تفسير الثعالبي - ج ٣

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٣

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٩

الحسن وعلي بن أبي طالب : هي القناعة (١).

قال* ع (٢) * : والذي أقول به أنّ طيب الحياة اللازم للصالحين إنما هو بنشاط نفوسهم ونبلها وقوّة رجائهم ، والرّجاء للنّفس أمر ملذّ ، فبهذا تطيب حياتهم ، وأنهم احتقروا الدنيا ، فزالت همومها عنهم ، فإن انضاف إلى هذا مال حلال ، وصحّة أو قناعة ، فذلك كمال ، وإلا فالطّيب فيما ذكرناه راتب.

وقوله سبحانه : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ) الآية : وعد بنعيم الجنّة.

قال أبو حيّان : وروي عن نافع : «وليجزينّهم» بالياء ؛ التفاتا من ضمير المتكلّم إلى ضمير الغيبة ، وينبغي أن يكون على تقدير قسم ثان لا معطوفا على «فلنحيينّه» ، فيكون من عطف جملة قسميّة على جملة قسميّة ، وكلتاهما محذوفة ، وليس من عطف جواب ، لتغاير الإسناد. انتهى (٣).

(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ)(١٠٠)

وقوله سبحانه : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ ...) الآية : التقدير فإذا أخذت في قراءة القرآن ، والاستعاذة ندب ، وعن عطاء أنّ التعوّذ واجب (٤) ، ولفظ الاستعاذة هو على رتبة هذه الآية ، والرجيم : المرجوم باللّعنة ، وهو إبليس ثم أخبر تعالى أنّ إبليس ليس له ملكة ولا رياسة ، هذا ظاهر السّلطان عندي في هذه الآية ، وذلك أن السلطان إن جعلناه الحجّة ، فليس لإبليس حجة في الدنيا على أحد لا على مؤمن ولا على كافر ، إلا أن يتأول متأوّل : ليس له سلطان يوم القيامة ، فيستقيم أن يكون بمعنى الحجّة ؛ لأن إبليس له حجّة على الكافرين ؛ أنّه دعاهم بغير دليل ، فاستجابوا له من قبل أنفسهم ، و (يَتَوَلَّوْنَهُ) : معناه يجعلونه وليّا ، والضمير في «به» يحتمل أن يعود على اسم الله عزوجل ، والظاهر أنه يعود على اسم العدوّ الشيطان ، بمعنى من أجله ، وبسببه ، فكأنه قال : والّذين هم بسببه مشركون

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٦٤٢) برقم : (٢١٩٠١ ـ ٢١٩٠٢) ، وذكره البغوي (٣ / ٨٣) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٤١٩) ، وذكره ابن كثير (٢ / ٥٨٥)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٤١٩)

(٣) ينظر : «البحر» لأبي حيان (٥ / ٥١٧)

(٤) ذكره ابن عطية (٣ / ٤٢٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٤٥) ، وعزاه لعبد الرزاق في «المصنف» ، وابن المنذر.

٤٤١

بالله ، وهذا الإخبار بأن لا سلطان للشيطان على المؤمنين بعقب الأمر بالاستعاذة ـ يقتضي أن الاستعاذة تصرف كيده ، كأنها متضمّنة للتوكّل على الله ، والانقطاع إليه.

(وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١٠٤)

وقوله سبحانه : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) يعني بهذا التبديل النّسخ ، (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) : أي قال كفّار مكّة ، و (رُوحُ الْقُدُسِ) : هو جبريل ؛ بلا خلاف.

وقوله سبحانه : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) قال ابن عباس : كان بمكّة غلام أعجميّ لبعض قريش يقال له : «بلعام» ، فكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلّمه الإسلام ، ويرومه عليه ، فقال بعض الكفّار هذا يعلّم محمّدا ، وقيل : اسم الغلام «جبر» ، وقيل : يسار ، وقيل : يعيش ، والأعجميّ هو الذي لا يتكلّم بالعربية ، وأما العجميّ ، فقد يتكلّم بالعربيّة ، ونسبته قائمة (١).

وقوله : (وَهذا) إشارة إلى القرآن والتقدير : وهذا سرد لسان ، أو نطق لسان.

(إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥) مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)(١٠٦)

وقوله / سبحانه : (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ) : بمعنى : إنما يكذب ، وهذه مقاومة للذين قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) [النحل : ١٠١] ، ومن في قوله (مَنْ كَفَرَ) بدل من قوله : (الْكاذِبُونَ) ، فروي : أن قوله سبحانه : (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) يراد به مقيس بن ضبابة وأشباهه ممّن كان آمن ، ثم ارتدّ باختياره من غير إكراه.

وقوله سبحانه : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) ، أي : كبلال وعمّار بن ياسر وأمّه وخبّاب وصهيب

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٦٤٨) برقم : (٢١٩٣٣) بنحوه ، وذكره البغوي (٣ / ٨٥) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٤٢١) ، وذكره ابن كثير (٢ / ٥٨٥) بنحوه ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٤٧) ، وعزاه لابن أبي حاتم ، وابن مردويه بسند ضعيف.

٤٤٢

وأشباههم ؛ ممّن كان يؤذى في الله سبحانه ، فربّما سامح بعضهم بما أراد الكفّار من القول ؛ لما أصابه من تعذيب الكفرة ، فيروى : أنّ عمّار بن ياسر فعل ذلك (١) ، فاستثناه الله في هذه الآية ، وبقيّة الرخصة عامّة في الأمر بعده ، ويروى أن عمّار بن ياسر شكا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما صنع به من العذاب ، وما سامح به من القول ، فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كيف تجد قلبك» قال : أجده مطمئنا بالإيمان ، قال : «فأجبهم بلسانك ؛ فإنّه لا يضرّك ، وإن عادوا فعد» (٢).

وقوله سبحانه : (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) معناه : انبسط إلى الكفر باختياره.

* ت* : وقد ذكر* ع (٣) * هنا نبذا من مسائل الإكراه ، تركت ذلك خشية التطويل ، وإذ محلّ بسطها كتب الفقه.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ)(١٠٩)

وقوله سبحانه : (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ ...) الآية : (ذلِكَ) إشارة إلى الغضب ، والعذاب الذي توعّد به قبل هذه الآية ، والضمير في أنهم لمن شرح بالكفر صدرا.

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(١١١)

وقوله سبحانه : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ...) الآية : قال ابن

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٦٥١) برقم : (٢١٩٤٤ ـ ٢١٩٤٥ ـ ٢١٩٤٦) ، وذكره البغوي (٣ / ٨٦) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٤٢٢ ـ ٤٢٣) بنحوه ، وذكره ابن كثير (٢ / ٥٨٧) بنحوه ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٤٩) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، عن أبي مالك بنحوه.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٦٥١) برقم : (٢١٩٤٦) ، والحاكم (٢ / ٣٥٧) من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار ، عن أبيه به.

وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي ، والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٤٨) ، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق ، وابن سعد ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في «الدلائل».

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٤٢٤)

٤٤٣

إسحاق : نزلت هذه الآية في عمّار بن ياسر ، وعيّاش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد (١).

قال* ع* : وذكر عمّار في هذا عندي غير قويم ، فإنه أرفع من طبقة هؤلاء ، وإنما هؤلاء من تاب ممّن شرح بالكفر صدرا ، فتح الله له باب التوبة في آخر الآية (٢) ، وقال عكرمة والحسن : نزلت هذه الآية في شأن عبد الله بن أبي سرح وأشباهه (٣) فكأنه يقول : من بعد ما فتنهم الشّيطان ، وهذه الآية مدنية بلا خلاف ، وإن وجد ، فهو ضعيف ، وقرأ (٤) الجمهور : «من بعد ما فتنوا» ؛ مبنيّا للمفعول ، وقرأ ابن عامر وحده : «من بعد ما فتنوا» ـ بفتح الفاء والتاء أي فتنوا أنفسهم ، والضمير في (بَعْدِها) عائد على الفتنة ، أو على الفعلة ، أو الهجرة ، أو التوبة ، والكلام يعطيها ، وإن لم يجر لها ذكر صريح.

وقوله : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ) : المعنى لغفور رحيم يوم ، «ونفس» الأولى : هي النفس المعروفة ، والثانية هي بمعنى الذّات.

* ت* : قال المهدويّ : يجوز أن ينتصب (يَوْمَ) ؛ على تقدير لغفور رحيم يوم ، فلا يوقف على (رَحِيمٌ).

وقال* ص* : (يَوْمَ) تأتي ظرف منصوب ب (رَحِيمٌ) أو مفعول به باذكر انتهى ، وهذا الأخير أظهر ، والله أعلم.

وقوله سبحانه : (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) ، أي : يجازى كلّ من أحسن بإحسانه ، وكلّ من أساء بإساءته.

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٦٥٤) برقم : (٢١٩٥٤) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٤٢٥) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٥١) ، وعزاه لابن جرير ، عن ابن إسحاق بنحوه.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٤٢٥)

(٣) أخرجه الطبري (٧ / ٦٥٤) برقم : (٢١٩٥٥) بنحوه ، وذكره البغوي (٣ / ٨٧) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٤٢٥) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٥٠) ، وعزاه لابن جرير.

(٤) ويكون المعنى على قراءة ابن عامر : أنهم هجروا أوطانهم وقد عرفوا ما في ذلك من الشدة ، فيكونون فتنوا أنفسهم.

ينظر : «الحجة» (٥ / ٧٩) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٨٣) ، و «إعراب القراءات» (١ / ٣٦١) ، و «العنوان» (١١٨) ، و «شرح الطيبة» (٤ / ٤٢٠) ، و «شرح شعلة» (٤٦٠) ، و «حجة القراءات» (٣٩٤) ، و «إتحاف» (٢ / ١٩٠)

٤٤٤

رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١١٥)

وقوله سبحانه : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً ...) الآية : قال ابن عبّاس : القرية ؛ هنا مكّة ، والمراد الضمائر كلّها في الآية أهل القرية (١) ، ويتوجّه عندي في الآية أنها قصد بها قرية غير معّينة جعلت مثلا لمكّة ، على معنى التحذير ، لأهلها ولغيرها من القرى إلى يوم القيامة / وهو الذي يفهم من كلام حفصة أمّ المؤمنين ، و «أنعم» جمع نعمة.

وقوله سبحانه : (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) استعارات ، أي : لما باشرهم ذلك ، صار كاللّباس ، والضمير في (جاءَهُمْ) لأهل مكّة ، والرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، و (الْعَذابُ) : الجوع وأمر بدر ونحو ذلك ، إن كانت الآية مدنية ، وإن كانت مكّية ، فهو الجوع فقط.

وقوله سبحانه : (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً ...) الآية : هذا ابتداء كلام آخر ، أي : وأنتم أيها المؤمنون ، لستم كهذه القرية فكلوا واشكروا الله على تباين حالكم ، من حال الكفرة ، وقوله : (حَلالاً) حال ، وقوله : (طَيِّباً) : أي مستلذّا ؛ إذ فيه ظهور النعمة ، ويحتمل أن يكون «الطّيب» بمعنى الحلال ، كرّر مبالغة وتأكيدا.

(وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(١١٨)

وقوله سبحانه : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ ...) الآية : هذه الآية مخاطبة للكفّار الذين حرّموا البحائر والسّوائب ، قال ابن العربيّ (٢) في «أحكامه» ومعنى الآية : لا تصفوا الأعيان بأنها حلال أو حرام من قبل أنفسكم ، إنما المحرّم والمحلّل هو الله سبحانه ، قال ابن وهب : قال مالك لم يكن من فتيا النّاس أن يقال لهم : هذا حلال ، وهذا حرام ، ولكن يقول : أنا أكره هذا ، ولم أكن لأصنع هذا ، فكان النّاس

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٦٥٥) برقم : (٢١٩٥٦) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٤٢٦) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥٨٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٥١) ، وعزاه لابن جرير.

(٢) ينظر : «أحكام القرآن» (٣ / ١١٨٣)

٤٤٥

يطيعون ذلك ، ويرضونه ، ومعنى هذا : أنّ التحليل والتحريم إنما هو لله ؛ كما تقدم بيانه ، فليس لأحد أن يصرّح بهذا في عين من الأعيان إلا أن يكون الباري تعالى يخبر بذلك عنه ، وما يؤدّي إليه الاجتهاد أنه حرام يقول فيه : إني أكره كذا ، وكذلك كان مالك يفعل ، اقتداء بمن تقدّم من أهل الفتوى انتهى.

وقوله : (مَتاعٌ قَلِيلٌ) إشارة إلى عيشهم في الدنيا ، (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) بعد ذلك في الآخرة ، وقوله : (ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) إشارة إلى ما في «سورة الأنعام» من ذي الظّفر والشّحوم.

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩) إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(١٢٣)

وقوله سبحانه : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) هذه آية تأنيس لجميع العالم فهي تتناول كلّ كافر وعاص تاب من سوء حاله ، قالت فرقة : «الجهالة» ؛ هنا : العمد ، والجهالة ؛ عندي في هذا الموضع : ليست ضد العلم ، بل هي تعدّي الطّور وركوب الرأس. ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أو أجهل أو يجهل عليّ» (١) وقد تقدّم بيان هذا ، وقلّما يوجد في العصاة من لم يتقدّم له علم بحظر المعصية التي يواقع.

