تفسير القاسمي - ج ٧

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٧

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٥

وقال تعالى : (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) [النحل : ٥٣] ، وهكذا قال هاهنا (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ) ، أي من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه ، والذي لا يكشف ضر المضرورين سواه؟.

وقال ابن القيم في (الجواب الكافي) : إذا اجتمع مع الدعاء حضور القلب وجمعيته بكليته على المطلوب ، وصادف انكسارا بين يدي الرب وذلّا له وتضرعا ورقة ، ثم توسل إليه تعالى بأسمائه وصفاته وتوحيده ، فإن هذا الدعاء لا يكاد يردّ أبدا. ولا سيما إن صادف الأدعية المأثورة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنها مظنة الإجابة ، أو أنها متضمنة للاسم الأعظم.

ثم ساقها ابن القيم مسندة.

ثم قال : وكثيرا ما نجد أدعية دعا بها قوم فاستجيب لهم ، فيكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبه وإقباله على الله. أو حسنة تقدمت منه ، جعل الله سبحانه إجابة دعوته شكرا لحسنته. أو صادف الدعاء وقت إجابة ، ونحو ذلك ، فأجيبت دعوته. فيظن الظانّ أن السر في لفظ ذلك الدعاء ، فيأخذه مجردا عن تلك الأمور التي قارنته من ذلك الداعي. وهذا كما إذا استعمل رجل دواء نافعا ، في الوقت الذي ينبغي ، على الوجه الذي ينبغي. فانتفع به. فظن غيره أن استعمال هذا الدواء بمجرده ، كاف في حصول المطلوب ، كان غالطا. وهذا موضع يغلط فيه كثير من الناس. ومن هذا قد يتفق دعاؤه باضطرار عند قبر فيجاب. فيظن الجاهل أن السر للقبر ولم يعلم أن السر للاضطرار وصدق اللجأ إلى الله. فإذا حصل ذلك في بيت من بيوت الله ، كان أفضل وأحب إلى الله. انتهى.

وقوله تعالى : (وَيَكْشِفُ السُّوءَ) أي كل ما يسوءه مما يضطر فيه وغيره (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) أي خلفاء فيها. وذلك توارثهم سكناها ، والتصرف فيها قرنا بعد قرن أو أراد بالخلافة الملك والتسلط. قاله الزمخشريّ : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي بالنجوم في السماء ، والعلامات في الأرض ، إذا جن الليل عليكم مسافرين في البر والبحر (وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) وهي المطر (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) (٦٥)

٥٠١

(أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي بعد الموت بالبعث. فإن قيل : هم منكرون للإعادة ، فكيف خوطبوا بها خطاب المعترف؟ أجيب بأنها لظهورها ووضوح براهينها ، جعلوا كأنهم معترفون بها ، لتمكنهم من معرفتها ـ فلم يبق لهم عذر في الإنكار. فلا حاجة إلى القول بأن منهم من اعترف بها ، فالكلام بالنسبة إليه (وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي مما ينزله من مائها وما يخرجه من نباتها (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أمر له عليه الصلاة والسلام بتبكيتهم إثر تبكيت. أي هاتوا برهانا عقليا أو نقليا ، يدل على أن معه تعالى إلها. لا على أن غيره تعالى يقدر على شيء مما ذكر من أفعاله تعالى ، فإنهم لا يدعونه صريحا. وفي إضافة (البرهان) إلى ضميرهم ، تهكم بهم. لما فيها من إيهام أن لهم برهانا. وأنّى لهم ذلك؟ قاله أبو السعود (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) أي فإنه المتفرد بذلك وحده ، كما قاله : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) [الأنعام : ٥٩] ، في آيات لا تحصى. والاستثناء منقطع ، لاستحالة أن يكون تعالى ممن في السماء والأرض ، أو متصل ، على أن المراد ممن في السموات والأرض ، من تعلق علمه بها واطلع عليها اطلاع الحاضر فيها مجازا مرسلا أو استعارة. فإنه يعمّ الله تعالى وأولي العلم من خلقه (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أي متى ينشرون.

القول في تأويل قوله تعالى :

(بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) (٦٦)

(بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) قال السمين : فيه وجهان : أحدهما ـ أن (في) على بابها ، و (ادّارك) وإن كان ماضيا لفظا ، فهو مستقبل معنى ، لأنه كائن قطعا. كقوله (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١].

وعلى هذا ف (في) متعلق ب (ادّارك).

والثاني ـ أن (في) بمعنى الباء. أي بالآخرة.

وعلى هذا فيتعلق بنفس علمهم. كقولك (علمي بزيد كذا) انتهى.

والوجه الثاني على الاستفهام. أي بل هل ادّارك علمهم فيها ، أي بلغ وانتهى؟ كلا. وقد قرئ (بل أءدرك) بهمزتين ، (بلءاأدرك) بألف بينهما ، (أم أدرك) و (أم تدارك).

