تفسير الثعالبي - ج ٣

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٣

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٩

منهم على العامّة ، والتوكّل في عقد الإيمان مع كلّ من آمن بالله عزوجل؟ قال : إنّ الذي فضلت به الخاصّة على العامّة دوام سكون القلب عن الاضطراب والهدوّ عن الحركة ، فعندها ، يا فتى ، استراحوا من عذاب الحرص ، وفكّوا من أسر الطمع ، وأعتقوا من عبوديّة الدنيا ، وأبنائها ، وحظوا بالرّوح في الدّارين جميعا ، فطوبى لهم وحسن مآب ، قلت : فما الذي يولّد هذا؟ قال : حالتان :

دوام لزوم المعرفة ، والاعتماد على الله عزوجل ، وترك الحيل.

والثانية : الممارسة حتى يألفها إلفا ، ويختارها اختيارا ، فيصير التوكّل والهدوّ والسكون والرضا والصبر له شعارا ودثارا. انتهى من «كتاب القصد إلى الله سبحانه».

وقولهم : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) : المعنى : لا تنزل بنا بلاء بأيديهم أو بغير ذلك / مدّة محاربتنا لهم ؛ فيفتنون لذلك ، ويعتقدون صلاح دينهم ، وفساد ديننا ؛ قاله مجاهد وغيره ، فهذا الدعاء على هذا التأويل يتضمّن دفع فصلين :

أحدهما : القتل والبلاء الذي توقّعه المؤمنون.

والآخر : ظهور الشّرك باعتقاد أهله أنّهم أهل الحقّ.

ونحو هذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بئس الميّت أبو أمامة ليهود والمشركين يقولون : لو كان نبيّا لم يمت صاحبه» (١).

ورجّح* ع (٢) * في «سورة الممتحنة : ٥» قول ابن عباس : إن معنى : (لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) : لا تسلّطهم علينا ؛ فيفتنونا ؛ انظره هناك.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ

__________________

(١) أخرجه أحمد (٤ / ١٣٨) ، والحاكم (٤ / ٢١٤) ، وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٢٩٦)

٢٦١

مِنَ الْمُفْسِدِينَ)(٩١)

وقوله سبحانه : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً) روي : أن فرعون أخاف بني إسرائيل ، وهدّم لهم مواضع كانوا اتّخذوها للصلاة ، ونحو هذا ، فأوحى الله إلى موسى وهارون ، أن تبّوءا أي : اتخذا وتخيّرا لبني إسرائيل بمصر بيوتا ، قال مجاهد : مصر ؛ في هذه الآية : الإسكندريّة (١) ، ومصر ما بين أسوان (٢) والإسكندرية (٣).

وقوله سبحانه : (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) : قيل : معناه : مساجد ، قاله ابن عباس وجماعة (٤) ، قالوا : خافوا ، فأمروا بالصّلاة في بيوتهم ، وقيل : معناه موجّهة إلى القبلة ؛ قاله ابن عباس (٥) ، ومن هذا حديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «خير بيوتكم ما استقبل به القبلة» (٦).

وقوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) : خطاب لبني إسرائيل ، وهذا قبل نزول التوراة ؛ لأنها لم تنزل إلا بعد إجازة البحر.

وقوله : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) : أمر لموسى عليه‌السلام ، وقال الطبريّ ومكيّ : هو أمر لنبينا محمّد عليه‌السلام ، وهذا غير متمكّن.

وقوله سبحانه : (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً ...) الآية : هذا

__________________

(١) أخرجه الطبري (٦ / ٥٩٧) برقم : (١٧٨٢٩) نحوه ، وذكره ابن عطية (٣ / ١٣٨) ، والبغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٦٥) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٤٢٨) نحوه ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٦٦) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر.

(٢) بالضم ، ثم السكون ، وواو وألف ونون. ويقال : بغير همزة : مدينة كبيرة ، وكورة في آخر الصعيد. وأول بلاد النّوبة ، على النيل في شرقيّة ، في جبالها مقطع العمد التي بالإسكندرية ، ينظر : «مراصد الاطلاع» (١ / ٧٨)

(٣) بنى الإسكندر ثلاث عشرة مدينة وسمّاها كلّها باسمه ، ثم تغيرت أساميها بعده ، والمشهور بهذا الاسم الاسكندرية العظمى في بلاد مصر.

ينظر : «مراصد الاطلاع» (١ / ٧٦)

(٤) أخرجه الطبري (٦ / ٥٩٦) برقم : (١٧٨٠٨ ـ ١٧٨٠٩ ـ ١٧٨١٠) ، وذكره ابن عطية (٦ / ١٣٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٦٦) ، وزاد نسبته إلى الفريابي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه.

(٥) أخرجه الطبري (٦ / ٥٩٧) برقم : (١٧٨٢٤) نحوه ، وذكره ابن عطية (٣ / ١٣٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٦٦) بنحوه ، وزاد نسبته إلى ابن مردويه.

(٦) تقدم تخريجه بلفظ : خير مجالسكم ما استقبل به القبلة.

٢٦٢

غضب من موسى على القبط ، ودعاء عليهم ، لمّا عتوا وعاندوا ، وقدّم للدعاء تقرير نعم الله عليهم وكفرهم بها ، و (آتَيْتَ) معناه : أعطيت ، واللام في (لِيُضِلُّوا) لام كي ، ويحتمل أن تكون لام الصّيرورة والعاقبة ، المعنى : آتيتهم ذلك ، فصار أمرهم إلى كذا ، وقرأ حمزة وغيره : «ليضلّوا» (بضم الياء) ؛ على معنى : ليضلّوا غيرهم.

وقوله : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) : هو من طموس الأثر والعين ؛ وطمس الوجوه منه ، وتكرير قوله : (رَبَّنا) استغاثة ؛ كما يقول الداعي : يا الله ، يا الله ، روي أنهم حين دعا موسى بهذه الدعوة ، رجع سكّرهم حجارة ، ودراهمهم ودنانيرهم وحبوب أطعمتهم ، رجعت حجارة ؛ قاله قتادة وغيره (١) ، وقال مجاهد وغيره : معناه : أهلكها ودمّرها (٢).

وقوله : (وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) : بمعنى : اطبع واختم عليهم بالكفر ؛ قاله مجاهد والضّحّاك(٣).

