تفسير القاسمي - ج ٧

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٧

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٥

سبيل الانتصار ممن يهجوهم ، جزاء وفاقا. قال الله : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) [النساء : ١٤٨] ، وقال تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) [البقرة : ١٩٤] ، قال ابن كثير : وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لحسان (١) : «اهجهم ، أو قال هاجهم ، وجبريل معك» ويروي الإمام أحمد (٢) عن كعب بن مالك أنه قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله عزوجل قد أنزل في الشعر ما قد علمت ، وكيف ترى فيه؟ فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه. والذي نفسي بيده! لكأن ما ترمونهم به نضح النبل».

تنبيهات :

الأول ـ قال في (الإكليل) : في قوله تعالى : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) الآية ، ذم الشعر ، والمبالغة في المدح والهجو وغيرهما من فنونه ، وجوازه في الزهد والأدب ومكارم الأخلاق وجواز الهجو لمن ظلم ، انتصارا. انتهى.

وحكى الزمخشريّ عن عمرو بن عبيد ، أن رجلا من العلوية قال له : إن صدري ليجيش بالشعر. فقال : فما يمنعك منه فيما لا بأس به؟ والقول فيه : أن الشعر باب من الكلام ، محسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام.

الثاني ـ ذكر ابن إسحاق أنه لما نزلت (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) جاء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبكون. قالوا : قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنا شعراء. فتلا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قال : أنتم

. قال ابن كثير : لكن هذه السورة مكية ، فكيف يكون سبب نزول هذه الآيات في شعراء الأنصار؟ وفي ذلك نظر. ولم يرو فيه إلا مرسلات لا يعتمد عليها. والله أعلم. ولكن الاستثناء دخل فيه شعراء الأنصار وغيرهم ، حتى يدخل فيه من كان متلبسا من شعراء الجاهلية بذم الإسلام وأهله ، ثم تاب وأناب ورجع وأقلع ، وعمل صالحا ، وذكر الله كثيرا ، في مقابلة ما تقدم من الكلام السيّئ. فإن الحسنات يذهبن السيئات. وامتدح الإسلام وأهله في مقابلة ما كان يذمه. كما قال : عبد الله بن الزبعرى ، لما أسلم :

__________________

(١) أخرجه البخاري في : بدء الخلق ، ٦ ـ باب ذكر الملائكة ، حديث رقم ١٥١٧ ، عن البراء.

وأخرجه مسلم في : فضائل الصحابة ، حديث رقم ١٥٣.

(٢) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٣ / ٤٥٦.

٤٨١

يا رسول المليك إنّ لساني

راتق ما فتقت ، إذ أنا بور

إذ أجاري الشيطان في سنن الغيّ

ومن مال ميله مثبور

وكذلك أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، كان من أشد الناس عداوة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو ابن عمّه وأكثرهم له هجوا. فلما أسلم لم يكن أحد أحب إليه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكان يمدح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. انتهى. وقوله تعالى (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) تهديد شديد ووعيد أكيد ، لما في (سيعلم) من تهويل متعلقه. وفي (الذين ظلموا) من إطلاقه وتعميمه. وفي (أي منقلب ينقلبون) من إبهامه وتهويله. كأنه لا يمكن معرفته ، وقد رأوا ما حاق بهم في الدنيا. ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.

٤٨٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة النمل

قال المهايميّ : سميت بها ، لاشتمالها على مقالتها ، الدالة على علم الحيوان بنزاهة الأنبياء وأتباعهم ، عن ارتكاب المكاره عمدا ، وهو مما يوجب الثقة بهم. وهو من أعظم مقاصد القرآن. وهي مكية وآياتها ثلاث وتسعون.

٤٨٣

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (٣)

(طس ، تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ) الإشارة إلى نفس السورة. والقرآن عبارة عن الكل أو عن الجميع المنزل. أي تلك السورة آيات القرآن الذي عرف بعلوّ الشأن. وآيات كتاب عظيم المقدار ، مبين لما تضمنه من الحكم والأحكام والمواعظ والاعتبار. (هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أي هو هدى من الضلالة ، وبشرى برحمة الله ورضوانه ، لمن آمن وعمل صالحا من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وأيقن بالآخرة ، والجزاء على الأعمال خيرها وشرها.

لطيفة :

تكرير الضمير لإفادة الحصر والاختصاص على ما في (الكشاف).

