تفسير الثعالبي - ج ٣

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٣

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٩

بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ)(٧)

وقوله سبحانه : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) ، المعنى : وإن تعجب ، يا محمّد ، من جهالتهم وإعراضهم عن الحقّ ، فهم أهل لذلك ، وعجب غريب قولهم : أنعود بعد كوننا ترابا ، خلقا جديدا ؛ (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) ؛ لتصميمهم على الجحود وإنكارهم للبعث ، (وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) : أي : في الآخرة ، ويحتمل أن يكون خبرا عن كونهم مغلّلين عن الإيمان ؛ كقوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ) [يس : ٨].

وقوله سبحانه : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ...) الآية : تبيين لخطئهم كطلبهم سقوط كسف من السماء ، وقولهم : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [الأنفال : ٣٢] ونحو هذا مع نزول ذلك بأناس كثير ، وقرأ الجمهور (١) : (الْمَثُلاتُ) ـ بفتح الميم وضم الثاء ـ ، وقرأ مجاهد (٢) «المثلات» ـ بفتح الميم والثاء ـ أي : الأخذة الفذّة بالعقوبة ، ثم رجّى سبحانه بقوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) ، ثم خوّف بقوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) : قال ابن المسيّب : لما نزلت هذه الآية ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو لا عفو الله ومغفرته ما تهنّأ أحد عيشا ، ولو لا عقابه لاتّكل كلّ أحد» (٣) ، وقال ابن عبّاس : ليس في القرآن أرجى من هذه الآية (٤) : و (الْمَثُلاتُ) : هي العقوبات المنكّلات التي تجعل الإنسان مثلا يتمثّل به ؛ ومنه التمثيل بالقتلى ؛ ومنه : المثلة بالعبيد.

ويقولون : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) : هذه من اقتراحاتهم ، / والآية هنا يراد بها الأشياء التي سمّتها قريش ؛ كالملك ، والكنز ، وغير ذلك ، ثم أخبر تعالى بأنه منذر وهاد ، قال عكرمة ، وأبو الضّحى : المراد ب «الهادي» محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٥) ؛ ف «هاد» عطف على «منذر» ؛

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٢٩٦) ، و «الدر المصون» (٤ / ٢٢٨)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٢٩٦) ، و «البحر المحيط» (٥ / ٣٥٩) ، وزاد نسبتها إلى الأعمش ، وهي في «الدر المصون» (٤ / ٢٢٨)

(٣) ذكره العراقي في «تخريج الإحياء» (٤ / ١٤٧) ، وعزاه لابن أبي حاتم ، والثعلبي.

(٤) ذكره ابن عطية (٣ / ٢٩٦)

(٥) أخرجه الطبري (٧ / ٣٤٢) برقم : (٢٠١٣٩) ، وذكره البغوي (٣ / ٨) ، وابن عطية (٣ / ٢٩٧)

٣٦١

كأنه قال : إنما أنت منذر وهاد لكلّ قوم ، و «هاد» ؛ على هذا التأويل : بمعنى داع إلى طريق الهدى ، وقال مجاهد وابن زيد : المعنى : إنما أنت منذر ، ولكلّ أمّة سلفت هاد ، أي : نبيّ يدعوهم (١) ، أي : فليس أمرك يا محمّد ببدع ، ولا منكر ، وهذا يشبه غرض الآية ، وقالت فرقة : «الهادي» في هذه الآية : الله عزوجل ، والألفاظ تقلق بهذا المعنى ، ويعرف أنّ الله تعالى هو الهادي من غير هذا الموضع ، والقولان الأولان أرجح ما تؤوّل في الآية.

(اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ)(١١)

وقوله سبحانه : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) : هذه الآيات أمثال منبّهات على قدرة الله تعالى القاضية بتجويز البعث ، (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) : معناه : ما تنقص ، ثم اختلف المتأوّلون في صورة الزّيادة والنّقصان ، وجمهور المتأوّلين على أنّ غيض الرحم هو نقص الدم على الحمل ، وقال الضّحّاك : غيض الرّحم : أن تسقط المرأة الولد ، والزيادة أن تضعه لمدّة كاملة ، ونحوه لقتادة (٢).

وقوله : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) : عامّ في كل ما يدخله التقدير ، و (الْغَيْبِ) : ما غاب عن الإدراكات ، و (الشَّهادَةِ) : ما شوهد من الأمور.

وقوله : (الْكَبِيرُ) : صفة تعظيم ، و (الْمُتَعالِ) : من العلو.

وقوله سبحانه : (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ ...) الآية : أي : لا يخفى على الله شيء ، وال (سارِبٌ) ؛ في اللغة : المتصرّف كيف شاء.

وقوله سبحانه : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) : المعنى : جعل الله للعبد معقّبات يحفظونه في كلّ حال من كلّ ما جرى القدر باندفاعه ،

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٣٤٣) برقم : (٢٠١٤٩ ، ٢٠١٥٤) وبرقم : (٢٠١٥٦) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٢٩٧) ، وابن كثير (٢ / ٥٠١)

(٢) أخرجه الطبري (٧ / ٣٤٧) برقم : (٢٠١٩٤) وبرقم : (٢٠١٨٨) بلفظ مختلف فقال : (ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) ما تنقص من التسعة (وما تزداد) أي : ما فوق التسعة ، وذكره ابن عطية (٣ / ٢٩٨) ، وابن كثير (٢ / ٥٠٢) ، والسيوطي (٤ / ٨٧ ـ ٨٨) ، وعزاه لابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ.

٣٦٢

فإذا جاء المقدور الواقع ، أسلم المرء إليه ، وال (مُعَقِّباتٌ) ؛ على هذا التأويل : الحفظة على العباد أعمالهم ، والحفظة لهم أيضا ؛ قاله الحسن (١) ، وروي فيه عن عثمان بن عفّان حديثا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا أقوى التأويلات في الآية ، وعبارة البخاريّ : (مُعَقِّباتٌ) : ملائكة حفظة يعقب الأوّل منها الآخر. انتهى.