قال الرازيّ : وهي (أم) التي بمعنى (بل) والهمزة. فالمعنى على الاستفهام

٥٠٢

على وجه الإنكار لإدراك علمهم بها ، وأنهم لم يبرحوا في حضيض الجهالة بحقيتها ، مع ما يتلى عليهم من أدلة ثبوتها.

وقد جنح إلى الكلام على تقدير الاستفهام ، السيوطيّ والمهايميّ. وذهب غيرهما إلى إبقاء (بل) على أصلها من الإضراب الانتقاليّ. وقرروه بما فيه خفاء ودقة. ويبعده ما ذكرنا من القراءات الصريحة في الاستفهام. وهي مما يرجع إليها إذا اشتبه المقام. كما تقرر في قواعد التفسير (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) أي مرية ، مع تقرير ما يزيله ويكشف غشاوته (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) أي في عماية وجهل كبير.

قال الزمخشريّ : فإن قلت : هذه الإضرابات الثلاثة ما معناها؟ قلت : ما هي إلا تنزيل لأحوالهم : وصفهم أولا بأنهم لا يشعرون وقت البعث. ثم بأنهم لا يعملون أن القيامة كائنة. ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية ، فلا يزيلونه. والإزالة مستطاعة. ألا ترى أن من لم يسمع اختلاف المذاهب وتضليل أربابها بعضهم لبعض ، كان أمره أهون ممن سمع بها وهو جاثم ، لا يشخص به طلب التمييز بين الحق والباطل؟ ثم بما هو أسوأ حالا ، وهو العمى وأن يكون مثل البهيمة قد عكف همه على بطنه ، وفرجه ، لا يخطر بباله حقا ولا باطلا ولا يفكر في عاقبة. وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه. فلذلك عداه ب (من) دون (عن) لأن الكفر بالعاقبة والجزاء ، هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يتبصرون. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (٧٠)

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي بوعد الله وآياته وعلمه وقدرته وحكمته (أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) أي من القبور (لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي أحاديثهم وأكاذيبهم التي سطروها بعبارة مموّهة (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي لتبصروا آثار القائلين هذا القول قبلكم (فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) بإنكاره. وهي دمارهم وهلاكهم بالاستئصال (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أي على قولهم وتكذيبهم. فإنه سيكون لك من المصدقين من لا يبالي معهم بهؤلاء ،

٥٠٣

كقوله تعالى (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) [الكهف : ٦] ، (وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) أي في حرج من مكرهم وكيدهم لك. ولا تبال بذلك ، فإن الله يعصمك من الناس.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٧٥) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٧٦)

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) أي بالعذاب (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) أي لحقكم أو دنا لكم (بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) أي من العذاب ، فحصل لهم القتل ببدر. ولعذاب الآخرة أمرّ. قال الزمخشريّ : و (عسى) و (لعلّ) و (سوف) في وعد الملوك ووعيدهم ، يدل على صدق الأمر وجدّه ، وما لا مجال للشك بعده. وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم ، وأنهم لا يعجلون بالانتقام ، لإدلالهم بقهرهم وغلبتهم ، ووثوقهم أن عدوّهم لا يفوتهم ، وأن الرمزة إلى الأغراض كافية من جهتهم. فعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده. انتهى. أي لأن حقيقة الترجّي محال في حقه تعالى. فهو على هذا استعارة تمثيلية. قاله الشهاب (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) أي لذو إفضال وإنعام عليهم ، بتأخير العقوبة وعدم معاجلتهم بها. ولكن أكثرهم لا يعرفون حق النعمة فيه فلا يشكرونه ، بل بجهلهم يستعجلونها (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) أي من عداوة رسوله ونصب المكايد له. وهو معاقبهم على ذلك (وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي وما من خافية فيهما ، إلا وقد علمها الله وأحاط بها وأثبتها في اللوح البيّن ، المثبت فيه مقدوراته تعالى. أو المراد بالكتاب القضاء العدل ، على طريق الاستعارة ، بتشبيهه بالكتاب الجامع للوقائع ، كالسجل (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي فهو مصدق لما بين يديه ، ومهيمن عليه. يقص القصص الحق ، ويفصل بين ما اختلفوا فيه بالصدق. فالمعوّل من أنبائهم عليه ، ومردّ ما اختلفوا فيه إليه.

