تفسير الثعالبي - ج ٣

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٣

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٩

الاستثناء منقطع ، وأخبر أنه لو كان يعلم الغيب ، لعمل بحسب ما يأتي ، واستعدّ لكلّ شيء استعداد من يعلم قدر ما يستعدّ له ، وهذا لفظ عامّ في كل شيء.

وقوله : (وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) يحتمل وجهين ، وبكليهما قيل.

أحدهما : أن «ما» معطوفة على قوله : (لَاسْتَكْثَرْتُ) أي : ولما مسني السوء.

والثاني : أن يكون الكلام مقطوعا تمّ في قوله : (لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) وابتدأ يخبر بنفي السوء عنه ، وهو الجنون الذي رموه به.

قال مؤرّج السّدوسيّ (١) : (السُّوءُ) الجنون ؛ بلغة هذيل.

* ت* : وأما على التأويل الأول ، فلا يريد ب «السوء» الجنون ، ويترجّح الثاني بنحو قوله سبحانه : (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ ...) [سبأ : ٤٦] الآية ، و (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) : يحتمل معنيين :

أحدهما : أن يريد : لقوم يطلب منهم الإيمان ، وهؤلاء الناس أجمع.

والثاني : أن يخبر أنه نذير ، ويتمّ الكلام ، ثم يبتدىء يخبر أنه بشير للمؤمنين به ، ففي هذا وعد لمن حصل إيمانه.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ)(١٩٣)

وقوله : جلّت عظمته : و (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ...) الآية.

قال جمهور المفسّرين : المراد بالنّفس الواحدة : آدم عليه‌السلام ، وبقوله : (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) حوّاء ، وقوله : (مِنْها) هو ما تقدّم ذكره من أنّ آدم نام ، فاستخرجت قصرى أضلاعه ، وخلقت منها حوّاء.

__________________

(١) مؤرج بن عمرو بن الحارث ، من بني سدوس بن شيبان ، أبو فيد : عالم بالعربية والأنساب ، من أعيان أصحاب الخليل بن أحمد ، من أهل «البصرة». كان له اتصال بالمأمون العباسي ، ورحل معه إلى خراسان ، فسكن مدة ، ب «مرو» ، وانتقل إلى «نيسابور». من كتبه «جماهير القبائل» و «حذف من نسب قريش» ، و «غريب القرآن» وكتاب «الأمثال» و «المعاني» وله شعر جيد.

ينظر : ترجمته في «الأعلام» (٧ / ٣١٨) (٢٥٦٩)

١٠١

وقوله : (لِيَسْكُنَ إِلَيْها) ، أي : ليأنس ، ويطمئنّ ، وكان هذا كلّه في الجنة.

ثم ابتدأ بحالة أخرى ، وهي في الدنيا بعد هبوطهما ، فقال : (فَلَمَّا تَغَشَّاها) ، أي : غشيها ، وهي كناية عن الجماع ، والحمل الخفيف : هو المنيّ الذي تحمله المرأة في رحمها.

وقوله : (فَمَرَّتْ بِهِ) أي : استمرّت به ، وقرأ ابن عبّاس : «فاستمرّت به» ، وقرأ ابن (١) مسعود : «فاستمرّت بحملها» وقرأ عبد الله بن عمرو بن (٢) العاص : «فمارت به» ، أي جاءت به ، وذهبت ، وتصرّفت ؛ كما تقول : مارت الرّيح مورا ، و (أَثْقَلَتْ) : دخلت في الثّقل ، كما تقول : أصبح وأمسى ، والضمير في قوله (دَعَوَا) ، على هذا التأويل : عائد على آدم وحوّاء ، وروي في قصص ذلك / ؛ أن الشيطان أشار على حواء ، أن تسمّي هذا المولود «عبد الحارث» ، وهو اسم إبليس ، وقال لها : إن لم تفعلي قتلته ، فزعموا أنهما أطاعاه ؛ حرصا على حياة المولود ، فهذا هو الشّرك الذي جعلا لله ، في التسمية فقط.

وقال الطبريّ والسديّ (٣) في قوله : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) كلام منفصل من خبر آدم وحوّاء ، يراد به مشركو العرب (٤).

* ت* : وينزه آدم وحواء عن طاعتهما لإبليس ، ولم أقف بعد على صحّة ما روي في هذه القصص ، ولو صحّ ، لوجب تأويله ، نعم ؛ روى الترمذيّ عن سمرة بن جندب (٥) ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لمّا حملت حوّاء ، طاف بها إبليس ، وكان لا يعيش لها ولد ، فقال لها : سمّيه عبد الحارث ، فسمّته عبد الحارث ، فعاش ذلك ، وكان ذلك من

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٢ / ٤٨٦) ، و «البحر المحيط» (٤ / ٤٣٧)

(٢) قال أبو الفتح : والمعنى واحد.

ينظر : «المحتسب» (١ / ٢٧٠) ، و «المحرر الوجيز» (٢ / ٤٨٦) ، و «البحر المحيط» (٤ / ٤٣٧) ، وزاد نسبتها إلى الجحدري ، وينظر : «الدر المصون» (٣ / ٣٨٢). وقد نسبها ابن خالويه في «مختصره» ص : (٥٣) إلى ابن أبي عمار.

(٣) ينظر : «تفسير الطبري» (٦ / ١٤٦)

(٤) أخرجه الطبري (٦ / ١٤٨) برقم : (١٥٥٤٢) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٢ / ٤٨٧) ، والسيوطي (٣ / ٢٧٩) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر ، وأبي الشيخ.

(٥) هو : سمرة بن جندب بن هلال بن حريج بن مرة بن حرب بن عمرو بن جابر أبو سليمان الفزاري ، سكن «البصرة» ، قدمت به أمه المدينة بعد موت أبيه ، فتزوجها رجل من الأنصار اسمه : مري بن سنان بن ثعلبة ، وكان في حجره إلى أن صار غلاما ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرض غلمان الأنصار كل سنة ، فمرّ به غلام فأجازه في البعث ، وعرض عليه سمرة بعده فرده ، فقال سمرة : لقد أجزت هذا ورددتني ، ولو صارعته لصرعته قال : فدونكه فصارعه ، فصرعه سمرة ، فأجازه من البعث. قيل : أجازه يوم أحد ، والله أعلم ...

١٠٢

وحي الشّيطان ، وأمره ، قال الترمذيّ : هذا حديث حسن (١) غريب ، انفرد به عمر بن إبراهيم (٢) ، عن قتادة ، وعمر شيخ بصريّ. انتهى.

وهذا الحديث ليس فيه أنهما أطاعاه ، وعلى كلّ حال : الواجب التوقّف ، والتنزيه لمن اجتباه الله ، وحسن التأويل ما أمكن ، وقد قال ابن العربيّ في توهين هذا القول وتزييفه : وهذا القول ونحوه مذكور في ضعيف الحديث في الترمذيّ وغيره ، وفي الإسرائيليات التي ليس لها ثبات ، ولا يعوّل عليها من له قلب ، فإنّ آدم وحواء ـ وإن كانا غرّهما بالله الغرور ـ فلا يلدغ المؤمن من جحر مرّتين ، وما كانا بعد ذلك ليقبلا له نصحا ، ولا يسمعا له قولا ، والقول الأشبه بالحقّ : أن المراد بهذا جنس الآدميين. انتهى من «الأحكام».