وقوله سبحانه : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ ...) الآية : لما كشف الله فعل اليهود وتحكّمهم في شرعهم بذكر ما حرّم عليهم ـ أراد أن يبيّن بعدهم عن شرع إبراهيم عليه‌السلام ، «والأمة» ، في اللغة : لفظة مشتركة تقع للحين ، وللجمع الكثير ، وللرّجل المنفرد بطريقة وحده ، وعلى هذا الوجه سمّي إبراهيم عليه‌السلام أمة ، قال مجاهد : سمّي إبراهيم أمة ؛ لانفراده بالإيمان في وقته مدّة ما (٢) ، وفي البخاريّ ؛ أنه قال لسارة : «ليس على الأرض اليوم مؤمن غيري وغيرك» ، وفي البخاريّ قال ابن مسعود : الأمّة معلّم الخير

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) أخرجه الطبري (٧ / ٦٦١) برقم : (٢١٩٨٠) بنحوه ، وذكره البغوي (٨٩١٣) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٤٣٠) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥٩١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٥٣) ، وعزاه لابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

٤٤٦

والقانت (١) : المطيع الدائم على العبادة ، والحنيف : المائل إلى الخير والصّلاح.

/ وقوله سبحانه : (وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) ، الآية «الحسنة» : لسان الصدق ، وإمامته لجميع الخلق ؛ هذا قول جميع المفسّرين ، وذلك أنّ كل أمة متشرّعة ، فهي مقرّة أنّ إيمانها إيمان إبراهيم ، وأنه قدوتها ، وأنه كان على الصواب.

* ت* : وهذا كلام فيه بعض إجمال ، وقد تقدّم في غير هذا الموضع بيانه ، فلا نطوّل بسرده.

وقوله سبحانه : (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ ...) الآية : الملة : الطريقة في عقائد الشّرع.

(إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤) ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(١٢٥)

وقوله سبحانه : (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ ...) الآية : أي : لم يكن من ملّة إبراهيم ، وإنما جعل الله فرضا عاقب به القوم المختلفين فيه ؛ قاله ابن زيد ؛ وذلك أن موسى عليه‌السلام أمر بني إسرائيل أن يجعلوا من الجمعة يوما مختصّا بالعبادة ، وأمرهم أن يكون الجمعة ، فقال جمهورهم : بل يكون يوم السّبت ؛ لأن الله تعالى فرغ فيه من خلق مخلوقاته ، وقال غيرهم : بل نقبل ما أمر به موسى ، فراجعهم الجمهور ، فتابعهم الآخرون ، فألزمهم الله يوم السبت إلزاما قويّا ، عقوبة لهم ، ثم لم يكن منهم ثبوت ، بل عصوا فيه ، وتعدّوا فأهلكهم (٢) ، وورد في الحديث الصحيح ، أنّ اليهود والنّصارى اختلفوا في اليوم الذي يختصّ من الجمعة ، فأخذ هؤلاء السبت ، وأخذ هؤلاء الأحد ، فهدانا الله نحن إلى يوم الجمعة ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فهذا يومهم الّذي اختلفوا فيه» (٣) فليس الاختلاف المذكور في الآية هو الاختلاف في هذا الحديث.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٦٥) برقم : (٢١٩٧١) ، وذكره البغوي (٣ / ٨٩) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٤٣٠) ، وابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥٩١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٥٣) ، وعزاه لعبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، والحاكم صححه.

(٢) ذكره ابن عطية (٣ / ٤٣١)

(٣) سيأتي تخريجه.

٤٤٧

* ت* : يعنى أنّ الاختلاف المذكور في الآية هو بين اليهود فيما بينهم ، والاختلاف المذكور في الحديث الصحيح هو فيما بين اليهود والنصارى.

وقوله سبحانه : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) هذه الآية نزلت بمكّة ، أمر عليه‌السلام أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطّف ، وهكذا ينبغى أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة.

(وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)(١٢٨)

وقوله سبحانه : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ...) الآية : أطبق أهل التفسير أنّ هذه الآية مدنيّة ، نزلت في شأن التمثيل بحمزة وغيره في يوم أحد ، ووقع ذلك في «صحيح البخاريّ» وغيره ، وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لئن أظفرني الله بهم لأمثّلنّ بثلاثين» (١) كتاب «النحّاس» وغيره : «بسبعين منهم» ، فقال الناس : إن ظفرنا ، لنفعلنّ ولنفعلنّ ، فنزلت هذه الآية ، ثم عزم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصّبر عن المجازاة بالتمثيل في القتلى ، ويروى أنه عليه‌السلام قال لأصحابه : «أمّا أنا فأصبر كما أمرت ، فماذا تصنعون؟ فقالوا : نصبر يا رسول الله كما ندبنا!!!».

وقوله : (وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) أي بمعونة الله وتأييده على ذلك.

وقوله سبحانه : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) قيل : الضمير في قوله : (عَلَيْهِمْ) يعود على الكفار ، أي : لا تتأسّف على أن لم يسلموا ، وقالت فرقة : بل يعود على القتلى حمزة وأصحابه الذين حزن عليهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأول أصوب. (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) قرأ الجمهور (٢) : «في ضيق» ـ بفتح الضاد ـ ، وقرأ ابن كثير بكسر الضاد ، وهما لغتان.

(إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) : أي بالنصر والمعونة ، و (اتَّقَوْا) يريد المعاصي ، و (مُحْسِنُونَ) هم الذين يتزيّدون فيما ندب إليه من فعل الخير / وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليما.

__________________

(١) بهذا اللفظ ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٥٥ ـ ٢٥٦) ، وعزاه لابن أبي إسحاق ، وابن جرير.

(٢) ينظر : «السبعة» (٣٧٦) ، و «الحجة» (٥ / ٨٠) ، و «إعراب القراءات» (١ / ٣٦١) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٨٤) ، و «شرح الطيبة» (٤ / ٤٢٠) ، و «شرح شعلة» (٤٦٠) ، و «العنوان» (١١٨) ، و «حجة القراءات» (٣٩٥) و «إتحاف» (٢ / ١٩١)

٤٤٨

تفسير سورة الإسراء

هذه السورة مكّيّة إلا ثلاث آيات ، قال ابن مسعود : في «بني إسرائيل» ، و «الكهف» : إنها من العتاق الأول ، وهنّ من تلادي ، يريد أنّهنّ من قديم كسبه (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١)

قوله عزوجل : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) : جل العلماء على أن الإسراء كان بشخصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه ركب البراق من مكّة ، ووصل إلى بيت المقدس ، وصلّى فيه ، وقالت عائشة ومعاوية : إنما أسري بروحه (٢) ، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور ، ولو كانت منامة ، ما أمكن قريشا التشنيع ، ولا فضّل أبو بكر بالتصديق ، ولا قالت له أمّ هانىء : لا تحدّث الناس بهذا ، فيكذّبوك ، إلى غير هذا من الدلائل ، وأما قول عائشة فإنها كانت صغيرة ، ولا حدثت عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذلك معاوية.

