ٢٤٨)

١٥

وقال بعض الناس : يؤخذ من هذه الألفاظ أن الملائكة أفضل من البشر ، وهي مسألة اختلف النّاس فيها ، وتمسّك كل فريق بظواهر من الشريعة ، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.

و (قاسَمَهُما) أي : حلف لهما بالله ، وهي مفاعلة ، إذ قبول المحلوف له اليمين كالقسم.

(فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ)(٢٥)

وقوله عزوجل : (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) قال : * ع (١) * : يشبه عندي أن تكون هذه استعارة من الرّجل يدلي آخر من هوّة بحبل قد أرم أو سبب ضعيف يغترّ به ، فإذا تدلّى به ، وتورك عليه ، انقطع به ، وهلك ، فيشبه الذي يغرّ بالكلام حتى يصدقه ، فيقع في مصيبة بالذي يدلي من هوة بسبب ضعيف.

وقوله سبحانه : (بَدَتْ) قيل : تمزقت عنهما ثياب الجنة وملابسها ، وتطايرت تبرّيا منهما ، و (يَخْصِفانِ) معناه : يلصقانها ، والمخصف الإشفى (٢) وضم الورق بعضه إلى بعض أشبه بالخرز منه بالخياطة.

قال البخاري : يخصفان يؤلفان الورق بعضه إلى بعض / انتهى. وهو معنى ما تقدم.

وروى أبيّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن آدم عليه‌السلام كان يمشي في الجنة كأنه النخلة السّحوق (٣) فلما أكل من الشجرة وبدت له حاله فرّ على وجهه ، فأخذت شجرة بشعر رأسه ، فقال لها : «أرسليني» فقالت : ما أنا بمرسلتك ، فناداه ربه جلّ وعلا أمنّي تفرّ يا آدم؟ فقال : لا يا ربّ ، ولكن أستحييك ، فقال : أما كان لك فيما منحتك من الجنة مندوحة عما حرمت عليك. قال : بلى يا رب ، ولكن وعزّتك ما ظننت أن أحدا يحلف بك كاذبا ، قال :

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٢ / ٣٨٥)

(٢) الإشفى : فعلى ، وهو أداة للإسكاف ، والجمع : أشافي.

ينظر : «لسان العرب» (٨٥) (أشف)

(٣) أي : الطويلة التي بعد ثمرها على المجتني. ينظر : «النهاية» (٢ / ٣٤٧)

١٦

فبعزّتي لأهبطنك إلى الأرض ، ثم لا تنال العيش إلا كدّا (١).

وقوله : (عَنْ تِلْكُمَا) بحسب اللفظ أنه إنما أشار إلى شجرة مخصوصة ، (وَأَقُلْ لَكُما : إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) إشارة إلى الآية التي في «طه» في قوله : (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) [طه : ١١٧] وهذا هو العهد الذي نسيه آدم على مذهب من جعل النسيان على بابه ، وقولهما : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) اعتراف من آدم وحواء عليهما‌السلام وطلب للتوبة ، والستر ، والتغمّد بالرحمة ، فطلب آدم هذا ، فأجيب ، وطلب إبليس النّظرة ، ولم يطلب التّوبة ، فوكل إلى سوء رأيه.

قال الضحاك وغيره : هذه الآية هي الكلمات التي تلقى آدم من ربّه ، وقوله عزوجل : (قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) المخاطبة بقوله : (اهْبِطُوا).

قال : أبو صالح ، والسدي ، والطبري ، وغيرهم : هي لآدم ، وحوّاء ، وإبليس ، والحية.

وقالت فرقة : هي مخاطبة لآدم وذريته ، وإبليس وذريته.

قال* ع* (٢) : وهذا ضعيف لعدمهم في ذلك الوقت.

ت : وما ضعفه رحمه‌الله صحّحه في «سورة البقرة» ، فتأمله هناك ، وعداوة الحية معروفة.

روى قتادة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما سالمناهنّ منذ حاربناهنّ» (٣).

(يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)(٢٦)

وقوله سبحانه : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ) الآية خطاب لجميع الأمم وقت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والسّبب والمراد : قريش ، ومن كان من العرب يتعرّى في طوافه بالبيت.

__________________

(١) تقدم تخريجه في أوائل سورة البقرة.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٢ / ٣٨٧)

(٣) ورد هذا الحديث مسندا من حديث أبي هريرة ، وابن عباس.

حديث أبي هريرة : أخرجه أبو داود (٢ / ٧٨٥) ، كتاب «الأدب» ، باب : في قتل الحيات ، حديث (٥٢٤٨) ، وأحمد (٢ / ٢٣٢ ، ٢٤٧ ، ٥٢٠) ، وابن حبان (١٠٧٩ ـ موارد) ، وابن ماجه (٣٢٢٤) ، والدارمي (٢ / ٨٨ ـ ٨٩) ، والبيهقي (٩ / ٣١٧). أما حديث ابن عباس : أخرجه أبو داود (٢ / ٧٨٥) : كتاب «الأدب» ، باب : في قتل الحيات ، حديث (٥٢٥٠) ، وعبد الرزاق (١٠ / ٤٣٤) برقم : (١٩٦١٧)

١٧

قال مجاهد : ففيهم نزلت هذه الأربع آيات (١).