ولصاحب (الانتصاف) وجه آخر قال : لما كان أصل الكلام (وهم يوقنون بالآخرة) ثم قدم المجرور على عامله ، عناية به ، فوقع فاصلا بين المبتدأ والخبر ، فأريد أن يلي المبتدأ خبره ، وقد حال المجرور بينهما ، فطرّى ذكره ليليه الخبر ، ولم يفت مقصود العناية بالمجرور حيث بقي على حاله مقدما : ولا يستنكر أن تعاد الكلمة مفصولة له وحدها ، بعد ما يوجب التطرية. فأقرب منها أن الشاعر قال :

سل ذو وعجّل ذا وألحقنا بذا

الشّحم ، إنّا قد مللناه بخلّ

والأصل (وألحقنا بذا الشحم) فوقع منتصف الرجز أو منتهاه (على القول بأن مشطور الرجز بيت كامل) عند اللام. وبنى الشاعر على أنه لا بد ، عند المنتصف أو المنتهى ، من وقيفة ما. فقدر بتلك الوقفة بعدا بين المعرّف وآلة التعريف. فطرّاها ثانية. فهذه التطرية لم تتوقف على أن يحول بين الأول وبين المكرّر ولا كلمة واحدة ، سوى تقديره وقفة لطيفة لا غير.

٤٨٤

ثم قال : فتأمل هذا الفصل فإنه جدير بالتأمل. والله أعلم.

ثم تأثر أحوال المؤمنين بأحوال الكفرة ، بقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٨)

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) أي مددنا لهم في غيّهم ، فهم يتيهون في ضلالهم. وكان هذا جزاء على ما كذّبوه به من الدار الآخرة والجزاء على الأعمال كما قال تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام : ١١٠] ، (أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) أي أشد الناس خسرانا للنجاة وثواب الله. (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) أي لتؤتاه وتلقنه من عند حكيم في أمره ونهيه ، عليم بالأمور جليّها وخفيها. فخبره هو الصدق المحض والحكمة البالغة ، كما قال : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) [الأنعام : ١١٥] ، والجملة مستأنفة ، سقيت بعد بيان بعض شؤون القرآن الكريم ، تمهيدا لما يعقبه من الأنباء الجليلة. وقد بدأ منها بما كان من أمر موسى عليه‌السلام واصطفائه وإيتائه من الآيات الباهرة ما أذلّ معانديه ، وجعلهم مثل السوء. فقال سبحانه (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ) أي حين قفل من مدين إلى مصر ، وأضلّ الطريق (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أي رأيتها (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) أي عن الطريق (أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ) أي بشعلة مقتبسة (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أي تتدفئون به (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) أي بورك من في مكان النار ومن حول مكانها. ومكانها البقعة التي حصلت فيها. وتدل عليه قراءة أبيّ (تباركت الأرض ومن حولها) وعنه : بوركت النار. والذي بوركت له البقعة ، وبورك من فيها وحواليها ، حدوث أمر دينيّ فيها ، وهو تكليم الله موسى ، واستنباؤه له ، وإظهار المعجزات عليه. ورب خير يتجدد في بعض البقاع ، فينشر الله بركة ذلك الخير في أقاصيها

٤٨٥

ويبث آثار يمنه في أباعدها. فكيف بمثل ذلك الأمر العظيم الذي جرى في تلك البقعة المباركة؟ كذا في (الكشاف).

وقال السمين : (بارك) يتعدى بنفسه. فلذلك بني للمفعول : باركك الله ، وبارك عليك ، وبارك فيك وبارك لك. والمراد ب (من) إما الباري تعالى وهو على حذف مضاف ، أي من قدرته وسلطانه في النار. وقيل : المراد به موسى والملائكة. وكذلك قوله : (وَمَنْ حَوْلَها) وقيل المراد ب (من) غير العقلاء. وهو النور والأمكنة التي حولها. انتهى.

ولذا قال الزمخشريّ : والظاهر أنه عامّ في كل من كان في تلك الأرض وفي ذلك الوادي وحواليهما من أرض الشام. قال : ولقد جعل الله أرض الشام بالبركات موسومة في قوله : (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ٧١] ، وحقت أن تكون كذلك. فهي مبعث الأنبياء صلوات الله عليهم ، ومهبط الوحي إليهم ، وكفاتهم أحياء وأمواتا.

ثم قال : ومعنى ابتداء خطاب الله موسى بذلك عند مجيئه ، هي بشارة له بأنه قد قضى أمر عظيم تنتشر منه في أرض الشام كلها البركة. انتهى.

وقال القرطبيّ : هذا تحية من الله تعالى لموسى ، وتكرمة له. كما حيا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه فقالوا (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) [هود : ٧٣].

وعن ابن عباس : لم تكن تلك النار نارا ، وإنما كانت نورا يتوهج.

وعنه : هي نور رب العالمين.

وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي عبيدة عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام. يخفض القسط ويرفعه. يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل. حجابه النور أو النار. لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره) ثم قرأ أبو عبيدة : (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها).