٥٠٤

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) (٨١)

(وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي بما فيه من إقامة الدلائل ورفع الشبه التي يعقلها المؤمنون المنصفون المصدقون بالحق ، المذعنون له (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ) أي بين من آمن بالقرآن ومن كفر به ، بعدله وحكمته (وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي فلا يردّ قضاؤه الغالب في انتقامه من المبطلين (الْعَلِيمُ) أي بالفصل بينهم وبين المحقّين. ثم أمره تعالى بقلة المبالاة بأعدائه ، وبالمضيّ في دعوته وانتظار الوعد الحق ، بقوله : (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) أي الأبلج الذي لا ريب فيه. قال الزمخشريّ : وفيه بيان أن صاحب الحق حقيق بالوثوق بصنع الله وبنصرته ، وأن مثله لا يخذل. ثم أشار تعالى إلى كفاية نفع دعوته للمؤمنين ، الذين هم أولياؤه وحزبه ، وإلى أن الكل لا يرجى منهم الهداية ، كآية (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف : ١٠٣] ، تسلية عما كان يهمه من إيمانهم ، بقوله سبحانه (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) قال الزمخشريّ : شبّهوا بالموتى وهم أحياء صحاح الحواس ، لأنهم إذا سمعوا ما يتلى عليهم من آيات الله فكانوا أقماع القول ، لا تعيه آذانهم. وكان سماعهم كلا سماع. كانت حالهم ، لانتفاء جدوى السماع ، كحال الموتى الذين فقدوا مصحح السماع ، وكذلك تشبيههم بالصم الذين ينعق بهم فلا يسمعون. وشبهوا بالعمي حيث يضلون الطريق ولا يقدر أحد أن ينزع ذلك عنهم ، وأن يجعلهم هداة بصراء ، إلا الله عزوجل. فإن قلت : ما معنى قوله (إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ)؟ قلت : هو تأكيد لحال الأصمّ. لأنه إذا تباعد عن الداعي ، بأن يولّي عنه مدبرا ، كان أبعد عن إدراك صوته. انتهى.

وإيراد قوله (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) إثر ما تقدم ، للمبالغة في نفي الهداية. وقوله تعالى (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) أي ما تسمع سماعا يجدي السامع نفعا ، إلّا من شأنه الإيمان بها. وقوله (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) تعليل لإيمانهم بها.

٥٠٥

كأنه قيل : فإنهم منقادون للحق. وقيل : معناه مخلصون ، من قوله (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) [البقرة : ١١٢] ، يعني جعله سالما لله خالصا له.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) (٨٢)

(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) اعلم أن في هذا الوعيد وجوها من التأويل :

الأول ـ أنه دنيويّ ، عنى به نصر الرسول صلوات الله عليه ، عليهم. والمعنى أنّ أولئك الصم عن سماع الآيات ، العمي عن النظر فيها ، الجاحدين لها ، سيأتيهم أنباء حقيقة ما كانوا يدعون إليه من نصر الداعي وهو الرسول وأتباعه ، وتكثير سوادهم حتى يظفروا بمناوئيهم. ويظهروا على عدوّهم. وذلك بأن تدبّ إليهم من المؤمنين دابة عظمى تملأ السهل والربى ، تزلزل أركانهم وتهدم بنيانهم وتقوض خيامهم وتدكّ أعلامهم. فتكلمهم حينئذ بلسان الحال أو المقال ، بأنهم إنما أخذوا بالعقاب ، وحل بهم شديد العذاب لضلالهم وإضلالهم العباد. وسعيهم في الأرض الفساد. فإن الإيمان دعامة الصلاح والإصلاح. وقائد الفلاح والنجاح ، وقد سبقت كلمته لعباده المرسلين إنهم لهم المنصورون ، وإن جنده لهم الغالبون. وقد صدق الله وعده. وأعز جنده.

والوجه الثاني ـ أن الدابة حيوان بخلاف ما نعرفه. يختص خروجها بحين القيامة ، قال بعضهم : والمعنى إذا قامت القيامة بعث الله نوعا مخصوصا من دواب هذه الأرض ، كما يبعث غيره من أنواع الدواب الأخرى. وينطقه فيوبخ الإنسان على كفره ، كما ينطق أعضاءه في ذلك اليوم أيضا. قال : فليس المراد من قوله (دَابَّةً) الفرد ، بل النوع. كما في قولك (أرسل الله عليهم دودة أتلفت زرعهم) أي ديدانا كثيرة ، من نوع واحد مخصوص.

وقد روي فيها أحاديث وآثار كثيرة ، لم يصحح البخاريّ منها شيئا ، لاضطراب متونها وضعف رجالها. وأمثل مأثورها ما أخرجه مسلم (١) عن عبد الله بن عمرو مرفوعا(إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدابة على الناس

__________________

(١) أخرجه مسلم في : الفتن وأشراط الساعة ، حديث رقم ١١٨.

٥٠٦

ضحى. وأيهما ما كانت قبل صاحبتها ، فالأخرى على إثرها قريبا).

ومعلوم أن أمور الآخرة من عالم الغيب. ولا يؤخذ فيها إلا بما كان قطعيّ الثبوت.

الوجه الثالث ـ نقله الراغب في مفرداته قال : وقيل عنى بالدابة الأشرار الذين هم في الجهل بمنزلة الدواب. فتكون الدابة جمعا ، اسما لكلّ ما يدبّ. نحو (خائنة) جمع خائن. انتهى.