قال (٣) * ع* : وقوله (صالِحاً) : قال الحسن : معناه : غلاما (٤) ، وقال ابن عباس ؛ وهو الأظهر : بشرا سوّيا (٥) سليما.

وقال قوم : إنما الغرض من هذه الآية تعديد النعمة في الأزواج ، وفي تسهيل النّسل والولادة ، ثم ذكر سوء فعل المشركين الموجب للعقاب ، فقال مخاطبا لجميع الناس : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) يريد : آدم وحواء ، أي : واستمرّت

__________________

ـ توفي قيل : سنة ٥٨ ه‍ ، وقيل : ٥٩ ه‍ ب «البصرة».

ينظر ترجمته في : «أسد الغابة» (٢ / ٤٥٤) ، «الإصابة» (٣ / ١٣٠) ، «الثقات» (٣ / ١٧٤) ، «الاستيعاب» (٢ / ٦٥٣) ، «الإكمال» (٢ / ٦٧) ، «الأعلام» (٣ / ١٣٩) ، «العبر» (١ / ٦٥) ، «الكاشف» (١ / ٤٠٣) ، «بقي بن مخلد» (٣٥) ، «الرياض المستطابة» (١٠٧) ، «التاريخ الكبير» (٤ / ١٧٦) ، «تجريد أسماء الصحابة» (١ / ٢٣٩) ، «التاريخ الصغير» (١ / ١٠٦ ـ ١٠٧) ، «الوافي بالوفيات» (١٥ / ٦١١) ، «تاريخ جرجان» (٢٣٩) ، «التحفة اللطيفة» (١٩٣) ، «الطبقات الكبرى» (٩ / ٨٩) ، «سير أعلام النبلاء» (٣ / ١٨٣)

(١) أخرجه الترمذي (٥ / ٢٦٧ ـ ٢٦٨) كتاب «التفسير» باب : «ومن سورة الأعراف» ، حديث (٣٠٧٧) ، من طريق عمر بن إبراهيم ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة به.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه مرفوعا إلّا من حديث عمر بن إبراهيم ، عن قتادة ، ورواه بعضهم عن عبد الصمد ولم يرفعه ؛ عمر بن إبراهيم شيخ بصري.

(٢) عمر بن إبراهيم العبدي أبو حفص البصري ، صاحب الهروي بفتح الهاء. عن قتادة ، وعنه ابنه الخليل وعبّاد بن العوّام ، وثقه ابن معين في رواية الدارمي ، وقال ابن عدي : حديثه عن قتادة مضطرب.

ينظر ترجمته في : «الخلاصة» (٢ / ٢٦٥) (٥١٢٢)

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٢ / ٤٨٦)

(٤) أخرجه الطبري (٦ / ١٤٣) برقم : (١٥٥١٧) ، وذكره ابن عطية (٢ / ٤٨٦) ، وابن كثير (٢ / ٢٧٤) ، والسيوطي (٣ / ٢٧٨) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(٥) ذكره ابن عطية (٢ / ٤٨٦) ، وابن كثير (٢ / ٢٧٤)

١٠٣

حالكم واحدا واحدا كذلك ، فهذه نعمة يختصّ كلّ واحد بجزء منها ، ثم جاء قوله : (فَلَمَّا تَغَشَّاها ...) إلى آخر الآية ، وصفا لحال الناس واحدا واحدا ، أي : هكذا يفعلون ، فإذا آتاهم الله ولدا صالحا سليما كما أرادوه ، صرفوه عن الفطرة إلى الشرك ، فهذا فعل المشركين.

قال ابن العربيّ في «أحكامه» وهذا القول هو الأشبه بالحقّ وأقرب للصدق ، وهو ظاهر الآية ، وعمومها الذي يشمل جميع متناولاتها ، ويسلم فيها الأنبياء عن النّقص الذي لا يليق بجهّال البشر ، فكيف بساداتهم ، وأنبيائهم؟! انتهى ، وهو كلام حسن ؛ وبالله التوفيق.

وقرأ نافع (١) ، وعاصم ؛ في رواية أبي بكر : «شركا» ـ بكسر الشين ، وسكون الراء ـ ؛ على المصدر ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ ، وحفص عن عاصم : «شركاء» على الجمع ، وهي بينة ؛ على هذا التأويل الأخير ، وقلقة على قول من قال : إن الآية الأولى في آدم وحواء ، وفي مصحف أبيّ بن (٢) كعب : «فلمّا آتاهما صالحا أشركا فيه».

وقوله : (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً ...) الآية : ذهب بعض من قال بالقول الأول إلى أنّ هذه الآية في آدم وحواء على ما تقدّم ، وفيه قلق وتعسّف من التأويل / في المعنى وإنما تنسق هذه الآيات ، ويروق نظمها ، ويتناصر معناها على التأويل الأخير ، فإنهم قالوا : إن الآية في مشركي الكفّار الذي يشركون الأصنام في العبادة ، وإياها يراد في قوله : (ما لا يَخْلُقُ) ، وعبّر عن الأصنام ب (هُمْ) ؛ كأنها تعقل على اعتقاد الكفّار فيها ؛ وبحسب أسمائها ، و (يُخْلَقُونَ) : معناه : ينحتون ويصنعون ، يعني : الأصنام ، ويحتمل أن يكون المعنى ، وهؤلاء المشركون يخلقون ؛ أي : فكان حقّهم أن يعبدوا خالقهم ، لا من لا يخلق شيئا ، وقرأ أبو عبد الرحمن : «عمّا تشركون» (٣) بالتاء من فوق «أتشركون».

وقوله سبحانه : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) ، من قال : إن الآيات في آدم عليه‌السلام ، قال : هذه مخاطبة مستأنفة

__________________

(١) ينظر : «السبعة» (٢٩٩) ، و «الحجة» (٤ / ١١١) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٢١٦) ، و «حجّة القراءات» (٣٠٤) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (٢ / ٧١) ، و «العنوان» (٩٨) و «شرح الطيبة» (٤ / ٣١٨) ، و «شرح شعلة» (٤٠) ، و «معاني القراءات» (١ / ٤٣١)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٢ / ٤٨٧) ، و «البحر المحيط» (٤ / ٤٣٨)

(٣) ينظر : «الشواذ» ص : (٥٣) ، و «المحرر الوجيز» (٢ / ٤٨٨) ، و «البحر المحيط» (٤ / ٤٣٨) ، و «الدر المصون» (٣ / ٣٨٣)

١٠٤

للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمته في أمر الكفّار المعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن قال بالقول الآخر ، قال : إن هذه مخاطبة للمؤمنين والكفّار ؛ على قراءة من قرأ : «أيشركون» ـ بالياء من تحت ـ ، وللكفّار فقط على قراءة من قرأ بالتاء من فوق على جهة التوقيف ، أي : هذا حال الأصنام معكم ؛ إن دعوتموهم ، لم يجيبوكم.

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (١٩٨)

وقوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ...) الآية مخاطبة للكفّار في تحقير شأن أصنامهم ، وقوله : (فَادْعُوهُمْ) أي : فاختبروا ، فإن لم يستجيبوا ، فهم كما وصفنا.

