التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

القرآن برأيك ، حتى تفقهه عن العلماء. فإنه ربّ تنزيل يشبه بكلام البشر ، وهو كلام الله ، وتأويله لا يشبه كلام البشر» (١).

٣ ـ وأيضا عن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام قال لعلي بن محمد بن الجهم : «لا تؤوّل كتاب الله ـ عزوجل ـ برأيك ، فإنّ الله ـ عزوجل ـ يقول : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)(٢).

٤ ـ وروى أبو النضر محمد بن مسعود العياشي بإسناده عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : «من فسّر القرآن برأيه فأصاب لم يؤجر ، وإن أخطأ كان إثمه عليه» ، وفي رواية أخرى : «وإن أخطأ فهو أبعد من السماء» (٣).

٥ ـ وروى الشهيد السعيد زين الدين العاملي ، مرفوعا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار» ، وقال : «من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد اخطأ» ، وقال : «من قال في القرآن بغير ما علم ، جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار» ، وقال : «أكثر ما أخاف على أمّتي من بعدي ، رجل يناول القرآن ، يضعه على غير مواضعه» (٤).

وأخرج أبو جعفر محمد بن جرير الطبري بإسناده عن ابن عباس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قال في القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار».

وفي رواية أخرى : «من قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم ...».

__________________

(١) كتاب التوحيد ، للصدوق ، باب ٣٦ ، الردّ على الثنوية والزنادقة ، ص ٢٦٤ ، (ط بيروت)

(٢) عيون الأخبار ، للصدوق ، (ط نجف) ج ١ ، ص ١٥٣ ، باب ١٤ ، ج ١ ، آل عمران / ٧.

(٣) مقدمة تفسير العياشي ، ج ١ ، ص ١٧ ، رقم ٢ و ٤.

(٤) بحار الأنوار ، ج ٨٩ ، ص ١١١ ـ ١١٢ ، رقم ٢٠ عن آداب المتعلمين ، للشهيد ، ص ٢١٦ ـ ٢١٧.

٦١

وأيضا عنه : «من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار».

وأيضا : «من تكلّم في القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار».

وبإسناده عن جندب عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» (١).

وخصّ الطبري هذه الأحاديث بالآي التي لا سبيل إلى العلم بتأويلها إلّا ببيان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مثل تأويل ما فيه من وجوه أمره : واجبه وندبه وإرشاده ، وصنوف نهيه ، ووظائف حقوقه وحدوده ، ومبالغ فرائضه ، ومقادير اللازم بعض خلقه لبعض ، وما أشبه ذلك من أحكام آية التي لم يدرك علمها إلّا ببيان الرسول لأمّته ، وهذا وجه لا يجوز لأحد القول فيه إلّا ببيان الرسول له بتأويله ، بنصّ منه عليه ، أو بدلالة نصبها دالّة أمّته على تأويله.

قال : وهذه الأخبار شاهدة لنا على صحة ما قلنا : من أنّ ما كان من تأويل آي القرآن الذي لا يدرك علمه إلّا بنص بيان الرسول أو بنصبه الدلالة عليه ، فغير جائز لأحد القيل فيه برأيه ، بل القائل في ذلك برأيه وإن أصاب الحق فيه فمخطئ فيما كان من فعله ، بقيله فيه برأيه ؛ لأن إصابته ليست إصابة موقن أنه محقّ ، وإنما هو إصابة خارص وظانّ ، والقائل في دين الله بالظنّ قائل على الله ما لم يعلم ؛ لأن قيله فيه برأيه ليس بقيل عالم ، أن الذي قال فيه من قول حق وصواب ، فهو قائل على الله ما لا يعلم ، آثم بفعله ما قد نهى عنه وحظر عليه. (٢)

__________________

(١) تفسير الطبري ، ج ١ ، ص ٢٧.

(٢) تفسير الطبري ، ج ١ ، ص ٢٥ ـ ٢٦ و ٢٧.

٦٢

قلت : وهذا يعني العمومات الواردة في القرآن ، الوارد تخصيصاتها في السنّة ببيان الرسول ، مثل قوله : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) و (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) ونحو ذلك مما ورد في القرآن عامّا ، وأوكل بيان تفاصيلها وشرائطها وأحكامها إلى بيان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا يجوز شرح تفاصيلها إلّا عن أثر صحيح. وهذا حق ، غير أنّ حديث المنع غير ناظر إلى خصوص ذلك.

وروى الترمذي بإسناده إلى ابن عباس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «اتّقوا الحديث عليّ إلّا ما علمتم ، فمن كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار ، ومن قال في القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار» (١).

قال ابن الأنباري : فسّر حديث ابن عباس تفسيرين :

أحدهما : من قال في مشكل القرآن بما لا يعرف من مذهب الأوائل من الصحابة والتابعين ، فهو متعرّض لسخط الله.