وقالت فرقة : الضمير في «له» عائد على اسم الله المتقدّم ذكره ، أي : لله معقّبات يحفظون عبده ، والضمير في قوله : (يَدَيْهِ) وما بعده من الضمائر عائد على العبد ، ثم ذكر سبحانه أنه لا يغيّر هذه الحالة من الحفظ للعبد ؛ حتّى يغير العبد ما بنفسه ، وال (مُعَقِّباتٌ) : الجماعات التي يعقب بعضها بعضا ، وهي الملائكة ، وينظر هذا إلى قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يتعاقب فيكم ملائكة باللّيل وملائكة بالنّهار ...» (٢) الحديث ، وفي قراءة أبيّ بن كعب : «من بين يديه / ورقيب من خلفه» ، وقرأ ابن (٣) عباس : «ورقباء من خلفه يحفظونه بأمر الله» ، وقوله : (يَحْفَظُونَهُ) : أي : يحرسونه ويذبّون عنه ، ويحفظون أيضا أعماله ، ثم أخبر تعالى ؛ أنه إذا أراد بقوم سوءا ، فلا مردّ له ، ولا حفظ منه.

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ) (١٤)

وقوله سبحانه : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ ...) الآية : قد تقدّم في أول البقرة تفسيره ، والظاهر أنّ الخوف إنما هو من صواعق البرق ، والطّمع في الماء الذي يكون معه ، وهو قول الحسن (٤) ، و (السَّحابَ) : جمع سحابة ؛ ولذلك جمع الصفة ، و (الثِّقالَ) : معناه : بحمل الماء ، قاله قتادة ومجاهد (٥) ، والعرب تصفها بذلك ، وروى أبو هريرة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا سمع الرّعد ، قال : «سبحان من يسبّح الرّعد بحمده» (٦) ، وقال ابن أبي

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٣ / ٣٠٠) ، والسيوطي (٤ / ٩٠) ، وعزاه لابن جرير.

(٢) تقدم تخريجه.

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٣٠٢) ، و «البحر المحيط» (٥ / ٣٦٤)

(٤) ذكره ابن عطية (٣ / ٣٠٣)

(٥) أخرجه الطبري (٧ / ٣٥٩) برقم : (٢٠٢٥٣) وبرقم : (٢٠٢٥٤ ، ٢٠٢٥٨) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣٠٣) ، وابن كثير (٢ / ٥٠٥) ، والسيوطي (٤ / ٩٥) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٣٦٠) برقم : (٢٠٢٦٠) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٩٧) ،

٣٦٣

زكرياء : من قال إذا سمع الرعد : سبحان الله ، وبحمده ، لم تصبه صاعقة.

* ت* : وعن عبد الله بن عمر ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سمع الرّعد والصّواعق ، قال : «اللهمّ ، لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا قبل ذلك» (١) ، رواه الترمذيّ والنسائي والحاكم في «المستدرك» ، ولفظهم واحد انتهى من «السلاح» ، قال الداوديّ : وعن ابن عبّاس ، قال : من سمع الرعد ، فقال : «سبحان الذي يسبّح الرعد بحمده ، والملائكة من خيفته ، وهو على كلّ شيء قدير» ، فإن أصابته صاعقة ، فعليّ ديته ، انتهى.

وقوله سبحانه : (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ ...) الآية : قال ابن جريج : كان سبب نزولها قصّة أربد ، وعامر بن الطّفيل ، سألا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجعل الأمر بعده لعامر بن الطّفيل ، ويدخلا في دينه ، فأبى عليه‌السلام ثم تآمرا في قتل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال عامر لأربد : أنا أشغله لك بالحديث ، واضربه أنت بالسّيف ، فجعل عامر يحدّثه ، وأربد لا يصنع شيئا ، فلما انصرفا ، قال له عامر : والله ، يا أربد ، لا خفتك أبدا ، ولقد كنت أخافك قبل هذا ، فقال له أربد : والله ، لقد أردت إخراج السّيف ، فما قدرت على ذلك ، ولقد كنت أراك بيني وبينه ، أفأضربك ، فمضيا للحشد على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأصابت أربد صاعقة ، فقتلته ، و (الْمِحالِ) : القوّة والإهلاك.

* ت* : وفي «صحيح البخاري» : (الْمِحالِ) : العقوبة.

وقوله عزوجل : (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) : الضمير في «له» عائد على اسم الله عزوجل.

قال ابن عبّاس : و (دَعْوَةُ الْحَقِ) : «لا إله إلا الله» (٢) ، يريد : وما كان من الشريعة في معناها.

__________________

ـ وزاد نسبته إلى ابن مردويه.

(١) أخرجه الترمذي (٥٠ / ٤٦٩) كتاب «الدعوات» باب : ما يقول إذا سمع الرعد ، حديث (٣٤٥٠) ، وأحمد (٢ / ١٠٠) ، والنسائي في «الكبرى» (٦ / ٢٣٠) كتاب «عمل اليوم والليلة» باب : ما يقول إذا سمع الرعد والصواعق ، حديث (١٠٧٦٣ ـ ١٠٧٦٤) ، والحاكم (٤ / ٢٨٦) ، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» برقم : (٢٩٨) من حديث ابن عمر ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٩٧) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وأبي الشيخ ، والخرائطي في «مكارم الأخلاق».

(٢) أخرجه الطبري (٧ / ٣٦٣ ـ ٣٦٤) برقم : (٢٠٢٨٠ ـ ٢٠٢٨١) ، وذكره البغوي (٣ / ١٢) ، وابن عطية (٣ / ٣٠٥) ، وابن كثير (٢ / ٥٠٧) ، والسيوطي (٤ / ١٠١) ، وعزاه لعبد الرزاق ، والفريابي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ.

٣٦٤

وقوله : (وَالَّذِينَ) : يراد به ما عبد من دون الله ، والضّمير في (يَدْعُونَ) لكفّار قريش وغيرهم ، ومعنى الكلام : والذين يدعونهم الكفّار في حوائجهم ومنافعهم لا يجيبونهم بشيء إلّا ، ثمّ مثّل سبحانه مثالا لإجابتهم بالذي يبسط كفّيه نحو الماء ، ويشير إليه بالإقبال إلى فيه ، فلا / يبلغ فمه أبدا ، فكذلك إجابة هؤلاء والانتفاع بهم لا يقع.

وقوله : (هُوَ) : يريد به الماء ، وهو البالغ ، والضمير في (بِبالِغِهِ) للفم ، ويصحّ أن يكون هو يراد به الفم ، وهو البالغ أيضا ، والضمير في (بِبالِغِهِ) للماء ؛ لأن الفم لا يبلغ الماء أبدا على تلك الحال ، ثم أخبر سبحانه عن دعاء الكافرين ؛ أنه في انتلاف وضلال لا يفيد.