وقوله : (أَنْزَلْنا) يحتمل التّدريج أي : لما أنزل المطر ، فكان عنه جميع ما يلبس ، ويحتمل أن يريد ب (أَنْزَلْنا) خلقنا ، كقوله : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الزمر : ٦] ، (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) [الحديد : ٢٥] و (لِباساً) عام في جميع ما يلبس ، و (يُوارِي) : يستر.

وقرأ الجمهور : «وريشا» ، وقرأ عاصم ، وأبو عمرو «ورياشا» وهما عبارتان عن سعة الرزق ، ورفاهة العيش ، وجودة الملبس والتمتع.

وقال البخاري : قال ابن عباس : وريشا : المال انتهى (٢).

وقرأ نافع (٣) ، وغيره : «ولباس» بالنصب.

وقرأ حمزة ، وغيره بالرفع. وقوله : (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) إشارة إلى جميع ما أنزل الله من اللّباس والرّيش. وحكى النّقّاش : أن الإشارة إلى لباس التّقوى ؛ أي : هو في العبد آية ؛ أي : علامة وأمارة من الله تعالى أنه قد رضي عنه ، ورحمه.

وقال ابن عبّاس : لباس التقوى هو السّمت الحسن (٤) في الوجه. وقاله عثمان بن عفان على المنبر.

وقال ابن عبّاس أيضا : هو العمل الصالح (٥).

وقال عروة بن الزبير : هو خشية الله (٦) وقيل : هو لباس الصوف ، وكل ما فيه تواضع لله عزوجل.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٥ / ٤٥٥) برقم : (١٤٤٢٥) ، وذكره ابن عطية (٢ / ٣٨٨)

(٢) أخرجه البخاري معلقا بصيغة الجزم (٦ / ٤١٦) : كتاب «أحاديث الأنبياء» ، باب : «خلق آدم وذريته» ، وقال ابن حجر : «هو قول ابن عباس ، ووصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه» ، والطبري (٥ / ٤٥٧) برقم : (١٤٤٣٣) ، وذكره ابن عطية (٢ / ٣٨٩) ، والبغوي (٢ / ١٥٤) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٤١) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.

(٣) وقرأ بها ابن عامر والكسائي. عطفوا على الريش ، والمعنى : وأنزلنا عليكم لباس التقوى.

ينظر : «السبعة» (٢٨٠) ، و «الحجة» (٤ / ١٢) ، و «حجة القراءات» (٢٨٠) ، و «إعراب القراءات» (١ / ١٧٨) ، و «العنوان» (٩٥) ، «شرح الطيبة» (٤ / ٢٩٣) ، «شرح شعلة» (٣٨٧) ، «إتحاف» (١ / ٤٦) ، «معاني القراءات» (١ / ٤٠٣)

(٤) أخرجه الطبري (٥٠ / ٤٥٨) برقم : (١٤٤٤٩) ، وذكره ابن عطية (٢ / ٣٨٩) ، والسيوطي (٣ / ١٤٢)

(٥) أخرجه الطبري (٥ / ٤٥٨) برقم : (١٤٤٤٩) وذكره ابن عطية (٢ / ٣٨٩) ، والبغوي (٢ / ١٥٥)

(٦) أخرجه الطبري (٥ / ٤٥٩) برقم : (١٤٤٥٢) ، وذكره ابن كثير (٢ / ٢٠٧)

١٨

وقال الحسن (١) : هو الورع.

وقال معبد الجهني : هو (٢) الحياء.

وقال ابن عبّاس أيضا : لباس التقوى العفة (٣).

قال* ع* (٤) وهذه كلها مثل ، وهي من لباس التقوى ، و (لَعَلَّهُمْ) ترجّ بحسبهم ، ومبلغهم من المعرفة.

(يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)(٢٧)

وقوله عزوجل : (يا بَنِي آدَمَ / لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) الآية : خطاب لجميع العالم ، والمقصود بها في ذلك الوقت من كان يطوف من العرب بالبيت عريانا.

قيل : كانت العرب تطوف عراة إلا الحمس (٥) ، وهم قريش ، ومن والاها ، وهذا هو الصحيح ، ثم نودي ب «مكة» في سنة تسع : لا يحجّ بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان (٦) والفتنة في هذه الآية الاستهواء ، والغلبة على النفس ، وأضاف الإخراج في هذه الآية إلى إبليس تجوّزا لما كان هو السّبب في ذلك.

قال أبو حيان (٧) : (كَما أَخْرَجَ) «كما» في موضع نصب ، أي : فتنة مثل فتنة إخراج أبويكم انتهى.