والآخر : ـ وهو أثبت القولين وأصحهما معنى ـ من قال في القرآن قولا يعلم أنّ الحق غيره ، فليتبوّأ مقعده من النار.

وقال : وأما حديث جندب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» (٢) ، فحمل بعض أهل العلم هذا الحديث على أنّ الرأي معنيّ به الهوى. من قال في القرآن قولا يوافق هواه ، لم يأخذه عن أئمّة السلف ، فأصاب فقد أخطأ ، لحكمه على القرآن بما لا يعرف أصله ، ولا يقف على مذاهب أهل

__________________

(١) قال أبو عيسى الترمذي : هذا حديث حسن. الجامع ، ج ٥ ، ص ١٩٩ ، كتاب التفسير ، باب ١ ، رقم ٢٩٥١.

(٢) جامع الترمذي ، ج ٥ ، ص ٢٠٠ ، رقم ٢٩٥٢.

٦٣

الأثر والنقل فيه.

وقال ابن عطيّة : «ومعنى هذا أن يسأل الرجل عن معنى في كتاب الله عزوجل ، فيتسوّر عليه برأيه (١) دون نظر فيما قال العلماء ، واقتضته قوانين العلم كالنحو والأصول. وليس يدخل في هذا الحديث ، أن يفسّر اللغويّون لغته ، والنحويّون نحوه ، والفقهاء معانيه ، ويقول كل واحد باجتهاده المبنيّ على قوانين علم ونظر ، فإنّ القائل على هذه الصّفة ليس قائلا بمجرّد رأيه».

قال القرطبي ـ تعقيبا على هذا الكلام ـ : هذا صحيح ، وهو الذي اختاره غير واحد من العلماء ، فإنّ من قال في القرآن بما سنح في وهمه وخطر على باله من غير استدلال عليه بالأصول فهو مخطئ ، وإنّ من استنبط معناه بحمله على الأصول المحكمة المتّفق على معناها ، فهو ممدوح.

وقال بعض العلماء : إنّ التفسير موقوف على السماع ، للأمر بردّه إلى الله والرسول (٢).

قال : وهذا فاسد ؛ لأنّ النهي عن تفسير القرآن لا يخلو : إما أن يكون المراد به الاقتصار على النقل والسماع وترك الاستنباط ، أو المراد به أمرا آخر. وباطل أن يكون المراد به أن لا يتكلّم أحد في القرآن إلّا بما سمعه ، فإنّ الصحابة قد قرءوا القرآن واختلفوا في تفسيره على وجوه ، وليس كل ما قالوه سمعوه من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد دعا لابن عباس : «اللهمّ فقّهه في الدين وعلّمه التأويل». فإن كان التأويل مسموعا كالتنزيل ، فما فائدة تخصيصه بذلك ، وهذا بيّن لا إشكال فيه.

__________________

(١) تسوّر الحائط : هجم عليه هجوم اللّص وتسلّقه. ويعني به هنا : التهجم والإقدام بغير بصيرة ولا وعي.

(٢) في الآية رقم ٥٩ من سورة النساء.

٦٤

وإنّما النهي يحمل على أحد وجهين :

أحدهما : أن يكون له في الشيء رأي ، وإليه ميل من طبعه وهواه ، فيتأوّل القرآن على وفق رأيه وهواه ، ليحتجّ على تصحيح غرضه. ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى ؛ لكان لا يلوح له من القرآن ذلك المعنى.

وهذا النوع يكون تارة مع العلم ، كالذي يحتجّ ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعته ، وهو يعلم أن ليس المراد بالآية ذلك ، ولكن مقصوده أن يلبّس على خصمه.

وتارة يكون مع الجهل ؛ وذلك إذا كانت الآية محتملة ، فيميل فهمه إلى الوجه الذي يوافق غرضه ، ويرجّح ذلك الجانب برأيه وهواه ، فيكون قد فسّر برأيه ، أي رأيه حمله على ذلك التفسير ، ولو لا رأيه لما كان يترجّح عنده ذلك الوجه.

وتارة يكون له غرض صحيح ، فيطلب له دليلا من القرآن ، ويستدل عليه بما يعلم أنه ما أريد به ، كمن يدعو إلى مجاهدة القلب القاسي ، فيقول : قال الله تعالى : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى)(١) ويشير إلى قلبه ، ويومئ إلى أنه المراد بفرعون. وهذا الجنس قد يستعمله بعض الوعّاظ في المقاصد الصحيحة ، تحسينا للكلام وترغيبا للمستمع ، وهو ممنوع لأنه قياس في اللّغة ، وذلك غير جائز. وقد تستعمله الباطنية (٢) في المقاصد الفاسدة لتغرير الناس ودعوتهم إلى مذاهبهم الباطلة ، فينزّلون القرآن على وفق رأيهم ومذهبهم ، على أمور يعلمون قطعا أنها غير مرادة.

