تفسير القاسمي - ج ٧

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٧

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٥

أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) أي في الحكم فيظلموا فيه. قال أبو السعود : إنكار واستقباح لإعراضهم المذكور. وبيان لمنشئه بعد استقصاء عدة من القبائح المحققة فيهم ، والمتوقعة منهم. وترديد المنشئية بينها. فمدار الاستفهام ليس نفس ما وليته الهمزة و (أم) من الأمور الثلاثة ، بل هو منشئيتها له. كأنه قيل : أذلك ، أي إعراضهم المذكور ، لأنهم مرضى القلوب لكفرهم ونفاقهم ، أم لأنهم ارتابوا في أمر نبوته عليه‌السلام ، مع ظهور حقيتها؟ أم لأنهم يخافون الحيف ممن يستحيل عليه ذلك؟ إشارة إلى استجماعهم تلك الأوصاف الذميمة ، التي كل واحد منها كفر ونفاق.

ثم بيّن اتصافهم مع ذلك بالوصف الأسوأ وهو الظلم ، بقوله تعالى : (بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي الذين رسخ فيهم خلق الظلم لأنفسهم ولغيرهم. فالإضراب انتقالي.

والمعنى : دع هذا كله ، فإنهم هم الكاملون في الظلم ، الجامعون لتلك الأوصاف.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) (٥٢)

(إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ).

قال السيوطيّ في (الإكليل) : فيها وجوب الحضور على من دعي لحكم الشرع ، وتحريم الامتناع ، واستحباب أن يقول : سمعنا وأطعنا. انتهى.

ثم أشير إلى حكاية شيء من أحوال أولئك المنافقين الممتنعين عن قبول حكمه ، وذلك إقسامهم الكاذب ، ليستدل به على إيمانهم الباطن ، بقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (٥٣)

٤٠١

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ) أي بالخروج من ديارهم وأموالهم وأهليهم (لَيَخْرُجُنَ) أي مجاهدين. و (جهد) منصوب على الحالية. أو هو مصدر (لأقسموا) من معناه. وهو مستعار من (جهد نفسه) إذا بلغ وسعها. أي أكدوا الأيمان وشدّدوها (قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) أي لا تقسموا على ذلك وتشددوا لترضونا. فإن الأمر المطلوب منكم طاعة معروفة ، لا تنكرها النفس. إذ لا حرج فيها. فأطيعوا بالمعروف من غير حلف ، كما يطيع المؤمنون. وقيل : معناه طاعتكم طاعة معروفة. أي أنها قول بلا عمل. إذ عرف كذبكم في أيمانكم. كما قال تعالى (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) [التوبة : ٩٦] ، الآية وقال تعالى : (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) [المجادلة : ١٦] ، الآية فهم من سجيتهم الكذب حتى فيما يختارونه ، كما قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) [الحشر : ١١ ـ ١٢] ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي من الأعمال الظاهرة والباطنة ، التي منها الأيمان الكاذبة ، وما تضمرونه من النفاق ومخادعة المؤمنين ، التي لا تخفى على من يعلم السر وأخفى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (٥٤)

(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ، فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي تولوا عن الإطاعة (فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ) أي كلفه من أداء الرسالة. فإذا أدى فقد خرج من عهدة تكليفه.

(وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) أي ما أمرتم به من الطاعة والتلقي بالقبول والإذعان والقيام بمقتضاه (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) أي لأنه يدعوكم إلى الصراط المستقيم. فإن أطعتموه فقد أحرزتم نصيبكم من الخروج عن الضلالة إلى الهدى. وإن لم تفعلوا وتوليتم فقد عرّضتم نفوسكم لسخط الله وعذابه (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي التبليغ البيّن بنفسه ، أو الموضح لما أمرتم به.

ولما تضمن قوله تعالى : (تَهْتَدُوا) إشارة إلى وعد كريم ومستقبل فخيم ، استأنف التصريح به تقريرا له ، بقوله سبحانه :

٤٠٢

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٥٥)

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي يورثهم الأرض ويجعلهم فيها خلفاء متصرفين فيها تصرف الملوك في ممالكهم. أو خلفاء من الذين لم يكونوا على حالهم من الإيمان والأعمال الصالحة (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي من الأمم المؤمنة برسلها. التي أهلك الله عدوّها ، وأورثها أرضها وديارها. كما فعل ببني إسرائيل حين أورثهم فلسطين ، بعد إهلاك الجبابرة (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) أي فليجعلن دينهم ثابتا مقررا ، مرفوع اللواء ، ظاهرا على غيره ، قاهرا لمن ناوأه.

قال أبو السعود : وفي إضافة (الدين) إليهم. وهو دين الإسلام ، ثم وصفه بارتضائه لهم ، تأليف لقلوبهم ومزيد ترغيب فيه ، وفضل تثبيت عليه (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) أي بعد هذا الوعد الكريم الموجب لتحصيل ما تضمنه من السعادتين (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي الكاملون في فسقهم. حيث كفروا تلك النعمة العظيمة. وجسروا على غمطها.