قال ابن كثير : وأصل الحديث مخرج في صحيح مسلم (١) من حديث عمرو بن مرّة (وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي الذي يفعل ما يشاء ، ولا يشبهه شيء من

__________________

(١) أخرجه في : الإيمان ، حديث رقم ٢٩٥.

٤٨٦

مخلوقاته ، ولا يحيط به شيء من مصنوعاته ، وهو العليّ العظيم المباين لجميع المخلوقات ، ولا يكتنفه الأرض والسموات ، بل هو الأحد الصمد المنزه عن مماثلة المحدثات. قاله ابن كثير.

وقد أفاد أن المقام اقتضى التنزيه ، دفعا لإيهام ما لا يليق من التشبيه. ثم إن موسىعليه‌السلام ، أعلمه تعالى بأنه هو الذي يكلمه ويناجيه ، لا ملك ولا خلق آخر ، بل ذاته العلية المستحقة للألوهية والنعوت القدسية ، فقال سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (١٢)

(يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وفي إيثار هذه الأسماء الجليلة سرّ بديع. وهو الإشارة الجملية إلى روح إرساله عليه‌السلام. أي : أنا الله لا تلك المعبودات التي عكف عليها قوم فرعون ، العزيز الغالب القاهر لكل عات متمرد ، الحكيم في البعثة والإرسال ، والتفضل والإفضال. ثم أمره تعالى أن يلقي عصاه من يده ليريه دليلا واضحا على أنه القادر على كل شيء ، بقوله (وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌ) هو ضرب من الحيات ، أسرعه حركة وأكثره اضطرابا (وَلَّى) أي من الخوف (مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي لم يرجع على عقبه من شدة خوفه (يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) أي لحفظي لهم وعنايتي بهم وعصمتي إياهم مما يؤذيهم. وفيه تبشير له باصطفائه بالرسالة والنبوة. وتشجيع له بنزع الخوف. إذ لا يتمكن من أداء الرسالة ، ما لم يزل خوفه من المرسل إليه. وقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) استثناء منقطع. استدرك به ما عسى يختلج في الخلد من نفي الخوف عن كلهم. مع أن منهم من فرطت منه صغيرة ما ، مما يجوز صدوره عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فإنهم وإن صدر عنهم شيء من ذلك ، فقد فعلوا عقيبه ما يبطله ، ويستحقون به من الله تعالى مغفرة ورحمة. وقد قصد به التعريض بما وقع من موسى عليه الصلاة والسلام ، من وكزه القبطيّ والاستغفار. قاله أبو السعود. وسبقه الزمخشريّ حيث قال : يوشك أن يقصد بهذا ، التعريض بما وجد من موسى. وهو من التعريضات التي يلطف مأخذها ، وسماه ظلما كما قال موسى (رَبِ

٤٨٧

إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) ثم أشار تعالى إلى آية خارقة غير العصا ، آتاه إياها ، بقوله (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي آفة كبرص (فِي تِسْعِ آياتٍ) أي غيرها تؤتاها ، إذا جحد فرعون رسالتك. وهي ضرب ماء النهر بالعصا فينقلب دما. وإصعاد الضفادع على أرض مصر. وضرب التراب فتمتلئ الأرض قملا. وإرسال الجراد عليهم. والوباء الشديد. وإصابة أجسادهم بالقروح والدمامل والبثور. وإهلاك حصادهم بالبرد الشديد. وتغشيتهم بظلام كثيف ، على ما روي ، وفي (تِسْعِ) أوجه : أحدها أنها حال ثالثة. أي تخرج آية في تسع آيات. والثاني أنها متعلقة بمحذوف ، أي اذهب في تسع. والثالث أن يتعلق بقوله : (وَأَلْقِ عَصاكَ وَأَدْخِلْ يَدَكَ) أي في جملة تسع آيات. و (في) بمعنى (مع) (إِلى فِرْعَوْنَ) أي مرسلا بها إلى فرعون (وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي خارجين عن الحدود ، في الكفر والعدوان. وهذا تعليل للإرسال.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤) وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) (١٦)

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً) أي ظاهرة بينة (قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِها) أي كذبوا بها بألسنتهم (وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) أي عرفت أنفسهم أنها آيات يقينا ، لا سيما عند إلقاء السحرة ساجدين (ظُلْماً) أي للآيات ، بتسميتها سحرا كقوله : (بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) [الأعراف : ٩] ، ولقد (ظلموا بها) (وَعُلُوًّا) أي تكبرا عن الانقياد لموسى (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أي من إهلاكهم بالإغراق ، لغرقهم في بحر الفساد والإفساد (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) أي بالقضاء بين الناس ، وحكمة باهرة (وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) أي العلم والحكمة والنبوة أو الملك (وَقالَ) أي تحدثا بنعمة الله وتنويها بمنته (يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) أي فهم صوته (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ، إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) أي البين الظاهر. وهو قول وارد على