وقوله : (فَلا يُؤْمِنُوا) : مذهب الأخفش وغيره : أنّ الفعل منصوب ؛ عطفا على قوله : (لِيُضِلُّوا) ، وقيل : منصوب في جواب الأمر ، وقال الفراء والكسائي : هو مجزوم على الدعاء ، وجعل رؤية العذاب نهاية وغاية ؛ وذلك لعلمه من الله أنّ المؤمن عند رؤية العذاب لا ينفعه إيمانه في ذلك الوقت ، ولا يخرجه من كفره ، ثم أجاب الله دعوتهما ، قال ابن عباس : العذاب هنا : الغرق (٤) ، وروي أن هارون كان يؤمّن على دعاء موسى ؛ فلذلك نسب الدعوة إليهما ؛ قاله محمد بن كعب القرظيّ (٥) ، قال البخاري : (وَعَدْواً) : من العدوان. انتهى.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٦ / ٦٠٠) برقم : (١٧٨٣٨ ، ١٧٨٤٠) نحوه ، وبرقم : (١٧٨٣٤ ، ١٧٨٣٥) ، عن محمد بن كعب القرظي (١٧٨٣٦) عن أبي العالية بنحوه ، وبرقم : (١٧٨٤٠) ، عن سفيان ، برقم : (١٧٨٤١) ، عن أبي صالح ، نحوه ، وذكره ابن عطية (٣ / ١٣٩) ، والبغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٦٥ ـ ٣٦٦) ، عن قتادة ، ومحمد بن كعب ، وابن عباس نحوه ، وابن كثير (٢ / ٤٢٩) نحوه ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٦٧)

(٢) أخرجه الطبري (٦ / ٦٠٠ ـ ٦٠١) برقم : (١٧٨٤٥ ـ ١٧٨٤٦ ، ١٧٨٤٧ ، ١٧٨٤٨) ، عن ابن عباس نحوه ، وذكره ابن عطية (٣ / ١٣٩) ، والبغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٦٥) ، عن مجاهد نحوه ، وابن كثير (٢ / ٤٢٩) ، عن ابن عباس ، ومجاهد ، نحوه ، والسيوطي في (٣ / ٥٦٧)

(٣) أخرجه الطبري (٦ / ٦٠١) برقم : (١٧٨٥١ ، ١٧٨٥٤) ، وذكره ابن عطية (٣ / ١٣٩)

(٤) أخرجه الطبري (٦ / ٦٠١) برقم : (١٧٨٤٩ ، ١٧٨٥٠) نحوه ، وذكره ابن عطية (٣ / ١٣٩)

(٥) أخرجه الطبري (٦ / ٦٠٣) برقم : (١٧٨٦٣ ـ ١٧٨٦٤) نحوه ، وذكره ابن عطية (٣ / ١٤٠) ، وابن كثير (٢ / ٤٢٩) نحوه ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٦٧) نحوه.

٢٦٣

وقول فرعون : (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ ...) الآية : روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنّ جبريل عليه‌السلام قال : ما أبغضت أحدا قطّ بغضي لفرعون ، ولقد سمعته يقول : (آمَنْتُ ...) الآية ، فأخذت من حال البحر ، فملأت فمه ؛ مخافة أن تلحقه رحمة الله» ، وفي بعض الطرق : «مخافة أن يقول لا إله إلّا الله ، فتلحقه الرّحمة» (١).

قال* ع (٢) * : فانظر إلى كلام فرعون ، ففيه مجهلة وتلعثم ، ولا عذر لأحد في جهل هذا ، وإنما العذر فيما لا سبيل / إلى علمه ، كقول عليّ رضي الله عنه : أهللت بإهلال كإهلال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والحال : الطّين ، والآثار بهذا كثيرة مختلفة الألفاظ ، والمعنى واحد.

وقوله سبحانه : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) ، وهذا على جهة التوبيخ له ، والإعلان بالنقمة منه ، وهذا الكلام يحتمل أن يكون من ملك موصّل عن الله ، أو كيف شاء الله ، ويحتمل أن يكون هذا الكلام معنى حاله وصورة خزية ، وهذه الآية نصّ في ردّ توبة المعاين.

(فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢) وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(٩٣)

وقوله سبحانه : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ ...) الآية : يقوّي أنه صورة حاله ؛ لأن هذه الألفاظ إنما يظهر أنها قيلت بعد غرقه ، وسبب هذه المقالة ؛ على ما روي : أن بني إسرائيل بعد عندهم غرق فرعون وهلاكه ، لعظمه في نفوسهم ، وكذّب بعضهم أن يكون فرعون

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٥ / ٢٨٧) كتاب «التفسير» باب : ومن سورة يونس ، حديث (٣١٠٧) من طريق علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس به.

وقال الترمذي : حديث حسن. ومن طريق علي أخرجه الطبري (٦ / ٦٠٥) رقم : (١٧٨٧٥).

وأخرجه الترمذي (٥ / ٢٨٧ ـ ٢٨٨) كتاب «التفسير» باب : ومن سورة يونس ، حديث (٣١٠٨) ، والحاكم (٢ / ٣٤٠) ، والطبري (٦ / ٦٠٥) رقم : (١٧٨٧٢ ـ ١٧٨٧٣) ، من طريق شعبة ، عن عدي بن ثابت وعطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس به.

وقال الترمذي : حسن صحيح غريب من هذا الوجه ، وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه إلا أن أكثر أصحاب شعبة أوقفوه على ابن عباس ووافقه الذهبي.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ١٤١)

٢٦٤

يموت ، فنجّي على نجوة من الأرض ، حتى رآه جميعهم ميتا ؛ كأنه ثور أحمر ، وتحقّقوا غرقه.

والجمهور (١) على تشديد (نُنَجِّيكَ) ؛ فقالت فرقة : معناه : من النّجاة ، أي : من غمرات البحر والماء ، وقال جماعة : معناه : نلقيك على نجوة من الأرض ، وهي : ما ارتفع منها ، وقرأ يعقوب (٢) بسكون النون وتخفيف الجيم ، وقوله : (بِبَدَنِكَ) قالت فرقة : معناه : بشخصك ، وقالت فرقة : معناه : بدرعك ، وقرأ الجمهور (٣) : «خلفك» ، أي : من أتى بعدك ، وقرىء شاذّا : «لمن خلفك» (٤) ـ بفتح اللام ـ ، والمعنى : ليجعلك الله آية له في عباده ، وباقي الآية بيّن.