تنبيه :

في هذه الآية من الدلالة على صحة النبوة للإخبار بالغيب على ما هو عليه قبل وقوعه ـ ما لا يخفى. فقد أنجز الله وعده ، وأظهرهم على جزيرة العرب ، وافتتحوا بعد بلاد المشرق والمغرب. ومزقوا ملك الأكاسرة ، وملكوا خزائنهم واستولوا على الدنيا ، وصاروا إلى حال يخافهم كل من عداهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٥٧)

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) معطوف على (أطيعوا الله) وما اعترض بينهما

٤٠٣

كان تأكيدا ، أو على مقدر يستدعيه السوق. أي : فآمنوا واعملوا صالحا وأقيموا. أو فلا تكفروا وأقيموا. إلخ. ثم كرر طاعة الرسول ، تأكيدا لوجوبها ، بقوله (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي معجزين لله تعالى ، بل مدركون (وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

ثم أشير إلى تتمة الأحكام السابقة ، إثر تمهيد ما يجب امتثاله من الأحكام ، ومن الترغيب والترهيب ، بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٥٨)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي من العبيد والجواري (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) أي هي ثلاث عورات لكم. إشارة إلى علة وجوب الاستئذان بأنهن أوقات يختلّ فيها التستّر عادة ، ويكون النوم فيها مع الأهل غالبا. فالهجوم على أهل البيت في هذه الأحوال ، مما تأباه النفوس وتكرهه أشد الإباء والكراهة (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ ، طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) أي ليس عليكم جناح في ترك نهيهم عن الدخول بلا إذن. ولا عليهم جناح من الدخول بدونه ، بعد هذه الأوقات ، وإن احتمل فيها الإخلال بالتستر لندرته. وذلك لأنهم طوافون عليكم ، فيعسر عليهم الاستئذان في كل مرة (بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) أي بعضكم طائف على بعض طوافا كثيرا. أو بعضكم يطوف على بعض.

قال الزمخشري : يعني أن بكم وبهم حاجة إلى المخالطة والمداخلة ، يطوفون عليكم للخدمة وتطوفون عليهم للاستخدام. فلو جزم الأمر بالاستئذان في كل وقت لأدّى إلى الحرج. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ ، وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) يشرع ما فيه الحكمة وصلاح الحال وانتظام الشأن.

تنبيه :

في الآية إقرار ما جرت به العادة من أن النوم وقته بعد العشاء وقبل الفجر ووقت

٤٠٤

الظهيرة. وقد يستدل بها على أن كشف العورة في الخلوة جائز. كذا في (الإكليل).

وقال الرازي : الآية دالة على أن الواجب اعتبار العلل في الأحكام إذا أمكن لأنه تعالى نبه على العلة في هذه الأوقات الثلاثة من وجهين : أحدهما بقوله تعالى : (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) والثاني بالتنبيه على الفرق بين هذه الأوقات الثلاثة ، وبين ما عداها ، بأنه ليس ذاك إلا لعلة التكشف في هذه الأوقات الثلاثة ، وإنه لا يؤمن وقوع التكشف فيها وليس كذلك ما عدا هذه الأوقات.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٥٩)

(وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ) أي الذين رخص لهم في ترك الاستئذان في غير الأوقات المذكورة (مِنْكُمُ) أي من الأحرار ، دون المماليك ، فإنهم باقون على الرخصة (الْحُلُمَ) أي حدّ البلوغ بالاحتلام ، أو بالسنّ الذي هو مظنة الاحتلام (فَلْيَسْتَأْذِنُوا) أي في سائر الأوقات أيضا (كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي الذين بلغوا الحلم من قبلهم ، وهم الرجال أو الذين ذكروا من قبلهم في قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) [النور : ٢٧].

والمعنى أن الأطفال مأذون لهم في الدخول بغير إذن ، إلا في العورات الثلاثة. فإذا اعتاد الأطفال ذلك ، ثم خرجوا عن حدّ الطفولة ، بأن يحتلموا أو يبلغوا السنّ التي يحكم فيها عليهم بالبلوغ ، وجب أن يفطموا عن تلك العادة ، ويحملوا على أن يستأذنوا في جميع الأوقات ، كما يستأذن الرجال الكبار الذين لم يعتادوا الدخول عليكم إلا بإذن.

وهذا مما الناس منه في غفلة. وهو عندهم كالشريعة المنسوخة. وعن ابن عباس : آية لا يؤمن بها أكثر الناس : آية الإذن. وإني لآمر جارتي أن تستأذن عليّ.

وسأله عطاء : أستأذن على أختي؟ قال : نعم ، وإن كانت في حجرك تمونها. وتلا هذه الآية.

وعنه : ثلاث آيات جحدهن الناس : الإذن كله. وقوله : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ١٣] ، فقال ناس : أعظمكم بيتا. وقوله : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) [النساء : ٨]. كذا في (الكشاف).