فهذه الفنون أحد وجهي المنع من التفسير بالرأي.

__________________

(١) سورة طه / ٢٤.

(٢) من أهل التصوّف.

٦٥

الوجه الثاني : أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربيّة ، من غير استظهار بالسماع والنقل ، فيما يتعلق بغرائب القرآن ، وما فيه من الألفاظ المبهمة والمبدلة ، وما فيه من الاختصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير. فمن لم يحكم ظاهر التفسير ، وبادر إلى استنباط المعاني بمجرّد فهم العربية كثر غلطه ، ودخل في زمرة من فسّر القرآن بالرأي. والنقل والسماع لا بدّ له منهما في ظاهر التفسير ، أوّلا ليتّقي بهما مواضع الغلط ، ثم بعد ذلك يتّسع الفهم والاستنباط. والغرائب التي لا تفهم إلّا بالسماع كثيرة ، ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر ، ألا ترى أن قوله تعالى : (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها)(١) معناه : آية مبصرة فظلموا أنفسهم بقتلها. فالناظر إلى الظاهر يظنّ أن الناقة كانت مبصرة ، فهذا في الحذف والإضمار ، وأمثاله في القرآن كثير (٢).

وهذا الذي ذكره القرطبي وشرحه شرحا وافيا ، هو الصحيح في معنى الحديث ، وأكثر العلماء عليه ، بل وفي لحن الروايات الواردة عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يؤيد إرادة هذا المعنى ، نظرا للإضافة في «رأيه» ، أي رأيه الخاص ، يحاول توجيهه بما يمكن من ظواهر القرآن حتى ولو استلزم تحريفا في كلامه تعالى. فهذا لا يهمّه القرآن ، إنما يهمّه تبرير موقفه الخاص باتخاذ هذا الرأي الذي يحاول إثباته بأيّة وسيلة ممكنة. فهذا في الأكثر مفتر على الله ، مجادل في آيات الله.

فقد روى أبو جعفر محمد بن عليّ بن بابويه الصدوق بإسناده إلى سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن سمرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لعن الله

__________________

(١) الإسراء / ٥٩.

(٢) راجع : تفسير القرطبي ، ج ١ ، ص ٣٢ ـ ٣٤.

٦٦

المجادلين في دين الله على لسان سبعين نبيّا ، ومن جادل في آيات الله فقد كفر ، ومن فسّر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب ، ومن أفتى الناس بغير علم فلعنته ملائكة السماوات والأرض ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة سبيلها إلى النار ...» (١).

وروى ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني بإسناده إلى الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه‌السلام قال : «ما علمتم فقولوا ، وما لم تعلموا فقولوا : الله أعلم. إنّ الرجل لينتزع بالآية فيخرّ بها أبعد ما بين السماء والأرض» (٢)

وكذا إذا استبدّ برأيه ولم يهتمّ بأقوال السلف والمأثور من أحاديث كبار الأئمّة والعلماء من أهل البيت عليهم‌السلام. وكذا سائر المراجع التفسيرية المعهودة ، فإن من استبدّ برأيه هلك ، ومن ثمّ فإنه إن أصاب أحيانا فقد أخطأ الطريق ، ولم يؤجر.

روى أبو النضر محمد بن مسعود بن عياش بإسناده إلى الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام قال : «من فسّر القرآن برأيه ، إن أصاب لم يؤجر ، وإن أخطأ فهو أبعد من السماء» (٣) ، إلى غيرها من أحاديث يستشف منها أن السرّ في منع التفسير بالرأي أمران :

أحدهما : التفسير لغرض المراء والغلبة والجدال. وهذا إنما يعمد إلى دعم نظرته وتحكيم رأيه الخاص ، بما يجده من آيات متشابهة صالحة للتأويل إلى

__________________

(١) كمال الدين للصدوق ، ج ١ ، ص ٢٥٦ ـ ٢٥٧ ، ب ٢٤ ، رقم ١. وعبد الرحمن بن سمرة بن حبيب العبشمي صحابي جليل ، أسلم يوم الفتح وشهد غزوة تبوك مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم شهد فتوح العراق ، وهو الذي افتتح سجستان وغيرها في خلافة عثمان. ثم نزل البصرة وكان يحدّث بها. روى عنه خلق كثير من التابعين. توفّي سنة (٥٠) (الإصابة ، ج ٢ ، ص ٤٠١ ، رقم ٥١٣٤)

(٢) الكافي الشريف ، ج ١ ، (الأصول) ، ص ٢٤ ، رقم ٤.

(٣) تفسير العياشي ، ج ١ ، ص ١٧ ، رقم ٤.

٦٧

مطلوبه ، إن صحيحا أو فاسدا ، غير أن الآية لا تهدف ذلك لو لا الالتواء بها في ذلك الاتجاه ؛ ولذلك فإنه حتى لو أصاب في المعنى لم يؤجر ؛ لأنه لم يقصد تفسير القرآن ، وإنما استهدف نصرة مذهبه أيّا كانت الوسيلة.

