تفسير القاسمي - ج ٧

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٧

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٥

السيئة المحققة. وهي التي قد فعلت ووقعت. فإذا بدلت حسنة كان معناه أنها محيت وأثبت مكانها حسنة. قالوا : ولهذا قال تعالى : (سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) فأضاف السيئات إليهم ، لكونهم باشروها واكتسبوها. ونكر الحسنات ولم يضفها إليهم ، لأنها من غير صنعهم وكسبهم ، بل هي مجرد فضل الله وكرمه قالوا : وأيضا ، فالتبديل في الآية إنما هو فعل الله لا فعلهم فإنه أخبر أنه هو يبدل سيئاتهم حسنات ، ولو كان المراد ما ذكرتم لأضاف التبديل إليهم. فإنهم هم الذين يبدلون سيئاتهم حسنات والأعمال إنما تضاف إلى فاعلها وكاسبها ، كما قال تعالى : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) [البقرة : ٥٩] ، وأما ما كان من غير الفاعل ، فإنه يجعله من تبديله هو ، كما قال تعالى : (بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ) [سبأ : ١٦] ، فلما أخبر سبحانه أنه هو الذي يبدل سيئاتهم حسنات ، دل على أنه شيء فعله هو سبحانه بسيئاتهم ، لا أنهم فعلوه من تلقاء أنفسهم. وإن كان سببه منهم وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح.

قالوا : ويدل عليه ما رواه مسلم (١) في صحيحه عن أبي ذر : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إني لأعلم آخر أهل جنة دخولا الجنة. وآخر أهل النار خروجا منها. رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها. فتعرض عليه صغار ذنوبه. فيقال : عملت يوم كذا وكذا ، كذا وكذا. وعملت يوم كذا وكذا ، كذا وكذا فيقول : نعم. لا يستطيع أن ينكر ، وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له : فإن لك مكان كل سيئة حسنة» قالوا : وهؤلاء هم الأبدال في الحقيقة. فإنهم إنما سموا أبدالا لأنهم بدلوا أعمالهم السيئة ، بالأعمال الحسنة ، فبدل الله سيئاتهم التي عملوا حسنات.

قالوا : وأيضا فالجزاء من جنس العمل. فكما بدلوا هم أعمالهم السيئة بالحسنة ، بدلها الله من صحف الحفظة ، حسنات جزاء وفاقا.

قالت الطائفة الأولى : كيف يمكنكم الاحتجاج بحديث أبي ذر ، على صحة قولكم ، وهو صريح في أن هذا الذي قد بدلت سيئاته حسنات ، قد عذب عليها في النار ، حتى كان آخر أهلها خروجا منها فهذا قد عوقب على سيئاته. فزال أثرها بالعقوبة. فبدل مكان كل سيئة منها حسنة. وهذا حكم غير ما نحن فيه. فإن الكلام في التائب من السيئات ، لا فيمن مات مصرّا عليها غير تائب. فأين أحدهما من الآخر؟

__________________

(١) أخرجه في : كتاب الإيمان ، حديث رقم ٣١٤.

٤٤١

قالوا : وأما ما ذكرتم من أن التبديل هو إثبات الحسنة مكان السيئة ، فحق. وكذلك نقول : إن الحسنة المفعولة صارت في مكان السيئة ، التي لو لا الحسنة لحلت محلها.

قالوا : وأما احتجاجكم بإضافة السيئات إليهم ، وذلك يقتضي أن تكون هي السيئات الواقعة وتنكير الحسنات وهو يقتضي أن تكون حسنات من فضل الله ، فهو حق بلا ريب. ولكن من أين يبقى أن يكون فضل الله بها ، مقارنا لكسبهم إياها بفضله؟.

قالوا : وأما قولكم إن التبديل مضاف إلى الله لا إليهم ، وذلك يقتضي أنه هو الذي بدلها من الصحف ، لأنهم هم الذين بدلوا الأعمال بأضدادها ، فهذا لا دليل لكم. فإن الله خالق أفعال العباد. فهو المبدل للسيئات حسنات خلقا وتكوينا ، وهم المبدلون لها فعلا وكسبا.