٤٠٥

تنبيه :

قال في (الإكليل) : في الآية أن التكليف إنما يكون بالبلوغ. وأن البلوغ يكون بالاحتلام. وأن الأولاد البالغين لا يدخلون على والديهم إلا بالاستئذان ، كالأجانب. انتهى.

وقال التقي السبكي في (إبراز الحكم ، في شرح حديث رفع القلم) : أجمع العلماء على أن الاحتلام يحصل به البلوغ في حق الرجل. ويدل لذلك قوله تعالى : (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا الحديث (١)(وعن الصبيّ حتى يحتلم) وهي رواية ابن أبي السرح عن ابن عباس. قال : والآية أصرح. فإنها ناطقة بالأمر بعد الحلم. وورد أيضا عن علي رضي الله عنه ، رفعه (لا يتم بعد احتلام ، ولا صمات يوم إلى الليل) (٢) رواه أبو داود. والمراد بالاحتلام خروج المني. سواء كان في اليقظة أم في المنام ، بحلم أو غير حلم. ولما كان في الغالب لا يحصل إلا في النوم بحلم ، أطلق عليه الحلم والاحتلام ، ولو وجد الاحتلام من غير خروج مني ، فلا حلم له.

ثم قال : وقوله في الحديث (حتى يحتلم) دليل البلوغ بذلك. وهو إجماع. وهو حقيقة في خروج المني بالاحتلام ، ومجاز في خروجه بغير احتلام يقظة أو مناما. أو منقول فيما هو أعم من ذلك ، ويخرج منه الاحتلام بغير خروج مني ، إن أطلقناه عليه منقولا عنه. ولكونه فردا من أفراد الاحتلام. انتهى.

وفي (القاموس) : الحلم (بالضم) والاحتلام : الجماع في النوم. والاسم الحلم كعنق. انتهى.

وقال الراغب : سمي البلوغ حلما ، لكون صاحبه جديرا بالحلم : أي الأناة والعقل.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٦٠)

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الحدود ، ٢٢ ـ باب لا يرجم المجنون. من قول علي لعمر.

(٢) أخرجه أبو داود في : الوصايا ، ٩ ـ باب ما جاء متى ينقطع اليتم ، حديث رقم ٢٨٧٣.

٤٠٦

(وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ) أي اللاتي قعدن عن الحيض والولد ، لكبرهن (اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً) أي لا يطمعن فيه ، لرغبة الأنفس عنهن (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَ) أي الظاهرة مما لا يكشف العورة ، لدى الأجانب. أي يتركن التحفظ في التستر بها. فلا يلقين عليهن جلابيبهن ولا يحتجبن (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) أي مظهرات لزينة خفية. يعني الحليّ في مواضعه المذكورة في قوله تعالى : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) أو المعنى غير قاصدات بالوضع ، التبرج. ولكن التخفف إذا احتجبن إليه (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ) أي من وضع تلك الثياب (خَيْرٌ لَهُنَ) لأنه أبلغ في الحياء وأبعد من التهمة والمظنة. ولذا يلزمهن ، عند المظنة ، ألا يضعن ذلك. كما يلزم مثله في الشابة (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي فيسمع مقالهن مع الأجانب ، ويعلم مقاصدهن من الاختلاط ووضع الثياب. وفيه من الترهيب ما لا يخفى. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٦١)

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) أي في القعود عن الغزو ، لضعفهم وعجزهم. وهذه الآية كالتي في سورة الفتح وكآية براءة (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) [التوبة : ٩١] ، وهذا ما ذهب إليه عطاء وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وزعم أنه لا يلائم ما قبله ولا ما بعده ، مردود بأن المراد أن كلّا من الطائفتين منفيّ عنه الحرج. ومثال هذا ـ كما قال الزمخشريّ ـ أن يستفتيك مسافر عن الإفطار في رمضان. وحاجّ مفرد عن تقديم الحلق على النحر. قلت له : ليس على المسافر حرج أن يفطر ، ولا عليك ، يا حاجّ أن تقدم الحلق عن النحر. يعني أنه إذا كان في العطف غرابة ، لبعد الجامع في بادئ النظر ، وكان الغرض بيان حكم حوادث

٤٠٧

تقاربت في الوقوع ، والسؤال عنها والاحتياج إلى البيان لكونها في معرض الاستفتاء ، والإفتاء ، كان ذلك جامعا بينها ، محسنا للعطف ، وإن تباينت.

قال الشهاب : وبهذا يظهر الجواب عن زعم أنه لا يلائم ما قبله ولا ما بعده. لأن ملائمته لما بعده قد عرف وجهها. وأما ملائمته لما قبله فغير لازمة ، إذ لم يعطف عليه. انتهى.

وقيل : كان المؤمنون يذهبون بالضعفاء وذوي العاهات إلى بيوت أزواجهم وأولادهم ، وإلى بيوت قراباتهم وأصدقائهم ، فيطعمونهم منها. فخالج قلوب المطعمين والمطعمين ريبة في ذلك. وخافوا أن يلحقهم فيه حرج. وكرهوا أن يكون أكلا بغير حق ، لقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) [البقرة : ١٨٨] ، فقيل لهم : ليس على الضعفاء ، ولا على أنفسكم ، يعني عليكم ، وعلى من في مثل حالكم من المؤمنين ، حرج في ذلك.