وهذا ناظر في الأكثر إلى الآيات المتشابهة لغرض تأويلها ، فالنهي إنما عنى التأويل غير المستند إلى دليل قاطع (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ)(١).

ثانيهما : التفسير من غير استناد إلى أصل ركين ، اعتمادا على ظاهر التعبير محضا ، فإن هذا هو من القول بلا علم ، وهو ممقوت لا محالة ، ولا سيما في مثل كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ومن ثمّ فإنّه أيضا غير مأجور على عمله حتى ولو أصاب المعنى ؛ لأنه أورد أمرا خطيرا من غير مورده ، والأكثر الغالب في مثله الخطأ والضلال ، وافتراء على الله ، وهو عظيم.

وقد أسلفنا كلام الراغب وشرحه بهذا الشأن (٢) ، وكذا ما ذكره الزركشي في هذا الباب (٣) ، وقد كان كلامهما وافيا بجوانب الموضوع ، لم يختلف عما ذكرناه هنا ، فراجع.

ولكن نقل جلال الدين السيوطي عن ابن النقيب محمد بن سليمان البلخي (٤). في مقدمة تفسيره :

__________________

(١) آل عمران / ٧.

(٢) ص ٤٩. وراجع : مقدمته في التفسير ، ص ٩٣.

(٣) ص ٥٤. وراجع : البرهان ، ج ٢ ، ص ١٦٤ ـ ١٦٨.

(٤) توفي سنة ٦٩٨.

٦٨

أن جملة ما تحصّل في معنى الحديث خمسة أقوال :

أحدها : التفسير من غير حصول العلوم ، التي يجوز معها التفسير.

ثانيها : تفسير المتشابه الذي لا يعلمه إلّا الله.

ثالثها : التفسير المقرّر للمذهب الفاسد ، بأن يجعل المذهب أصلا والتفسير تابعا ، فيردّ إليه بأيّ طريق أمكن ، وإن كان ضعيفا.

رابعها : التفسير بأنّ مراد الله كذا على القطع من غير دليل.

خامسها : التفسير بالاستحسان والهوى. (١) قلت : ويمكن إرجاع هذه الوجوه الخمسة إلى نفس الوجهين اللّذين ذكرناهما ؛ إذ الخامس يرجع إلى الثالث ، والرابع والثاني يرجعان إلى الأوّل ، فتدبّر.

خلاصة القول في التفسير بالرأي

يتلخص القول في تفسير

حديث «من فسّر القرآن برأيه ...»

: أن الشيء المذموم أو الممنوع شرعا ، الذي استهدفه هذا الحديث ، أمران :

أحدهما : أن يعمد قوم إلى آية قرآنية ، فيحاولوا تطبيقها على ما قصدوه من رأي أو عقيدة ، أو مذهب أو مسلك ، تبريرا لما اختاروه في هذا السبيل ، أو تمويها على العامة في تحميل مذاهبهم أو عقائدهم ، تعبيرا على البسطاء الضعفاء.

وهذا قد جعل القرآن وسيلة لإنجاح مقصوده بالذات ، ولم يهدف تفسير القرآن في شيء. وهذا هو الذي عني بقوله عليه‌السلام : فقد خرّ بوجهه أبعد من السماء ، أو فليتبوّأ مقعده من النار.

__________________

(١) الإتقان في علوم القرآن ، ج ٤ ، ص ١٩١.

٦٩

وثانيهما : الاستبداد بالرأي في تفسير القرآن ، محايدا طريقة العقلاء في فهم معاني الكلام ، ولا سيما كلامه تعالى. فإنّ للوصول إلى مراده تعالى من كلامه وسائل وطرقا ، منها : مراجعة كلام السلف ، والوقوف على الآثار الواردة حول الآيات ، وملاحظة أسباب النزول ، وغير ذلك من شرائط يجب توفّرها في مفسّر القرآن الكريم. فإغفال ذلك كله ، والاعتماد على الفهم الخاص ، مخالف لطريقة السلف والخلف في هذا الباب. ومن استبد برأيه هلك ، ومن قال على الله بغير علم فقد ضلّ سواء السبيل ، ومن ثم فإنه قد أخطأ وإن أصاب الواقع ـ فرضا أو صدفة ـ لأنه أخطأ الطريق ، وسلك غير مسلكه المستقيم.

قال سيدنا الأستاذ الإمام الخوئي ـ دام ظله ـ : إن الأخذ بظاهر اللفظ ، مستندا إلى قواعد وأصول يتداولها العرف في محاوراتهم ، ليس من التفسير بالرأي ، وإنما هو تفسير بحسب ما يفهمه العرف ، وبحسب ما تدل عليه القرائن المتصلة والمنفصلة ، وإلى ذلك أشار الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام بقوله : «إنما هلك الناس في المتشابه ؛ لأنهم لم يقفوا على معناه ، ولم يعرفوا حقيقته ، فوضعوا له تأويلا من عند أنفسهم بآرائهم ، واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء فيعرّفونهم».