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦) أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ (١٧) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ)(١٨)

وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) الآية : تنبيه على قدرته وعظمته سبحانه ، وتسخير الأشياء له ، والطّعن على الكفّار التاركين للسّجود ، و (مَنْ) : تقع على الملائكة عموما ، و «سجودهم» : طوع ، وأما أهل الأرض ، فالمؤمنون داخلون في (مَنْ) ، وسجودهم أيضا طوع ، وأما سجود الكفرة ، فهو الكره ، وذلك على معنيين ، فإن جعلنا السجود هذه الهيئة المعهودة ، فالمراد من الكفرة من أسلم ، خوف سيف الإسلام ؛ كما قاله قتادة (١) ، وإن جعلنا السّجود الخضوع والتذلّل ، حسب ما هو في اللغة ، فيدخل الكفّار أجمعون في (مَنْ) ؛ لأنه ليس من كافر إلا ويلحقه من التذلّل والاستكانة لقدرة الله تعالى أنواع أكثر من أن تحصى بحسب رزاياه ، واعتباراته.

وقوله سبحانه : (وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) : إخبار عن أنّ الظّلال لها سجود لله

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٣ / ٣٠٦) ، والسيوطي (٤ / ١٠١) ، وعزاه لابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ.

٣٦٥

تعالى ؛ كقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ ...) الآية [النحل : ٤٨] ، وقال مجاهد : ظلّ الكافر يسجد طوعا ، وهو كاره (١) وروي أن الكافر إذا سجد لصنمه ، فإن ظلّه يسجد لله حينئذ ، وباقي الآية بيّن ، ثم مثّل الكفّار والمؤمنين بقوله : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) ، وشبه الكافر بالأعمى ، والكفر بالظلمات ، وشبه المؤمن بالبصير ، والإيمان بالنور.

وقوله سبحانه : (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) : لفظ عامّ يراد به الخصوص ؛ كما تقدم ذكره في غير هذا الموضع.

وقوله سبحانه : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) : يريد به المطر ، (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) : «الأودية» : ما بين الجبال من الانخفاض والخنادق ، وقوله : (بِقَدَرِها) : يحتمل أن يريد بما قدّر لها من الماء ، ويحتمل أن يريد بقدر ما تحمله على قدر صغرها وكبرها.

* ت* : وقوله : (فَاحْتَمَلَ) بمعنى : حمل ، كاقتدر وقدر قاله* [ص] *.

و (الزَّبَدُ) ما يحمله السيل من غثاء ونحوه ، و «الرابي» : المنتفخ الذي قد ربا ، ومنه الرّبوة.

وقوله سبحانه : (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ) : المعنى : ومن الأشياء التي توقدون عليها ابتغاء الحليّ ، وهي الذهب والفضّة ، أو ابتغاء الاستمتاع بها في المرافق ، وهي الحديد والرّصاص والنّحاس ونحوها من الأشياء التي توقدون عليها ، فأخبر تعالى أنّ من هذه أيضا إذا أحمي عليها يكون لها زبد مماثل للزّبد الذي يحمله السّيل ، ثم ضرب سبحانه ذلك مثلا للحقّ والباطل ، أي : إن الماء الذي / تشربه الأرض من السيل ، فيقع النفع به هو كالحقّ ، والزّبد الذي يخمد وينفش ويذهب هو كالباطل ، وكذلك ما يخلص من الذّهب والفضّة والحديد ونحوه هو كالحقّ ، وما يذهب في الدّخان هو كالباطل.

وقوله : (جُفاءً) : مصدر من قولهم : «أجفأت القدر» إذا غلت حتى خرج زبدها وذهب.

وقال* ص* : (جُفاءً) : حال ، أي : مضمحلّا متلاشيا ، أبو البقاء : وهمزته منقلبة

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٣٦٧) برقم : (٢٠٣٠٢) ، وذكره البغوي (٣ / ١٢) ، وابن عطية (٣ / ٣٠٦) ، والسيوطي (٤ / ١٠٢) ، وعزاه لابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ بنحوه.

٣٦٦

عن واو ، وقيل : أصل. انتهى.

وقوله : (ما يَنْفَعُ النَّاسَ) : يريد الخالص من الماء ومن تلك الأحجار.

وقوله سبحانه : (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) : ابتداء كلام ، و (الْحُسْنى) : الجنة. (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا) : هم الكفرة ، و (سُوءُ الْحِسابِ) : هو التقصّي على المحاسب ، وألّا يقع في حسابه من التجاوز شيء ؛ قاله شهر بن حوشب والنّخعيّ وفرقد السبخيّ وغيرهم (١).

(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)(٢٥)

وقوله سبحانه : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى ...) المعنى : أسواء من هداه الله ، فعلم صدق نبوّتك ، وآمن بك ؛ كمن هو أعمى البصيرة باق على كفره ؛ روي أنّ هذه الآية نزلت في حمزة بن عبد المطّلب ، وأبي جهل ، وهي بعد هذا مثال في جميع العالم ، (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) : «إنما» ؛ في هذه الآية : حاصرة ، أي : إنما يتذكّر ، فيؤمن ويراقب الله من له لبّ ، ثم أخذ في وصفهم ، فقال : (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ ...) الآية : قال الثعلبيّ : قال عبد الله بن المبارك : هذه ثمان خلال مسيّرة إلى ثمانية أبواب الجنة (٢) ، وقال أبو بكر الورّاق : هذه ثمان جسور ، فمن أراد القربة من الله عبرها. انتهى. وباقي الآية ألفاظها واضحة ، وأنوارها لذوي البصائر لائحة.

(وَيَدْرَؤُنَ) : يدفعون.

قال الغزاليّ : لما ذكر هذه الآية : والذي آثر غرور الدنيا على نعيم الآخرة ، فليس من

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٣٧٣) برقم : (٢٠٣٢٦) ، وذكره البغوي (٣ / ١٤) ، وابن عطية (٣ / ٣٠٨) ، والسيوطي (٤ / ١٠٥) ، وعزاه لسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، ولسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وأبي الشيخ.