وقيل : كان هؤلاء يتوقون مجالسة الناس ومواكلتهم ، لما عسى يؤدي إلى الكراهة من قبلهم. ولأن الأعمى ربما سبقت يده إلى ما سبقت عين أكيله إليه وهو لا يشعر. والأعرج يتفسح في مجلسه ويأخذ أكثر من موضعه ، فيضيق على جليسه. والمريض لا يخلو عن حالة تؤنف.

وقيل : كانوا يخرجون إلى الغزو ، ويخلفون الضعفاء في بيوتهم ، ويدفعون إليهم المفاتيح ، ويأذنون لهم أن يأكلوا من بيوتهم. فكانوا يتحرجون. فقيل : ليس على هؤلاء الضعفاء حرج فيما تحرجوا عنه ، ولا عليكم أن تأكلوا من هذه البيوت.

هذا ما ذكروه. ولا يخفى صدق الآية على جميع ذلك ، ونفي الحرج عنه كله. ولا يستلزم نفي الحرج عن مؤاكلة المريض على هذه الأوجه الأخر ، أن يشرك أكيله الصحيح في غمس يده من إنائه مما حظر منه الطب ، وغدت الأنفس تعافه. بل يراد به حضوره مع الصحيح على مائدة ، واختصاصه بقصعة على حدة. وما أحسن عادة الانفراد بالقصاع ، مما تطيب معه نفس المرضى والأصحاء في الاجتماع. وقوله تعالى : (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) أي بيوت أزواجكم وعيالكم. أضافه إليهم ، لأن بيت المرأة كبيت الزوج وهذا قول الفرّاء.

وقال ابن قتيبة : أراد بيوت أولادهم. فنسب بيوت الأولاد إلى الآباء ، لأن الولد كسب والده ، ماله كماله. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) «إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه ، وإن ولده من كسبه».

__________________

(١) أخرجه النسائي في : البيوع ، ١ ـ باب الحث على الكسب ، عن عائشة.

٤٠٨

قال : والدليل على هذا ، أنه تعالى عدّد الأقارب ولم يذكر الأولاد. لأنه إذا كان سبب الرخصة هو القرابة ، كان الذي هو أقرب منهم أولى. انتهى.

وعليه ، فلا يقال إنه ليس في أكل الإنسان من بيت نفسه حرج ، فما فائدة ذكره بأن المراد بالأنفس من هو بمنزلتها من العيال والأولاد ، كما في قوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩].

وفي (الكشف) : فائدة إقحام النفس ، أن المراد به ليس على الضعفاء المطعمين ، ولا على الذاهبين إلى بيوت القرابات ، أو من هو في مثل حالهم وهم الأصدقاء ـ حرج.

وقيل إنه على ظاهره. والمراد إظهار التسوية بينه وبين قرنائه.

قال الشهاب : وهو حسن. ولا يرد عليه أنه حينئذ لم يذكر فيه الأكل من بيوت الأزواج والأولاد ، لأنه داخل في قوله : (مِنْ بُيُوتِكُمْ). انتهى.

(أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) يعني أموال المرء ، إذا كان له عليها قيم ووكيل يحفظها له ، أن يأكل من ثمر بستانه ويشرب من لبن ماشيته. وملك المفاتح كونها في يده وحفظه (أَوْ صَدِيقِكُمْ) أي أو بيوت أصدقائكم. والصديق يكون واحدا وجمعا. وكذلك الخليط والقطين والعدو. كذا في (الكشاف).

قال الناصر : وقد قال الزمخشري : إن سرّ إفراده في قوله تعالى : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) [الشعراء : ١٠٠ ـ ١٠١] ، دون الشافعين ، والتنبيه على قلة الأصدقاء ، ولا كذلك الشافعون فإن الإنسان قد يحمي له ، ويشفع في حقه من لا يعرفه ، فضلا عن أن يكون صديقا.

ويحتمل في الآيتين ، أن يكون المراد به الجمع. فلا كلام. ويحتمل أن يراد الإفراد ، فيكون سرّه ذلك. والله أعلم.

قال الزمخشري : يحكى عن الحسن أنه دخل داره. وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالا من تحت سريره ، فيها الخبيص وأطايب الأطعمة ، وهم مكبون عليها يأكلون فتهللت أسارير وجهه سرورا ، وضحك وقال : هكذا وجدناهم ، هكذا وجدناهم. يريد كبراء الصحابة ومن لقيهم من البدريين رضي الله عنهم.

٤٠٩

وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائب ، فيسأل جاريته كيسه ، فيأخذ منه ما شاء. فإذا حضر مولاها فأخبرته ، أعتقها سرورا بذلك.