قال ابن (٣) العربيّ : قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) قال علماؤنا : لو كان للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم اسم هو أشرف منه ، لسماه الله تعالى به في تلك الحالة العليّة ، وقد قال الأستاذ جمال الإسلام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن : لما رفعه الله إلى حضرته السّنيّة وأرقاه فوق الكواكب العلويّة ؛ ألزمه اسم العبوديّة ، تواضعا وإجلالا للألوهية. انتهى من «الأحكام».

و (سُبْحانَ) مصدر معناه : تنزيها لله ، وروى طلحة بن عبيد الله الفيّاض أحد العشرة ، أنه قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما معنى سبحان الله؟ قال : تنزيه الله من كلّ سوء (٤) ، وكان

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٤٣٤)

(٢) أخرجه الطبري (٨ / ١٦) برقم : (٢٢٠٣٣) ، وذكره البغوي ، وابن عطية (٣ / ٤٣٤)

(٣) ينظر : «أحكام القرآن» (٣ / ١١٩٢)

(٤) ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠ / ٩٧ ـ ٩٨). وقال : رواه البزار وفيه عبد الرحمن بن حماد الطلحي ، وهو ضعيف بسبب هذا ، وغيره.

٤٤٩

الإسراء فيما قال مقاتل وقتادة : قبل الهجرة بعام (١) ، وقيل : بعام ونصف ، والمتحقّق أن ذلك كان بعد شقّ الصحيفة ، وقبل بيعة العقبة ، ووقع في «الصحيحين» لشريك بن أبي نمر ، وهم في هذا المعنى ؛ فإنه روى حديث الإسراء ، فقال فيه : وذلك قبل أن يوحى إليه ، ولا خلاف بين المحدّثين ؛ أن هذا وهم من شريك.

قال* ص* : (أَسْرى بِعَبْدِهِ) بمعنى : سرى ، وليست همزته للتعدية ، بل ك «سقى وأسقى» ، والباء للتعدية ، و (لَيْلاً) ظرف للتأكيد ؛ لأن السّرى لا يكون لغة إلا بليل ، وقيل : يعني به في جوف الليل ، فلم يكن إدلاجا ولا ادّلاجا انتهى.

و (الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) : بيت المقدس ، «والأقصى» البعيد ، والبركة حوله من وجهين :

أحدهما ، النبوّة والشرائع والرسل الذين كانوا في ذلك القطر ، وفي نواحيه.

والآخر : النّعم من الأشجار والمياه والأرض المفيدة.

وقوله سبحانه : (لِنُرِيَهُ) يريد لنري محمّدا بعينه آياتنا في السموات والملائكة والجنّة والسّدرة وغير ذلك من العجائب ، مما رآه تلك الليلة ، ولا خلاف أنّ في هذا الإسراء فرضت الصلوات الخمس على هذه الأمة.

وقوله سبحانه : (إِنَّهُ هُوَ / السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) وعيد للمكذّبين بأمر الإسراء ، أي : هو السميع لما تقولون ، البصير بأفعالكم.

(وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) (٤)

(وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) ، أي : التوراة.

وقوله : (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً ...) الآية : التقدير : فعلنا ذلك ؛ لئلّا تتخذوا يا ذرية ف (ذُرِّيَّةَ) : منصوب على النداء ، وهذه مخاطبة للعالم ، ويتجه نصب (ذرّيّة) على أنه مفعول ب «تتخذوا» ، ويكون المعنى ألّا يتخذوا بشرا إلاها من دون الله ، وقرأ أبو عمرو (٢)

__________________

(١) ذكره البغوي (٣ / ٩٢) ، وابن عطية (٣ / ٤٣٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لابن مردويه ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده.

(٢) وحجته أن الفعل قرب من الخبر عن بني إسرائيل ، فجعل الفعل مسندا إليهم ، والمعنى حينئذ : جعلناه هدى لبني إسرائيل ، لئلا يتخذوا من دوني وكيلا.

٤٥٠

وحده : «ألّا يتّخذوا» بالياء ، على لفظ الغائب ، «والوكيل» ؛ هنا من التوكيل ، أي : متوكّلا عليه في الأمور ، فهو ندّ لله بهذا الوجه ، وقال مجاهد : (وَكِيلاً) : شريكا (١) ، ووصف نوح بالشّكر ؛ لأنه كان يحمد الله في كل حال ، وعلى كل نعمة من المطعم والمشرب والملبس والبراز وغير ذلك صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله سلمان الفارسيّ وغيره (٢) ، وقال ابن المبارك في «رقائقه» : أخبرنا ابن أبي ذئب عن سعيد المقبريّ عن أبيه عن عبد الله بن سلام : أن موسى عليه‌السلام قال : يا ربّ ، ما الشكر الذي ينبغي لك؟ قال : يا موسى لا يزال لسانك رطبا من ذكري (٣) ، انتهى ، وقد روّيناه مسندا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعني قوله : «لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله» (٤).

وقوله سبحانه : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ ...) الآية : قالت فرقة : (قَضَيْنا) معناه :

في أم الكتاب.

قال* ع (٥) * : وإنما يلبس في هذا المكان تعدية (قَضَيْنا) ب «إلى» ، وتلخيص المعنى عندي : أنّ هذا الأمر هو مما قضاه الله عزوجل في أمّ الكتاب على بني إسرائيل ،

__________________

ـ ينظر : «السبعة» (٣٧٨) ، و «الحجة» (٥ / ٨٣) ، و «إعراب القراءات» (١ / ٣٦٣) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٨٧) ، و «شرح الطيبة» (٤ / ٤٢٢) ، و «العنوان» (١١٩) ، و «شرح شعلة» (٤٦١) ، و «حجة القراءات» (٣٩٦) ، و «إتحاف» (٢ / ١٩٣)

(١) أخرجه الطبري (٨ / ١٧) برقم : (٢٢٠٣٦) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٤٣٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٩٤) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه الطبري (٨ / ١٩) برقم : (٢٢٠٤٤) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٤٣٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٩٤) ، وعزاه للفريابي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في «شعب الإيمان».

(٣) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» ص : (٣٣٠) رقم : (٩٤٢)

(٤) أخرجه الترمذي (٥ / ٤٥٨) كتاب «الدعوات» باب : ما جاء في فضل الذكر حديث (٣٣٧٥) ، وابن ماجه (٢ / ١٢٤٦) كتاب «الأدب» باب : فضل الذكر ، حديث (٣٧٩٣) ، وابن أبي شيبة (١٠ / ٣٠١) رقم : (٥٩٠٢) ، وأحمد (٤ / ١٩٠) ، وفي «الزهد» ص : (٣٥) ، والحاكم (١ / ٤٩٥) ، وابن حبان (٢٣١٧ ـ موارد) ، وأبو نعيم في «الحلية» (٩ / ٥١) ، وابن المبارك في «الزهد» ص : (٣٢٨) رقم : (٩٣٥) ، والبيهقي (٣ / ٣٧١) كتاب «الجنائز» باب : طوبى لحسن طال عمره وحسن عمله ، كلهم من طريق عمرو بن قيس الكندي ، عن عبد الله بن بسر قال : جاء أعرابيان إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أحدهما : يا رسول الله أخبرني بأمر أتشبث به ، قال : فذكر الحديث.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي ، وصححه ابن حبان.