ولعل الآية كقوله تعالى : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) [الأنبياء : ٩٦ ـ ٩٧] ، فإن يأجوج ومأجوج كالدابة ، لما يغطي بدبيبه وجه الأرض ـ فهو مثل في الكثرة. والله أعلم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٨٤)

(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي يحبس أولهم على آخرهم ، حتى يجتمعوا فيكبكبوا في النار. وهذه عبارة عن كثرة العدد وتباعد أطرافه. كما وصفت جنود سليمان بذلك. وكذلك قوله (فَوْجاً) ، فإن الفوج الجماعة الكثيرة. أفاده الزمخشريّ (حَتَّى إِذا جاؤُ) أي إلى المحشر (قالَ) أي ليفضحهم في هذا اليوم المشهود (أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي) أي الناطقة بلقاء يومكم هذا وقوله : (وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً) جملة حالية مفيدة لزيادة شناعة التكذيب وغاية قبحه. ومؤكدة للإنكار والتوبيخ. أي أكذبتم بها بادئ الرأي ، غير ناظرين فيها نظرا يؤدي إلى العلم بكنهها ، وأنها حقيقة بالتصديق حتما؟ وهذا نص في أن المراد بالآيات ، فيما سلف في الموضعين ، هي الآيات القرآنية. لأنها هي المنطوية على دلائل الصحة ، وشواهد الصدق التي لم يحيطوا بها علما ، مع وجوب أن يتأملوا ويتدبروا فيها. لا نفس الساعة وما فيها. أفاده أبو السعود (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي بها. أو ماذا كان عملكم؟ هل هو إلا الفساد والإفساد؟ وصد السبيل عن العباد؟ ولذا حقت كلمة العذاب عليهم. كما قال تعالى :

٥٠٧

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) (٨٩)

(وَوَقَعَ الْقَوْلُ) أي مدلوله وهو العقاب الموعودون به (عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي ليبصروا ، بما فيه من الإضاءة ، طرق التقلب في أمور المعاش (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ) أي حضروا الموقف بين يديه (داخِرِينَ) أي صاغرين (وَتَرَى الْجِبالَ) عطف على (ينفخ) داخل في حكم التذكير (تَحْسَبُها جامِدَةً) أي ثابتة في أماكنها (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) أي في تخلل أجزائها وانتفاشها. كما في قوله تعالى : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) [القارعة : ٥] ، (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ، إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) أي فيجازيهم عليه.

تنبيه :

ما ذكرناه في تفسير هذه الآية هو ما ذهب إليه كثير. قالوا : المراد بهذه الآية تسيير الجبال الذي يحصل يوم القيامة ، حينما يبيد الله تعالى العوالم ، كما قال : (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) [النبأ : ٢٠] ، وكما قال : (وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) [المرسلات : ١٠] ، وقال : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) [القارعة : ٥].

وقال بعض علماء الفلك : لا يمكن أن يكون المراد بهذه الآية ما قالوه ، لعدة وجوه :

الأول ـ أن قوله تعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً) لا يناسب مقام التهويل والتخويف إذا أريد بها ما يحصل يوم القيامة. وكذلك قوله : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) ، لا يناسب مقام الإهلاك والإبادة ، على أن محل هذه الآية على المستقبل ، مع أنها صريحة في إرادة الحال ، شيء لا موجب له. وهو خلاف الظاهر منها.

٥٠٨

الثاني ـ أن سير الجبال للفناء يوم القيامة ، يحصل عند خراب العالم وإهلاك جميع الخلائق وهذا شيء لا يراه أحد من البشر كما قال : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) [الزمر : ٦٨] ، أي من الملائكة. فما معنى قوله إذن (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً)؟.

الثالث ـ أن تسيير الجبال الذي يحصل يوم القيامة ، إذا رآه أحد شعر به. لأنه ما دام وضعها يتغير بالنسبة للإنسان ، فيحسّ بحركتها. وهذا ينافي قوله تعالى (تَحْسَبُها جامِدَةً) أي ثابتة. أما في الدنيا فلا نشعر بحركتها ، لأننا نتحرك معها ولا يتغير وضعنا بالنسبة لها. وهذا بخلاف ما يحصل يوم القيامة. فإن الجبال تنفصل عن الأرض وتنسف نسفا. وهذا شيء يراه كل واقف عندها.

الرابع ـ ورود هذه الآية في سياق الكلام على يوم القيامة ، لورود آية (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) المذكورة قبلها في نفس هذا السياق ، والمراد بهما ذكر شيء من دلائل قدرة الله تعالى ، المشاهدة آثارها في هذا العالم الآن من حركة الأرض وحدوث الليل والنهار ، ليكون ذلك دليلا على قدرته على البعث والنشور يوم القيامة فإن القادر على ضبط حركات هذه الأجرام العظيمة ، لا يصعب عليه أن يعيد الإنسان ، وأن يضبط حركاته وأعماله ويحصيها عليه. ولذلك ختم هذه الآية بقوله (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) فذكر هذه الأشياء في هذا السياق ، هو كذكر الدليل مع المدلول ، أو الحجة مع الدعوى. وهي سنة القرآن الكريم. فإنك تجد الدلائل منبثة بين دعاويه دائما ، حتى لا يحتاج الإنسان لدليل آخر خارج عنها. وذلك شيء مشاهد في القرآن من أوله إلى آخره. كلامه.