وقوله سبحانه : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها ...) الآية. الغرض من هذه الآية (أَلَهُمْ) حواس الحيّ وأوصافه ، فإذا قالوا : «لا» ، حكموا بأنها جمادات من غير شكّ ، لا خير عندها.

قال الزّهراويّ : المعنى : أنتم أفضل منهم بهذه الجوارح النافعة ؛ فكيف تعبدونهم ، ثمّ أمر سبحانه نبيّه عليه‌السلام أن يعجزهم بقوله : (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) ، أي : استنجدوهم واستنفروهم إلى إضراري وكيدي ، ولا تؤخّروني ، المعنى : فإن كانوا آلهة ، فسيظهر فعلكم ، ولمّا أحالهم على الاستنجاد بآلهتهم في ضرره ، وأراهم أنّ الله سبحانه هو القادر على كلّ شيء لا تلك ، عقّب ذلك بالاستناد إلى الله سبحانه ، والتوكّل عليه ، والإعلام بأنه وليّه وناصره ، فقال : (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ).

وقوله : (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) ؛ إنما تكرّر القول في هذا ، وترّددت الآيات فيه ؛ لأن أمر الأصنام وتعظيمها كان متمكّنا من نفوس العرب في ذلك الزّمان ، ومستوليا على عقولها ، فأوعب القول في ذلك ؛ لطفا منه سبحانه بهم.

وقوله : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا ...) الآية : قالت فرقة : هذا خطاب

١٠٥

للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمته في أمر الكفّار ، والهاء والميم في قوله : «تدعوهم» للكفّار ، ووصفهم بأنهم لا يسمعون ، ولا يبصرون ؛ إذ لم يتحصّل لهم عن النّظر والاستماع فائدة ؛ قاله مجاهد (١) والسدّي (٢).

وقال الطبريّ (٣) : المراد بالضمير المذكور : الأصنام ، ووصفهم بالنظر كناية عن المحاذاة والمقابلة ؛ ولما فيها من تخييل النّظر ؛ كما تقول : دار فلان تنظر إلى دار فلان.

(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢٠٠)

وقوله سبحانه : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ...) الآية : وصيّة من الله سبحانه لنبيّه عليه‌السلام تعمّ جميع أمته ، وأخذ بجميع / مكارم الأخلاق.

قال الجمهور : معنى : (خُذِ الْعَفْوَ) اقبل من الناس في أخلاقهم وأقوالهم ومعاشرتهم ما أتى عفوا ، دون تكلّف ، فالعفو هنا : الفضل والصفو ، قال مكّيّ ؛ قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ...) الآية.

قال بعض أهل المعاني ، في هذه الآية بيان قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أوتيت جوامع الكلم» (٤) ؛ فهذه الآية قد جمعت معاني كثيرة ، وفوائد عظيمة ، وجمعت كلّ خلق حسن ؛ لأنّ في أخذ العفو صلة القاطعين ، والصفح عن الظالمين ، وإعطاء المانعين ، وفي الأمر بالمعروف تقوى الله وطاعته ، وصلة الرحم ، وصون الجوارح عن المحرّمات ، وسمّى هذا ونحوه عرفا ؛ لأن كلّ نفس تعرفه ، وتركن إليه ، وفي الإعراض عن الجاهلين : الصبر ، والحلم ، وتنزيه النفس عن مخاطبة السفيه ، ومنازعة اللّجوج ، وغير ذلك من الأفعال المرضية. انتهى من «الهداية».

وقوله : (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) : معناه : بكلّ ما عرفته النفوس ممّا لا تردّه الشريعة ؛ ومن ذلك : «أن تعطي من حرمك ، وتصل من قطعك ، وتعفو عمّن ظلمك ...» الحديث (٥) ،

__________________

(١) أخرجه الطبري (٦ / ١٥١) برقم : (١٥٥٤٥) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٢ / ٤٩٠) ، وابن كثير (٢ / ٢٧٧) طرفا منه ، والسيوطي (٣ / ٢٨٠) ، وعزاه لابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ.

(٢) أخرجه الطبري (٦ / ١٥١) برقم : (١٥٥٤٤) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٢ / ٤٩٠) ، وابن كثير (٢ / ٢٧٧) بنحوه ، والسيوطي (٣ / ٢٨٠) ، وعزاه لابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ.

(٣) ينظر : «تفسير الطبري» (٦ / ١٥١)

(٤) تقدم تخريجه.

(٥) تقدم تخريجه.

١٠٦

فالعرف بمعنى المعروف.

وقوله عزوجل : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ، هذه الآية وصيّة من الله سبحانه لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعمّ أمته رجلا رجلا ، والنّزغ : حركة فيها فساد قلّما تستعمل إلا في فعل الشيطان ؛ لأن حركته مسرعة مفسدة ؛ ومنه قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يشر أحدكم على أخيه بالسّلاح ؛ لا ينزغ الشّيطان في يده» ، فالمعنى في هذه الآية : فإمّا تلمّنّ بك لمّة من الشيطان ، فاستعذ بالله ، وعبارة البخاريّ : ينزغنّك : يستخفنّك. انتهى.

ونزغ الشيطان عامّ في الغضب ، وتحسين المعاصي ، واكتساب الغوائل ، وغير ذلك وفي «جامع الترمذيّ» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن للملك لمّة ، وللشّيطان لمّة ...» (١) الحديث.

قال* ع (٢) : عن هاتين اللّمّتين : هي الخواطر من الخير والشر ، فالآخذ بالواجب يلقى لمّة الملك بالامتثال والاستدامة ، ولمّة الشيطان بالرفض والاستعاذة ، واستعاذ : معناه : طلب أن يعاذ ، وعاذ : معناه : لاذ ، وانضوى ، واستجار.

قال الفخر (٣) : قال ابن زيد : لما نزل قوله تعالى : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كيف يا ربّ ، والغضب؟ فنزل قوله : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ)» (٤) ، وقوله : (إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يدلّ على أن الاستعاذة لا تفيد إلّا إذا حضر في القلب العلم بمعنى الاستعاذة ، فكأنه تعالى قال : اذكر لفظ الاستعاذة بلسانك ؛ فإن سميع ، واستحضر معاني الاستعاذة بعقلك وقلبك ؛ فإني عليم بما في ضميرك ، وفي الحقيقة : القول اللسانيّ دون المعارف العقليّة ، عديم الفائدة والأثر. انتهى.

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ)(٢٠٢)

وقوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا ...) الآية خرجت مخرج المدح للمتقين ، والتقوى هاهنا عامّة في اتقاء / الشّرك والمعاصي ، وقرأ ابن

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٢ / ٤٩١)

(٣) ينظر : «تفسير الرازي» (١٥ / ٧٩)

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٥٥) برقم : (١٥٥٦٤)

١٠٧

كثير (١) وغيره : «طيف».

قال أبو عليّ الطائف كالخاطر ، والطّيف كالخطرة ، وقوله : (تَذَكَّرُوا) : إشارة إلى الاستعاذة المأمور بها ، وإلى ما لله عزوجل من الأوامر والنواهي في النازلة التي يقع تعرّض الشيطان فيها ، وقرأ ابن الزّبير (٢) : «من الشّيطان تأمّلوا فإذا هم» ، وفي مصحف (٣) أبيّ بن كعب «إذا طاف من الشّيطان طائف تأمّلوا» ، وقوله : (مُبْصِرُونَ) : من البصيرة ، أي : فإذا هم قد تبيّنوا الحقّ ، ومالوا إليه ، والضمير في (إِخْوانُهُمْ) ، عائد على الشياطين ، وفي (يَمُدُّونَهُمْ) عائد على الكفّار ، وهم المراد ب «الإخوان» ، هذا قول الجمهور.