(٥) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٤٣٧)

٤٥١

وألزمهم إياه ، ثم أخبرهم به في التّوراة على لسان موسى ، فلما أراد هنا الإعلام لنا بالأمرين جميعا في إيجاز ، جعل (قَضَيْنا) دالّة على النفوذ في أم الكتاب ، وقرن بها «إلى» دالّة على إنزال الخير بذلك إلى بني إسرائيل ، والمعنى المقصود مفهوم خلال هذه الألفاظ ، ولهذا فسر ابن عباس مرة بأن قال : (قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) ، معناه : أعلمناهم (١) ، وقال مرّة : «قضينا عليهم (٢)» ، و (الْكِتابِ) هنا ؛ التوراة لأن القسم في قوله : (لَتُفْسِدُنَ) غير متوجّه مع أن نجعل (الْكِتابِ) هو اللوح المحفوظ.

وقال* ص* : و (قَضَيْنا) : مضمّن معنى «أوحينا» ؛ ولذلك تعدّى ب «إلى» ، وأصله أن يتعدّى بنفسه إلى مفعول واحد ؛ كقوله سبحانه : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) [القصص : ٢٩] انتهى ، وهو حسن موافق لكلام* ع* ، وقوله «ولتعلنّ» أي : لتتجبّرنّ ، وتطلبون في الأرض العلوّ ، ومقتضى الآيات أن الله سبحانه أعلم بني إسرائيل في التوراة ، أنه سيقع منهم عصيان وكفر لنعم الله ، وأنه سيرسل عليهم أمة تغلبهم وتذلّهم ، ثم يرحمهم بعد ذلك ، ويجعل لهم الكرّة ويردّهم إلى حالهم من الظهور ، ثم تقع منهم أيضا تلك المعاصي والقبائح ، فيبعث الله تعالى عليهم أمة أخرى تخرّب ديارهم ، وتقتلهم ، وتجليهم جلاء ، مبرّحا ، وأعطى الوجود بعد ذلك هذا الأمر كلّه ، قيل : كان بين المرتين مائتا سنة ، وعشر سنين ملكا مؤيّدا بأنبياء ، وقيل : سبعون سنة.

(فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً)(٨)

وقوله سبحانه : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) الضمير في قوله : (أُولاهُما) عائد / على قوله (مَرَّتَيْنِ) ، وعبّر عن الشر ب «الوعد» ؛ لأنه قد صرّح بذكر المعاقبة.

قال* ص* : (وَعْدُ أُولاهُما) ، أي : موعود ، وهو العقاب ، لأن الوعد سبق

__________________

(١) أخرجه الطبري (٨ / ٢٠) برقم : (٢٢٠٥١) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٤٣٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٩٥) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(٢) أخرجه الطبري (٨ / ٢٠) برقم : (٢٢٠٥٢) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٣ / ٤٣٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٩٦) ، وعزاه لابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

٤٥٢

بذلك ، وقيل : هو على حذف مضاف ، أي وعد عقاب أولاهما. انتهى ، وهو معنى ما تقدّم واختلف الناس في العبيد المبعوثين ، وفي صورة الحال اختلافا شديدا متباعدا ، عيونه أنّ بني إسرائيل عصوا وقتلوا زكريّاء عليه‌السلام ، فغزاهم سنجاريب ملك بابل ، قاله ابن إسحاق وابن جبير (١).

وقال ابن عباس : غزاهم جالوت من أهل الجزيرة (٢) ، وقيل : غزاهم بخت نصّر ، وروي أنه دخل قبل في جيش من الفرس ، وهو خامل يسير في مطبخ الملك ، فاطّلع من جور بني إسرائيل على ما لم تعلمه الفرس ، فلمّا انصرف الجيش ، ذكر ذلك للملك الأعظم ، فلما كان بعد مدّة ، جعله الملك رئيس جيش ، وبعثه فخرّب بيت المقدس ، وقتلهم ، وأجلاهم ، ثم انصرف ، فوجد الملك قد مات ، فملك موضعه ، واستمرّت حاله حتى ملك الأرض بعد ذلك ، وقالت فرقة : إنما غزاهم بخت نصّر في المرّة الأخيرة حين عصوا وقتلوا يحيى بن زكريّاء ، وصورة قتله : أن الملك أراد أن يتزوج بنت امرأته ، فنهاه يحيى عنها ، فعزّ ذلك على امرأته ، فزّينت بنتها ، وجعلتها تسقي الملك الخمر ، وقالت لها : إذا راودك عن نفسك ، فتمنّعي حتّى يعطيك الملك ما تتمنّين ، فإذا قال لك : تمنّي عليّ ما أردتّ ، فقولي : رأس يحيى بن زكرياء ، ففعلت الجارية ذلك ، فردّها الملك مرّتين ، وأجابها في الثالثة ، فجيء بالرأس في طست ، ولسانه يتكلّم ، وهو يقول : لا تحلّ لك ، وجرى دم يحيى ، فلم ينقطع ، فجعل الملك عليه التراب ، حتى ساوى سور المدينة ، والدم ينبعث ، فلما غزاهم الملك الذي بعث عليهم بحسب الخلاف الذي فيه ، قتل منهم على الدم سبعين ألفا حتى سكن ، هذا مقتضى خبرهم ، وفي بعض الروايات زيادة ونقص ، وقرأ الناس : «فجاسوا» ، وقرأ أبو السّمّال (٣) : بالحاء ، وهما بمعنى الغلبة والدخول قهرا ، وقال مؤرّج : جاسوا خلال الأزقّة.

* ت* قال* ص* : (فَجاسُوا) مضارعه يجوس ، ومصدره جوس وجوسان ،

__________________

(١) أخرجه الطبري (٨ / ٢٧) برقم : (٢٢٠٦٨) ، وذكره البغوي (٣ / ١٠٦) ، وابن عطية (٣ / ٤٣٨) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٢٥)

(٢) أخرجه الطبري (٨ / ٢٢٧) برقم : (٢٢٠٦٥) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٤٣٨) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٢٥)

(٣) ينظر : «المحتسب» (٢ / ١٥) ، وقرأ بها طلحة كما في «الكشاف» (٢ / ٦٤٩) ، وينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٤٣٩) ، و «البحر المحيط» (٦ / ٩) ، و «الدر المصون» (٤ / ٣٧٢) ، ووقع في «مختصر الشواذ» ص : (٧٨) ، نسبتها إلى أبي السمال بالحاء والشين «فحاشوا».