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٢ / ٣٨٩) وزاد فيه : «والسمت والحسن في الدنيا».

(٢) أخرجه الطبري (٥ / ٤٥٨) برقم : (١٤٤٤٦) ، وذكره ابن عطية (٢ / ٣٨٩) ، والسيوطي (٣ / ١٤٢)

(٣) ذكره ابن عطية (٢ / ٣٨٩)

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٢ / ٣٨٩)

(٥) الحمس : جمع الأحمس ، وهم قريش ومن ولدت قريش ، وكنانة وجديلة قيس ، سمّوا حمسا لأنهم تحمسوا في دينهم ، أي : تشددوا. والحماسة : الشجاعة.

ينظر : «النهاية (١ / ٤٤٠)

(٦) أخرجه البخاري (٣ / ٤٨٣) : كتاب «الحج» ، باب : لا يطوف بالبيت عريان ، الحديث (١٦٢٢) ، ومسلم (٢ / ٩٨٢) : كتاب «الحج» ، باب : لا يحج البيت مشرك ، الحديث (٤٣٥ / ١٣٤٧) واللفظ له ، من حديث أبي هريرة قال : «بعثني أبو بكر الصديق رضي الله عنه في الحجّة التي أمّره عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قبل حجة الوداع في رهط يؤذنون في الناس يوم النحر : لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان».

(٧) ينظر : «البحر المحيط» (٤ / ٢٨٤)

١٩

وقوله سبحانه : (إِنَّهُ يَراكُمْ ...) الآية زيادة في التحذير ، وإعلام بأن الله عزوجل قد مكّن إبليس من بني آدم في هذا القدر ، وبحسب ذلك يجب أن يكون التّحرّز بطاعة الله عزوجل وقبيل الشيطان يريد نوعه ، وصنفه ، وذريته ، والشيطان موجود ، وهو جسم.

قال النووي (١) : وروينا في كتاب ابن السّني عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ستر ما بين أعين الجنّ وعورات بني آدم أن يقول الرّجل المسلم إذا أراد أن يطرح ثيابه : بسم الله الذي لا إله إلّا هو» (٢) انتهى.

وعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ستر ما بين الجنّ وعورات بني آدم إذا دخلوا الكنف أن يقولوا : بسم الله».

رواه الترمذي ، وقال : إسناده ليس بالقويّ (٣).

قال النووي : قال العلماء من المحدثين والفقهاء وغيرهم : يجوز ويستحبّ العمل في الفضائل ، والترغيب ، والترهيب بالحديث الضعيف ما لم يكن موضوعا وأما الأحكام كالحلال ، والحرام ، والبيع ، والنكاح ، والطلاق ، وغير ذلك فلا يعمل فيها إلا بالحديث الصحيح (٤) ، أو الحسن (٥) إلا أن يكون في احتياط في شيء من ذلك ، كما إذا ورد حديث

__________________

(١) ينظر : «الأذكار» ص : (٥١)

(٢) أخرجه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» برقم : (٢٧٤) من حديث أنس مرفوعا به.

(٣) أخرجه الترمذي (٢ / ٥٠٣ ـ ٥٠٤) : كتاب «الصلاة» ، باب : ما ذكر من التسمية عند دخول الخلاء ، حديث (٦٠٦) ، وابن ماجه (١ / ١٠٩) : كتاب «الطهارة» ، باب : ما يقول الرجل إذا دخل الخلاء ، حديث (٢٩٧) من حديث علي ، وقال الترمذي : إسناده ليس بالقوي.

(٤) الصحيح : في اللغة فعيل بمعنى فاعل من الصحة ، وهي ذهاب المرض والبراءة من كل عيب.

وفي اصطلاح المحدثين يختلف عند المتقدمين وعند المتأخرين.

أما عند المتقدمين فقال الخطابي : الصحيح : ما اتصل سنده وعدلت نقلته.

وأما الصحيح لذاته عند المتأخرين ، فقال ابن الصلاح : هو الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه ، ولا يكون شاذا ولا معللا.

والصحيح لغيره : هو الحديث الذي لم يكن صحيحا لذاته وارتقى إلى درجة الصحيح بجابر يجبر القصور فيه ، وذلك هو الحديث الحسن لذاته إذا جبر بجابر بأن تقوى بمتابع أو شاهد مساو أو راجح أو بأكثر من طريق إن كان أدنى. وعليه فنقول إنه :

هو ما اتصل سنده بنقل عدل قلّ ضبطه عن الدرجة العليا للضبط وتوبع بطريق آخر مساو أو راجح أو بأكثر من طريق إن كان أدنى وكان غير شاذ ولا معل.

ينظر : «غيث المستغيث» ص : (٣٢ ، ٣٣ ، ٣٥)

(٥) الحسن : في اللغة الجمال ، والحسن الجميل.

٢٠