وقال العلامة المرجانيّ في مقدمة كتابه (وفيّة الأسلاف ، وتحيّة الأخلاف) في بحث علم الهيئة ، ما مثاله :

ويدل على حركة الأرض قوله تعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) الآية. فإنه خطاب لجناب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإيذان الأمر له بالأصالة مع اشتراك غيره في هذه الرؤية. وحسبان جمود الجبال وثباتها على مكانها ، مع كونها متحركة في الواقع بحركة الأرض ، ودوام مرورها مرّ السحاب في سرعة السير والحركة. قال : وقوله (صُنْعَ اللهِ) من المصادر المؤكدة لنفسها. وهو مضمون الجملة السابقة. يعني أن هذا المرور هو صنع الله. كقوله تعالى : (وَعْدَ اللهِ) [النساء : ١٢٢] ، (صِبْغَةَ اللهِ) [البقرة : ١٣٨] ، ثم (الصنع) هو عمل الإنسان ، بعد تدرّب فيه وتروّ

٥٠٩

وتحري إجادة. ولا يسمى كل عمل صناعة ، ولا كل عامل صانعا حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه. وقوله (الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) كالبرهان على إتقانه ، والدليل على إحكام خلقته ، وتسوية مروره على ما ينبغي. لأن إتقان كل شيء ، يتناول إتقانه. فهو تثنية للمراد وتكرير له ، كقوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [آل عمران : ٩٧] ، قال : وقد اشتملت هذه الآية على وجوه من التأكيد ، وأنحاء من المبالغة. فمن ذلك تعبيره (بالصنع) الذي هو الفعل الجميل المتقن المشتمل على الحكمة. وإضافته إليه تعالى تعظيما له وتحقيقا لإتقانه وحسن أعماله. ثم توصيفه سبحانه بإتقان كل شيء ، ومن جملته هذا المرور. ثم إيراده بالجملة الاسمية الدالة على دوام هذه الحالة واستمرارها مدى الدهور. ثم التقييد بالحال ، لتدل على أنها لا تنفك عنها دائما. فإن قوله تعالى : (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) حال من المفعول به ، وهو الجبال. ومعمول لفعله الذي هو رؤيتها على تلك الحال.

فهذه الآية صريحة في دلالتها على حركة الأرض ومرور الجبال معها في هذه النشأة. وليس يمكن حملها على أن ذلك يقع في النشأة الآخرة ، أو عند قيام الساعة وفساد العالم وخروجه عن متعاهد النظام. وأن حسبانها جامدة لعدم تبين حركة كبار الإجرام إذا كانت في سمت واحد. فإن ذلك لا يلائم المقصود من التهويل على ذلك التقدير. على أن ذلك نقض وإهدام ، وليس من صنع وإحكام. قال : والعجب من حذاق العلماء المفسرين ، عدم تعرضهم لهذا المعنى ، مع ظهوره واشتمال الكتب الحكمية على قول بعض القدماء. مع أنه أولى وأحق من تنزيل محتملات كتاب الله على القصص الواهية الإسرائيلية ، على ما شحنوا بها كتبهم. وليس هذا بخارج عن قدرة الله تعالى ، ولا بعيد عن حكمته ، ولا القول به بمصادم للشريعة والعقيدة الحقة ، بعد أن تعتقد أن كل شيء حادث بقدرة الله تعالى وإرادته وخلقه بالاختيار ، كائنا ما كان ، وهو العليّ الكبير ، وعلى ما يشاء قدير.

واعلم أن هذه الآية وما قبلها من قوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ) الآية. اعتراض في تضاعيف ما ساقه من الآيات الدالة على أحوال الحشر وأهوال القيامة ، كاعتراض توصية الإنسان بوالديه في تضاعيف قصة لقمان. ومثل ذلك ليس بعزيز في القرآن.

وفائدته هنا ، التنبيه على سرعة تقضّي الآجال ومضيّ الآماد. والتهويل من هجوم ساعة الموت وقرب ورود وقت المعاد. فإن انقضاء الأزمان ، وتقضي الأوان ، إنما هو بالحركة اليومية المارّة على هذه السرعة المنطبقة على أحوال الإنسان. وهذا

٥١٠

المرور. وإن لم يكن مبصرا محسوسا ، لكن ما ينبعث منه تبدل الأحوال ، بما يطرأ من تعاقب الليل والنهار وغيره ، بمنزلة المحسوس المبصر (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) [الحشر : ٢] ، فيكون هذا معجزة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مخصوصة به ، إذ لم يخبر به غيره من الأنبياء.

فليس بممكن حمل الآية على تسيير الجبال الواقع عند قيام الساعة ووفاء النشأة الآخرة. إذ ليس هو من (الصنع) في شيء. بل هو إفساد أحوال الكائنات ، وإخلال نظام العالم ، وإهلاك بني آدم. كلام المرجانيّ.