وقوله سبحانه : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) : المعنى : ولقد اخترنا لبني إسرائيل أحسن اختيار ، وأحللناهم من الأماكن أحسن محلّ ، و (مُبَوَّأَ صِدْقٍ) : أي : يصدق فيه ظنّ قاصده وساكنه ، ويعني بهذه الآية إحلالهم بلاد الشّام وبيت المقدس ؛ قاله قتادة وابن زيد ، وقيل : بلاد الشام ومصر ، والأول أصحّ ، وقوله سبحانه : (فَمَا اخْتَلَفُوا) أي : في نبوّة نبينا محمّد عليه‌السلام ، وهذا التخصيص هو الذي وقع في كتب المتأوّلين كلّهم ، وهو تأويل يحتاج إلى سند ، والتأويل الثاني الذي يحتمله اللفظ : أنّ بني إسرائيل لم يكن لهم اختلاف على موسى في أول حاله ، فلما جاءهم العلم والأوامر ، وغرق فرعون ، اختلفوا ، فالآية ذامّة لهم.

* ت* : فرّ رحمه‌الله من التخصيص ، فوقع فيه ، فلو عمّم اختلافهم على أنبيائهم موسى وغيره ، وعلى نبيّنا ، لكان أحسن ، وما ذهب إليه المتأوّلون من التخصيص أحسن لقرينة قوله : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍ) ، فالربط بين الآيتين واضح ، والله أعلم.

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ١٤٢) ، و «البحر المحيط» (٥ / ١٨٩) ، و «الدر المصون» (٤ / ٦٧)

(٢) ينظر : «إتحاف فضلاء البشر» (٢ / ١٢٠) ، و «المحرر الوجيز» (٣ / ١٤٢) ، و «البحر المحيط» (٥ / ١٨٩) ، و «الدر المصون» (٤ / ٦٧)

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ١٤٢)

(٤) وقرأ بها إسماعيل المكي ، كما في «الشواذ» ص : (٦٣) وينظر : «البحر المحيط» (٥ / ١٨٩)

٢٦٥

حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ)(٩٧)

وقوله عزوجل : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ ...) الآية : الصواب في معنى الآية : أنها مخاطبة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد بها سواه من كلّ من يمكن أن يشكّ أو يعارض.

*ت* : وروينا عن أبي داود سليمان بن الأشعث ، قال : حدّثنا أحمد بن حنبل ، قال : حدّثنا يزيد بن هارون ، قال : حدّثنا محمّد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «المراء في القرآن كفر» (١) ، قال عياض في «الشفا» : تأول بمعنى «الشك» ، وبمعنى «الجدال». انتهى.

و (الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) : من أسلم من أهل الكتاب ، كابن سلام وغيره ، وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لمّا نزلت هذه الآية : «أنا لا أشكّ ولا أسأل» (٢) ، ثم جزم سبحانه الخبر بقوله : (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) ، واللام في «لقد» لام قسم.

وقوله : (مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) يريد به : من أن بني إسرائيل لم يختلفوا في أمره إلا من بعد مجيئه عليه‌السلام ؛ هذا قول أهل التأويل قاطبة.

قال *ع (٣)* : وهذا هو الذي يشبه أن ترجى إزالة الشّكّ فيه من قبل أهل الكتاب ،

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٢ / ٦١٠) كتاب «السنة» باب : النهي عن الجدال في القرآن ، حديث (٤٦٠٣) ، وأحمد (٢ / ٢٨٦ ، ٤٢٤ ، ٤٧٥ ، ٥٠٣ ، ٥٢٨) ، وابن حبان (٥٩ ـ موارد) ، والحاكم (٢ / ٢٢٣) ، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (٨ / ٢١٣) ، وفي «أخبار أصبهان» (٢ / ١٢٣) كلهم من طريق محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة به ، وأخرجه أحمد (٢ / ٢٥٨) ، وابن أبي شيبة (١٠ / ٥٢٩) ، وأبو يعلى (١٠ / ٣٠٣) رقم : (٥٨٩٧) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (٤ / ٨١) ، من طريق سعد بن إبراهيم ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة به. وأخرجه أحمد (٢ / ٤٧٨ ، ٤٩٤) ، والحاكم (٢ / ٢٢٣) كلاهما من طريق سعد بن إبراهيم ، عن عمر بن أبي سلمة ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة.

وأخرجه الطبراني في «الصغير» (١ / ٥٧٤) من طريق شعيب بن أبي حمزة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة به.

قال ابن أبي حاتم في «العلل» (٢ / ٧٤) رقم : (١٧١٤) ، عن أبيه : هذا حديث مضطرب ، ليس هو صحيح الإسناد اه.

وفي الباب عن عمرو بن العاص : أخرجه أحمد (٤ / ٢٠٤ ـ ٢٠٥) ، وعن عبد الله بن عمرو : أخرجه الطيالسي (٢ / ٦ ـ منحة) رقم : (١٩٠٢).

وعن زيد بن ثابت : أخرجه الطبراني في «الكبير» (٥ / ١٥٢) رقم : (٤٩١٦)

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٦١٠) برقم : (١٧٩٠٧) عن قتادة مرسلا. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٧١) ، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق.

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ١٤٣)

٢٦٦

ويحتمل اللفظ أن يريد ب (مِمَّا أَنْزَلْنا) / جميع الشرع.

*ت* : وهذا التأويل عندي أبين إذا لخّص ، وإن كان قد استبعده* ع (١) * : ويكون المراد ب (مِمَّا أَنْزَلْنا) : ما ذكره سبحانه من قصصهم ، وذكر صفته عليه‌السلام ، وذكر أنبيائهم وصفتهم وسيرهم وسائر أخبارهم الموافقة لما في كتبهم المنزّلة على أنبيائهم ؛ كالتوراة والإنجيل والزّبور والصّحف ، وتكون هذه الآية تنظر إلى قوله سبحانه : (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ...) [يوسف : ١١١] ، فتأمّله ، والله أعلم.

وأما قوله : هذا قول أهل التأويل قاطبة ، فليس كذلك ، وقد تكلّم صاحب «الشفا» على الآية ، فأحسن ، ولفظه : واختلف في معنى الآية ، فقيل : المراد : قل يا محمّد للشاكّ : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ ...) الآية ، قالوا : وفي السورة نفسها ما دلّ على هذا التأويل ، وهو قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي ...) الآية [يونس : ١٠٤] ، ثم قال عياض : وقيل : إن هذا الشكّ : الذي أمر غير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسؤال الذين يقرؤون الكتاب عنه ، إنما هو في ما قصّه الله تعالى من أخبار الأمم ، لا فيما دعا إليه من التوحيد والشريعة. انتهى.

وقوله سبحانه : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ ...) الآية : مما خوطب به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد سواه.

قال *ع (٢)* : ولهذا فائدة ليست في مخاطبة الناس به ، وذلك شدّة التخويف ؛ لأنه إذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحذّر من مثل هذا ، فغيره من النّاس أولى أن يحذّر ويتقى على نفسه.

وقوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) : أي : حقّ عليهم في الأزل وخلقهم لعذابه (لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) إلا في الوقت الذي لا ينفعهم فيه الإيمان ؛ كما صنع فرعون وأشباهه ، وذلك وقت المعاينة.

(فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ١٤٣)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ١٤٣)

٢٦٧

الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ)(١٠٠)

وقوله سبحانه : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ ...) الآية : وفي مصحف أبيّ وابن (١) مسعود : «فهلّا» ، والمعنى فيهما واحد ، وأصل «لولا» التحضيض ، أو الدلالة على منع أمر لوجود غيره ، ومعنى الآية : فهلّا آمن أهل قرية ، وهم على مهل لم يتلبّس العذاب بهم ، فيكون الإيمان نافعا لهم في هذا الحال ، ثم استثنى قوم يونس ، فهو بحسب اللفظ استثناء منقطع ، وهو بحسب المعنى متّصل لأن تقديره : ما آمن أهل قرية إلا قوم يونس ، وروي في قصّة قوم يونس : أن القوم لمّا كفروا ، أي : تمادوا على كفرهم ، أوحى الله تعالى إليه ؛ أن أنذرهم بالعذاب لثالثة ، ففعل ، فقالوا : هو رجل لا يكذب ، فارقبوه فإن أقام بين أظهركم ، فلا عليكم ، وإن ارتحل عنكم ، فهو نزول العذاب لا شكّ فيه ، فلمّا كان الليل ، تزوّد يونس ، وخرج عنهم ، فأصبحوا فلم يجدوه ، فتابوا ودعوا الله ، وآمنوا ، ولبسوا المسوح ، وفرّقوا بين الأمّهات والأولاد من النّاس والبهائم ، وكان العذاب فيما روي عن ابن عباس : على ثلثي ميل منهم (٢) ، وروي : على ميل (٣) ، وقال ابن جبير (٤) : غشيهم العذاب ؛ كما يغشى الثوب القبر ، فرفع الله عنهم العذاب ، فلما مضت الثالثة ، وعلم يونس أن العذاب لم ينزل بهم ، قال : كيف أنصرف ، وقد وجدوني في كذب ، فذهب مغاضبا ؛ كما ذكر الله سبحانه في غير هذه الآية ، وذهب (٥) الطبريّ إلى أنّ قوم يونس خصّوا من بين الأمم بأن تيب عليهم من بعد معاينة العذاب ، وذكر ذلك عن جماعة من المفسّرين ، وليس كذلك ، والمعاينة التي لا تنفع التوبة معها هي تلبّس العذاب أو الموت بشخص الإنسان ، كقصّة فرعون ، وأمّا قوم يونس فلم يصلوا هذا الحدّ.

*ت* : وما قاله الطبريّ عندي أبين ، (وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) : يريد : إلى آجالهم المقدّرة في الأزل ، وروي أن قوم يونس / كانوا ب «نينوى» من أرض الموصل.

وقوله سبحانه : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) : المعنى : أفأنت تكره

__________________

(١) ينظر : «الكشاف» (٢ / ٣٧١) ، و «المحرر الوجيز» (٣ / ١٤٣) ، و «البحر المحيط» (٥ / ١٩٢) ، و «الدر المصون» (٤ / ٦٩)

(٢) أخرجه الطبري (٦ / ٦١٣) برقم : (١٧٩١٥) ، وذكره ابن عطية (٣ / ١٤٤) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٧٣) ، وعزاه لأحمد ، وابن جرير.

(٣) ذكره ابن عطية (٣ / ١٤٤)

(٤) أخرجه الطبري (٦ / ٦١٣) برقم : (١٧٩١٤) ، وذكره ابن عطية (٣ / ١٤٤) والسيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٧٣) ، وعزاه لأحمد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ.

(٥) ينظر : «تفسير الطبري» (٦ / ٦١٤) بنحوه.

٢٦٨

الناس بإدخال الإيمان في قلوبهم ، والله عزوجل قد شاء غير ذلك ، و (الرِّجْسَ) هنا بمعنى العذاب.

(قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ)(١٠٣)

وقوله سبحانه : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) الآية : هذه الآية أمر للكفّار بالاعتبار والنّظر في المصنوعات الدالّة على الصّانع من آيات السموات وأفلاكها وكواكبها وسحابها ونحو ذلك ، والأرض ونباتها ومعادنها وغير ذلك ، المعنى : انظروا في ذلك بالواجب ، فهو ينهيكم إلى المعرفة بالله وبوحدانيته ، ثم أخبر سبحانه أنّ الآيات والنّذر ـ وهم الأنبياء ـ لا تغني إلا بمشيئته ؛ ف «ما» ؛ على هذا : نافية ، ويجوز أن تكون استفهاما في ضمنه نفي وقوع الغنى ، وفي الآية على هذا : توبيخ لحاضري النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال *ص* : و (النُّذُرُ) : جمع نذير ، إما مصدر بمعنى الإنذارات ، وإما بمعنى منذر. انتهى.

وقوله سبحانه : (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ ...) الآية : وعيد إذا لجّوا في الكفر ، حل بهم العذاب.

وقوله سبحانه : (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) : أي : عادة الله سلفت بإنجاء رسله ومتّبعيهم عند نزول العذاب بالكفرة (كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ).

قال *ص* : أي : مثل ذلك الإنجاء الذي نجينا الرسل ومؤمنيهم ننجي من آمن بك. انتهى ، وخط المصحف في هذه اللفظة «ننج» بجيم مطلقة دون ياء ، وكلهم قرأ «ننجّ» ـ مشددة الجيم ـ إلا الكسائيّ وحفصا عن عاصم ؛ فإنهما قرآ بسكون النون وتخفيف الجيم (١).

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ

__________________

(١) ينظر : «السبعة» ص : (٣٣٠) ، «الحجة للقراء السبعة» (٤ / ٣٠٥) ، «حجة القراءات» ص : (٣٣٧) ، و «إعراب القراءات» (١ / ٢٧٥ ـ ٢٧٦) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (٢ / ١٢٠) ، و «شرح شعلة» (٤٢٥) ، و «العنوان» (١٠٦)

٢٦٩

الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(١٠٧)

وقوله سبحانه : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي ...) الآية ، مخاطبة عامّة للناس أجمعين إلى يوم القيامة.

وقوله : (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ ...) الآية : الوجه في هذه الآية بمعنى المنحى والمقصد ، أي : اجعل طريقك واعتمالك للدّين والشرع.

وقوله تعالى : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ ...) الآية ، قد تقدّم أن ما كان من هذا النوع ، فالخطاب فيه للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد غيره.

وقوله سبحانه : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ...) الآية : مقصود هذه الآية أن الحول والقوّة لله ، والضر لفظ جامع لكلّ ما يكرهه الإنسان.