قال* ع (٤) * : وقرأ جميع السبعة (٥) غير نافع : (يَمُدُّونَهُمْ) ؛ من مددتّ ، وقرأ نافع : «يمدّونهم» ، من أمددت.

قال الجمهور : هما بمعنّى واحد ، إلا أن المستعمل في المحبوب «أمدّ» ، والمستعمل في المكروه «مدّ» ، فقراءة الجماعة جارية على المنهاج المستعمل ، وقراءة نافع هي مقيّدة بقوله : (فِي الغَيِ) ؛ كما يجوز أن تقيّد البشارة ، فتقول : بشّرته بشرّ ومدّ الشياطين للكفرة ، أي : ومن نحا نحوهم : هو بالتزيين لهم ، والإغواء المتتابع ، وقوله : (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) ؛ من أقصر ، والضمير عائد على الجميع ، أي : هؤلاء لا يقصرون عن الإغواء ، وهؤلاء لا يقصرون في الطاعة للشياطين.

(وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣) وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(٢٠٤)

وقوله سبحانه : (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) ، سببها فيما روي أن الوحي

__________________

(١) ينظر : «السبعة» (٣٠١) ، و «الحجة» (٤ / ١٢٠) ، و «حجة القراءات» (٣٠٥) و «إعراب القراءات» (١ / ٢١٧) ، و «إتحاف» (٢ / ٧٣) ، و «العنوان» (٩٩) ، و «معاني القراءات» (١ / ٤٣٣) ، و «شرح الطيبة» (٤ / ٣٢١) ، و «شرح شعلة» (٤٠٣)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٢ / ٤٩٢) ، و «البحر المحيط» (٤ / ٤٤٦)

(٣) ينظر : مصادر القراءة السابقة.

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٢ / ٤٩٣)

(٥) ينظر : «السبعة» (٣٠١) ، و «الحجة» (٤ / ١٢٢) ، و «إعراب القراءات» (١ / ٢١٩) ، و «حجة القراءات» (٣٠٦) ، و «إتحاف» (٢ / ٧٣) ، و «معاني القراءات» (١ / ٤٣٤) ، و «شرح الطيبة» (٤ / ٣٢١) ، و «شرح شعلة» (٤٠٣) ، و «العنوان» (٩٩)

١٠٨

كان يتأخّر أحيانا ، فكان الكفّار يقولون : هلّا اجتبيتها ، أي : اخترتها ، فأمره الله عزوجل ؛ أن يجيب بالتسليم لله ، وأنّ الأمر في الوحي إليه ينزّله متى شاء ، ثم أشار بقوله : (هذا بَصائِرُ) إلى القرآن ، أي : علامات هدى ، وأنوار تستضيء القلوب به.

وقوله سبحانه : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ، ذكر الطبريّ وغيره ؛ أن أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا بمكّة يتكلّمون في المكتوبة بحوائجهم ، فنزلت الآية أمرا لهم بالاستماع والإنصات في الصّلاة ، وأما قول من قال : إنها في الخطبة ، فضعيف ، لأن الآية مكّيّة ، والخطبة لم تكن إلا بعد الهجرة ، وألفاظ الآية على الجملة تتضمّن تعظيم القرآن وتوقيره ، وذلك واجب في كل حالة ، والإنصات : السكوت.

قال الزجّاج : ويجوز أن يكون : (فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) ، أي : اعملوا بما فيه ، ولا تجاوزوه.

قال ابن العربيّ في «أحكامه» : روى الترمذي ، وأبو داود ، عن عبادة بن الصّامت ، قال : صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الصّبح ، فثقلت عليه القراءة ، فلمّا انصرف ، قال : «إنّي لأراكم تقرءون وراء إمامكم ، قلنا : يا رسول الله ، إي والله ، فقال : لا تفعلوا إلّا بأمّ القرآن ؛ فإنّه لا صلاة لمن لم يقرأ بها» (١) وقد روى الناس في قراءة المأمومين خلف الإمام بفاتحة الكتاب أحاديث كثيرة ، وأعظمهم في ذلك اهتبالا الدارقطنيّ ، وقد جمع البخاريّ في ذلك جزءا (٢) ، وكان رأيه قراءة الفاتحة خلف الإمام في الصلاة الجهريّة ، وهي إحدى روايات مالك ، وهو اختيار الشافعيّ. انتهى ، وقد تقدّم أول الكتاب ما اختاره ابن العربيّ.

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ)(٢٠٦)

وقوله سبحانه : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ ...) الآية : مخاطبة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم / ، وتعمّ جميع أمته ، وهو أمر من الله تعالى بذكره وتسبيحه وتقديسه ، والثناء عليه بمحامده ، والجمهور على أن الذّكر لا يكون في النّفس ، ولا يراعى إلا بحركة اللسان ، ويدلّ على ذلك من هذه الآية قوله : (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) ، وهذه مرتبة السرّ ، والمخافتة.

وقال الفخر (٣) : المراد بقوله تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) ، كونه عارفا بمعاني

__________________

(١) تقدم.

(٢) أسماه القراءة خلف الإمام.

(٣) ينظر : «تفسير الرازي» (١٥ / ٨٦)

١٠٩

الأذكار التي يقولها بلسانه ، مستحضرا لصفات الجلال والعظمة ، وذلك أن الذكر باللّسان ، إذا كان عاريا عن الذكر بالقلب ، كان عديم الفائدة ، ألا ترى أن الفقهاء أجمعوا على أنّ الرجل ، إذا قال : بعت واشتريت مع أنّه لا يعرف معاني هذه الألفاظ ، ولا يفهم منها شيئا ، فإنه لا ينعقد البيع والشراء ، فكذلك هنا ، قال المتكلّمون : وهذه الآية تدلّ على إثبات كلام النفس.

وقوله تعالى : (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) ، يدلّ على أن الذكر القلبيّ يجب أن يكون دائما ، وألّا يغفل الإنسان لحظة عن استحضار جلال الله وكبريائه بقدر الطاقة البشريّة ، وتحقيق القول في هذا أنّ بين الرّوح والبدن علاقة عجيبة ؛ لأن كلّ أثر يحصل في البدن يصعد منه نتائج إلى الرّوح ؛ ألا ترى أنّ الإنسان إذا تخيّل الشيء الحامض ، ضرس منه ، وإذا تخيل حالة مكروهة ، أو غضب ، سخن بدنه. انتهى. و (تَضَرُّعاً) : معناه : تذللا وخضوعا ، البخاريّ : (وَخِيفَةً) ، أي : خوفا انتهى.

وقوله : (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) : معناه : دأبا ، وفي كلّ يوم ، وفي أطراف النهار ، (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) تنبيه منه عزوجل ، ولما قال سبحانه : (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) : جعل بعد ذلك مثالا من اجتهاد الملائكة ؛ ليبعث على الجدّ في طاعة الله سبحانه.

* ت* : قال صاحب «الكلم الفارقية» : غفلة ساعة عن ربّك مكدرة لمرآة قلبك ؛ فكيف بغفلة جميع عمرك. انتهى.