(٢) ذكره البغوي (٣ / ١٦)

٣٦٧

ذوي الألباب ، ولذلك لا تنكشف له أسرار الكتاب ، انتهى.

و (جَنَّاتُ) : بدل من (عُقْبَى) وتفسير لها ، و (عَدْنٍ) : هي مدينة الجنّة ووسطها ، ومعناها : جنّات الإقامة ؛ من عدن في المكان ، إذا أقام فيه طويلا ، ومنه المعادن ، و (جَنَّاتُ عَدْنٍ) : يقال : هي مسكن الأنبياء والشّهداء والعلماء فقط ؛ قاله عبد الله بن عمرو بن العاص (١) ، ويروى أنّ لها خمسة آلاف باب ، وقوله : (وَمَنْ صَلَحَ) : أي : عمل صالحا ، (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) : أي : يقولون : سلام عليكم ، والمعنى : هذا بما صبرتم ، وباقي الآية واضح.

وقوله سبحانه : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ ...) الآية : هذه صفة حال مضادّة للمتقدّمة ـ نعوذ بالله من سخطه ـ.

(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ)(٢٩)

وقوله تعالى : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ ...) الآية : لما أخبر عمّن تقدّم وصفه بأنّ لهم اللعنة وسوء الدار ، أنحى بعد ذلك على أغنيائهم ، / وحقّر شأنهم وشأن أموالهم ، المعنى : إنّ هذا كلّه بمشيئة الله يهب الكافر المال ؛ لهلكه به ، ويقدر على المؤمن ؛ ليعظم ذلك أجره وذخره.

وقوله : (وَيَقْدِرُ) : من التّقدير المناقض للبسط والاتساع.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ...) الآية : رد على مقترحي الآيات من كفّار قريش ؛ كما تقدّم.

وقوله سبحانه : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) : «الذين» : بدل من «من» في قوله : (مَنْ أَنابَ) ، وطمأنينة القلوب هي الاستكانة والسرور بذكر الله ، والسكون به ، كمالا به ، ورضا بالثواب عليه ، وجودة اليقين ، ثم قال سبحانه : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) : أي : لا بالآيات المقترحة التي ربّما كفر بعدها ؛ فنزل العذاب ، و «الذين» الثاني :

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٣٧٦) برقم : (٢٠٣٤١) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣١٠) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ١٥٠)

٣٦٨

مبتدأ ، وخبره (طُوبى) لهم.

واختلف في معنى (طُوبى) ، فقال ابن عباس : (طُوبى) : اسم الجنّة بالحبشيّة (١) ، وقيل : (طُوبى) : اسم الجنّة بالهنديّة ، وقيل : (طُوبى) : اسم شجرة في الجنّة ، وبهذا تواترت الأحاديث ؛ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «طوبى اسم شجرة في الجنّة يسير الرّاكب المجدّ في ظلّها مائة عام لا يقطعها ...» (٢) الحديث.

قال* ص* : (طُوبى) : «فعلى» من الطّيب ، والجمهور أنها مفرد مصدر ؛ ك «سقيا وبشرى».

قال الضّحّاك : ومعناها : غبطة لهم (٣) ، قال القرطبيّ (٤) : والصحيح أنها شجرة ؛ للحديث المرفوع. انتهى.

* ت* : وروى الشيخ الحافظ أبو بكر أحمد بن عليّ بن ثابت بن الخطيب البغداديّ في «تاريخه» ، عن شيخه أبي نعيم الأصبهانيّ بسنده عن أبي سعيد الخدريّ ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ رجلا قال له : يا رسول الله ، طوبى لمن رآك وآمن بك! قال : «طوبى لمن رآني وآمن بي ، ثمّ طوبى ، ثم طوبى ، ثمّ طوبى لمن آمن بي ولم يرني» ، فقال له رجل : يا رسول الله ، ما طوبى؟ قال : «شجرة في الجنّة مسيرة مائة سنة ، ثياب أهل الجنّة تخرج من أكمامها» (٥). انتهى من ترجمة «أحمد بن الحسن».

(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ)(٣٢)

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٣٨١) برقم : (٢٠٣٧٣) ، وذكره البغوي (٣ / ١٨) ، وابن عطية (٣ / ٣١٢) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥١٢)

(٢) تقدم تخريجه.

(٣) أخرجه الطبري (٧ / ٣٨١) برقم : (٢٠٣٦٥) ، وابن عطية (٣ / ٣١٢) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥١٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١١١) ، وعزاه لابن جرير ، وأبي الشيخ.

(٤) انظر : «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (٩ / ٢٠٨)

(٥) تقدم تخريجه.

٣٦٩

وقوله تعالى : «كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم» : أي : كما أجرينا عادتنا ، (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ ...) الآية.

وقوله : (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) : قال قتادة : نزلت في قريش : لما كتب في الكتاب : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) في قصّة الحديبية ، فقال قائلهم : نحن لا نعرف الرّحمن (١).

قال* ع (٢) * : وذلك منهم إباءة اسم فقط ، وهروب عن هذه العبارة التي لم يعرفوها إلا من قبل النبيّ عليه‌السلام ، وال (مَتابِ) : المرجع ؛ ك «المآب» لأن التوبة هي الرجوع.

وقوله سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ ...) الآية : قال ابن عباس وغيره : إن الكفّار قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أزح عنّا وسيّر جبلي مكّة ، فقد ضيّقا علينا ، واجعل لنا أرضنا قطع غراسة وحرث ، وأوحي لنا آباءنا وأجدادنا ، / وفلانا وفلانا ، فنزلت الآية في ذلك معلمة أنهم لا يؤمنون ، ولو كان ذلك كله (٣).

وقوله تعالى : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا ...) الآية : «ييئس» : معناه : يعلم ، وهي لغة هوازن ، وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس وجماعة : «أفلم يتبيّن» ، ثم أخبر سبحانه عن كفّار قريش والعرب ؛ أنهم لا يزالون تصيبهم قوارع من سرايا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغزواته ، ثم قال : «أو تحلّ أنت يا محمّد قريبا من دارهم». [هذا تأويل ابن عبّاس وغيره (٤).

وقال الحسن بن أبي الحسن : المعنى : أو تحلّ القارعة قريبا من دارهم] (٥) ، و (وَعْدُ اللهِ) ؛ على قول ابن عباس وغيره : هو فتح مكّة ، وقال الحسن : الآية عامّة في الكفّار إلى

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٣٨٥) برقم : (٢٠٣٩٦) ، وذكره البغوي (٣ / ١٩) بنحوه ، وابن عطية (٣ / ٣١٢) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥١٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١١٦) ، وعزاه لابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ.