وقوله : (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) لفظ تامّ العموم.

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ)(١٠٩)

وقوله سبحانه : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) : هذه مخاطبة لجميع الكفّار ومستمرّة مدى الدهر ، و (الْحَقُ) : هو القرآن والشرع الذي جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) : منسوخة بالقتال.

وقوله سبحانه : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ). قوله : (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) : وعد للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يغلبهم ، كما وقع ، وهذا الصبر منسوخ أيضا بالقتال ، وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما.

٢٧٠

تفسير سورة هود

مكية

إلا نحو ثلاث آيات

قال الداوديّ : وعن أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه ، قلت : يا رسول الله ، لقد أسرع إليك الشّيب؟! قال : «شيّبتني «هود» و «الواقعة» و «المرسلات» و «عمّ يتساءلون» و «إذا الشّمس كوّرت» (١) ، وفي رواية عن ابن عباس : «هود وأخواتها». انتهى (٢).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٤)

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٥ / ٤٠٢) كتاب «التفسير» باب : ومن سورة الواقعة ، حديث (٣٢٩٧) ، والحاكم (٢ / ٣٤٤) ، وأبو نعيم في «الحلية» (٤ / ٣٥٠) ، كلهم من طريق شيبان ، عن أبي إسحاق ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن أبي بكر الصديق به.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه من حديث ابن عباس إلا من هذا الوجه.

وذكره من هذا الوجه السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٧٧) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر ، وابن مردويه ، والبيهقي في «البعث والنشور».

وأخرجه أبو يعلى (١ / ١٠٢ ـ ١٠٣) رقم : (١٠٧ ـ ١٠٨) من طريق أبي الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن عكرمة ، عن أبي بكر به ، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧ / ٤٠) ، وقال : رواه الطبراني في «الأوسط» ، ورجاله رجال الصحيح ، ورواه أبو يعلى إلا أن عكرمة لم يدرك أبا بكر.

قال ابن أبي حاتم في «العلل» (٢ / ١١٠) رقم : (١٨٢٦) : سئل أبي عن حديث أبي إسحاق عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال أبو بكر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما شيبك؟ قال : «شيبتني هود». والحديث متصل أصحّ ، كما رواه شيبان ، أو مرسلا كما رواه أبو الأحوص مرسل قال : مرسل أصحّ ، قلت لأبي : روى بقية عن أبي الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن أبي بكر ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال : هذا خطأ ليس فيه ابن عباس اه.

والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٧٦) من وجه آخر عن أبي بكر ، وعزاه إلى ابن المنذر ، والطبراني ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه ، وابن عساكر من طريق مسروق عن أبي بكر وعزاه أيضا إلى البزار ، وابن مردويه ، من طريق أنس ، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٧٧) ، وعزاه إلى ابن عساكر من طريق عطاء ، عن ابن عباس.

٢٧١

قوله عزوجل : (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) أي : أتقنت وأجيدت ، وبهذه الصفة كان القرآن في الأزل ، ثم فصّل بتقطيعه ، وتبيين أحكامه وأوامره على محمّد نبيه عليه‌السلام في أزمنة مختلفة ؛ ف «ثمّ» على بابها ، / فالإحكام صفة ذاتية ، والتفصيل إنما هو بحسب من يفصّل له ، والكتاب بأجمعه محكم ومفصّل ، والإحكام الذي هو ضدّ النّسخ ، والتفصيل الذي هو خلاف الإجمال ، إنما يقالان مع ما ذكرناه باشتراك.

قال* ص* : (ثُمَّ فُصِّلَتْ) : «ثمّ» لترتيب الأخبار ؛ لا لترتيب الوقوع في الزمان ، و (لَدُنْ) بمعنى : «عند». انتهى.

قال الداوديّ : وعن الحسن : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) : قال : أحكمت بالأمر والنهي ، ثم فصّلت بالوعد والوعيد ، وعنه : فصّلت بالثواب والعقاب. انتهى. وقدّم النذير ؛ لأن التّحذير من النّار هو الأهمّ. (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) ، أي : اطلبوا مغفرته ؛ وذلك بطلب دخولكم في الإسلام ، (ثُمَّ تُوبُوا) من الكفر (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً) ، ووصف المتاع بالحسن ؛ لطيب عيش المؤمن برجائه في ثواب ربّه ، وفرحه بالتقرّب إليه بأداء مفترضاته ، والسرور بمواعيده سبحانه ، والكافر ليس في شيء من هذا ، (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ) ، أي : كلّ ذي إحسان (فَضْلَهُ) ، فيحتمل أن يعود الضمير من «فضله» على «ذي فضل» أي : ثواب فضله ، ويحتمل أن يعود على الله عزوجل ، أي : يؤتي الله فضله كلّ ذي فضل وعمل صالح من المؤمنين ، ونحو هذا المعنى ما وعد به سبحانه من تضعيف الحسنات ، (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) ، أي : فقل : إني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ، وهو يوم القيامة.

(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٨)

وقوله سبحانه : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ...) الآية : قيل : إن هذه الآية نزلت في الكفّار الذين كانوا إذا لقيهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم تطامنوا وثنوا صدورهم ؛ كالمتستّر ، وردّوا إليه ظهورهم ، وغشوا وجوههم بثيابهم ، تباعدا منهم ، وكراهية للقائه ، وهم يظنّون أنّ ذلك يخفى عليه ، أو عن الله عزوجل ، وقيل : هي استعارة للغلّ والحقد الذي كانوا ينطوون

٢٧٢

عليه ، فمعنى الآية : ألا إنهم يسرّون العداوة ، ويتكتّمون بها ، لتخفى في ظنّهم عن الله وهو سبحانه حين تغشّيهم بثيابهم ، وإبلاغهم في التستّر ، يعلم ما يسرّون ، و (يَسْتَغْشُونَ) : معناه يجعلونها أغشية وأغطية.

قال* ص* : قرأ (١) الجمهور : «يثنون» ـ بفتح الياء ـ ؛ مضارع ثنى الشّيء ثنيا : طواه. انتهى ، وقرأ ابن عبّاس (٢) وجماعة : «تثنوني صدورهم» ـ بالرفع ـ ؛ على وزن «تفعوعل» ، وهي تحتمل المعنيين المتقدّمين ، وحكى الطبريّ عن ابن عبّاس على هذه القراءة. أنّ هذه الآية نزلت في قوم كانوا لا يأتون النساء والحدث إلّا ويستغشون ثيابهم ؛ كراهية أن يفضوا بفروجهم إلى السماء (٣).