قال : ويحتمل أن معنى التفسير بالرأي ، الاستقلال في الفتوى من غير مراجعة الأئمّة عليهم‌السلام مع أنهم قرناء الكتاب في وجوب التمسّك ، ولزوم الانتهاء إليهم. فإذا عمل الإنسان بالعموم أو الإطلاق الوارد في الكتاب ، ولم يأخذ التخصيص أو التقييد الوارد عن الأئمّة عليهم‌السلام كان هذا من التفسير بالرأي.

وعلى الجملة ، حمل اللفظ على ظاهره بعد الفحص عن القرائن المتصلة والمنفصلة ، من الكتاب والسنّة أو الدليل العقلي ، لا يعدّ من التفسير بالرأي ، بل و

٧٠

لا من التفسير نفسه (١).

قلت : وعبارته الأخيرة إشارة إلى أن الأخذ بظاهر اللفظ ، مستندا إلى دليل الوضع أو العموم أو الإطلاق ، أو قرائن حالية أو مقالية ونحو ذلك ، لا يكون تفسيرا ؛ إذ لا تعقيد في اللفظ حتى يكون حلّه تفسيرا ، وإنما هو جري على المتعارف المعهود ، في متفاهم الأعراف.

إذ قد عرفت أن التفسير ، هو : كشف القناع عن اللفظ المشكل ، ولا إشكال حيث وجود أصالة الحقيقة أو أصالة الإطلاق أو العموم ، أو غيرها من أصول لفظية معهودة.

نعم إذا وقع هناك إشكال في اللفظ ؛ بحيث أبهم المعنى إبهاما ، وذلك لأسباب وعوامل قد تدعو إبهاما أو إجمالا في لفظ القرآن ، فيخفى المراد خفاء في ظاهر التعبير ، فعند ذلك تقع الحاجة إلى التفسير ورفع هذا التعقيد.

والتفسير ـ في هكذا موارد ـ لا يمكن بمجرد اللجوء إلى تلكم الأصول المقررة لكشف مرادات المتكلمين حسب المتعارف ؛ إذ له طرق ووسائل خاصة غير ما يتعارفه العقلاء في فهم معاني الكلام العادي ، على ما يأتي في كلام السيد الطباطبائي.

والتفسير بالرأي المذموم عقلا والممنوع شرعا ، إنما يعني هكذا موارد متشابهة أو متوغّلة في الإبهام ، فلا رابط ـ ظاهرا ـ لما ذكره سيدنا الأستاذ ، مع موضوع البحث ، وعبارته الأخيرة ربما تشي بذلك.

وقال سيدنا العلامة الطباطبائي : «الإضافة ـ في قوله : برأيه ـ تفيد معنى

__________________

(١) البيان ، ص ٢٨٧ ـ ٢٨٨.

٧١

الاختصاص والانفراد والاستقلال ، بأن يستقل المفسّر في تفسير القرآن بما عنده من الأسباب في فهم الكلام العربي ، فيقيس كلامه تعالى بكلام الناس ، فإن قطعة من الكلام من أيّ متكلم إذا ورد علينا ، لم نلبث دون أن نعمل فيه القواعد المعمولة في كشف المراد الكلامي ، ونحكم بذلك أنه أراد كذا ، كما نجري عليه في الأقارير والشهادات وغيرهما. كل ذلك لكون بياننا مبنيّا على ما نعلمه من اللغة ، ونعهده من مصاديق الكلمات ، حقيقة ومجازا.

والبيان القرآني غير جار هذا المجرى ، بل هو كلام موصول بعضها ببعض ، في حين أنه مفصول ، ينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض ، كما قاله علي عليه‌السلام.

فلا يكفي ما يتحصّل من آية واحدة بإعمال القواعد المقررة ، دون أن يتعاهد جميع الآيات المناسبة لها ، ويجتهد في التدبّر فيها.

فالتفسير بالرأي المنهيّ عنه أمر راجع إلى طريق الكشف دون المكشوف. فالنهي إنما هو عن تفهّم كلامه تعالى على نحو ما يتفهّم به كلام غيره ، حتى ولو صادف الواقع ؛ إذ على فرض الإصابة يكون الخطأ في الطريق.

قال : ويؤيّد هذا المعنى ، ما كان عليه الأمر في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإن القرآن لم يكن مؤلّفا بعد ، ولم يكن منه إلّا سور أو آيات متفرقة في أيدي الناس ، فكان في تفسير كلّ قطعة قطعة منه خطر الوقوع في خلاف المراد.

قال : والمحصّل أن المنهي عنه إنما هو الاستقلال في تفسير القرآن ، واعتماد المفسّر على نفسه من غير رجوع إلى غيره ، ولازمه وجوب الاستمداد من الغير بالرجوع إليه.