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) أي لا يعتريهم ذلك الفزع الهائل. وقرئ (فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ) بالإضافة وكسر الميم وفتحها. وفزع منونا وفتح الميم ، على أنه ظرف (لآمنون) أو المحذوف هو صفة للفزع. والتنوين في (يومئذ) عوض عن جملة محذوفة ، أي يوم إذا جاءوا بالحسنة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٩٣)

(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي من الشرك والمعاصي (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ) أي مكة (الَّذِي حَرَّمَها) أي جعلها حرما آمنا لا يسفك فيها دم ، ولا يظلم فيها أحد ولا يصاد صيدها ولا يختلى خلاها. وفيه تعريض بجحدهم نعمته تعالى في ذلك ، حيث آمنهم من خوف ، وأجلّهم في أعين القبائل ، ووقاهم من الفتن المنتشرة عند غيرهم ، إجلالا لهذا البيت. وهم لم يرعوا هذه النعمة بالقيام بواجب شكرها ، من عبادته تعالى وحده ، وسعيهم بالإصلاح (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) أي خلقا وملكا. فهو خالق كل شيء ومليكه (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي ممن أسلم وجهه لله ، لا لغيره.

(وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) أي عليكم ، تلاوة الدعوة إلى الإيمان به ، لما اشتمل عليه من سعادة الدارين (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) أي فمن اتبع ما فيه من توحيد

٥١١

الله ، ونفي الأنداد عنه ، والدخول في الملة الحنيفية ، واتباع ما أنزل عليّ من الوحي ، فمنفعة اهتدائه راجعة إليه ، لا إليّ (وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) أي ومن ضل عن الإيمان وأخطأ بزيغه طريق الهدى ، ولم يتبعني ، فلا عليّ. وما أنا إلا رسول منذر ، وما على الرسول إلا البلاغ المبين (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي على ما هدانا لهذا الدين ، ومنّ علينا بصراطه المستقيم (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها) كقوله تعالى (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) [فصلت : ٥٣] ، وقوله (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) [ص : ٨٨] ، (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي من الشرك والتكذيب ونصب المكايد. بل هو شهيد رقيب ، جل جلاله وعظم نواله ، ولا إله غيره.

٥١٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة القصص

سميت به لاشتمالها على قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [القصص : ٢٥] ، الدالة على أن من هرب من مكان الأعداء ، إلى مكان الأنبياء اعتبارا بقصصهم الدالة على نجاة الهاربين ، وهلاك الباقين بمكان الأعداء ـ أمن من الهلاك. وهذا أيضا من أعظم مقاصد القرآن ، مع اشتمالها على ما لا يشتمل عليه غيرها من أنباء موسى ، أفاده المهايميّ.

والسورة مكية كلها. وقيل إلّا من قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) إلى قوله (الْجاهِلِينَ) [القصص : ٥٢ ـ ٥٥] ، فقد أخرج الطبرانيّ عن ابن عباس أنها نزلت هي وآخر الحديد في أصحاب النجاشيّ الذين قدموا وشهدوا وقعة أحد.

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) [القصص : ٨٥] الآية ، لما روي من نزولها بالجحفة حين الهجرة إلى المدينة. والله أعلم. وهي ثمان وثمانون آية ، بالاتفاق.

٥١٣

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (٤)

(طسم) تقدم الكلام على هذه الحروف غير ما مرة (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي نقرأ عليك ، بواسطة الروح الأمين ، تلاوة ملتبسة بالحق. كما قال تعالى (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [يوسف : ٣] ، ثم استأنف ما يجري مجرى التفسير للمجمل الموعود ، بقوله (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) أي تكبر وتجاوز الحد في الطغيان ، في أرض مصر (وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) أي فرقا وأصناما في استخدامه وطاعته (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ) وهم بنو إسرائيل (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) وذلك إماتة لرجالهم ، وتقليلا لعددهم ، كيلا يكثروا فينازعوه الملك (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) أي المتمكنين في الإفساد وقهر العباد.

ثم أشار تعالى إلى فرجه الذي جعله لتلك الطائفة ، بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ(٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦) وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) (٨)

٥١٤

(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَ) أي نتفضل (عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) أي يقتدى بهم في الدين بعد أن كانوا أتباعا مسخرين (وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) أي : لملك عدوّهم. كما قال تعالى : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) إلى قوله (يَعْرِشُونَ) [الأعراف : ١٣٧] ، (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي بالتصرف فيها تصرف الملوك (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ) أي من أولئك المستضعفين (ما كانُوا يَحْذَرُونَ) أي من هلاكهم وذهاب ملكهم ، جزاء إفسادهم وعدم إصلاحهم وطغيانهم (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) أي إثر ولادته في تلك الشدّة (أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ) أي من أولئك الذباحين الذين بأيديهم الشفار المرهفة العاملة في تلك الأنفس الزكية (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ) أي في البحر ، وهو النيل (وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) أي في هلاكهم على يديه.