وقوله عزوجل : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها ...) الآية ، المراد جميع الحيوان المحتاج إلى رزق ، والمستقر : صلب الأب ، و «المستودع» : بطن الأمّ ، وقيل غير هذا ، وقد تقدّم.

وقوله : (فِي كِتابٍ) : إشارة إلى اللوح المحفوظ.

قال* ص* : (لِيَبْلُوَكُمْ) اللام متعلّقة ب «خلق» وقيل : بفعل محذوف ، أي : أعلم بذلك ليبلوكم ، انتهى.

(وَلَئِنْ قُلْتَ) : اللام في «لئن» : مؤذنة بأنّ اللام في (لَيَقُولَنَ) لام قسم ، لا جواب شرط ، وقولهم : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) تناقض منهم ؛ لأنهم مقرّون بأن الله خلق السموات والأرض ، وهم مع ذلك ينكرون ما هو أيسر من ذلك ، وهو البعث من القبور ، وإذ خلق السموات والأرض ، أكبر من خلق الناس.

__________________

(١) ينظر : «البحر المحيط» (٥ / ٢٠٣) و «الدر المصون» (٤ / ٧٨)

(٢) وممن قرأ بها مجاهد ، ونصر بن عاصم ، ويحيى بن يعمر ، وعبد الرحمن بن أبزي ، والجحدري ، وابن أبي إسحاق ، وأبو رزين ، وأبو جعفر محمد بن علي ، وعلي بن حسين ، وزيد بن علي ، وجعفر بن محمد ، والضحاك ، وأبو الأسود الدؤلي.

ينظر : «الشواذ» ص : (٦٤) ، و «المحتسب» (١ / ٣١٨) ، و «المحرر الوجيز» (٣ / ١٥٠) ، و «البحر المحيط» (٥ / ٢٠٣) ، و «الدر المصون» (٤ / ٧٨)

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٦٢٦) برقم : (١٧٩٦٥) بنحوه ، وللحديث طريق آخر عن ابن عباس ، وأخرجه البخاري (٨ / ٦٢٦) برقم : (٤٦٨١ ـ ٤٦٨٢) ، وذكره ابن عطية (٣ / ١٥١) ، والبغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٧٤) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٤٣٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٧٩) ، وعزاه إلى ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، كلهم بنحوه.

٢٧٣

(وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ) ، أي : المتوعّد به (إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) ، أي مدّة معدودة (لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ) ، أي : ما هذا الحابس لهذا العذاب ؛ على جهة التكذيب ، (وَحاقَ) : معناه : حلّ وأحاط. البخاريّ : حاق : نزل.

(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١) فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(١٣)

(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ...) الآية : «الرحمة» هنا : تعمّ جميع ما ينتفع به من مطعوم وملبوس وجاه وغير ذلك ، و (الْإِنْسانَ) هنا اسم جنس ، والمعنى : إن هذا الخلق في سجيّة الإنسان ، ثم استثنى منهم الذين ردّتهم الشرائع والإيمان / إلى الصبر والعمل الصالح ، و (كَفُورٌ) هنا : من كفر النعمة ، وال (نَعْماءَ) : تشمل الصحّة والمال ، وال (ضَرَّاءَ) : من الضّرّ ، وهو أيضا شامل ؛ ولفظة (ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي) : يقتضي بطرا وجهلا أنّ ذلك بإنعام من الله تعالى ، و (السَّيِّئاتُ) هنا : كلّ ما يسوء في الدنيا ، والفرح ؛ هنا : مطلق ؛ فلذلك ذمّ ، إذ الفرح انهمال النفس ، ولا يأتي الفرح في القرآن ممدوحا إلا إذا قيد بأنه في خير.

وقوله : (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) : استثناء متصل ؛ على ما قدّمنا من أنّ الإنسان عام يراد به الجنس ؛ وهو الصواب ، ومن قال : إنه مخصوص بالكافر قال : هاهنا الاستثناء منقطع ، وهو قول ضعيف من جهة المعنى ، لا من جهة اللفظ ؛ لأن صفة الكفر لا تطلق على جميع الناس ؛ كما تقتضي لفظة الإنسان واستثنى الله تعالى من الماشين على سجيّة الإنسان هؤلاء الذين حملتهم الأديان على الصبر على المكاره ، والمثابرة على عبادة الله ، وليس شيء من ذلك في سجيّة البشر ، وإنما حمل على ذلك خوف الله وحبّ الدّار الآخرة ، والصبر على العمل الصالح لا ينفع إلّا مع هداية وإيمان ، ثم وعد تعالى أهل هذه الصفة بالمغفرة للذّنوب والتفضّل بالأجر والنّعيم.

وقوله سبحانه : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ) : سبب هذه الآية : أنّ كفّار قريش قالوا : يا محمّد ، لو تركت سبّ آلهتنا ، وتسفيه آبائنا ، لجالسناك واتّبعناك ، وقالوا له : ائت بقرآن غير هذا أو بدّله ، ونحو هذا من

٢٧٤

الأقوال ، فخاطب الله تعالى نبيّه عليه‌السلام على هذه الصورة من المخاطبة ، ووقّفه بها توقيفا رادّا على أقوالهم ومبطلا لها ، وليس المعنى أنّه عليه‌السلام همّ بشيء من ذلك ، فزجر عنه ، فإنه لم يرد قطّ ترك شيء مما أوحي إليه ، ولا ضاق صدره به ، وإنما كان يضيق صدره بأقوالهم وأفعالهم وبعدهم عن الإيمان.

قال* ص ، وع (١) * : وعبّر ب (ضائِقٌ) وإن كان أقلّ استعمالا من «ضيّق» لمناسبة (تارِكٌ) ؛ ولأن (ضائِقٌ) وصف عارض ؛ بخلاف «ضيق» ؛ فإنه يدل على الثبوت ، والصّالح هنا الأول بالنسبة إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والضمير في «به» عائد على البعض ، ويحتمل أن يعود على «ما» و (أَنْ يَقُولُوا) أي : كراهة أن يقولوا ، أو لئلا يقولوا ، ثم آنسه تعالى بقوله : (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) ، أي : هذا القدر هو الذي فوّض إليك ، والله تعالى بعد ذلك هو الوكيل الممضي لإيمان من شاء ، وكفر من شاء (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) : «أم» بمعنى : «بل» ، والافتراء أخصّ من الكذب ، ولا يستعمل إلا فيما بهت به المرء وكابر.

وقوله سبحانه : (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) تقدّم تفسير نظيرها ، وقال بعض الناس : هذه الآية متقدّمة على التي في يونس ؛ إذ لا يصحّ أن يعجزوا في واحدة ، ثم يكلّفوا عشرا.