٤٨٨

سبيل الشكر والمحمدة. كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) : «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» أي أقول هذا القول شكرا ، ولا أقوله فخرا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) (٢٥)

(وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ) أي جمع له عساكره (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ) أي رأتهم متوجهين إلى واديها (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي بمكانكم (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) أي تعجبا من حذرها واهتدائها إلى تدبير مصالحها ومصالح بني نوعها. وسرورا بشهرة حاله وحال جنوده في باب التقوى والشفقة ، فيما بين أصناف المخلوقات ، التي هي أبعدها من إدراك أمثال هذه الأمور ، وابتهاجا بما خصه الله تعالى به من إدراك همسها وفهم مرادها. قاله أبو السعود (وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ

__________________

(١) أخرجه أبو داود في : السنة ، ١٣ ـ باب في التخيير بين الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام ، حديث رقم ٤٦٧٣.

٤٨٩

وَعَلى والِدَيَ) أي ألهمني شكرها (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجة تبين عذره (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) أي فلبث في الغيبة أمدا غير طويل (فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ) وهي مدينة (بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) أي سرير تجلس عليه ، هائل مزخرف بأنواع الجواهر (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا) أي هلّا يسجدوا. كما قرئ بذلك. وجوّز بعضهم أن يكون معمولا لما قبله. أي فصدهم عن السبيل لئلا يسجدوا ، فحذف الجار مع (أن) أو أن تكون (لا) مزيدة ، والمعنى : فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا (لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي يظهر ما هو مخبوء فيهما من نبات ومعادن وغيرهما (وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) قرئ بالتاء والياء على صيغة الغيبة. والجملة التحضيضية إما مستأنفة من كلامه تعالى ، أو محكية عن قول الهدهد. واستظهر الزمخشريّ الثاني. قال : لأن في إخراج الخبء أمارة على أنه من كلام الهدهد ، لهندسته ومعرفته الماء تحت الأرض. وذلك بإلهام من يخرج الخبء في السموات والأرض ، جلت قدرته ولطف علمه. ولا يكاد يخفى على ذي الفراسة النّظّار بنور الله ، مخايل كل مختص بصناعة أو فن من العلم ، في روائه ومنطقه وشمائله.

القول في تأويل قوله تعالى :

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (٢٦)

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) أي المحيط بالشمس وسائر الكواكب وكل شيء. فما أصغر عرشها في جنب عظمته! وما أضعف معبودها ـ الشمس ـ في جانب قدرته!.

تنبيه :

هذه السجدة من عزائم السجدات. قال الزمخشريّ : لأن مواضع السجدة إما أمر بها ، أو مدح لمن أتى بها ، أو ذم لمن تركها. وإحدى القراءتين أمر بالسجود ، والأخرى ذم للتارك.

٤٩٠

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) (٣٢)

(قالَ) أي سليمان (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) أي حسن مضمونه وما فيه (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) أي لا تتكبروا عليّ ، وأتوني منقادين لأمري (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) أي لا أبتّ أمرا إلا بمحضركم ومشورتكم. ولا أستبدّ بقضاء إلا باستطلاع آرائكم والرجوع إلى استشارتكم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (٣٣) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) (٣٥)

(قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ) أي في العدد والعدد (وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي نجدة وبلاء في الحرب (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ) أي وأمر القتال أو الصلح مفوض إلى رأيك. فانظري ما هو أبقى لشرفك وملكك (قالَتْ) أي مشيرة إلى اختيار خطة المسالمة وإيثارها ، بالنظر لحالتها ومركزها وضعفها أمام عدوّها ، بأن القتال إنما يؤثر إذا لم يغلب على الظن دخول العدوّ في قرية العدوّ. وألا تعيّن الانقياد. وذلك معنى قولها (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً) أي عنوة وقهرا (أَفْسَدُوها) أي أخربوها (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) أي بالقهر والغلبة والقتل والأسر ونهب الأموال (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) تأكيد لما وصفت من حالهم ، وتقرير له بأن ذلك عادتهم المستمرة. وقيل تصديق لها منه تعالى (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) أي وإني سأرسل إلى سليمان وملئه رسلا بهدية توجب المحبة وتشبه الانقياد. من غير اختلال لشرفنا. ثم انتظر بأي أمر يرجع المرسلون منه ، حتى أعمل على حسب ذلك.