(٢) ينظر : «المحرر» (٣ / ٣١٢)

(٣) أخرجه الطبري (٧ / ٣٨٦) برقم : (٢٠٣٩٩) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣١٣) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥١٥) بنحوه ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١١٦) ، وعزاه للطبراني ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه.

(٤) أخرجه الطبري (٧ / ٣٨٩) برقم : (٢٠٤١٧) ، وذكره البغوي (٣ / ٢٠) بنحوه ، وابن عطية (٣ / ٣١٣) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥١٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١١٩) ، وعزاه للطيالسي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في «الدلائل».

(٥) أخرجه الطبري (٧ / ٣٩١) برقم : (٢٠٤٣٦) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣١٣) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥١٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١١٩) ، وعزاه لابن جرير.

٣٧٠

يوم القيامة ، وإنّ حال الكفرة هكذا هي إلى يوم القيامة ، و (وَعْدُ اللهِ) : قيام الساعة ، وال (قارِعَةٌ) : الرزيّة التي تقرع قلب صاحبها (١).

وقوله سبحانه : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ ...) الآية : تأنيس وتسلية له عليه‌السلام ، قال البخاري : (فَأَمْلَيْتُ) : أي : أطلت من المليي والملاوة (٢) ؛ ومنه : مليّا ، ويقال للواسع الطويل من الأرض : ملى من الأرض. انتهى.

(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٣٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ)(٣٥)

وقوله تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) : أي : أهو أحقّ بالعبادة أم الجمادات.

وقوله : (قُلْ سَمُّوهُمْ) : أي : سمّوا من له صفات يستحقّ بها الألوهية ، و (مَكْرُهُمْ) : يعم أقوالهم وأفعالهم التي كانت بسبيل مناقضة الشرع ، و (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) : أي : بالقتل والأسر والجدوب وغير ذلك ، و (أَشَقُ) : من المشقّة ، أي : أصعب ، والواقي الساتر على جهة الحماية من الوقاية.

وقوله سبحانه : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) : قد تقدم تفسير نظيره ، وقوله : (أُكُلُها) : معناه : ما يؤكل فيها.

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ)(٣٨)

وقوله سبحانه : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ ...) الآية : قال ابن زيد : المراد

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٣٩١) برقم : (٢٠٤٣٨) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣١٣) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥١٦) بنحوه ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١١٩) ، وعزاه لابن جرير.

(٢) ينظر : «صحيح البخاري» (٨ / ٢٢١) ، كتاب «التفسير» باب : سورة الرعد.

٣٧١

بالآية : من آمن من أهل الكتاب ؛ كعبد الله بن سلام (١) وغيره.

قال* ع (٢) * : والمعنى مدحهم ، وباقي الآية بيّن.

(يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ)(٤٣)

وقوله سبحانه : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) : المعنى أنّ الله سبحانه يمحو من الأمور ما يشاء ، ويغيّرها عن أحوالها مما سبق في علمه محوه وتغييره ، ويثبتها في الحالة التي ينقلها إليها حسب ما سبق في علمه.

قال* ع (٣) * : وأصوب ما يفسّر به (أُمُّ الْكِتابِ) : أنه كتاب الأمور المجزومة التي قد سبق القضاء فيها بما هو كائن ، وسبق ألّا تبدّل ويبقى المحو والتثبيت في الأمور التي قد سبق في القضاء أن تبدّل وتمحى وتثبت ؛ قال نحوه قتادة (٤) ، وقوله سبحانه : (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) : «إن» : شرط دخلت عليها «ما» ، وقوله : (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) ، «أو» عاطفة ، وقوله : (فَإِنَّما) : جواب الشرط ، ومعنى الآية : إن نبقك يا محمّد ، لترى بعض الذي نعدهم ، أو نتوفينّك قبل ذلك ، فعلى كلا الوجهين ، فإنما يلزمك البلاغ فقط ، والضمير في قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا) : عائد على كفّار قريش ؛ كالذي في (نَعِدُهُمْ).

وقوله : (نَأْتِي) : معناه : بالقدرة والأمر. و (الْأَرْضَ) : يريد بها اسم الجنس ، وقيل : يريد أرض الكفّار المذكورين ، المعنى : أو لم يروا أنا نأتي أرض هؤلاء بالفتح / عليك ، فننقصها بما يدخل في دينك من القبائل والبلاد المجاورة لهم ، فما يؤمنهم أن نمكّنك منهم أيضا ؛ قاله ابن عباس ، وهذا على أن الآية مدنيّة (٥) ، ومن قال : إن الأرض

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٣٩٧) برقم : (٢٠٤٥٨) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣١٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٧ / ١٢١) ، وعزاه لابن جرير ، وأبي الشيخ.

(٢) ينظر : «المحرر» (٣ / ٣١٥)

(٣) ينظر : «المحرر» (٣ / ٣١٨)

(٤) أخرجه الطبري (٧ / ٤٠٤) برقم : (٢٠٥٠٧) بنحوه ، وابن عطية (٣ / ٣١٨) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥٢٠) بنحوه ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٢٥) ، وعزاه لابن جرير.

(٥) أخرجه الطبري (٧ / ٤٠٦) برقم (٢٠٥١٤) بنحوه ، وذكره البغوي (٣ / ٢٤) ، وابن عطية (٣ / ٣١٩) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٩٢٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٢٧) ، وعزاه لابن جرير.

٣٧٢

اسم جنس ، جعل انتقاص الأرض بتخريب العمران الذي يحلّه الله بالكفّار ، وقيل : الانتقاص بموت البشر ، ونقص الثمرات والبركة ، وقيل : بموت العلماء والأخيار ؛ قاله ابن عباس أيضا (١) ، وكلّ ما ذكر يدخل في لفظ الآية ، وجملة معنى هذه الآية : الموعظة وضرب المثل ، وقال أبو عمر بن عبد البرّ في كتاب العلم بسنده عن عطاء بن أبي رباح في معنى (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) قال : بذهاب فقهائها ، وخيار أهلها ؛ وعن وكيع (٢) نحوه.