قال* ع (٢) * : وقائل هذا القول لم يلحظ ما ذكرناه من الفرق بين التكليفين ، في كمال المماثلة مرة كما هو في «سورة يونس» ، ووقوفها على النظم مرّة كما هو هنا ، وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) : يريد في أنّ القرآن مفترى.

(فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ١٥٤)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ١٥٥)

٢٧٥

الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٢١)

وقوله سبحانه : (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) ، لهذه الآية تأويلان :

أحدهما : أن تكون المخاطبة من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم للكفّار ، أي : ويكون ضمير (يَسْتَجِيبُوا) ؛ على هذا التأويل عائدا على معبوداتهم.

والثاني : أن تكون المخاطبة من الله تعالى للمؤمنين ، ويكون قوله ؛ على هذا (فَاعْلَمُوا) بمعنى : دوموا على علمكم قال مجاهد : قوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) : هو لأصحاب محمّد عليه‌السلام (١).

وقوله سبحانه : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها ...) الآية : قالت قتادة وغيره : هي في الكفرة (٢) ، وقال مجاهد : هي في الكفرة وأهل الرياء من المؤمنين (٣).

وإليه ذهب معاوية ، والتأويل الأول أرجح ؛ بحسب تقدّم ذكر الكفّار ، وقال ابن العربيّ في «أحكامه» : بل الآية عامّة في كلّ من ينوي غير الله بعمله ، كان معه إيمان أو لم يكن ، وفي هذه الآية بيان لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّما الأعمال بالنيّات وإنّما لكلّ امرئ ما نوى» (٤) ، وذلك أنّ العبد لا يعطى إلا على وجه قصده ، وبحكم ما ينعقد في ضميره ، وهذا أمر متّفق عليه.

وقوله : (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها) : قيل : ذلك في صحّة أبدانهم وإدرار أرزاقهم ، وقيل : إن هذه الآية مطلقة ، وكذلك التي في (حم عسق) : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) الآية [الشورى : ٢٠] إلى آخرها ، قيّدتهما وفسّرتهما الآية التي في «سورة سبحان» ، وهي قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ...) الآية [الإسراء : ١٨] ، فأخبر سبحانه أنّ العبد ينوي ويريد ، والله يحكم ما يريد ، ثم ذكر ابن العربيّ الحديث الصحيح في النّفر الثلاثة الذين كانت أعمالهم رياء ، وهم رجل جمع القرآن ، ورجل قتل في سبيل الله ، ورجل كثير المال ، وقول الله لكلّ واحد منهم : «ماذا عملت؟» ثم قال في آخر الحديث : ثمّ ضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركبتيّ ، وقال : يا أبا هريرة ،

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ١٢) برقم : (١٨٠٢٢ ، ١٨٠٢٤ ، ١٨٠٢٥) ، وذكره ابن عطية (٣ / ١٥٦) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٨٣) ، وعزاه إلى أبي الشيخ.

(٢) ذكره ابن عطية (٣ / ١٥٦)

(٣) ذكره ابن عطية (٣ / ١٥٦)

(٤) تقدم تخريجه.

٢٧٦

أولئك الثّلاثة أوّل خلق الله تسعّر بهم النّار ، ثمّ قرأ قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها)» (١) ، أي : في الدنيا وهذا نصّ في مراد الآية ، والله أعلم. انتهى.

و (حَبِطَ) : معناه : بطل وسقط ، وهي مستعملة في فساد الأعمال.

قال* ص* : قوله : (ما صَنَعُوا) : «ما» بمعنى : «الّذي» ، أو مصدرية ، و «فيها» : متعلّق ب «حبط» ، والضمير في «فيها» عائد على الآخرة ، أي : ظهر حبوط ما صنعوا في الآخرة ، أو متعلّق ب «صنعوا» ؛ فيكون عائدا على الدنيا. انتهى.

و «الباطل : كلّ ما تقتضي ذاته ألّا تنال به غاية في ثواب ونحوه ، وقوله سبحانه : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) : في الآية تأويلات.

قال* ع (٢) * : والراجح عندي من الأقوال في هذه الآية : أن يكون «أفمن» للمؤمنين ، أو لهم وللنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم معهم ، والبينة : القرآن وما تضمّن ، والشاهد : الإنجيل ، يريد : أو إعجاز القرآن في قول ، والضمير في «يتلوه» للبيّنة ، وفي «منه» للربّ ، والضمير في «قبله» للبينة أيضا ، وغير هذا مما ذكر محتمل ، فإن قيل : إذا كان الضمير في «قبله» عائدا على القرآن ، فلم لم يذكر الإنجيل ، وهو قبله ، وبينه وبين كتاب موسى؟ ، فالجواب : أنه خصّ التوراة بالذكر ؛ لأنه مجمع عليه ، والإنجيل ليس كذلك ؛ لأن اليهود تخالف فيه ، فكان الاستشهاد بما تقوم به الحجّة على الجميع أولى ، وهذا يجري مع قول الجنّ : (إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) [الأحقاف : ٣٠] و (الْأَحْزابِ) ؛ هاهنا يراد بهم جميع الأمم ، وروى سعيد بن جبير ، عن أبي موسى الأشعريّ ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ أنه قال : «ما من أحد يسمع بي من هذه الأمّة ولا من اليهود والنّصارى ثمّ لا يؤمن بي إلّا دخل النّار» (٣) ، قال سعيد : فقلت : أين مصداق هذا في كتاب الله؟ حتّى وجدته في هذه الآية ، وكنت إذا سمعت حديثا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلبت مصداقه في كتاب الله عزوجل (٤) ، وقرأ

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٤ / ٥٩١ ، ٥٩٣) كتاب «الزهد» باب : ما جاء في الرياء والسمعة ، حديث (٢٣٨٢) من حديث أبي هريرة مرفوعا.

وقال الترمذي : حديث حسن غريب.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ١٥٧)

(٣) تقدم تخريجه.

(٤) ذكره من هذا الوجه السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٨٧) ، وعزاه إلى سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه.

٢٧٧

الجمهور : «في مرية» (١) ـ بكسر الميم ـ ، وهو الشكّ ، والضمير في «منه» عائد على كون الكفرة موعدهم النّار ، وسائر الآية بيّن.

وقوله تعالى : (وَيَقُولُ الْأَشْهادُ) : قالت فرقة : يريد الشهداء من الأنبياء والملائكة ، وقالت فرقة : الأشهاد : بمعنى المشاهدين ، ويريد جميع الخلائق ، وفي ذلك إشادة بهم وتشهير لخزيهم ، وروي في نحو هذا حديث : «أنّه لا يخزى أحد يوم القيامة / إلّا ويعلم ذلك جميع من شهد المحشر» ، وباقي الآية بيّن مما تقدّم في غيرها.