قال ابن عطاء الله رحمه‌الله : لا تترك الذّكر ، لعدم حضورك مع الله فيه ؛ لأن غفلتك عن وجود ذكره أشدّ من غفلتك في وجود ذكره فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة ، إلى ذكر مع وجود يقظة ، ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور ، ومن ذكر مع وجود حضور ، إلى ذكر مع وجود غيبة عمّا سوى المذكور ، وما ذلك على الله بعزيز. انتهى ، قال ابن العربيّ في «أحكامه» : قوله تعالى : (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) : أي : فيما أمرت به ، وكلّفته ، وهذا خطاب له عليه‌السلام ، والمراد به جميع أمته. انتهى.

وقوله : (الَّذِينَ) ، يريد به الملائكة.

وقوله : (عِنْدَ) ، إنما يريد به المنزلة ، والتشريف ، والقرب في المكانة ، لا في المكان ، فهم بذلك عنده ، ثم وصف سبحانه حالهم ؛ من تواضعهم ، وإدمانهم العبادة ، والتسبيح والسّجود» ، وفي الحديث : «أطّت السّماء ، وحقّ لها أن تئطّ ما فيها موضع شبر

١١٠

إلّا وفيه ملك قائم ، أو راكع ، أو ساجد» (١) وهذا موضع سجدة.

/ قال عبد الرحمن بن محمّد عفا الله عنه : كمل ما انتخبناه في تفسير السورة ، والحمد لله على ما به أنعم ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله وسلّم تسليما كثيرا.

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٤ / ٥٥٦) كتاب «الزهد» باب : في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا» ، حديث (٢٣١٢) ، وابن ماجه (٢ / ١٤٠٢) كتاب «الزهد» باب : الحسن والبكاء ، حديث (٤١٩٠) ، والحاكم (٢ / ٥١٠) من طريق مجاهد ، عن مورق العجلي عن ابن ذر به.

وقال الترمذي : حديث حسن غريب.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وسكت عنه الذهبي.

١١١

سورة الأنفال

مدنيّة كلّها قال مجاهد : إلّا آية واحدة ، وهي قوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) الآية : ولا خلاف أن هذه السورة نزلت في شأن بدر ، وأمر غنائمه.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(١)

قوله عزوجل : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ...) الآية ، النّفل والنّافلة ، في كلام العرب : الزّيادة على الواجب ، والأكثر في هذه الآية أنّ السؤال إنما هو عن حكم الأنفال ، وقالت فرقة : إنما سألوه الأنفال نفسها ؛ محتجّين بقراءة سعد بن أبي وقّاص وغيره : «يسئلونك الأنفال» (١) وعن أبي أمامة الباهليّ ، قال : سألت عبادة بن الصّامت عن الأنفال ، فقال : فينا ـ أهل بدر ـ نزلت ، حين اختلفنا ، وساءت أخلاقنا (٢) ، فنزعه الله من أيدينا ، وجعله إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقسمه عليه‌السلام ـ بين المسلمين على بواء ـ يريد : على سواء ـ فكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله ، وصلاح ذات البين.

قال* ع (٣) * : ويجيء من مجموع الآثار المذكورة هنا ؛ أن نفوس أهل بدر تنافرت ، ووقع فيها ما يقع في نفوس البشر ؛ من إرادة الأثرة ، لا سيّما من أبلى ، فأنزل الله عزوجل الآية ، فرضي المسلمون ، وسلّموا ، فأصلح ذات بينهم ، وردّ عليهم غنائمهم.

__________________

(١) وقرأ بها ابن مسعود ، وعلي بن الحسين ، وأبو جعفر محمد بن علي ، وزيد بن علي ، وجعفر بن محمد ، وطلحة بن مصرف.

ينظر : «الشواذ» ص : (٥٤) ، و «المحتسب» (١ / ٢٧٢) ، و «الكشاف» (٢ / ١٩٥) و «المحرر الوجيز» (٢ / ٤٩٦) ، وزاد نسبتها إلى عكرمة ، والضحاك ، وعطاء. وينظر : «البحر المحيط» (٤ / ٤٥٣) ، و «الدر المصون» (٣ / ٣٩٢)

(٢) ذكره ابن عطية (٢ / ٤٩٧)

(٣) ينظر «المحرر الوجيز» (٢ / ٤٩٧)

١١٢

قال بعض أهل التأويل ؛ عكرمة ، ومجاهد : كان هذا الحكم من الله سبحانه لرفع الشّغب ثم نسخ بقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ...) [الأنفال : ٤١] الآية. وهذا أولى الأقوال وأصحّها.

وقوله سبحانه : (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) : تصريح بأنه شجر بينهم اختلاف ، ومالت النفوس إلى التّشاحّ ، و (ذاتَ) في هذا الموضع يراد بها نفس الشيء وحقيقته ، والذي يفهم من (بَيْنِكُمْ) هو معنى يعم جميع الوصل ، والالتحامات ، والمودّات ، وذات ذلك هو المأمور بإصلاحها ، أي : نفسه وعينه ، وباقي الآية بيّن.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)(٤)

وقوله سبحانه : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ...) الآية ، (إِنَّمَا) لفظ لا تفارقة المبالغة والتأكيد ؛ حيث وقع ، ويصلح مع ذلك للحصر ، بحسب القرينة ، فقوله هنا : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) ظاهرها أنّها للمبالغة والتأكيد فقط ، أي الكاملون.

قال الشّيخ أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد الأنصاري الساحلي المالقي في كتابه الذي ألّفه في «السلوك» : واعلم أن الإنسان مطلوب بطهارة نفسه ، وتزكيتها ، وطرق التزكية وإن كثرت ، فطريق الذّكر أسرع نفعا ، وأقرب مراما ، وعليه درج أكثر مشائخ التربية ، ثم قال : والذّكر ضد النسيان ، والمطلوب منه عمارة الباطن بالله تعالى في كل زمان ، ومع كل حال ؛ لأن الذّكر يدلّ على المذكور لا محالة ، فذكره ديدنا يوجب المحبّة له ، والمعرفة به ، والذكر وإن اختلف ألفاظه ومعانيه ، فلكل معنى [من] معانيه اختصاص بنوع من التّحلية والتخلية ، والتزكية ، ثم قال : والذّكر على / قسمين : ذكر العامة ، وذكر الخاصّة. أما ذكر العامة ، وهو ذكر الأجور ، فهو أن يذكر العبد مولاه بما شاء من ذكره لا يقصد غير الأجور والثواب ، وأما ذكر الخاصّة ، فهو ذكر الحضور ، وهو أن يذكر العبد مولاه بأذكار معلومة ، على صفة مخصوصة ؛ لينال بذلك المعرفة بالله سبحانه بطهارة نفسه من كل خلق ذميم ، وتحليتها بكل خلق كريم. انتهى.

و (وَجِلَتْ) : معناه : فزعت ، ورقّت ، وخافت ، وبهذه المعاني فسرتها العلماء.

و (تُلِيَتْ) معناه : سردت ، وقرئت ، والآيات هنا : القرآن المتلوّ.