٤٩١

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (٤٠)

(فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ) أي المرسلون منها (قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ) أي من الملك والحكمة والنبوة (خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) أي فلا أبالي بجميع ما عندكم فضلا عن الهدية (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) أي إذا أهدي إليكم مثلها ، أو أهديتم مثلها ، تفرحون استكثارا أو افتخارا (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ) أي مهانون (قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ، فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) أي ليختبرني أأشكر بالطاعة والعمل بالشريعة ، أم أكفر بالمعصية والمخالفة. وقوله تعالى : (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) كقوله (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) [فصلت : ٤٦] و [الجاثية : ١٥] ، وكقوله (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) [الروم : ٤٤].

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) (٤٢)

(قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها) أي اجعلوا متنكرا متغيرا عن هيئته وشكله كما يتنكر الرجل للناس (نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) أي لمعرفته (فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) قال المهايميّ : لم تقل (هو هو) خوفا من

٤٩٢

التكذيب ، مع نوع من التغيير. ولا (لا) خوفا من التجهيل.

وقال الزمخشريّ : لم تقل (هو هو) ولا (ليس به) وذلك من رجاحة عقلها. حيث لم تقطع في المحتم. أي : فأتت ب (كأن) الدالة على غلبة الظن.

قال الشهاب : وهذا إشارة إلى أن (كأن) ليس المراد بها هنا التشبيه بل الشك. وهو مشهور فيها.

وقد أبدى صاحب (الانتصاف) فرقا بين (كأن) و (هكذا) في التشبيه. وعبارته : وفي قولها (كأنه هو) وعدولها عن مطابقة الجواب للسؤال بأن تقول (هكذا هو) ـ نكتة حسنة. ولعل قائلا يقول : كلتا العبارتين تشبيه. إذ كان التشبيه فيهما جميعا ، وإن كانت في إحداهما داخلة على اسم الإشارة ، وفي الأخرى داخلة على المضمر ، وكلاهما (أعني اسم الإشارة والمضمر) واقع على الذات المشبهة. وحينئذ تستوي العبارتان في المعنى. ويفضل قولها (هكذا هو) بمطابقته للسؤال. فلا بد في اختيار (كَأَنَّهُ هُوَ) من حكمة. فنقول : حكمته ، والله أعلم ، أن (كَأَنَّهُ هُوَ) عبارة من قرب عنده الشبه حتى شكك نفسه في التغاير بين الأمرين. فكاد يقول (هو هو) وتلك حال بلقيس. وأما (هكذا هو) فعبارة جازم بتغاير الأمرين ، حاكم بوقوع الشبه بينهما لا غير. فلهذا عدلت إلى العبارة المذكورة في التلاوة ، لمطابقتها لحالها ، والله أعلم. انتهى.

وقوله تعالى : (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) هذا من تمام كلام سليمان عليه‌السلام ، شكرا لله على فضلهم عليها ، وسبقهم إلى العلم بالله وبالإسلام. أي : وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته ، وبصحة ما جاء من عنده ، قبل علمها الذي أومأ إليه قولها (كَأَنَّهُ هُوَ) والجملة عطف على مقدر اقتضاه المقام المقتضى ، للإفاضة في وصفها برجاحة الرأي في الهداية للإسلام. والتقدير : أصابت في جوابها وقد رزقت الإسلام ، وعلمت قدرة الله. وأوتينا العلم إلخ. وقيل : إنه من كلام بلقيس ، موصولا بقولها (كَأَنَّهُ هُوَ) ، لا من كلام سليمان ، كأنها ظنت أنه أراد بذلك اختبار عقلها وإظهار معجزة لها ، فقالت : أوتينا العلم إلخ. أي لا حاجة إلى الاختبار لأني آمنت قبل. وهذا يدل على كمال عقلها.

أو المعنى : علمنا إتيانك بالعرش قبل الرؤية ، أو هذه الحالة بالقرائن أو الأخبار.

قال ابن كثير : ويؤيد الأول ، أي أنه من كلام سليمان ، أنها إنما أظهرت الإسلام بعد دخولها إلى الصرح ، كما سيأتي ، والله أعلم. وقوله تعالى :

٤٩٣

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٤)

(وَصَدَّها) أي وكان صدها عن الهداية (ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ) أي القصر ، أو صحن الدار وكان سليمان عليه‌السلام اتخذ قصرا بديعا من زجاج ، فأراد أن يريها منه عظمة ملكه وسلطانه ، ومقدار ما آثره الله به (فَلَمَّا رَأَتْهُ) أي صحنه (حَسِبَتْهُ لُجَّةً) أي ماء عظيما (وَكَشَفَتْ) أي للخوض فيه (عَنْ ساقَيْها ، قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ) أي مملّس (مِنْ قَوارِيرَ) أي من الزجاج (قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) أي بكفرها السالف وعبادتها وقومها الشمس (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي متابعة له في دينه وعبادته لله وحده لا شريك له.