قال* ص* : وقوله : (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) يحتمل أن يكون داخلا في مفعول القول ، وإليه نحا بعضهم. انتهى.

وقوله سبحانه : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) : يحتمل وجوها :

أحدها : أنه وصف سبحانه هؤلاء الكفّار بهذه الصفة في الدنيا ؛ على معنى أنّهم لا يسمعون سماعا ينتفعون به ، ولا يبصرون كذلك.

والثاني : أن يكون وصفهم بذلك من أجل بغضتهم في النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهم لا يستطيعون أن يحملوا نفوسهم على السّمع منه ، والنّظر إليه.

و «ما» ؛ في هذين الوجهين : نافية.

الثالث : أن يكون التقدير : يضاعف لهم العذاب بما كانوا ، أي : بسبب ما كانوا ؛ ف «ما» مصدرية ، وباقي الآية بيّن.

(لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ)(٢٤)

وقوله سبحانه : (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ ...) الآية : (لا جَرَمَ) تقدم بيانها ، (وَأَخْبَتُوا) : قال قتادة : معناه : خشعوا (٢) ، وقيل : معناه أنابوا ؛ قاله ابن عباس (٣) ،

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ١٥٩) و «البحر المحيط» (٥ / ٢١٢) ، و «الدر المصون» (٤ / ٨٦)

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٦) برقم : (١٨١١٥) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٣ / ١٦١) ، والبغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٧٩) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٩٠) ، وعزاه إلى عبد الرزاق وأبي الشيخ.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٥) برقم : (١٨١٠٩) ، وذكره ابن عطية في تفسيره (٣ / ١٦١) ، والبغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٧٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٩٠)

٢٧٨

وقيل : اطمأنّوا ؛ قاله مجاهد (١) وقيل : خافوا ؛ قاله ابن عباس (٢) أيضا ، وهذه أقوال بعضها قريب من بعض.

وقوله سبحانه : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ ...) الآية ، «الفريقان» الكافرون والمؤمنون ، شبه الكافر بالأعمى والأصمّ ، وشبه المؤمن بالبصير والسميع ، فهو تمثيل بمثالين.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ)(٢٧)

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا ...) الآية : فيها تمثيل لقريش وكفّار العرب ، وإعلام بأن محمّدا عليه‌السلام ليس ببدع من الرسل ، و «الأراذل» جمع الجمع ، فقيل : جمع أرذل ، وقيل : جمع أرذال ، وهم سفلة النّاس ، ومن لا خلاق له ولا يبالي ما يقول ، ولا ما يقال له ، وقرأ الجمهور (٣) : «بادي الرّأي» ـ بياء دون همز ـ ؛ من بدا يبدو ، فيحتمل أن يتعلّق «بادي الرّأي» ب «نراك» ، أي : وما نراك بأول نظر وأقلّ فكرة ، وذلك هو بادي الرأي إلّا ومتّبعوك أراذلنا ، ويحتمل أن يتعلق بقوله : (اتَّبَعَكَ) ، أي : وما نراك اتبعك بادي الرّأي إلا الأراذل ، ثم يحتمل على هذا قوله : (بادِيَ الرَّأْيِ) معنيين :

أحدهما : أن يريدوا : اتّبعك في ظاهر أمرهم ، وعسى أنّ بواطنهم ليست معك.

والثاني : أن يريدوا : اتبعوك بأول نظر ، وبالرأي البادي ، دون تثبّت.

ويحتمل أن يكون قولهم : (بادِيَ الرَّأْيِ) وصفا منهم لنوح ، أي : تدّعي عظيما وأنت مكشوف الرأي ، لا حصافة لك ، ونصبه على الحال ، أو على الصفة ل «بشر».

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٥) برقم : (١٨١١٢ ـ ١٨١١٣ ـ ١٨١١٤) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٣ / ١٦١) ، والبغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٧٩) ، والسيوطي (٣ / ٥٩٠) ، وعزاه إلى أبي الشيخ.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٥) برقم : (١٨١١١) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٣ / ١٦١) ، والبغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٧٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٨٩) ، وعزاه إلى ابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ.

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ١٦٣) و «البحر المحيط» (٥ / ٢١٥) ، و «الدر المنثور» (٤ / ٩١)

٢٧٩

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٣٤)

وقوله سبحانه : (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ ...) الآية : كأنه قال : أرأيتم إن هداني الله وأضلّكم أأجبركم على الهدى ، وأنتم له كارهون ، وعبارة نوح عليه‌السلام كانت بلغته دالّة على المعنى القائم بنفسه ، وهو هذا المفهوم من هذه العبارة العربيّة ، فبهذا استقام أن يقال : قال كذا وكذا ؛ إذ القوم ما أفاد المعنى القائم في النّفس ، وقوله : (عَلى بَيِّنَةٍ) أي : على أمر بيّن جليّ ، وقرأ الجمهور : «فعميت» (١) ولذلك وجهان من المعنى :

أحدهما : خفيت.

والثاني : أن يكون المعنى : فعمّيتم أنتم عنها.

وقوله : (أَنُلْزِمُكُمُوها) : يريد : إلزام جبر ؛ كالقتال ونحوه ، وأما إلزام الإيجاب ، فهو حاصل.

وقوله : (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) : يقتضي أنّ قومه طلبوا طرد الضعفاء الذين بادروا إلى الإيمان به نظير ما اقترحت قريش ، و (تَزْدَرِي) : أصله : تزتري ؛ تفتعل من زرى يزري ، ومعنى : (تَزْدَرِي) : تحتقر ، و «الخير» ؛ هنا : يظهر فيه أنّه خير الآخرة ، اللهم إلا أن يكون ازدراؤهم من جهة الفقر ، فيكون الخير المال ؛ وقد قال بعض المفسّرين : حيث ما ذكر الله الخير / في القرآن ، فهو المال.

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ١٦٤) ، و «البحر المحيط» (٥ / ٢١٧) ، و «الدر المصون» (٤ / ٩٣). وقد قرأ الأخوان ، وحفص بالتشديد ، هكذا «فعمّيت» ، وحجتهم في حرف عبد الله : «فعمّاها عليكم».

ينظر : «حجة القراءات» (٣٣٨) ، و «السبعة» (٣٣٢) ، و «الحجة» (٤ / ٣٢٢) و «إعراب القراءات» (١ / ٢٧٩) ، و «شرح شعلة» (٤٢٦) ، و «العنوان» (١٠٧) ، و «إتحاف» (٢ / ١٢٤)

٢٨٠