ومن كلام صاحب «الكلم الفارقية» : إن تيقّظت يقظة قلبية ، وانتبهت انتباهة حقيقية لم تر في وقتك سعة لغير ذكر ربك ، واستشعار عظمته ، ومهابته ، والإقبال على طاعته ، ما في

١١٣

وقت العاقل فضلة في غير ما خلق له من عبادة خالقه ، والاهتمام بمصالح آخرته ، والاستعداد لمعاده ، أعرف العبيد بجلال مولاه أخلاهم عما سواه ، وأكثرهم لهجا بذكره ، وتعظيما لأمره ، وأحسنهم تأمّلا لآثار صنعته ، وبدائع حكمته ، وأشدهم شوقا إلى لقائه ، ومشاهدته انتهى.

وزيادة الإيمان على وجوه كلها خارج ، عن نفس التصديق : منها أن المؤمن إذا كان لم يسمع حكما من أحكام الله عزوجل في القرآن ، فنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسمعه ، فآمن به ، زاد إيمانا إلى سائر ما قد آمن به ؛ إذ لكل حكم تصديق خاص ، وهذا يترتّب فيمن بلغه ما لم يكن عنده من الشرع إلى يوم القيامة ، وترتب زيادة الإيمان بزيادة الدّلائل ، ولهذا قال مالك : الإيمان يزيد ولا ينقص ، ويترتب بزيادة الأعمال البرّة على قول من يرى أنّ لفظة الإيمان واقعة على التّصديق والطاعات ، وهؤلاء يقولون : يزيد وينقص.

وقوله سبحانه : (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) عبارة جامعة لمصالح الدنيا والآخرة إذا اعتبرت ، وعمل بحسبها في أن يمتثل الإنسان ما أمر به ، ويبلغ في ذلك أقصى جهده دون عجز ، وينتظر بعد ما وعد به من نصر ، أو رزق ، أو غيره ، وهذه أوصاف جميلة وصف الله بها فضلاء المؤمنين ، فجعلها غاية للأمّة يستبق إليها الأفاضل ، ثم أتبع ذلك وعدهم ووسمهم بإقامة الصلاة ، ومدحهم بها حضّا على ذلك.

وقوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ). قال جماعة من المفسرين : هي الزّكاة وإنما حملهم على ذلك اقتران الكلام بإقامة الصّلاة ، وإلا فهو لفظ عام في الزكاة ، ونوافل الخير ، وصلات المستحقين ، ولفظ ابن عبّاس في هذا المعنى محتمل.

وقوله سبحانه : (لَهُمْ دَرَجاتٌ) ظاهره ، وهو قول الجمهور أن المراد مراتب الجنة ، ومنازلها ، ودرجاتها على قدر أعمالهم ، (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) يريد مآكل الجنة ، ومشاربها ، و (كَرِيمٌ) صفة تقتضي رفع المذامّ ، كقوله : ثوب كريم.

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ)(٦)

وقوله سبحانه : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ ...) الآية : اختلف في معنى هذه الآية ، فقال الفرّاء : التقدير امض لأمرك / في الغنائم ، وإن كرهوا كما أخرجك ربّك.

قال* ع (١) * : وتحرير هذا المعنى عندي أن يقال : هذه الكاف شبّهت هذه القصّة

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٢ / ٥٠٢)

١١٤

التي هي إخراجه من بيته بالقصّة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال ، كأنهم سألوا عن النّفل ، وتشاجروا ، فأخرج الله ذلك عنهم ، فكانت فيه الخيرة ، كما كرهوا في هذه القصة انبعاث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخرجه الله من بيته ، فكانت في ذلك الخيرة ، وعلى هذا التأويل يمكن أن يكون قوله : (يُجادِلُونَكَ) كلاما مستأنفا يراد به الكفار ، أي : يجادلونك في شريعة الإسلام من بعد ما تبيّن الحقّ فيها ، كأنما يساقون إلى الموت في الدّعاء إلى الإيمان ، وهذا الذي ذكرت من أن (يُجادِلُونَكَ) في الكفّار منصوص.

وقال مجاهد وغيره : المعنى في الآية : كما أخرجك ربك من بيتك على كراهية من فريق منهم ، كذلك يجادلونك في قتال كفار «مكة» ، ويودّون غير ذات الشّوكة من بعد ما تبيّن لهم أنك إنما تفعل ما أمرت به لا ما يريدون (١) هم ، وقائل هذه المقالة يقول : إن المجادلين هم المؤمنون ، وقائل المقالة الأولى يقول : إن المجادلين هم المشركون ، وهذان القولان يتم بهما المعنى ، ويحسن رصف اللفظ.

وقيل غير هذا.

وقوله : (مِنْ بَيْتِكَ) يريد من «المدينة» «يثرب» قاله الجمهور.

(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(١٠)

وقوله سبحانه : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ ...) الآية : في هذه الآية قصص حسن ، محل استيعابه «كتاب سيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لابن هشام ، واختصاره : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما بلغه ، وقيل : أوحي إليه أن أبا سفيان بن حرب ، قد أقبل من «الشام» بالعير التي فيها تجارة قريش وأموالها قال لأصحابه : إن عير قريش قد عنّت لكم ، فاخرجوا إليها ، لعل الله أن ينفلكموها. قال : فانبعث معه من خفّ ، وثقل قوم ، وكرهوا الخروج ، وأسرع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يلوي على من تعذّر ، ولا ينظر من غاب ظهره ، فسار في ثلاث

__________________

(١) أخرجه الطبري (٦ / ١٨٠ ـ ١٨١) برقم : (١٥٧١٤) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٢ / ٥٠٢) ، وابن كثير (٢ / ٢٨٧) بنحوه ، والسيوطي (٣ / ٣٠٠) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ.

١١٥

مائة وثلاثة عشر ، أو نحو ذلك من أصحابه بين مهاجريّ وأنصاري ، وقد ظنّ الناس بأجمعهم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يلقى حربا ، فلم يكثر استعدادهم ، وكان أبو سفيان في خلال ذلك يستقصي ، ويحذر ، فلما بلغه خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث ضمضم بن عمرو الغفاري إلى «مكة» يستنفر أهلها ، ففعل ضمضم ، فخرج أهل «مكة» في ألف رجل ، أو نحو ذلك ، فلما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خروجهم أوحى الله إليه وحيا غير متلو يعده إحدى الطّائفتين ، فعرّف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه بذلك ، فسرّوا ، وودّوا أن تكون لهم العير التي لا قتال معها ، فلما علم أبو سفيان بقرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه أخذ طريق الساحل ، وأبعد وفات ، ولم يبق إلا لقاء أهل «مكة» ، وأشار بعض الكفّار على بعض بالانصراف ، وقالوا : هذه عيرنا قد نجت ، فلننصرف / فحرش (١) أبو جهل ولجّ ، حتى كان أمر الواقعة. وقال بعض المؤمنين : نحن لم نخرج لقتال ، ولم نستعدّ له ، فجمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه ، وهو بواد يسمى «دقران» وقال : أشيروا علي أيها النّاس ، فقام أبو بكر ، فتكلم ، وأحسن ، وحرّض الناس على لقاء العدو ، فأعاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الاستشارة ، فقام عمر بمثل ذلك ، فأعاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الاستشارة ، فتكلم المقداد بن الأسود الكندي (٢) ، فقال : لا نقول لك يا رسول الله كما قالت بنو إسرائيل : اذهب أنت وربّك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، ولكن نقول : إنا معكما مقاتلون ، والله لو أردت بنا برك الغماد يعني مدينة «الحبشة» لقاتلنا معك من دونها ، فسر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكلامه ، ودعا له بخير ، ثم قال : أشيروا علي أيها النّاس ، فكلمه سعد بن معاذ ، وقيل : سعد بن عبادة ، ويحتمل هما معا ؛ فقال : يا رسول الله ، كأنك إيانا تريد معشر الأنصار ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أجل ، فقال : إنا قد آمنّا بك ، واتبعناك ،

__________________

(١) التحريش : الإغراء بين القوم.