وقال الحسن : نقصانها : هو بظهور المسلمين على المشركين (٣).

قال أبو عمر : وقول عطاء في تأويل الآية حسن جدّا ، تلقّاه أهل العلم بالقبول ، وقول الحسن أيضا حسن. انتهى.

وقوله سبحانه : (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) : أي : العقوبات التي أحلّها بهم ، وسمّاها مكرا على عرف تسمية العقوبة باسم الذنب ، وباقي الآية تحذير ووعيد.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً) : المعنى : ويكذّبك يا محمّد هؤلاء الكفرة ؛ ويقولون : لست مرسلا. (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً) : أي : شاهدا بيني وبينكم ، (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) : قال قتادة : يريد من آمن منهم ؛ كعبد الله بن سلام وغيره (٤) ، كمل تفسير السّورة ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله وصحبه وسلّم تسليما.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٤٠٦) برقم : (٢٠٥١٩) ، (٧ / ٤٠٧) برقم : (٢٠٥٢٣) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣١٩) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥٢٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٢٧) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه الطبري (٧ / ٤٠٨) برقم : (٢٠٥٣٣) ، وذكره البغوي (٣ / ٢٤) ، وابن عطية (٣ / ٣١٩) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥٢٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٢٦) وعزاه لعبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، ونعيم بن حماد في «الفتن» ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه.

(٣) أخرجه الطبري (٧ / ٤٠٦) برقم : (٢٠٥١٧) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥٢٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٢٦) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم.

(٤) أخرجه الطبري (٧ / ٤١٠) برقم : (٢٠٥٤٢) ، وذكره البغوي (٣ / ٢٥) بنحوه ، وابن عطية (٣ / ٣٢٠) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥٢١) بنحوه ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٢٨) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

٣٧٣

تفسير سورة إبراهيم

هذه السورة مكّيّة إلا آيتين ، وهما قوله عزوجل : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً ...) [إبراهيم : ٢٨] إلى آخر الآيتين ، ذكره مكّيّ والنّقّاش.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ)(٣)

قوله عزوجل : (الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) قال القاضي ابن الطّيب ، وأبو المعالي وغيرهما : إن الإنزال لم يتعلّق بالكلام القديم الذي هو صفة الذات ، لكن بالمعاني التي أفهمها الله تعالى جبريل عليه‌السلام من الكلام.

وقوله : (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) : في هذه اللفظة تشريف للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعمّ الناس ؛ إذ هو مبعوث إلى جميع الخلق ، وقرأ نافع وابن عامر (١) : «الله الّذي له ما في السّموات وما في الأرض» برفع اسم الله ؛ على القطع والابتداء ، وقرأ الباقون بخفض الهاء ، (وَوَيْلٌ) : معناه : وشدّة وبلاء ، وباقي الآية بيّن.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ

__________________

(١) ينظر : «الحجة» (٥ / ٢٥) ، و «إعراب القراءات السبع» (١ / ٣٣٤) ، و «حجة القراءات» (٣٧٦) ، و «الإتحاف» (٢ / ١٦٦) ، و «المحرر الوجيز» (٣ / ٣٢٢) ، و «البحر المحيط» (٥ / ٣٩٣) ، و «الدر المصون» (٤ / ٢٥٠) ، و «السبعة» (٣٦٢) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٦١) ، و «شرح الطيبة» (٤ / ٣٩٦) ، و «العنوان» (١١٥) ، و «شرح شعلة» (٤٤٩ ـ ٤٥٠)

٣٧٤

وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)(٦)

وقوله سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ...) الآية ، هذه الآية طعن وردّ على المستغربين أمر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وباقي الآية بيّن.

وقوله سبحانه لموسى : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) : أي : عظهم بالتهديد بنقم الله التي / أحلّها بالأمم الكافرة قبلهم ، وبالتّعديد لنعمه عليهم ، وعبّر عن النعم والنّقم ب «الأيّام» ؛ إذ هي في أيام ، وفي هذه العبارة تعظيم هذه الكوائن المذكّر بها ، وفي الحديث الصحيح : «بينما موسى في قومه يذكّرهم أيّام الله ...» الحديث ، في قصة موسى مع الخضر.

قال عياض في «الإكمال» : «أيام الله» : نعماؤه وبلاؤه ، انتهى. وقال الداوديّ : وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «(وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) : قال : بنعم الله» وعن قتادة : (لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) : قال : نعم ، والله ، العبد إذا ابتلي صبر ، وإذا أعطي شكر. انتهى (١).

وقال ابن العربيّ في «أحكامه» : وفي (بِأَيَّامِ اللهِ) قولان : أحدهما : نعمه. والثاني : نقمه. انتهى.

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ)(٩)

وقوله : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ...) الآية : «تأذّن» : بمعنى آذن ، أي : أعلم.

قال بعض العلماء : الزيادة على الشّكر ليست في الدنيا ، وإنما هي من نعم الآخرة ، والدنيا أهون من ذلك.

قال* ع (٢) * : وجائز أن يزيد الله المؤمن على شكره من نعم الدنيا والآخرة ، «والكفر» ؛ هنا : يحتمل أن يكون على بابه ، ويحتمل أن يكون كفر النّعم ، لا كفر الجحد ،

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٤١٨) برقم : (٢٠٥٨١) ، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥٢٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٣٢) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٣٢٥)

٣٧٥

وفي الآية ترجية وتخويف ، وحكى الطبريّ (١) عن سفيان وعن الحسن ؛ أنهما قالا : معنى الآية : لئن شكرتم لأزيدنكم من طاعتي.

قال* ع (٢) * : وضعّفه الطبريّ ، وليس كما قال ، بل هو قويّ حسن ، فتأمّله.

* ت* : وتضعيف الطبريّ بيّن ؛ من حيث التخصيص ، والأصل التعميم (٣).

وقوله : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) : هذا أيضا من التذكير بأيام الله ، وقوله سبحانه : (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) : قيل : معناه : ردّوا أيدي أنفسهم في أفواه أنفسهم ؛ إشارة على الأنبياء بالسّكوت ، وقال الحسن : ردّوا أيدي أنفسهم في أفواه الرسل تسكيتا لهم ، وهذا أشنع في الرّدّ (٤).

(قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ)(١٤)

وقوله عزوجل : (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌ) : التقدير : أفي إلاهية الله شكّ أو : أفي وحدانيّة الله شكّ ، و «ما» ؛ في قوله (ما آذَيْتُمُونا) مصدريّة ، ويحتمل أن تكون موصولة بمعنى «الذي» ، قال الداوديّ : عن أبي عبيدة (لِمَنْ خافَ مَقامِي) : مجازه حيث أقيمه بين يديّ للحساب انتهى (٥). قال عبد الحقّ في «العاقبة» قال الربيع بن خيثم : من خاف الوعيد ، قرب عليه البعيد ، ومن طال أمله ، ساء عمله. انتهى ، وباقي الآية بيّن.

__________________

(١) ينظر : «تفسير الطبري» (٧ / ٤٢٠) برقم : (٢٠٥٨٥ ـ ٢٠٥٨٦)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٣٢٥)

(٣) أخرجه الطبري (٧ / ٤٢٠) برقم : (٢٠٥٨٧ ـ ٢٠٥٨٨) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣٢٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٣٣) ، وعزاه لابن جرير.

(٤) ذكره البغوي (٣ / ٢٧) ، وابن عطية (٣ / ٣٢٦)

(٥) ذكره ابن عطية (٣ / ٣٣٠)

٣٧٦

(وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ)(١٦)

وقوله سبحانه : (وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) : (اسْتَفْتَحُوا) : أي : طلبوا الحكم ، و «الفتّاح» الحاكم ، والمعنى : أنّ الرسل استفتحوا ، أي : سألوا الله تبارك وتعالى إنفاذ الحكم بنصرهم.

وقيل : بل استفتح الكفّار على نحو قول قريش : (عَجِّلْ لَنا قِطَّنا ...) [ص : ١٦] وعلى نحو قول أبي جهل يوم بدر : اللهم ، أقطعنا للرّحم ، وأتيانا بما لا نعرف ، فاحنه الغداة ، وهذا قول ابن زيد (١) ، وقرأت فرقة : «واستفتحوا» (٢) ـ بكسر التاء ـ ؛ على معنى الأمر للرسل ، وهي قراءة ابن عبّاس ومجاهد وابن محيصن : (وَخابَ) : معناه : خسر ولم ينجح ، والجبار : المتعظّم في نفسه ، والعنيد : الذي يعاند ولا يناقد.

وقوله : (مِنْ وَرائِهِ) : قال الطبري (٣) وغيره : من أمامه ، وعلى ذلك حملوا قوله تعالى : (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) [الكهف : ٧٩] ، وليس الأمر كما ذكروا ، بل الوراء هنا وهناك على بابه ، أي : هو / ما يأتي بعد في الزمان ، وذلك أن التقدير في هذه الحوادث بالأمام والوراء ، إنما هو بالزّمان ، وما تقدّم فهو أمام ، وهو بين اليد ؛ كما نقول في التوراة والإنجيل : إنهما بين يدي القرآن ، والقرآن وراءهم ، وعلى هذا فما تأخّر في الزمان فهو وراء المتقدّم ، (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) : «الصديد» : القيح والدم ، وهو ما يسيل من أجساد أهل النّار ؛ قاله مجاهد (٤) والضّحّاك.

(يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٤٢٨) برقم : (٢٠٦٢٦) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣٣٠) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥٢٦) بنحوه.

(٢) وقرأ بها ابن عباس ، ومجاهد ، وابن محيصن.

قال أبو الفتح : هو معطوف على ما سبق من قوله تعالى : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) ، أي : قال لهم : استفتحوا.

ينظر : «المحتسب» (١ / ٣٦٠) ، و «الشواذ» ص : (٧٢) ، و «المحرر الوجيز» (٣ / ٣٣٠) ، و «البحر المحيط» (٥ / ٤١٠) ، و «الدر المصون» (٤ / ٢٥٦)

(٣) ينظر : «تفسير الطبري» (٧ / ٤٢٨ ـ ٤٢٩)

(٤) أخرجه الطبري (٧ / ٤٢٩) برقم : (٢٠٦٢٧) ، وبرقم : (٢٠٦٣١) بنحوه ، وذكر ابن عطية (٣ / ٣٣١) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥٢٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٣٨) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في «البعث والنشور».

٣٧٧

عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ)(٢١)

وقوله : (يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) : عبارة عن صعوبة أمره عليهم ، وروي أنّ الكافر يؤتى بالشّربة من شراب أهل النّار ، فيتكّرهها ، فإذا أدنيت منه ، شوت وجهه ، وسقطت فيها فروة رأسه ، فإذا شربها ، قطّعت أمعاءه ، وهذا الخبر مفرّق في آيات من كتاب الله عزوجل ، (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) ، أي : من كل شعرة في بدنه ؛ قاله إبراهيم التّيميّ (١) ، وقيل : من جميع جهاته السّتّ ، (وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) : لا يراح بالموت ، (وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) قال الفضيل بن عياض : العذاب الغليظ : حبس الأنفاس في الأجساد ، وفي الحديث : «تخرج عنق من النّار تكلّم بلسان طلق ذلق لها عينان تبصر بهما ، ولها لسان تكلّم به ، فتقول : إنّي أمرت بمن جعل مع الله إلها آخر ، وبكلّ جبّار عنيد ، وبمن قتل نفسا بغير نفس ، فتنطلق بهم قبل سائر النّاس بخمسمائة عام ، فتنطوي عليهم ، فتقذفهم في جهنّم» ، خرّجه البزّار (٢) ، انتهى من «الكوكب الدري».

وقوله : (فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) وصف اليوم بالعصوف ، وهي من صفات الريح بالحقيقة ؛ لما كانت في اليوم ، كقول الشاعر : [الطويل]

 ..................

ونمت وما ليل المطيّ بنائم (٣)

وباقي الآية بيّن.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٤٣٠) برقم (٢٠٦٣٦) ، وذكره البغوي (٣ / ٢٩) ، وابن عطية (٣ / ٣٣١) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥٢٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٣٩) وعزاه لابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه الترمذي (٤ / ٧٠١) كتاب «صفة جهنم» باب : ما جاء في صفة النار ، حديث (٢٥٧٤) بنحوه ، وقال الترمذي : حسن غريب صحيح.

(٣) عجز بيت وصدره :

لقد لمتنا يا أم عيلان في السرى

 ..................