٤٥٣

ومعناه : التردّد ، و (خِلالَ) ظرف ، أي : وسط الديار انتهى.

وقوله سبحانه : (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ...) الآية عبارة عما قاله سبحانه لبني إسرائيل في التوراة ، وجعل «رددنا» موضع «نردّ» ، لما كان وعد الله في غاية الثّقة ، وأنه واقع لا محالة ، فعبّر عن المستقبل بالماضي ، وهذه الكرة هي بعد الجولة الأولى ، كما وصفنا ، فغلبت بنو إسرائيل على بيت المقدس ، وملكوا فيه ، وحسنت حالهم برهة من الدهر ، وأعطاهم الله الأموال والأولاد وجعلهم إذا نفروا إلى أمر أكثر النّاس ، فلما قال الله : إنّي سأفعل بكم هكذا ، عقّب بوصيّتهم في قوله : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ...) الآية ، المعنى : إنكم بعملكم تجازون ، و (وَعْدُ الْآخِرَةِ) معناه : من المرّتين.

/ وقوله : (لِيَسُوؤُا) اللام لام أمر ، وقيل : المعنى : بعثناهم ، ليسوؤوا وليدخلوا ، فهي لام كي كلّها ، والضمير للعباد أولي البأس الشديد ، و (الْمَسْجِدَ) مسجد بيت المقدس ، «وتبّر» معناه : أفسد بغشم وركوب رأس.

وقوله : (ما عَلَوْا) ، أي : ما علوا عليه من الأقطار ، وملكوه من البلاد ، وقيل : «ما» ظرفية ، والمعنى مدة علوهم وغلبتهم على البلاد.

وقوله سبحانه : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ ...) الآية : يقول الله عزوجل لبقية بني إسرائيل : عسى ربكم إن أطعتم في أنفسكم واستقمتم أن يرحمكم ، وهذه العدة ليست برجوع دولة ، وإنما هي بأن يرحم المطيع منهم ، وكان من الطاعة اتّباعهم لعيسى ومحمّد عليهما‌السلام ، فلم يفعلوا ، وعادوا إلى الكفر والمعصية ، فعاد عقاب الله عليهم بضرب الذّلة عليهم ، وقتلهم وإذلالهم بيد كلّ أمة ، و «الحصير» : من الحصر بمعنى السّجن ، وبنحو هذا فسّره مجاهد وغيره (١) ، وقال الحسن : «الحصير» في الآية : أراد به ما يفترش ويبسط ؛ كالحصير المعروف عند الناس (٢).

قال* ع (٣) * : وذلك الحصير أيضا هو مأخوذ من الحصر.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٨ / ٤٢) برقم : (٢٢١٠٦) ، ذكره ابن عطية (٣ / ٤٤٠) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٢٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٠٠) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه الطبري (٨ / ٤٢) برقم : (٢٢١٠٩) ، وذكره البغوي (٣ / ١٠٧) ، وابن عطية (٣ / ٤٤٠) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٢٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٠٠) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٤٤٠)

٤٥٤

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٠)

وقوله سبحانه : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ...) الآية : (يَهْدِي) ، في هذه الآية بمعنى يرشد ، ويتوجّه فيها أن تكون بمعنى «يدعو» و «التي» يريد بها الحالة والطريقة ، وقالت فرقة : «التي هي أقوم» : لا إله إلا الله ، والأول أعمّ ، «والأجر الكبير» الجنة ؛ وكذلك حيث وقع في كتاب الله فضل كبير ، وأجر كبير ، فهو الجنة ، قال الباجيّ قال ابن وهب : سمعت مالكا يقول : إن استطعت أن تجعل القرآن إماما ، فافعل ، فهو الإمام الذي يهدي إلى الجنّة. قال أبو سليمان الدارانيّ : ربّما أقمت في الآية الواحدة خمس ليال ، ولو لا أني أدع التفكّر فيها ، ما جزتها ، وقال : إنما يؤتى على أحدكم من أنه إذا ابتدأ السورة ، أراد آخرها. قال الباجيّ. وروى ابن لبابة عن العتبي عن سحنون ؛ أنه رأى عبد الرحمن بن القاسم في النوم ، فقال له : ما فعل الله بك؟ قال : وجدت عنده ما أحببت! قال له : فأي أعمالك وجدت أفضل؟ قال : تلاوة القرآن ، قال : قلت له : فالمسائل ، فكان يشير بأصبعه ؛ كأنه يلشيها ، فكنت أسأله عن ابن وهب ، فيقول لي : هو في علّيّين. انتهى من «سنن الصالحين».

(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً)(١٢)

وقوله سبحانه : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) : سقطت الواو من (يَدْعُ) في خطّ المصحف (١).

قال ابن عباس وقتادة ومجاهد : هذه الآية نزلت ذامّة لما يفعله الناس من الدعاء على أموالهم في وقت الغضب والضّجر ، فأخبر سبحانه أنهم يدعون بالشرّ في ذلك الوقت ، كما يدعون بالخير في وقت التثبّت ، فلو أجاب الله دعاءهم ، أهلكهم ، لكنّه سبحانه يصفح ولا يجيب دعاء الضّجر المستعجل (٢) ، ثم عذر سبحانه بعض العذر في أن الإنسان له عجلة

__________________

(١) قال الشيخ البنا : «واتفقوا على كتابة «ويدع الإنسان» بحذف الواو». ينظر : «إتحاف فضلاء البشر» (٢ / ٢٠٧)

(٢) أخرجه الطبري (٨ / ٤٤) برقم : (٢٢١١٢) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٤٤١) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٢٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٠١) ، وعزاه لابن جرير.

٤٥٥

فطرية ، و (الْإِنْسانُ) هنا : يراد به / الجنس ؛ قاله مجاهد وغيره (١).

وقال ابن عباس وسليمان : الإشارة إلى آدم لما نفخ الرّوح في رأسه ، عطس وأبصر ، فلما مشى الرّوح في بدنه قبل ساقيه ، أعجبته نفسه ، فذهب ليمشي مستعجلا لذلك (٢) ، فلم يقدر ، والمعنى ؛ على هذا فأنتم ذووا عجلة موروثة من أبيكم ، وقالت فرقة : معنى الآية : معاتبة الناس في دعائهم بالشرّ مكان ما يجب أن يدعوه بالخير.

* ت* : قول هذه الفرقة نقله* ع* (٣) غير ملخّص ، فأنا لخّصته.

وقوله سبحانه : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ ...) الآية هنا العلامة المنصوبة للنّظر والعبرة.