ينظر : «لسان العرب» (٨٣٤)

(٢) هو : المقداد بن عمرو (الأسود الكندي) بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن عامر بن مطرود بن عمرو بن سعد ... أبو الأسود البهراوي.

الشهرة : المقداد بن الأسود الكندي ، قال ابن حجر : أسلم قديما وتزوج ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب ابنة عم النبي ، وهاجر الهجرتين ، وشهد بدرا والمشاهد بعدها ، وكان فارسا يوم بدر حتى أنه لم يثبت أنه كان فيها على فرس غيره ، وروى المقداد عن النبي أحاديث كثيرة ، توفي سنة ٣٣ في خلافة عثمان وله ٧٠ سنة.

ينظر : «الثقات» (٣ / ٣٧١) ، «أسد الغابة» (٥ / ٢٥١) ، «التاريخ الصغير» (١ / ٨٣) ، «معجم الثقات» (١٢٣) ، «الاستبصار» (١٤٥ ، ٢٠٨) ، «تقريب التهذيب» (٢ / ٢٧٢) ، «المنمق» (٤٥٣ ، ٥١٣ ، ٥١٤) ، «تراجم الأحبار» (٣ / ٣٥١ ، ٣٧٠) ، «الإصابة» (٦ / ١٣٣) ، «الأعلام» (٧ / ٢٨٢) ، «أصحاب بدر» (٨٥) ، «تجريد أسماء الصحابة» (٢ / ٩٢) ، «الجرح والتعديل» (٨ / ٤٢٦) ، «الطبقات» (١٦ / ١٢٠)

١١٦

وبايعناك ، فامض لأمر الله ، فو الله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «امضوا على بركة الله ، فكأني أنظر إلى مصارع القوم» فالتقوا وكانت وقعة بدر.

* ت* : وفي «صحيح البخاري» من حديث عائشة ، في خروج أبي بكر من «مكة» فلقيه ابن الدّغنة عند برك الغماد (١) الحديث ، وليست بمدينة «الحبشة» من غير شكّ. فالله أعلم ، ولعلهما موضعان. انتهى.

و (الشَّوْكَةِ) عبارة عن السّلاح والحدّة.

وقوله سبحانه : (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) المعنى : ويريد الله أن يظهر الإسلام ، ويعلي دعوة الشّرع بكلماته التي سبقت في الأزل ، والدابر الذي يدبر القوم ، أي يأتي آخرهم ، وإذا قطع فقد أتى على آخرهم بشرط أن يبدأ الإهلاك من أولهم ، وهي عبارة في كل من أتى الهلاك عليه.

وقوله سبحانه : (لِيُحِقَّ الْحَقَ) أي : ليظهر الحق الذي هو دين الإسلام ، و (يُبْطِلَ الْباطِلَ) ، أي : الكفر ، و (تَسْتَغِيثُونَ) معناه : تطلبون الغوث ، و (مُمِدُّكُمْ) أي : مكثركم ، ومقويكم من : أمددت ، و (مُرْدِفِينَ) معناه : متبعين.

وقرأ سائر السبعة (٢) غير نافع : «مردفين» ـ بكسر الدال ـ ، ونافع بفتحها ، وروي عن ابن عبّاس : خلف كل ملك ملك (٣) ، وهذا معنى التتابع ، يقال : ردف وأردف ؛ إذا اتبع ، وجاء بعد الشّيء ، ويحتمل أن يراد مردفين للمؤمنين ، ويحتمل أن يراد مردفين بعضهم بعضا ، وأنشد الطبري (٤) شاهدا على أن أردف بمعنى جاء تابعا قول الشاعر : [الوافر]

إذا الجوزاء أردفت الثّريّا

ظننت بآل فاطمة الظّنونا (٥)

والثريّا تطلع قبل الجوزاء.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٤ / ٥٥٥ ـ ٥٥٦) كتاب «الكفالة» باب : جوار أبي بكر في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعقده ، حديث (٢٢٩٧)

(٢) ورويت عن أبي عمرو كما في «الكشاف» (٢ / ١ ـ ٢) ، و «المحرر الوجيز» (٢ / ٥٠٤) ، و «البحر المحيط» (٤ / ٤٦٠) ، و «الدر المصون» (٣ / ٣٩٨)

(٣) أخرجه الطبري (٦ / ١٨٩) برقم : (١٥٧٥٨) ، وذكره ابن عطية (٢ / ٥٠٤) ، وابن كثير (٢ / ٢٩٠) ، والسيوطي (٣ / ٣١٠) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وأبي الشيخ.

(٤) ينظر : «تفسير الطبري» (٦ / ١٩٠)

(٥) البيت لخزيمة بن مالك. ينظر : «تفسير الطبري» (٦ / ١٩٠) ، وينظر : «اللسان» (ردف) ، و «الدر المصون» (٣ / ٤٠٠)

١١٧

وروي في «الصحيح» : الأشهر أن الملائكة قاتلت يوم بدر.

واختلف في غيره ؛ قال ابن إسحاق : حدّثني عبد الله بن أبي بكر ؛ أنه حدّث عن ابن عباس ، أنه قال : حدثني رجل من بني غفار ، قال : أقبلت أنا وابن عمّ لي حتى صعدنا في جبل يشرف بنا على بدر ، ونحن مشركان ننتظر الوقعة على من تكون ، فننتهب مع من ينتهب. قال : فبينما نحن في الجبل ، إذ دنت منا سحابة ، فسمعنا فيها حمحمة الخيل ، / فسمعت قائلا يقول : أقدم حيزوم ، فأما ابن عمي ، فانكشف قناع قلبه ، فمات مكانه ، وأما أنا فكدت أهلك ، ثم تماسكت (١).

قال ابن إسحاق : وحدثني عبد الله بن أبي بكر عن بعض بني ساعدة عن أبي سعيد مالك بن ربيعة ، وكان شهد بدرا ، قال بعد أن ذهب بصره : لو كنت اليوم ببدر ، ومعى بصري لأريتكم الشّعب الذي خرجت منه الملائكة لا أشكّ ولا أتمارى. انتهى من «سيرة ابن هشام».

وقوله سبحانه : (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) الضمير في «جعله» عائد على الوعد ، وهذا عندي أمكن الأقوال من جهة المعنى.

وقيل : عائد على المدد ، والإمداد.

وقيل : عائد على الإرداف.

وقيل : عائد على الألف ، وقوله : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) توقيف على أن الأمر كلّه لله وأن تكسّب المرء لا يغني ، إذا لم يساعده القدر ، وإن كان مطلوبا بالجدّ ، كما ظاهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين در عين.