تنبيهات :

الأول ـ روى كثير من المفسرين هاهنا أقاصيص لم تصحّ سندا ولا مخبرا. وما هذا سبيله ، فلا يسوغ نقله وروايته.

قال الحافظ ابن كثير ، بعد أن ساق ما رواه ابن أبي شيبة عن عطاء مستحسنا له ، ما مثاله : قلت : بل هو منكر غريب جدا. ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس ، والله أعلم.

ثم قال : والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب ، مما وجد في صحفهم. كروايات كعب ووهب ، سامحهما الله تعالى ، فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل ، من الأوابد والغرائب والعجائب. مما كان ومما لم يكن. ومما حرف وبدل ونسخ. وقد أغنانا الله سبحانه عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ ، ولله الحمد والمنة.

الثاني ـ أشير في (التوراة) في الفصل الرابع من سفر الملوك الثالث إلى تفصيل نبأ سليمان عليه‌السلام وعظمة ملكه وسلطانه. ومما جاء فيه أن سليمان كان متسلطا على جميع الممالك من نهر الفرات إلى أرض فلسطين وإلى تخم مصر. وإن ملوك الأطراف كانوا يحملون له الهدايا خاضعين له كل أيام حياته أي أنها تؤدّي له

٤٩٤

الجزية ، وإن كان ملكه محصورا في فلسطين. وأن الله تعالى آتاه حكمة وفهما ذكيا جدا ، وسعة صدر. ففاقت حكمته حكمة جميع أهل المشرق وأهل مصر. وقال ثلاثة آلاف مثل. وتكلم. في الشجر ، من الأرز الذي على لبنان إلى الزوفى التي تخرج في الحائط. وتكلم في البهائم والطير والزحافات والسمك. وأما صرحه وبيته عليه‌السلام ، فقد جاء وصفه في الفصل الخامس من السفر المتقدم. وأنه أكمل بناءه في ثلاث عشرة سنة. وأنه بنى جازر وبيت حورون السفلى وبعلت وتدمر في أرض البرية. وجاء في الفصل العاشر من هذا السفر أيضا قصة ملكة سبأ ومقدمها من اليمن على سليمان لتخبر حكمته وعظمة ملكه ، ودهشتها مما رأته وتحققته ، وإيمانها بربه تعالى. ثم إعطاؤه إياها بغيتها. ثم انصرافها إلى أرضها.

وقد ذكرنا غير مرة أن القرآن الكريم لا يسوق أنباء ما تقدم سوق مؤرخ ، بل يقصها موجزة ليتحقق أنه مصداق ما بين يديه ، ومهيمن عليه ، ولينبه على أن القصد منها موضع العبرة والحكمة. ومثار التبصر والفطنة.

الثالث ـ مما استنبط من آيات هذه القصة الجليلة ، أن في قوله تعالى : (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) أنه لا بأس بالتبسم والضحك عن التعجب وغيره. وفي قوله تعالى (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ) استحباب تفقد الملك أحوال رعيته. وأخذ منه بعضهم تفقد الإخوان ، فأنشد :

تفقد الإخوان مستحسن

فمن بداه نعم ما قد بدا

سنّ سليمان لنا سنّة

وكان فيما سنّة مقتدى

تفقّد الطير على ملكه

فقال : ما لي لا أر الهدهدا

وأن في قوله تعالى : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) الآية ، دليلا على أن العذاب على قدر الذنب ، لا على قدر الجسد. وعلى جواز تأديب الحيوانات والبهائم بالضرب عند تقصيرها في المشي وإسراعها ونحو ذلك. وأن في قوله تعالى (فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) أن الصغير يقول للكبير والتابع للمتبوع : عندي من العلم ما ليس عندك ، إذا تحقق ذلك. وأن في قوله تعالى (قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) قبول الوالي عذر رعيته ، ودرءه العقوبة عنهم ، وامتحان صدقهم فيما اعتذروا به. وأن في قوله تعالى (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ) إرسال الطير بالكتب. وأن في قوله تعالى : (كِتابٌ كَرِيمٌ) استحباب ختم الكتب ، لقول السّدّي : كريم بمعنى مختوم. وأن في قوله تعالى : (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي

٤٩٥

أَمْرِي) المشاورة والاستعانة بالآراء في الأمور المهمة. وأن في قوله تعالى (أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ) الآية ، استحباب رد هدايا المشركين. كذا في (الإكليل) بزيادة.