قال : وهذا الغير ـ لا محالة ـ إما هو الكتاب أو السنّة. وكونه هي السنّة ، ينافي كون القرآن هو المرجع في تبيان كل شيء ، وكذا السنّة الآمرة بالرجوع إلى القرآن

٧٢

عند التباس الأمور ، وعرض الحديث عليه لتمييز صحيحه عن سقيمه ، فلم يبق للمراجعة والاستمداد في تفسير القرآن سوى نفس القرآن. فإن القرآن يفسر بعضه بعضا ، وينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض (١).

وهذا الذي ذكره سيدنا العلامة ـ هنا ـ تحقيق عريق بشأن طريقة فهم معاني كلامه تعالى.

قال ـ في مقدمة التفسير ـ :

إنّ الاتّكاء والاعتماد على الأنس والعادة في فهم معاني الآيات ، يشوّش على الفاهم سبيله إلى إدراك مقاصد القرآن ؛ إذ كلامه تعالى ناشئ من ذاته المقدسة ، التي لا مثيل لها ولا نظير (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ، (٢)(لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(٣) ، (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ). (٤)

وهذا هو الذي دعا بالنابهين أن لا يقتصروا على الفهم المتعارف لمعاني الآيات الكريمة ، وأجازوا لأنفسهم الاعتماد ـ لإدراك حقائق القرآن ـ على البحث والنظر والاجتهاد.

وذلك على وجهين : إما بحثا علميّا أو فلسفيا أو غيرهما ، للوصول إلى مراده تعالى في آية من الآيات ؛ وذلك بعرض الآية على ما توصل إليه العلم أو الفلسفة من نظريات أو فرضيات مقطوع بها ، وربما المظنون منها ظنّا راجحا ، وهذه

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٣ ، ص ٧٧ ـ ٧٩ ، وراجع : ج ١ ، ص ١٠ أيضا.

(٢) الشورى / ١١.

(٣) الأنعام / ١٠٣.

(٤) الصّافّات / ١٥٩.

٧٣

طريقة يرفضها ملامح القرآن الكريم.

وإمّا بمراجعة ذات القرآن ، واستيضاح فحوى آية من نظيرتها ، وبالتدبّر في نفس القرآن الكريم ؛ فإن القرآن ينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض ، كما قال عليّ عليه‌السلام.

قال تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ)(١) ، وحاشا القرآن أن يكون تبيانا لكلّ شيء ولا يكون تبيانا لنفسه ، وقد نزل القرآن ليكون هدى للناس ونورا مبينا وبيّنة وفرقانا ، فكيف لا يكون هاديا للناس إلى معالمه ومرشدا لهم على دلائله؟! وقد قال تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا)(٢) ، وأيّ جهاد أعظم من بذل الجهد في سبيل فهم كتاب الله ، واستنباط معانيه واستخراج لآلئه. نعم ، القرآن هو أهدى سبيل إلى نفسه ، لا شيء أهدى منه إليه.

وهذه هي الطريقة التي سلكها النبي وعترته الأطهار ـ صلوات الله عليهم ـ في تفسير القرآن والكشف عن حقائقه ـ على ما وصل إلينا من دلائلهم في التفسير ـ ولا يوجد مورد واحد استعانوا لفهم آية ، على حجة نظريّة عقلية أو فرضيّة علمية ، ونحو ذلك (٣).

وتوضيحا لما أفاده سيدنا العلّامة في هذا المجال ، نعرض ما يلي :

كان للبيان القرآني أسلوبه الخاص في التعبير والأداء ، ممتازا على سائر الأساليب ، ومختلفا عن سائر البيان ؛ مما يبدو طبيعيّا ، شأن كل صاحب فنّ جديد

__________________

(١) النحل / ٨٩.

(٢) العنكبوت / ٦٩.

(٣) الميزان ، ج ١ ، ص ٩ ـ ١٠.

٧٤

كان قد أتى بشيء جديد.

ومن ثمّ كان للقرآن لغته الخاصّة به ، ولسانه الذي يتكلّم به ، ولهجته التي يلهج بها ، ممتازة عن سائر اللهجات.

نعم ، إنّ للقرآن مصطلحات في تعابيره عن مقاصده ومراميه ، كانت تخصّه ، ولا تعرف مصطلحاته إلّا من قبل نفسه ، شأن كل صاحب اصطلاح.

ومن المعلوم أنّ الوقوف على مصطلحات أيّ فنّ من الفنون ، لا يمكن بالرجوع إلى اللغة وقواعدها ، ولا إلى الأصول المقرّرة لفهم الكلام في الأعراف ؛ لأنها أعراف عامّة ، وهذا عرف خاص. فمن رام الوقوف على مصطلحات علم النحو ـ مثلا ـ فلا بد من الرجوع إلى النحاة أنفسهم لا غيرهم ، وهكذا سائر العلوم والفنون من ذوي المصطلحات.