قال أبو السعود : واللام لام العاقبة. أبرز مدخولها في معرض العلة ، لالتقاطهم. تشبيها له في الترتب عليه ، بالغرض الحامل عليه (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) أي مجرمين فعاقبهم الله بأن ربّى عدوّهم ، ومن هو سبب هلاكهم ، على أيديهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١١)

(وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ) أي لفرعون ، حين أخرجته من التابوت (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ ، لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي بما سيكون (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) أي خاليا من العقل. لما دهمها من فرط الجزع ، وأطار عقلها من الدهش ، لما بلغها وقوعه في يد فرعون (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) أي بأمره وقصته ، وأنه ولدها (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي لو لا أن ألهمناها الصبر. شبه بربط الشيء المنفلت ليقرّ ويطمئن. ومعنى (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي المصدقين بوعد الله. وهو قوله (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) [القصص : ٧].

٥١٥

قال الزمخشريّ : ويجوز ، وأصبح فؤادها فارغا من الهم ، حين سمعت أن فرعون عطف عليه وتبنّاه. إن كادت لتبدي بأنه ولدها ، لأنها لم تملك نفسها فرحا وسرورا بما سمعت. لو لا أنّا طامنا قلبها وسكنا قلقه الذي حدث به من شدة الفرح والابتهاج ، لتكون من المؤمنين الواثقين بوعد الله ، لا بتبنّي فرعون وتعطفه (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) أي اتّبعي أثره لتنالي خبره (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) بضم النون وسكونها. أي : عن بعد (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي أنها تتعرف حاله.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) (١٧)

(وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل قصّها أثره. و (المراضع) جمع مرضع بضم الميم وكسر الضاد. وهي المرأة التي ترضع. وترك (التاء) لاختصاصه بالنساء. أو جمع (مرضع) بفتح الميم مصدر ميميّ ، جمع لتعدد موادّه. أو اسم موضع الرضاع ، وهو الثدي (فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) أي في رضاعه وتربيته (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) أي برؤيته (وَلا تَحْزَنَ) أي بفراقه (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) أي كمال قوته ، (وَاسْتَوى) أي اعتدل مزاجه (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي في أعمالهم. ثم بين تعالى من نبئه عليه‌السلام ، ما تدرج به إلى ما قدّر له من الرسالة ، بقوله سبحانه (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ) أي مصر آتيا من قصر فرعون (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) قيل وقت القيلولة. وقيل بين العشاءين (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ) أي يتنازعان (هذا) أي الواحد (مِنْ شِيعَتِهِ) أي ممن يشايعه على دينه وهم بنو إسرائيل (وَهذا) أي الآخر (مِنْ عَدُوِّهِ) أي ممن خالفه في دينه وهم

٥١٦

القبط (فَاسْتَغاثَهُ) أي سأله الإغاثة (الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ) لكونه مظلوما (عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) لكونه ظالما. وإغاثة المظلوم واجبة فوجبت إغاثته من جهتين (فَوَكَزَهُ مُوسى) أي ضربه بجمع كفّه (فَقَضى عَلَيْهِ) أي فقتله (قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) يشير إلى تأسفه على ما أفضى وكزه ، من قتله. وسماه ظلما واستغفر منه بالنسبة إلى مقامه (قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) أي بقتله (فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) يجوز أن يكون قسما جوابه محذوف. أي أقسم بإنعامك عليّ بالمغفرة ، لأتوبنّ ولا أظاهر المجرمين. وأن يكون استعطافا كأنه قال : رب! اعصمني بحق ما أنعمت عليّ من المغفرة. فلن أكون ، إن عصمتني ، ظهيرا للمجرمين. وأراد بمظاهرتهم ، إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته وتكثير سواده ، وإما مظاهرة من أدت مظاهرته إلى الجرم والإثم ، كمظاهرة الإسرائيليّ المؤدية إلى القتل الذي لم يحل له. قاله الزمخشريّ.

قال الناصر : لقد تبرأ عليه‌السلام من عظيم. لأن ظهير المجرمين شريكهم فيما هم بصدده. يروى أنه يقال يوم القيامة : أين الظلمة وأعوان الظلمة؟ فيؤتى بهم حتى بمن لاق لهم ليقة ، أو برى لهم قلما ، فيجعلون في تابوت من حديد ويلقى بهم في النار.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) (٢٣)

(فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ) أي الاستقادة أو الأجناد. (فَإِذَا الَّذِي

٥١٧

اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ) أي استعانه فقتل من أجله منازعه القبطيّ (يَسْتَصْرِخُهُ) أي يستغيثه من قبطيّ آخر (قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) أي بمخاصمتك الناس مع عجزك ، وجرّك إليهم مالا تحمد عقباه (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما) أي لموسى وللإسرائيليّ ، وهو القبطيّ (قالَ) أي ذلك العدوّ وهو القبطيّ ، لا الإسرائيليّ كما وهم (يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) أي بين الناس بالقول والفعل.