والبيت لجرير في «ديوانه» ص : (٩٩٣) ، و «خزانة الأدب» (١ / ٤٦٥) ، (٨ / ٢٠٢) ، و «الكتاب» (١ / ١٦٠) ، و «لسان العرب» (٢ / ٤٤٢) (ربح) ، وبلا نسبة في «الأشباه والنظائر» (٨ / ٦٠) ، و «الإنصاف» (١ / ٢٤٣) ، و «تخليص الشواهد» ص : (٤٣٩) ، والصاحبي في «فقه اللغة» (٢٢٢) ، و «المحتسب» (٢ / ١٨٤) ، و «المقتضب» (٣ / ١٠٥) ، (٤ / ٣٣١)

٣٧٨

(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) : معناه : صاروا في البراز ، وهي الأرض المتّسعة ، (فَقالَ الضُّعَفاءُ) ، وهم الأتباع (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) ، وهم القادة وأهل الرأي ، وقولهم : (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) : «المحيص» : المفرّ والملجأ مأخوذ من حاص يحيص ؛ إذا نفر وفر ؛ ومنه في حديث هرقل : «فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب» وروي عن ابن زيد ، وعن محمد بن كعب ؛ أن أهل النار يقولون : إنما نال أهل الجنّة الرحمة بالصبر على طاعة الله ، فتعالوا فلنصبر ، فيصبرون خمسمائة سنة ، فلا ينتفعون ، فيقولون : هلمّ فلنجزع ، فيضجّون ويصيحون ويبكون خمسمائة سنة أخرى ، فحينئذ يقولون هذه المقالة (سَواءٌ عَلَيْنا ...) الآية ، وظاهر الآية أنهم إنما يقولونها في موقف العرض وقت البروز بين يدي الله عزوجل (١).

(وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ)(٢٣)

وقوله عزوجل : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) : المراد هنا ب «الشّيطان» إبليس الأقدم ، وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من طريق عقبة بن عامر ، أنه قال : يقوم يوم القيامة خطيبان ؛ أحدهما : إبليس يقوم في الكفرة بهذه الألفاظ ، والثاني : عيسى ابن مريم يقوم بقوله : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ ...) الآية [المائدة : ١١٧] ، وروي في حديث ؛ أنّ إبليس إنما يقوم بهذه الألفاظ في النّار على أهلها عند قولهم : (ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) [إبراهيم : ٢١] في الآية المتقدّمة ؛ فعلى هذه الرواية ، يكون معنى قوله : (قُضِيَ الْأَمْرُ) ، أي : حصل أهل / النار في النّار ، وأهل الجنة في الجنة ، وهو تأويل الطبريّ (٢).

وقوله : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) : أي : من حجة بيّنة ، و (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) ؛ استثناء منقطع ، ويحتمل أن يريد ب «السّلطان» في هذه الآية : الغلبة والقدرة والملك ، أي : ما اضطررتكم ، ولا خوّفتكم بقوّة منّي ، بل عرضت عليكم شيئا فأتى رأيكم عليه.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٤٣٣) برقم : (٢٠٦٤٠) ، وبرقم : (٢٠٦٤١) ، وذكره البغوي (٣ / ٣٠) ، وابن عطية (٣ / ٣٣٣) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥٢٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٤٠) ، وعزاه لابن جرير.

(٢) ينظر : «الطبري» (٧ / ٤٣٣)

٣٧٩

وقوله : (فَلا تَلُومُونِي) : يريد : بزعمه ؛ إذ لا ذنب لي ، (وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) ، أي : في سوء نظركم في اتّباعي ، وقلّة تثبّتكم ؛ (ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ) : «المصرخ» : المغيث ، والصّارخ : المستغيث ، وأما الصّريخ ، فهو مصدر بمنزلة البريح ، وقوله : (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ) : «ما» مصدرية ، وكأنه يقول : إني الآن كافر بإشراككم إيّاي مع الله قبل هذا الوقت ، فهذا تبرّ منه ، وقد قال تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) [فاطر : ١٤]. وقوله عزوجل : (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) : «الإذن» ؛ هنا : عبارة عن القضاء والإمضاء.

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ)(٢٦)

وقوله سبحانه : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً) : (أَلَمْ تَرَ) : بمعنى : ألم تعلم ، قال ابن عبّاس وغيره : الكلمة الطّيّبة : هي لا إله إلا الله (١) ، مثّلها الله سبحانه بالشّجرة الطّيّبة ، وهي النّخلة في قول أكثر المتأوّلين ، فكأنّ هذه الكلمة أصلها ثابت في قلوب المؤمنين ، وفضلها وما يصدر عنها من الأفعال الزكيّة وأنواع الحسنات هو فرعها يصعد إلى السماء من قبل العبد ، والحين : القطعة من الزمان غير محدودة ؛ كقوله تعالى : (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) [ص : ٨٨] ، وقد تقتضي لفظة «الحين» بقرينتها تحديدا ؛ كهذه الآية ، و «الكلمة الخبيثة» : هي كلمة الكفر ، وما قاربها من كلام السوء في الظلم ونحوه ، و «الشجرة الخبيثة» : قال أكثر المفسّرين : هي شجرة الحنظل ؛ ورواه أنس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) وهذا عندي على جهة المثل ، «اجتثّت» : أي : اقتلعت جثتها بنزع الأصول ، وبقيت في غاية الوهن والضّعف ، فتقلبها أقلّ ريح ، فالكافر يرى أنّ بيده شيئا ، وهو لا يستقرّ ولا يغني عنه ؛ كهذه الشجرة الذي يظنّ بها على بعد أو للجهل بها أنها شيء نافع ، وهي خبيثة الجني غير باقية.

(يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٤٣٧) برقم : (٢٠٦٥٩) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٣٣٥) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥٣٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٤٢) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في «الأسماء والصفات».

(٢) أخرجه الترمذي (٥ / ٢٩٥) كتاب «التفسير» باب : ومن سورة إبراهيم عليه‌السلام ، حديث (٣١١٩) ، والطبري (١٣ / ٢٠٥) ، وأبو يعلى (٧ / ١٨٢ ـ ١٨٣) برقم : (٤١٦٥) ، والحاكم (٣ / ٣٥٢) ، وابن حبان (٤٦٨) من حديث أنس مرفوعا به ، وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي ، وصححه ابن حبان.

٣٨٠