وعن جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهما : من عظم حرمة الصديق ، أن جعله الله من الأنس والثقة والانبساط وطرح الحشمة ، بمنزلة النفس والأب والأخ والابن.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الصديق أكبر من الوالدين. إن الجهنميين لما استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات. فقالوا (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) [الشعراء : ١٠٠ ـ ١٠١]. وقالوا : إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك ، قام ذلك مقام الإذن الصريح. وربما سمج الاستئذان وثقل. كمن قدم إليه طعام ، فاستأذن صاحبه في الأكل منه. انتهى.

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) أي مجتمعين أو متفرقين. روي أن قوما من الأنصار إذا نزل بهم ضيف ، لا يأكلون إلا مع ضيفهم. وإن قوما كانوا تحرجوا من الاجتماع على الطعام ، لاختلاف الناس في الأكل ، وزيادة بعضهم على بعض. فأبيح لهم ذلك.

وقال قتادة : كان هذا الحيّ من بني كنانة ، يرى أحدهم ؛ أن مخزاة عليه ، أن يأكل وحده في الجاهلية. حتى إن كان الرجل ليسوق الذود الحقل وهو جائع ، حتى يجد من يؤاكله ويشاربه. واشتهر هذا عن حاتم لقوله :

إذا ما صنعت الزّاد فالتمسي له

أكيلا فإني لست آكله وحدي

قال الشهاب : وفي الحديث (شر الناس من أكل وحده ، وضرب عبده ، ومنع رفده) والنهي في الحديث لاعتياده بخلا بالقرى ، ونفي الحرج عن وقوعه أحيانا ، بيان لأنه لا إثم فيه ، ولا يذم به شرعا ، كما ذمّت به الجاهلية.

(فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي إذا دخلتم بيتا من هذه البيوت لتأكلوا ، فابدأوا بالسلام على أهلها الذين هم منكم ، قرابة ودينا. قاله الزمخشري.

أشار رحمه‌الله ، إلى أن المراد بالأنفس من هم بمنزلتها ، لشدة الاتصال كقوله (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] ويحتمل أن المسلم ، إذا ردت تحيته عليه ، فكأنه سلم على نفسه. كما أن القاتل لاستحقاقه القتل بفعله ، كأنه قاتل نفسه. وأما إبقاؤه على ظاهره ؛ لأنه إذا لم يكن في البيت أحد ، يسره أن يقول : السلام علينا وعلى عباد الله

٤١٠

الصالحين. كما روي عن ابن عباس ـ فبعيد غير مناسب لعموم الآية. كذا في (الشهاب).

وقال الناصر : في التعبير عنهم ، بالأنفس ، تنبيه على السر الذي اقتضى إباحة الأكل من هذه البيوت المعدودة ، وأن ذلك إنما كان ، لأنها بالنسبة إلى الداخل كبيت نفسه ، لاتحاد القرابة .. فليطب نفسا بانبساط فيها (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي ثابتة بأمر ، مشروعة من لدنه (مُبارَكَةً) أي مستتبعة لزيادة الخير والثواب ودوامها (طَيِّبَةً) أي تطيب بها نفس المستمع (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي ما فيها من الأحكام أو الآداب القائدة إلى سعادة الدارين.

ولما أمر تعالى بالاستئذان عند الدخول ، أرشد إلى الاستئذان عند الانصراف من مجلسه صلوات الله عليه ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦٢)

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ ، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

قال الزمخشري : أراد عزوجل أن يريهم عظم الجناية ذهاب الذاهب من مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغير إذنه. فجعل ترك ذهابهم حتى يستأذنوه ، ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله. وجعلهما كالتشبيب له والبساط لذكره. وذلك مع تصدير الجملة (بإنما) وإيقاع المؤمنين مبتدأ مخبرا عنه بموصول ، أحاطت صلته بذكر الإيمانين. ثم عقبه بما يزيده توكيدا وتشديدا ، حيث أعاده على أسلوب آخر ، وهو قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) وضمنه شيئا آخر. وهو أنه جعل الاستئذان كالمصداق لصحة الإيمانين ، وعرّض بحال المؤمنين وتسلّلهم لواذا. ومعنى قوله : (لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) لم يذهبوا حتى يستأذنوه ويأذن لهم ، ألا تراه كيف علق الأمر بعد وجود استئذانهم بمشيئته وإذنه لمن استوصب أن يأذن له.

٤١١

والأمر الجامع : الذي يجمع له الناس. فوصف الأمر بالجمع على سبيل المجاز. وذلك نحو مقاتلة عدوّ ، أو تشاور في خطب مهم ، أو تضامّ لإرهاب مخالف ، أو تسامح في حلف وغير ذلك. أو الأمر الذي يعم بضرره أو بنفعه وقرئ (أمر جميع). وفي قوله : (وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ) أنه خطب جلل ، لا بد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه من ذوي رأي وقوة ، يظاهرونه عليه ويعاونونه ، ويستضيء بآرائهم ومعارفهم وتجاربهم ، في كفايته. فمفارقة أحدهم في مثل تلك الحال ، مما يشق على قلبه ، ويشعث عليه رأيه فمن ثم غلّظ عليهم وضيق عليهم الأمر في الاستئذان ، مع العذر المبسوط ، ومساس الحاجة إليه ، واعتراض ما يهمهم ويعنيهم ، وذلك قوله : (لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) وذكر الاستغفار للمستأذنين ، دليل على أن الأحسن الأفضل أن لا يحدّثوا أنفسهم بالذهاب ، ولا يستأذنوا فيه.