وقوله سبحانه : (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) قالت فيه فرقة : سبب تعقيب الفاء أن الله تعالى خلق الشمس والقمر مضيئين ، فمحا بعد ذلك القمر ، محاه جبريل بجناحه ثلاث مرّات ، فمن هنالك كلفه ، وقالت فرقة : إن قوله : (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) إنما يريد في أصل خلقته ، (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) ، أي : يبصر بها ومعها ، ليبتغي الناس الرزق وفضل الله ، وجعل سبحانه القمر مخالفا لحال الشمس ؛ ليعلم به العدد من السنين والحساب للأشهر والأيام ، ومعرفة ذلك في الشرع إنما هو من جهة القمر ، لا من جهة الشمس ، وحكى عياض في «المدارك» في ترجمة الغازي بن قيس قال : روي عن الغازي بن قيس ؛ أنه كان يقول : ما من يوم يأتي إلّا ويقول : أنا خلق جديد ، وعلى ما يفعل فيّ شهيد ، فخذوا منّي قبل أن أبيد ، فإذا أمسى ذلك اليوم ، خرّ لله ساجدا ، وقال : الحمد لله الّذي لم يجعلني اليوم العقيم. انتهى. «والتفصيل» البيان.

(وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(١٥)

وقوله سبحانه : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ) قال ابن عباس : (طائِرَهُ) ما قدّر له

__________________

(١) ذكره الطبري (٨ / ٤٥) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٤٤١)

(٢) أخرجه الطبري (٨ / ٤٥) برقم : (٢٢١١٧) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٤٤١) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٢٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٠١) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر ، وابن عساكر.

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٤٤١)

٤٥٦

وعليه (١) ، وخاطب الله العرب في هذه الآية بما تعرف ، وذلك أنه كان من عادتها التيمّن والتشاؤم بالطّير في كونها سانحة وبارحة ، وكثر ذلك حتّى فعلته بالظّباء وحيوان الفلا ، وسمّت ذلك كلّه تطيّرا ، وكانت تعتقد أنّ تلك الطّيرة قاضية بما يلقى الإنسان من خير وشرّ ، فأخبرهم الله تعالى في هذه الآية بأوجز لفظ ، وأبلغ إشارة ، أن جميع ما يلقى الإنسان من خير وشر قد سبق به القضاء ، وألزم حظه وعمله وتكسّبه في عنقه ، وذلك في قوله عزوجل : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) ، فعبّر عن الحظّ والعمل ؛ إذ هما متلازمان ، بالطائر ؛ قاله مجاهد وقتادة (٢) ، بحسب معتقد العرب في التطيّر ، (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) : هذا الكتاب هو عمل الإنسان وخطيئاته ، (اقْرَأْ كِتابَكَ) أي : يقال له : اقرأ كتابك ، وأسند الطبريّ عن الحسن ، أنه قال : يا ابن آدم بسطت لك صحيفة ، ووكل بك ملكان كريمان ؛ أحدهما عن يمينك يكتب حسناتك ، والآخر عن شمالك يحفظ سيئاتك ، فأملل ما شئت وأقلل أو أكثر حتّى إذا متّ طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج لك / يوم القيامة كتابا تلقاه منشورا (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) قد عدل والله فيك ، من جعلك حسيب نفسك (٣).

قال* ع* (٤) فعلى هذه الألفاظ التي ذكر الحسن يكون الطائر ما يتحصّل مع ابن آدم من عمله في قبره ، فتأمّل لفظه ، وهذا قول ابن عباس (٥) ، وقال قتادة في قوله : اقرأ كتابك : إنه سيقرأ يومئذ من لم يكن يقرأ (٦).

(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا

__________________

(١) أخرجه الطبري (٨ / ٤٧) برقم : (٢٢١٣٣) ، وذكره البغوي (٣ / ١٠٨) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٤٤٢) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٠٣) ، وعزاه لابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه الطبري (٨ / ٤٧) برقم : (٢٢١٣٣) ، وذكره البغوي (٣ / ١٠٨) ، وابن عطية (٣ / ٤٤٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٠٣) ، وعزاه لأبي داود في كتاب «القدر» ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(٣) ذكره البغوي (٣ / ١٠٨) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٤٤٣) ، وذكره ابن كثير (٣ / ٢٨) بنحوه ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٠٤) ، وعزاه لابن جرير.

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤٤٣)

(٥) أخرجه الطبري (٨ / ٤٩) برقم : (٢٢١٤١) ، وذكره البغوي (٣ / ١٠٨) ، وابن عطية (٣ / ٤٤٣) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٢٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٠٤) ، وعزاه لابن جرير.

(٦) أخرجه الطبري (٨ / ٥٠) برقم : (٢٢١٤٥) ، وذكره البغوي (٣ / ١٠٨) ، وابن عطية (٣ / ٤٤٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٠٤) ، وعزاه لابن جرير ، وابن أبي حاتم.

٤٥٧

لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً)(٢٠)

وقوله سبحانه : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها) قرأ الجمهور (١) : «أمرنا» ؛ على صيغة الماضي ، وعن نافع وابن كثير ، في بعض ما روي عنهما : «آمرنا» بمد الهمزة ؛ بمعنى كثّرنا ، وقرأ أبو عمرو بخلاف عنه : «أمّرنا» بتشديد الميم ، وهي قراءة أبي عثمان النّهديّ ، وأبي العالية وابن عبّاس ، ورويت عن علي ، قال الطبري (٢) القراءة الأولى معناها : أمرناهم بالطّاعة ، فعصوا وفسقوا فيها ، وهو قول ابن عباس (٣) وابن جبير ، والثانية : معناها : كثّرناهم ، والثالثة : هي من الإمارة ، أي ملّكناهم على الناس ، قال الثعلبي : واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة الجمهور ، قال أبو عبيد : وإنما اخترت هذه القراءة ، لأنّ المعاني الثلاثة مجتمعة فيها ، وهي معنى الأمر والإمارة والكثرة انتهى.

* ت* : وعبارة ابن العربي (٤) : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) يعني بالطاعة ، ففسقوا بالمخالفة انتهى من كلامه على الأفعال الواقعة في القرآن ، «والمترف» : الغنيّ من المال المتنعّم ، والتّرفه : النّعمة ، وفي مصحف أبيّ بن كعب : «قرية بعثنا أكابر مجرميها فمكروا فيها».