(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (١٣)

وقوله سبحانه : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ). القصد تعديد نعمه سبحانه على

__________________

(١) أخرجه ابن إسحاق في «السيرة» (٢ / ٢٩٦) ومن طريقه الطبري في «تاريخه» (٢ / ٤٥٣) ، وذكره ابن كثير في «البداية والنهاية» (٣ / ٢٧٩ ـ ٢٨٠)

١١٨

المؤمنين في يوم بدر ، والتقدير : اذكروا إذ فعلنا بكم كذا ، وإذ فعلنا كذا ، والعامل في «إذ» «اذكروا» وقرأ نافع : «يغشيكم» ـ بضم (١) الياء ، وسكون الغين ـ وقرأ حمزة وغيره : (يُغَشِّيكُمُ) ـ بفتح الغين وشدّ الشين المكسورة ، وقرأ ابن كثير وغيره : «يغشاكم» ـ بفتح الياء وألف بعد الشين ـ «النّعاس» بالرفع ، ومعنى (يُغَشِّيكُمُ) : يغطيكم ، والنّعاس أخفّ النوم ، وهو الذي يصيب الإنسان ، وهو واقف أو ماش ، وينص على ذلك قصص هذه الآية ؛ أنهم إنما كان بهم خفق بالرّؤوس ، وقوله : (أَمَنَةً) مصدر من أمن يأمن أمنا وأمنة وأمانا ، والهاء فيه لتأنيث المصدر ، كما هي في المساءة والحماقة والمشقّة.

وروي عن ابن مسعود أنه قال : النّعاس عند حضور القتال علامة أمن ، وهو من الله ، وهو في الصّلاة من الشيطان (٢).

قال* ع (٣) * : وهذا إنما طريقه الوحي ، فهو لا محالة يسنده وقوله سبحانه : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ). وذلك أن قوما من المؤمنين لحقتهم جنابات في سفرهم ، وعدموا الماء قريب بدر ، فصلوا كذلك ، فوسوس الشيطان في نفوس بعضهم مع تخويفه لهم من كثرة العدوّ وقلتهم ، وأيضا فكانت بينهم وبين ماء بدر مسافة ، من رمل دهس (٤) تسوخ (٥) فيها الأرجل ، فكانوا يتوقعون أن يسبقهم الكفّار إلى ماء بدر ، فأنزل الله تلك المطرة فسالت الأودية ، فاغتسلوا ، وطهرهم الله تعالى فذهب رجز الشيطان ، وتدمّث (٦) الطريق ، وتلبّدت (٧) تلك الرّمال ، فسهل الله عليهم السير ، وأمكنهم الإسراع

__________________

(١) ينظر : «السبعة» (٣٠٤) ، «الحجة» (٤ / ١٢٥) ، «إتحاف فضلاء البشر» (٢ / ٧٧) ، «حجة القراءات» (٣٠٨) ، «إعراب القراءات» (١ / ٢٢٢) ، «النشر» (٢ / ٢٧٦) ، و «شرح الطيبة» (٤ / ٣٢٤) ، و «شرح شعلة» (٤٠٥) ، و «معاني القراءات» (١ / ٤٣٧)

(٢) أخرجه الطبري (٦ / ١٩٢) برقم : (١٥٧٧١ ـ ١٥٧٧٢ ـ ١٥٧٧٣) ، وذكره ابن عطية (٢ / ٥٠٦) ، والبغوي (٢ / ٢٣٤) ، وابن كثير (٢ / ٢٩١)

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٢ / ٥٠٦)

(٤) رمل أدهس بيّن الدّهس ، والدّهاس من الرمل : ما كان كذلك لا ينبت شجرا ، وتغيب فيه القوائم ... وقيل : ما سهل ولان من الأرض ، ولم يبلغ أن يكون رملا.

ينظر : «لسان العرب» (١٤٤١) ، و «النهاية» (٢ / ١٤٥)

(٥) أي : غاصت في الأرض. ينظر : «اللسان» (٢١٤١)

(٦) الدّمث : السهول من الأرض ، الواحدة دمثة ، وهو أيضا المكان اللين ذو رمل ، ودمّث الشيء : إذا مرسه حتى يلين.

ينظر : «لسان العرب» (١٤١٨ ـ ١٤١٩)

(٧) أي : صارت قوية لا تسوخ فيها الأرجل.

ينظر : «لسان العرب» (٣٩٨٤)

١١٩

حتى سبقوا إلى ماء بدر ، وأصاب المشركين من ذلك المطر ما صعّب عليهم طريقهم ، فسر المؤمنون ، وتبينوا من فعل الله بهم ذلك قصد المعونة لهم ، فطابت نفوسهم ، واجتمعت ، وتشجّعت ، فذلك الرّبط على قلوبهم ، وتثبيت أقدامهم على الرملة اللّيّنة.

والضمير في «به» على هذا الاحتمال عائد على الماء ، ويحتمل عوده على ربط القلوب ، ويكون تثبيت / الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في موطن الحرب ، ونزول الماء كان في الزمن قبل تغشية النعاس ، ولم يترتب كذلك في الآية ، إذ القصد فيها تعديد النعم فقط.

وقوله سبحانه : (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) وتثبيتهم يكون بقتالهم ، وبحضورهم ، وبأقوالهم المؤنسة ، ويحتمل أن يكون التّثبيت بما يلقيه الملك في القلب بلمّته من توهّم الظّفر ، واحتقار الكفار ، وبخواطر تشجعه.

قال* ع (١) * : ويقوي هذا التأويل مطابقة قوله تعالى : (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) وعلى هذا التأويل يجيء قوله : (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) مخاطبة للملائكة ، ويحتمل أن يكون مخاطبة للمؤمنين. وقوله سبحانه : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) قال عكرمة : هي على بابها ، وأراد الرؤوس (٢) ، وهذا أنبل الأقوال.

قال* ع (٣) * : ويحتمل عندي أن يريد وصف أبلغ ضربات العنق وأحكمها ، وهي الضربة التي تكون فوق عظم العنق دون عظم الرأس في المفصل ، كما وصف دريد بن الصّمّة (٤) ، فيجيء على هذا فوق الأعناق متمكنا.

والبنان : قالت فرقة : هي المفاصل ؛ حيث كانت من الأعضاء.

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٢ / ٥٠٨)

(٢) أخرجه الطبري (٦ / ١٩٧) برقم : (١٥٨٠٠) نحوه ، وذكره ابن عطية (٢ / ٥٠٨) ، والبغوي (٢ / ٢٣٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣١٣)

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٢ / ٥٠٨)

(٤) دريد بن الصمة الجشمي البكري ، من هوازن : شجاع ، من الأبطال ، الشعراء ، المعمرين في الجاهلية ، كان سيد بني جشم وفارسهم وقائدهم ، وغزا نحو مائة غزوة لم يهزم في واحدة منها ، وعاش حتى سقط حاجباه عن عينيه ، وأدرك الإسلام ، ولم يسلم ، فقتل على دين الجاهلية «يوم حنين» ، وكانت هوازن خرجت لقتال المسلمين فاستصحبته معها تيمنا به ، وهو أعمى ، فلما انهزمت جموعها أدركه ربيعة بن رفيع السلميّ فقتله ، له أخبار كثيرة ، والصمة لقب أبيه معاوية بن الحارث.

ينظر ترجمته في : «الأعلام» (٢ / ٣٣٩) (٤١٦٤)

١٢٠