وقيل : نزلت في حفر الخندق. وكان قوم يتسللون بغير إذن. وقالوا : كذلك ينبغي أن يكون الناس مع أئمتهم ومقدمهم في الدين والعلم ، يظاهرونهم ولا يخذلونهم في نازلة من النوازل ، ولا يتفرقون عنهم ، والأمر في الإذن مفوض إلى الإمام. إن شاء أذن وإن شاء لم يأذن. على حسب ما اقتضاه رأيه.

تنبيه :

استدل بالآية على أن بعض الأحكام مفوّضة إلى رأيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وتسمى هذه المسألة مسألة التفويض. وهي مبسوطة في الأصول ، وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٦٣)

(لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) أي إذا احتاج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى اجتماعكم عنده لأمر ، فدعاكم ، فلا تفرقوا عنه إلا بإذنه. ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا ، ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي ، قال الزمخشري.

وكذا قال ابن الأثير في (المثل السائر) أي إذا حضرتم في مجلسه ، فلا يكن

٤١٢

حضوركم كحضوركم في مجالسكم. أي لا تفارقوا مجلسه إلا بإذنه ، والزموا معه الأدب.

وذهب قوم إلى أن المراد بالدعاء الأمر. منهم ابن أبي الحديد حيث قال في (الفلك الدائر) : إن المعنى المتقدم ، وإن دلت عليه قرينة متقدمة ، كما قال ابن الأثير ـ ففي الآية قرينة أخرى متأخرة تقتضي حمله على محمل آخر غير هذا. ولعله الأصح. وهي أن يراد بالدعاء الأمر. يقال : دعا فلان قومه إلى كذا ، أي أمرهم به وندبهم إليه وقال سبحانه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) [الأنفال : ٢٤] ، أي ندبكم. وقال سبحانه : (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ) [نوح : ٧] ، أي أمرتهم وندبتهم والقرينة المتأخرة قوله : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) انتهى. وكذا قال المهايمي : أي لا تجعلوا أمره بينكم كأمركم بينكم يجاب تارة دون أخرى. لأنه واجب الطاعة. لا يسقط بالانسلال عن جملة المدعوّ.

(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) أي ينسلون قليلا قليلا. (واللواذ) الملاوذة ، وهو أن يلوذ هذا بذاك وذاك بهذا. يعني ينسلون عن الجماعة في الخفية على سبيل الملاوذة ، واستتار بعضهم ببعض. و (لواذا) حال. أي ملاوذين.

هذا ، وقيل معنى الآية : لا تجعلوا نداءه وتسميته ، كنداء بعضكم بعضا باسمه ورفع الصوت به ، والنداء وراء الحجرة. ولكن بلقبه المعظم. مثل : يا نبيّ الله! ويا رسول الله! مع التوقير والتواضع وخفض الصوت.

وضعف بأنه لا يلائم السياق واللحاق. وتكلف بعضهم لربطه بما قبله ، بأن الاستئذان يكون بقولهم : يا رسول الله! إنا نستأذنك. ولأن من معه في أمر جامع يخاطبه ويناديه. والأول أظهر وأولى كما في (العناية).

نعم ، في التنزيل عدة آيات ، في إيجاب مشافهته صلوات الله عليه بالأدب ومخاطبته بالتوقير ، وجعله من ضرورة الإيمان ومقتضاه. كآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا) [البقرة : ١٠٤] الآية ، و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) [الحجرات : ٢] ، إلى قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [الحجرات : ٤] ، (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) أي يعرضون عنه ولا يأتون به. فضمن (المخالفة) معنى الإعراض والصدّ. أو عن صلته. وقيل :

٤١٣

إذا تعدى (خالف) ب (عن) ضمن الخروج. وأصل معنى المخالفة أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر في حاله أو فعله ، كما قاله الراغب (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) أي محنة في الدنيا (أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي في الآخرة أو فيهما.

تنبيه :

استدل به على وجوب وزن الأمور بميزان شريعته وسنته ، وأصول دينه. فما وافق قبل ، وما خالف رد على قائله وفاعله ، كائنا من كان. كما ثبت في الصحيحين (١) عنه صلوات الله عليه وسلامه (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) واستدل بالآية أيضا أن الأمر للوجوب. فإنه يدل على أن ترك مقتضى الأمر مقتض لأحد العذابين. قيل : هذا إنما يتم إذا أريد بالأمر الطلب لا الشأن كما في قوله : (عَلى أَمْرٍ جامِعٍ) وقد جوّزا فيه مع إرادتهما معا. وتفصيل البحث في (الرازي).