وقوله سبحانه : (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) ، أي : وعيد الله لها الذي قاله رسولهم ، «والتدمير» الإهلاك مع طمس الآثار وهدم البناء.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ ...) الآية : مثال لقريش ووعيد لهم ، أي : لستم ببعيد مما حصلوا فيه إن كذبتم ، واختلف في القرن ، وقد روى محمّد بن القاسم في ختنه (٥) عبد الله بن بسر ، قال : وضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده على رأسه ، وقال : «سيعيش هذا الغلام قرنا»

__________________

(١) ينظر : اختلاف القراء في هذا الحرف في : «السبعة» (٣٧٩) ، و «الحجة» (٥ / ٩١) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٨٩) ، و «شرح الطيبة» (٤ / ٤٢٦) ، و «إتحاف» (٢ / ١٩٥) ، و «المحرر الوجيز» (٣ / ٤٤٤) ، و «البحر المحيط» (٦ / ١٧) ، و «الدر المصون» (٤ / ٣٧٩) ، و «المحتسب» (٢ / ١٥)

(٢) ينظر : «الطبري» (٨ / ٥١)

(٣) أخرجه الطبري (٨ / ٥١) برقم : (٢٢١٥٠) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٤٤٤) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٣٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٠٧) ، وعزاه لابن جرير.

(٤) ينظر : «أحكام القرآن» (٣ / ١١٩٦)

(٥) في الحديث : علي ختن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي زوج ابنته.

ينظر : «لسان العرب» (ختن)

٤٥٨

قلت : كم القرن؟ قال : مائة سنة (١) قال محمد بن القاسم : فما زلنا نعدّ له حتى كمل مائة سنة ، ثم مات رحمه‌الله.

والباء في قوله : (بِرَبِّكَ) زائدة ، التقدير وكفى ربّك ، وهذه الباء إنما تجيء في الأغلب في مدح أو ذمّ ، وقد يجيء «كفى» دون باء ، كقول الشاعر : [الطويل]

 ..................

كفى الشّيب والإسلام للمرء ناهيا (٢)

وكقول الآخر : [الطويل]

ويخبرني عن غائب المرء هديه

كفى الهدي عمّا غيّب المرء مخبرا (٣)

وقوله سبحانه : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ...) الآية : المعنى فإن الله يعجّل لمن يريد من هؤلاء ما يشاء سبحانه ؛ على قراءة النون (٤) ، أو ما يشاء هذا المريد ؛ على قراءة الياء ، وقوله : (لِمَنْ نُرِيدُ) شرط كاف على القراءتين ، وقال أبو إسحاق الفزاريّ : المعنى : لمن نريد هلكته (٥) ، و «المدحور» : المهان المبعد المذلل المسخوط عليه.

وقوله سبحانه : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ) ، أي : إرادة يقين وإيمان بها ، وبالله ورسالاته ، ثم شرط / سبحانه في مريد الآخرة أن يسعى لها سعيها ، وهو ملازمة أعمال الخير على

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٥ / ٤٤) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٧١) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.

(٢) عجز بيت وصدره :

عميرة ودع إن تجهزت غاديا

 ..................

ينظر : «الإنصاف» (١ / ١٦٨) ، و «خزانة الأدب» (١ / ٢٦٧) ، (٢ / ١٠٢ ـ ١٠٣) ، و «سر صناعة الإعراب» (١ / ١٤١) ، و «شرح التصريح» (٢ / ٨٨) ، و «شرح شواهد المغني» (١ / ٣٢٥) ، و «الكتاب» (٢ / ٢٦) ، (٤ / ٢٢٥) ، و «لسان العرب» (١٥ / ٢٢٦) (كفى) ، و «مغني اللبيب» (١ / ١٠٦) ، و «المقاصد النحويّة» (٣ / ٦٦٥) ، وبلا نسبة في «أسرار العربيّة» ص : (١٤٤) ، و «أوضح المسالك» (٣ / ٢٥٣) ، و «شرح الأشموني» (٢ / ٣٦٤) ، و «شرح عمدة الحافظ» ص : (٤٢٥) ، و «شرح قطر الندى» ص : (٣٢٣) ، و «شرح المفصل» (٢ / ١١٥) ، (٧ / ٨٤) ، (١٤٨) ، (٨ / ٢٤ ، ٩٣ ، ١٣٨) ، و «لسان العرب» (١٥ / ٣٤٤) (نهى)

(٣) البيت لزياد بن زيد العدوي ، ينظر : في «الغراء» (٢ / ١١٩) ، و «التهذيب» ، و «اللسان» (هدى) ، و «البحر» (٦ / ١٤) ، و «الدر» (٤ / ٣٧٧)

(٤) قرأ الجمهور بالنون «نشاء». ونافع «يشاء» بالياء من تحت. ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ٤٤٦) ، و «البحر المحيط» (٦ / ١٨)

(٥) أخرجه الطبري (٨ / ٥٥) برقم : (٢٢١٧١) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٤٤٦)

٤٥٩

حكم الشرع ، (فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) ولا يشكر الله سعيا ولا عملا إلا أثاب عليه ، وغفر بسببه ؛ ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث الرجل الذي سقى الكلب العاطش : «فشكر الله له فغفر له(١)».

وقوله سبحانه : (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) يحتمل أن يريد ب «العطاء» الطاعات لمريد الآخرة ، والمعاصي لمريد العاجلة ، وروي هذا التأويل عن ابن (٢) عباس ، ويحتمل أن يريد بالعطاء رزق الدنيا ، وهو تأويل الحسن بن أبي الحسن ، وقتادة (٣) ، المعنى أنه سبحانه يرزق في الدنيا من يريد العاجلة ومريد الآخرة ، وإنما يقع التفاضل والتباين في الآخرة ، ويتناسب هذا المعنى مع قوله : (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) ، أي : ممنوعا ، وقلّما تصلح هذه العبارة لمن يمدّ بالمعاصي.

(انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١) لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً)(٢٢)

وقوله : (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) الآية تدلّ دلالة ما على أن العطاء في التي قبلها الرزق ، وباقي الآية معناه أوضح من أن يبيّن.

وقوله سبحانه : (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً) هذه الآية خطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد لجميع الخلق ، قاله الطبري (٤) وغيره ، ولا مرية في ذمّ من نحت عودا أو حجرا ، وأشركه في عبادة ربه.

قال* ص* : (فَتَقْعُدَ) ، أي : فتصير ؛ بهذا فسره الفراء وغيره اه.

«والخذلان» ؛ في هذا بإسلام الله لعبده ، ألا يتكفّل له بنصر ، والمخذول الذي أسلمه ناصروه ، والخاذل من الظباء التي تترك ولدها.

(وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ

__________________

(١) أخرجه البخاري (١٠ / ٤٥٢) كتاب «الأدب» باب : رحمة الناس والبهائم ، حديث (٦٠٠٩) من حديث أبي هريرة.

(٢) ذكره ابن عطية (٣ / ٤٤٦)

(٣) أخرجه الطبري (٨ / ٥٦) برقم : (٢٢١٧٥) وبرقم : (٢٢١٧٧) ، وذكره ابن عطية (٣ / ٤٤٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ((٤ / ٣٠٨) ، وعزاه لابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبي نعيم في «الحلية».

(٤) ينظر : «الطبري» (٨ / ٥٧)

٤٦٠