ثم أخبر تعالى عن ثمود وما كان من أمرها مع نبيّها صالح عليه‌السلام ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ(٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) (٤٧)

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) أي فريق مؤمن وفريق كافر. يختصمون خصومة لا يرجع فيها المبطل إلى الحق بعد ما تبين له. كقوله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ ، قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) [الأعراف : ٧٥ ـ ٧٦] ، (قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) أي بالعقوبة السيئة قبل التوبة الحسنة. أي لم تدعون بحضور العقوبة ولا تطلبون من الله رحمته بالإيمان (لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قالُوا اطَّيَّرْنا) أي تطيرنا أي تشاءمنا (بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) أي من المؤمنين. وقد كانوا ، لشقائهم ، إذا أصيبوا بسوء قالوا : هذا من قبل صالح وصحبه (قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) أي سبيلكم الذي يجيء منه خيركم وشركم عند الله. وهو قدره وقسمته ، إن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم. قاله الزمخشريّ.

قال الشهاب : لما كان المسافر من العرب إذا خرج مرّ به طائر سانحا ، وهو ما وليه بميسرته ، أو بارحا وهو ما وليه بميمنته ـ تيمنوا بالأول وتشاءموا بالثاني. ونسبوا الخير والشر إلى الطائر. ثم استعير لما كان سببهما من قدر الله وقسمته. أو من عمل العبد الذي هو سبب الرحمة والنقمة. ومنه (طائر الله ، لا طائرك) (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) أي مفتونون بضلالكم وكفركم. لا ترون حسنا إلا ما يوافق هواكم ، ولا شؤما إلا يخالفه. ثم أخبر تعالى عن طغاة ثمود ورؤسائهم الذين كانوا دعاة قومهم إلى الضلال والكفر ، وتكذيب صالح عليه‌السلام ، وما آل بهم الأمر ، بقوله سبحانه :

٤٩٦

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٥٢)

(وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) أي شأنهم وعادتهم الإفساد ، كما يفيده المضارع وتأكيده بقوله (فِي الْأَرْضِ) الدال على عموم فسادهم. وهو صفة (رهط) أو (تسعة) (قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ) أي ليحلف كل واحد منكم على موافقة الآخرين ، بالله الذي هو أعظم المعبودين (لَنُبَيِّتَنَّهُ) أي لنقتلنّه ليلا. قرئ بالتاء على خطاب بعضهم لبعض (وَأَهْلَهُ) أي من آمن معه. (ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ) أي الطالب ثأره علينا (ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ) أي ما حضرنا مكان هلاك الأهل ، مع تفرقهم في الأماكن الكثيرة ، فضلا عن مكانه ، فضلا عن مباشرته (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) أي ونحلف إنا لصادقون. أو : والحال إنا لصادقون فيما ذكرنا (وَمَكَرُوا مَكْراً) أي بهذه الحيلة (وَمَكَرْنا مَكْراً) أي بأن جعلناها سببا لإهلاكهم (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً) أي خالية ساقطة. لم تعمر بعدهم لأنهم استؤصلوا (بِما ظَلَمُوا ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي بأنهم ما أخذوا إلا لظلمهم. وإن عاقبة الظلم الدمار والبوار.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) (٥٩)

٤٩٧

(وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) يعني صالحا عليه‌السلام ومن معه (وَكانُوا يَتَّقُونَ وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) أي قبحها ومضادّتها لحكمه تعالى وحكمته (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ) أي متجاوزين النساء اللاتي هن محالّ الشهوة (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) أي تفعلون فعل الجاهلين سفها وعمى عن العاقبة (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) أي يتنزهون عن أفعالنا ويرونها رجسا. قالوه استهزاء (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) أي الباقين في العذاب (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) أي هائلا غير معهود (فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) قال الزمخشريّ : أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتلو هذه الآيات الناطقة بالبراهين على وحدانيته وقدرته على كل شيء وحكمته. وأن يستفتح بتحميده ، والسلام على أنبيائه والمصطفين من عباده. وفيه تعليم حسن ، وتوقيف على أدب جميل ، وبعث على التيمن بالذكرين ، والتبرك بهما ، والاستظهار بمكانهما ، على قبول ما يلقى إلى السامعين ، وإصغائهم إليه وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المسمع. ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابرا عن كابر هذا الأدب. فحمدوا الله عزوجل ، وصلّوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أمام كل علم مفاد ، وقبل كل عظة وتذكرة ، وفي مفتتح كل خطبة. وتبعهم المترسلون. فأجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح والتهاني وغير ذلك من الحوادث التي لها شأن. وقيل : هو متصل بما قبله ، وأمر بالتحميد على الهالكين من كفار الأمم. والصلاة على الأنبياء عليهم‌السلام وأشياعهم الناجين.