قال الزمخشريّ : الجبار الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل بظلم ، لا ينظر في العواقب ولا يدفع بالتي هي أحسن. (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) أي يسرع لفرط حبه لموسى (قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ) أي يتشاورون بسببك (لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ) أي من حدّ مملكتهم (إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ) أي لحوق الطالبين (قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَلَمَّا تَوَجَّهَ) أي جعل وجهه (تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) أي فلا يلحقني فيه الطالبون (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً) أي جماعة كثيفة (مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) أي مواشيهم (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) أي تمنعان مواشيهما عن الماء ، لوجود من هو أقوى منهما عنده ، فلا تتمكنان من السقي (قالَ ما خَطْبُكُما) أي ما شأنكما في الذود (قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ) أي عادتنا أن لا نسقي حتى يصرف الرعاة مواشيهم عن الماء ، عجزا عن مساجلتهم ، وحذرا من مخالطة الرجال (وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) أي فيعجز عن الخروج والسقي. أي ما لنا رجل يقوم بذلك إلا هو ، وقد أضعفه الكبر ، فاضطرنا الحال إلى ما ترى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٢٥)

(فَسَقى لَهُما) أي فسقى غنمهما ، لأجلهما من غير أجر (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ) أي الذي كان هناك ، من شدة الحرّ (فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) أي محتاج. والخير أعم من المال أو القوة أو الطعام. وعلى الأخير حمله الأكثرون

٥١٨

بمعونة المقام (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا ، فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) أي أخبره بجميع ما جرى عليه إلى خروجه لما تآمروا بقتله (قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي بالخروج عن حدّ ولايتهم ، إذ لا سلطان لهم بأرضنا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) (٢٨)

(قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) أي اجعله أجيرك ليرعى غنمك ، فإنه حقيق بذلك (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) أي خير من أردت جعله أجيرا ، القويّ على العمل المؤتمن فيه.

قال الزمخشريّ : وقولها (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) كلام حكيم جامع لا يزاد عليه. لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان ، أعني الكفاية والأمانة في القائم بأمرك ، فقد فرغ بالك وتم مرادك. وقد استغنت بإرسال هذا الكلام الذي سياقه سياق المثل والحكمة ، أن تقول : استأجره لقوّته وأمانته. انتهى.

قال الناصر : وهو أيضا أجمل في مدح النساء للرجال ، من المدح الخاص. وأبقى للحشمة. وخصوصا إن كانت فهمت أن غرض أبيها عليه‌السلام أن يزوجها منه. وما أحسن ما أخذ الفاروق رضي الله عنه هذا المعنى فقال : أشكو إلى الله ضعف الأمين وخيانة القويّ. ففي مضمون الشكاية سؤال الله تعالى أن يتحفه بمن جمع الوصفين ، فكان قويا أمينا : يستعين به على ما كان بصدده رضي الله عنه. انتهى. (قالَ إِنِّي أُرِيدُ) أي لقوتك وأمانتك ، ما يقوّي المودة ويجذب القلوب (أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) أي على أن تكون أجيري لرعي المواشي بأجرة على ابنتي ، هي مهرها عليك ، ثماني سنين (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) أي فهو من عندك بطريق التفضل (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) أي بإلزام أتم الأجلين وإيجابه (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي في حسن المعاملة ولين

٥١٩

الجانب والوفاء بالعهد (قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) أي ذاك الذي عاهدتني عليه ، لا نخرج عنه جميعا (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ) أي أتممت (فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) أي بطلب الزيادة على ثمان ، أو الخروج بالأهل قبل عشر (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) أي شاهد وحفيظ.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) (٣١)

(فَلَمَّا قَضى) أي أتم (مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) أي من الطريق ، من ضوئها ، أو ممن عندها (أَوْ جَذْوَةٍ) مثلثة الجيم ، وقد قرئ بها كلها ، أي عود فيه شيء (مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أي تستدفئون (فَلَمَّا أَتاها) أي قرب منها (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ) أي جانب (الْوادِ الْأَيْمَنِ) أي المبارك. يقال : يمن فهو ميمون وأيمن. وتفسيره بخلاف الأيسر بعيد ، لأن ألفاظ التنزيل وآية يفسر بعضها بعضا. وقد جاء في غير آية توصيف الوادي بالمقدس ، وبقعته بالمباركة ، والمعنى واحد. وإن أدهش التفنن في التعبير عنه ببديع تلك المباني (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) أي التي بورك مكانها بالتجلي الإلهيّ (مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ) أي تتحرك (كَأَنَّها جَانٌ) أي حية صغيرة ، في سرعة الحركة (وَلَّى مُدْبِراً) أي أعرض بوجهه عنها. جاعلا ظهره إليها (وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي لم يرجع (يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) أي من المخاوف.

القول في تأويل قوله تعالى :

(اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا

٥٢٠