ومن ثمّ فإن القرآن هو الذي يفسّر بعضه بعضا ، وينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض.

نعم يختص ذلك بالتعابير ذوات الاصطلاح ، وليس في مطلق تعابيره التي جاءت وفق العرف العامّ.

وبعبارة أخرى : ليس كل تعابير القرآن مما لا يفهم إلّا من قبله ، إنّما تلك التعابير التي جاءت وفق مصطلحه الخاصّ ، وكانت تحمل معاني غير معاني سائر الكلام. أمّا التي جاءت وفق اللغة أو العرف العام ، فطريق فهمها هي اللغة والأصول المقررة عرفيّا لفهم الكلام.

وبعبارة ثالثة : الحاجة إلى عرفان مصطلحات القرآن ، إنّما تكون في موارد التفسير ؛ حيث الغموض والإبهام في ظاهر التعبير ، دون ترجمة الألفاظ والكلمات ، وإدراك مفاهيم الكلام وفق الأعراف العامّة ، مما يعود إلى البحث عن

٧٥

حجيّة الظواهر ، فإنّها حجّة بلا كلام ، سواء في القرآن أم في غيره ، سواء بسواء.

وهذا غير المبحوث عنه هنا ، حيث خفاء المراد وراء ستار اللفظ ، المعبّر عنه بالبطن المختفي خلف الظهر. فالظهر لعامة الناس حيث متفاهمهم ، ويكون حجّة لهم ومستندا يستندون إليه في التكليف ، أمّا البطن فللخاصّة ممن يتعمقون في خفايا الأسرار ، ويستخرجون الخبايا من وراء الستار.

ومن ثم كان المطلوب من الأمّة (العلماء والأئمّة) التفكّر في الآيات والتدبّر فيها ، وتعقّلها ومعرفتها حقّ المعرفة.

قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(١).

قال : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها)(٢).

وقال : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٣).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «له ظهر وبطن ، فظاهره حكمة وباطنه علم ، ظاهره أنيق وباطنه عميق ، لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه ، فليجل جال بصره ، وليبلغ الصفة نظره ، فإنّ التفكّر حياة قلب البصير» (٤).

قال العلامة الفيلسوف ابن رشد الأندلسي : «وقد سلك الشرع في تعاليمه وبرامجه الناجحة مسلكا ينتفع به الجمهور ، ويخضع له العلماء. ومن ثم جاء بتعابير يفهمها كل من الصنفين : الجمهور يأخذون بظاهر المثال ، فيتصورون عن

__________________

(١) النحل / ٤٤.

(٢) محمد / ٢٤.

(٣) ص / ٢٩.

(٤) مقدمة تفسير الميزان ، ج ١ ، ص ١٠. والكافي الشريف ، ج ٢ ، ص ٥٩٩.

٧٦

الممثّل له ما يشاكل الممثّل به ، ويقتنعون بذلك. والعلماء يعرفون الحقيقة التي جاءت في طيّ المثال» (١).

وسنبحث عن منهج القرآن وأساليب بيانه في فصل قادم ، إن شاء الله.

وإليك بعض الأمثلة ، شاهدا لما ذكره سيّدنا العلامة :

قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)(٢).

هذا خطاب عام يشمل كافة الذين آمنوا ، يدعوهم إلى الإيمان الصادق والاستجابة ـ عقيدة وعملا ـ لدعوة الإسلام ، والاستسلام العام للشريعة الغرّاء ؛ إذ في ذلك حياة القلب ، والطمأنينة في العيش ، وإدراك لذائذ نعمة الوجود.

أمّا الحائد عن طريقة الدين والمخالف لمناهج الشريعة ، فإنه في قلق من الحياة ، يعيش مضطربا قد سلبت راحته كوارث الدهر ، يخشى مفاجأتها في كل لحظة وأوان.

وأما المتّكل على الله ، فهو آمن في الحياة ، يداوم مسيرته ، فارغ البال في كنفه تعالى (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ)(٣) ، (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ. أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)(٤).

هذا تفسير الدعوة إلى ما فيه الحياة ، ولعله ظاهر لا غبار عليه.

__________________

(١) راجع : رسالته (الكشف عن مناهج الأدلة) ، ص ٩٧.

(٢) الأنفال / ٢٤.

(٣) الطلاق / ٣.

(٤) الرعد / ٢٨.

٧٧

وأمّا قوله تعالى ـ بعد ذلك ـ : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)(١) فيعلوه غبار إبهام ؛ إذ يبدو أنه تهديد بأولئك الحائدين عن جادّة الحق ، أن سوف يجازون بحيلولة بينهم وبين أنفسهم.