ثم قال : معلوم أن لا خير فيما أشركوه أصلا حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل خير ومالكه. وإنما هو إلزام لهم وتبكيت وتهكم بحالهم. وذلك أنه آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله. ولا يؤثر عاقل شيئا على شيء ، إلا لداع يدعوه إلى إيثاره ، من زيادة خير ومنفعة. فقيل لهم ، مع العلم بأنه لا خير فيما آثروه ، وأنهم لم يؤثروه لزيادة الخير ، ولكن هوى وعبثا ، لينبّهوا على الخطأ المفرط ، والجهل المورّط. وإضلالهم التمييز ونبذهم المعقول. وليعلموا أن الإيثار يجب أن يكون للخير الزائد. ونحوه ما حكاه عن فرعون (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) [الزخرف : ٥٢] ، مع علمه أنه ليس لموسى مثل أنهاره التي كانت تجري تحته.

٤٩٨

ثم عدّد سبحانه الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله ، كما عددها في موضع آخر. ثم قال : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ).

لطيفة :

قال ابن القيم في (طريق الهجرتين) في هذه الآية : كلمة (السلام) هنا تحتمل أن تكون داخلة في حيز القول فتكون معطوفة على الجملة الخبرية ، وهي (الحمد لله) ويكون الأمر بالقول متناولا للجملتين معا. وعلى هذا ، فيكون الوقف على الجملة الأخيرة ، ويكون محلها النصب محكيّة بالقول.

ويحتمل أن تكون الجملة مستأنفة مستقلة معطوفة على جملة الطلب. وعلى هذا فلا محل لها من الإعراب.

وهذا التقدير أرجح ، وعليه يكون السلام من الله عليهم. وهو المطابق لما تقدم من سلامه سبحانه على رسله صلّى الله عليهم وسلم.

وعلى التقدير الأول يكون أمر بالسلام عليهم.

ولكن يقال على هذا : كيف يعطف الخبر على الطلب مع تنافر ما بينهما. فلا يحسن أن يقول : قم وذهب زيد ، ولا اخرج وقعد عمرو.

ويجاب على هذا بأن جملة الطلب ، قد حكيت بجملة خبرية ، ومع هذا لا يمتنع العطف فيه بالخبر على الجملة الطلبية لعدم تنافر الكلام فيه وتباينه.

وهذا نظير قوله تعالى : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس : ١٠١].

فقوله : (وَما تُغْنِي الْآياتُ) ليس معطوفا بالقول وهو (انظروا) بل معطوف على الجملة الكبرى.

على أن عطف الخبر على الطلب كثير كقوله تعالى : (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ ، وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) [الأنبياء : ١١٢] ، وقوله : (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) [المؤمنون : ١١٨].

والمقصود أنه على هذا القول ، يكون الله سبحانه قد سلّم على المصطفين من عباده ، والرسل أفضلهم. انتهى. وقوله تعالى :

٤٩٩

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٦٣)

(أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) إضراب وانتقال ، من التبكيت تعريضا ، إلى التصريح به خطابا على وجه أظهر منه لمزيد التأكيد. أي : بل من خلق السماوات والأرض ، وأودع فيهما من المنافع ما لا يحصى (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ) أي بساتين ذات حسن ورونق يبهج النظار (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) أي : أإله آخر كائن مع الله ، الذي ذكر بعض أفعاله ، التي لا يكاد يقدر عليها غيره ، حتى يتوهم جعله شريكا له تعالى في العبادة؟ وهذا تبكيت لهم بنفي الألوهية عما يشركون به تعالى ، في ضمن النفي الكليّ على الطريقة البرهانية ، بعد تبكيتهم بنفي الخيرية عنه بما ذكر من الترديد. قال أبو السعود : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) أي عن طريق الحق. أو به تعالى غيره. (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) أي قارة لا تنكفئ بمن عليها. أو مستقرا لمن عليها ، يتمتعون بمنافعها (وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً) أي برزخا مانعا من الممازجة (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) أي في الوجود ، أو في إبداع هذه البدائع (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي شيئا من الأشياء. ولذلك لا يفهمون بطلان ما هم عليه من الشرك ، مع كمال ظهوره (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ) وهو الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر ، إلى اللجأ والتضرع إلى الله تعالى ، اسم مفعول من (الاضطرار) الذي هو افتعال من (الضرورة) وهي الحالة المحوجة إلى اللجأ أي الالتجاء والاستناد.

قال ابن كثير : ينبّه تعالى أنه المدعوّ عند الشدائد ، الموجود عند النوازل ، كما قال تعالى : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٦٧] ،

٥٠٠