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٦٤)

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) أيها المكلفون من المخالفة والموافقة ، والنفاق والإخلاص. وإنما أكد علمه ب (قد) لتأكيد الوعيد. (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا ، وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي فلا يخفى عليه خافية. لأن الكل خلقه وملكه. فيحيط علمه به ضرورة. (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك : ١٤].

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الاعتصام ، ٢٠ ـ باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ.

٤١٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الفرقان

الجمهور على أنها مكية. وعن الضحاك : مدنية. وعن بعضهم : مكية إلا ثلاث آيات (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ) إلى (رَحِيماً) [الفرقان : ٦٨ ـ ٧٠].

قال المهايمي : سميت بالفرقان لاشتمالها على أنه ظهر كثرة خيرات الحق بالفرقان ، الذي هو التمييز بين الحق والباطل. والأظهر أنه لذكره فيها بمعانيه الآتية المتسع لها اللفظ لا خصوص ما ذكره ، وآياتها سبع وسبعون.

٤١٥

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) (١)

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً).

يحمد تعالى نفسه الكريمة ويثني عليها ، لما أنزله من الفرقان ، كما قال (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ) [الكهف : ١ ـ ٢] الآية.

قال الزمخشري : (البركة) كثرة الخير وزيادته. ومنها (تَبارَكَ اللهُ) وفيه معنيان : تزايد خيره وتكاثر أو تزايد عن كل شيء وتعالى عنه ، في صفاته وأفعاله. و (الْفُرْقانَ) مصدر فرق بين الشيئين ، إذا فصل بينهما. وسمي به القرآن لفصله بين الحق والباطل. أو لأنه لم ينزل جملة واحدة ، ولكن مفروقا مفصلا بعضه عن بعض في الإنزال.

ألا ترى إلى قوله : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) [الإسراء : ١٠٦] ، انتهى.

قال الناصر : والأظهر ها هنا هو المعنى الثاني. لأنه في أثناء السورة بعد آيات (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان : ٣٢] ، قال الله تعالى (كَذلِكَ) أي أنزلناه مفرقا كذلك (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) فيكون وصفه بالفرقان في أول السورة ـ والله أعلم ـ. كالمقدمة والتوطئة لما يأتي بعد. انتهى.

قال أبو السعود : وإيراده صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك العنوان ، لتشريفه والإيذان بكونه في أقصى مراتب العبودية ، والتنبيه على أن الرسول لا يكون إلا عبدا للمرسل ؛ ردّا على النصارى ، والكناية في (ليكون) للعبد أو للفرقان. و (النذير) صفة بمعنى منذر ، أو مصدر بمعنى الإنذار ، كالنكر مبالغة.

٤١٦

القول في تأويل قوله تعالى :

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (٢)

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) أي أحدثه إحداثا مراعي فيه التقدير والتسوية لما أريد منه. كخلق الإنسان للإدراك والفهم والنظر والتدبير واستنباط الصنائع المتنوعة ومزاولة الأعمال المفيدة. وكذلك كل حيوان وجماد خلق على الصورة المقدرة. بأمثلة الحكمة والتدبير لأمر ما ، ومصلحته مطابقا لما قدر له ، غير متجاف عنه.

ولما تضمن هذا إثبات التوحيد والنبوة ، تأثره بالبرهنة عليهما ، وتضليل المخالفين فيهما ، بقوله سبحانه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) (٣)

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) أي لا يملكون دفع ضر ولا جلب نفع ولا إماتة أحد وإحياءه أوّلا وبعثه ثانيا. ومن كان كذلك فبمعزل عن الألوهية ، لعرائه عن لوازمها واتصافه بما ينافيها. وفيه تنبيه على أن الإله يجب أن يكون قادرا على البعث والجزاء. أفاده القاضي.

قال الشهاب : قدم الموت لمناسبته للضر المتقدم وفسر الموت والحياة بالإماتة والإحياء والإنشار ، إما بيانا لحاصل المعنى ، لأن ملك الموت له القدرة على الإماتة ، أو إشارة إلى أنه بمعنى الأفعال. كما في قوله (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧].

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٥)

٤١٧

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً) أي بجعل الصدق إفكا ، والبريء عن الإعانة معينا (وَزُوراً) أي باطلا لا مصداق له ، يعلمون من أنفسهم أنه باطل وبهتان (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها) أي ما سطروه ، كتبها لنفسه وأخذها (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ) أي تلقى عليه ليحفظها (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي دائما.