والسؤال : كيف هذه الحيلولة ، وما وجه كونها عقوبة متقابلة مع نبذ أحكام الشريعة؟

وللإجابة على هذا السؤال وقع اختلاف عنيف بين أهل الجبر وأصحاب القول بالاختيار ، كما تناوشها كل من الأشاعرة وأهل الاعتزال ، كل يجرّ النار إلى قرصه ، كما اختلف أرباب التفسير على وجوه أوردناها في الجزء الثالث من التمهيد ، عند الكلام عن المتشابهات ، ضمن آيات الهداية والضلال برقم (٨٠) والذي رجّحناه في تأويل الآية ، هو معنى غير ما ذكره جلّ المفسرين ، استفدناه من مواضع من القرآن نفسه : إنّ هذه الحيلولة كناية عن إماتة القلب ، فلا يعي شيئا بعد فقد الحياة.

لا تعجبنّ الجهول حلّته

فذاك ميت وثوبه الكفن

الإسلام دعوة إلى الحياة ، وفي رفضها رفض للحياة ، تلك الحياة المنبعثة عن إدراكات نبيلة ، والملهمة للإنسان شعورا فيّاضا يسعد به في الحياة ، ويحظى بكرامته الإنسانية العليا.

أما إذا عاكس فطرته وأطاح بحظّه ، فإنه سوف يشقى في الحياة ، ولم يزل يسعى في ظلمات غيّه وجهله (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى

__________________

(١) الأنفال / ٢٤.

٧٨

النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ)(١).

فالإنسان التائه في ظلمات غيّه قد فقد شعوره ، وافتقد كرامته العليا في الحياة ، فهذا قد نسي نفسه وذهل عن كونه إنسانا ، يحسب من نفسه موجودا ذا حياة بهيميّة سفلى ، إنما يسعى وراء نهمه وشبع بطنه ، لا هدف له في الحياة سواه.

وهذا التسافل في الحياة كانت نتيجة تساهله بشأن نفسه وإهمال جانب كرامته ، وهذا هو معنى قوله تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ)(٢) ، قال تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ)(٣).

فإنّ نسيان النفس كناية عن الابتعاد عن معالم الإنسانية والشرف التليد (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ)(٤).

وقال تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا)(٥).

اختلف الفقهاء في موضع القطع من يد السارق ؛ حيث الإبهام في ذات اليد ، أنها من الكتف أم من المرفق أم الساعد أم الكرسوع (طرف الزند) أم الأشاجع (أصول الأصابع)؟

روى أبو النضر العياشي في تفسيره بالإسناد إلى زرقان صاحب ابن أبي داود ، قاضي القضاة ببغداد ، قال : أتي بسارق إلى المعتصم وقد أقرّ بالسرقة ، فسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحدّ ، فجمع الفقهاء يستفتيهم في إقامة حدّ السارق عليه ،

__________________

(١) البقرة / ٢٥٧.

(٢) الأنعام / ١١٠.

(٣) الحشر / ١٩.

(٤) الأعراف / ١٧٦.

(٥) المائدة / ٣٨.

٧٩

وكان ممن أحضر محمد بن عليّ الجواد عليه‌السلام ، فسألهم عن موضع القطع.

فقال ابن أبي داود : من الكرسوع ، استنادا إلى آية التيمّم ؛ حيث المراد من اليد في ضربتيه هو الكف ، ووافقه قوم. وقال آخرون : من المرفق ، استنادا إلى آية الوضوء.

فالتفت الخليفة إلى الإمام الجواد يستعلم رأيه ، فاستعفاه الإمام ، فأبى وأقسم عليه أن يخبره برأيه.

فقال عليه‌السلام : أمّا إذا أقسمت عليّ بالله ، إنّي أقول : إنّهم أخطئوا فيه السنّة ، فإنّ القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع ، فيترك الكفّ.

قال المعتصم : وما الحجّة في ذلك؟

قال الإمام : قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : السجود على سبعة أعضاء : الوجه واليدين والركبتين والرجلين ، فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق ، لم يبق له يد يسجد عليها ، وقد قال الله تعالى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) يعني به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً)(١) ، وما كان لله لم يقطع.

فأعجب المعتصم هذا الاستنتاج البديع ، وأمر بالقطع من الأشاجع. (٢)

انظر إلى هذه الالتفاتة الرقيقة ، يجعل من آية المساجد ، بتأويل ظاهرها (هي المعابد) إلى باطنها (الشمول لما يسجد به ، أي يتحقّق به السّجود) ، منضمّة إلى كلام الرسول في بيان مواضع السجدة ، يجعل من ذلك كلّه دليلا على تفسير آية القطع وتعيين موضعه ، بهذا النمط البديع.

وقد استظهر عليه‌السلام من الآية أنّ راحة الكف ، وهي من مواضع السجود ، كانت

__________________

(١) الجن / ١٨.

(٢) تفسير العياشي ، ج ١ ، ص ٣١٩ ـ ٣٢٠.

٨٠