قال ابن كثير : وهذا الكلام ، لسخافته وكذبه وبهته منهم ، يعلم كل أحد بطلانه. فإنه قد علم بالضرورة : أن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لم يكن يعاني شيئا من الكتابة ، لا في أول عمره ولا في آخره. وقد نشأ بين أظهرهم من أول مولده ، إلى أن بعثه الله نحوا من أربعين سنة ، وهم يعرفون مدخله ومخرجه وصدقه وبره ونزاهته وأمانته. وبعده عن الكذب والفجور وسائر الأخلاق الردية ، حتى إنهم كانوا يسمونه في صغره ، وإلى أن بعث با (لأمين) لما يعلمون من صدقه وبره. فلما أكرمه الله بما أكرمه به ، نصبوا له العداوة ، ورموه بهذه الأقوال ، التي يعلم كل عاقل براءته منها. وحاروا بما يقذفونه به ، فتارة من إفكهم يقولون : ساحر. وتارة يقولون : شاعر. وتارة يقولون : مجنون. وتارة يقولون : كذاب ، قال الله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) [الإسراء : ٤٨] و [الفرقان : ٩] ، وقال تعالى في جواب ما افتروه هنا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (٦)

(قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي الخفيّ فيهما. إشارة إلى علمه تعالى بحالهم بالأولى. ومن مقتضاه رحمته إياهم بإنزاله ، لزيادة حاجتهم وافتقار أمثالهم إلى إخراجهم من الظلمات بأنواره. وفي طيّه ترهيب لهم بأن ما يسرونه من الكيد للنبيّ عليه الصلاة والسلام ، مع ما يتقولونه ويفترونه ، لا يعزب عن علمه. فسيجزيهم عليه بزهوق باطلهم ومحو أثرهم ، وسموق حقه وظهور أمره (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) تعليل لما هو مشاهد من تأخير عقوبتهم ، مع استيجابهم إياها. أي فهو يمهل ولا يعاجل لمغفرته ورحمته. أو الوصفان كناية عن كمال قدرته على الانتقام منهم. لأنه لا يوصف بالمغفرة والرحمة إلا القادر. هذا ما يستفاد من (الكشاف) ومن تابعه ، لبيانه مطابقة ذلك لما قبله.

وقال ابن كثير : قوله تعالى (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) دعاء لهم إلى التوبة والإنابة ،

٤١٨

وإخبار لهم بأن رحمته واسعة ، وأن حلمه عظيم ، وأن من تاب إليه تاب عليه. فهؤلاء مع كذبهم وافترائهم وفجورهم وبهتانهم وكفرهم وعنادهم ، وقولهم عن الرسول والقرآن ما قالوا ، يدعوهم سبحانه إلى التوبة ، والإقلاع عما هم فيه ، إلى الإسلام والهدى. كما قال تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ. وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة : ٧٣ ـ ٧٤] ، وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) [البروج : ١٠] ، قال الحسن البصريّ : انظروا إلى هذا الكرم والجود. قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة.

ثم أشار تعالى إلى تعنتهم بخصوص المنزل عليه ، بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) (٧)

(وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ) أي كما نأكل (وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) أي يتردد فيها لشئونه كما نمشي. قال الزمخشري : يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل والتعيش. أي فيخالف حاله حالنا. قال أبو السعود : وهل هو إلا لعمههم وركاكة عقولهم ، وقصور أنظارهم على المحسوسات. فإن تميز الرسل عمن عداهم ليس بأمور جسمانية ، وإنما هو بأمور نفسانية. كما أشير إليه بقوله تعالى (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ) [الكهف : ١١٠] ، ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكا ، إلى اقتراح أن يكون إنسانا معه ملك حتى يتساندا في الإنذار فقالوا (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) ثم نزلوا أيضا إلى اقتراح أن يرفد بكنز ، إن لم يرفد بملك ، فقالوا :

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً) (٨)

(أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ) أي من السماء يستظهر به ، ولا يحتاج إلى طلب المعاش ،

٤١٩

ويكون دليلا على صدقه. ثم نزلوا فاقتنعوا باقتراح ما هو أيسر منه ، فقالوا (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) أي بستان يرتزق منه (وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) أي مغلوبا على عقله. وقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) (٩)

(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) استعظام للأباطيل التي اجترءوا على التفوه بها. والتعجب منها. أي انظر كيف قالوا في حقك تلك الأقوال الخارجة عن العقول (فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) أي القدح في نبوّتك ، بأن يجدوا قولا يستقرّون عليه. أو فضلّوا عن الحق فلا يجدون طريقا إليه.

قال ابن كثير : كل من خرج عن الحق وطريق الهدى فإنه ضال ، حيثما توجه. لأن الحق واحد ، ومنهجه متحد يصدق بعضه بعضا.

ثم نبه تعالى على أنه إن شاء آتاه خيرا مما يقترحون ، بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) (١٠)

(تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) أي إن شاء جعل لك خيرا مما قالوا. وهو أن يجعل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات والقصور. ولكن قضت حكمته ذلك ليكون الرضوخ للحق لا للمال. وليصدع بأن الأمر مبنيّ على النظر والاستدلال ، لا ما يلهي المشاعر والخيال. مما يتطرق إلى الشغب فيه الجدال ، فسبحان الحكيم المتعال. وقوله تعالى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) (١١)

(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) إضراب انتقاليّ عن توبيخهم بحكاية جنايتهم السابقة ، وانتقال منه إلى توبيخهم بحكاية جنايتهم الأخرى ، للتخلص إلى بيان ما لهم في

٤٢٠