قالوا : وأما احتجاجكم بأن الجزاء من جنس العمل ، فكما بدلوا سيئات أعمالهم بحسناتهم أبدلها الله كذلك في صحف الأعمال. فهذا حق ، وبه نقول ، وإنه بدلت السيئات التي كانت مهيأة ومعدة أن تحل في الصحف ، بحسنات جعلت موضعها. فهذا منتهى إقدام الطائفتين ، ومحط نظر الفريقين. وإليك أيها المنصف الحكم بينهما. فقد أدلى كل منهما بحجته ، وأقام بينته. والحق لا يعدوهما ولا يتجاوزهما. فأرشد الله من أعان على هدى ، فنال به درجة الداعين إلى الله ، القائمين ببيان حججه ودينه. أو عذر طالبا منفردا في طريق مطلبه ، قد انقطع رجاؤه من رفيق في الطريق. فغاية أمنيته أن يخلي بينه وبين سيره ، وألا يقطع عليه طريقه. فمن رفع له مثل هذا العلم ولم يشمر إليه ، فقد رضي بالدون. وحصل على صفقة المغبون. ومن شمر إليه ورام ألا يعارضه معارض ، ولا يتصدى له ممانع ، فقد منى نفسه المحال ، وإن صبر على لأوائها وشدتها ، فهو والله الفوز المبين ، والحظ الجزيل وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

فالصواب ، إن شاء الله في هذه المسألة ، أن يقال : لا ريب أن الذنب نفسه لا ينقلب حسنة. والحسنة إنما هي أمر وجوديّ يقتضي ثوابا ولهذا كان تارك المنهيات إنما يثاب على كف نفسه وحبسها عن موافقة المنهيّ. وذلك الكف والحبس أمر وجوديّ وهو متعلق الثواب. وأما من لم يخطر بباله الذنب أصلا ، ولم يحدث به نفسه ، فهذا كيف يثاب على تركه؟ ولو أثيب مثل هذا على ترك هذا الذنب ، لكان

٤٤٢

مثابا على ترك ذنوب العالم التي لا تخطر بباله وذلك أضعاف حسناته بما لا يحصى فإن الترك مستصحب معه ، والمتروك لا ينحصر ولا ينضبط ، فهل يثاب على ذلك كله؟ وهذا مما لا يتوهم. وإذا كانت الحسنة لا بد أن تكون أمرا وجوديا ، فالتائب من الذنوب التي عملها ، قد قارن كل ذنب منها ، ندما عليه ، وكف نفسه عنه ، وعزم على ترك معاودته. وهذه حسنات بلا ريب. وقد محت التوبة أثر الذنب ، وخلفه هذا الندم والعزم ، وهو حسنة ، قد بدلت تلك السيئة حسنة. وهذا معنى قول بعض المفسرين : يجعل مكان السيئة التوبة والحسنة مع التوبة. فإذا كانت كل سيئة من سيئاته قد تاب منها ، فتوبته منها حسنة حلت مكانها. فهذا معنى التبديل. لا أن السيئة نفسها تنقلب حسنة.

وقال بعض المفسرين في هذه الآية : يعطيهم بالندم على كل سيئة أساءوها حسنة. وعلى هذا ، فقد زال بحمد الله الإشكال. واتضح الصواب. وظهر أن كل واحدة من الطائفتين ما خرجت عن موجب العلم والحجة.

وأما حديث أبي ذر ، وإن كان التبديل فيه في حق المصرّ الذي عذب على سيئاته ، فهو يدل بطريق الأولى على حصول التبديل للتائب المقلع النادم على سيئاته. فإن الذنوب التي عذب عليها المصرّ ، لما أزال أثرها بالعقوبة ، بقيت كأن لم تكن ، فأعطاه الله مكان كل سيئة منها حسنة ، لأن ما حصل له يوم القيامة من الندم المفرط عليها ، مع العقوبة ، لا يقتضي زوال أثره وتبديلها حسنات. فزوال أثرها بالتوبة النصوح ، أعظم من زوال أثرها بالعقوبة. فإذا بدلت بعد زوالها بالعقوبة ، حسنات ، فلأن تبدل بعد زوالها بالتوبة حسنات ، أولى وأحرى. وتأثير التوبة في هذا المحو والتبديل أقوى من تأثير العقوبة. لأن التوبة فعل اختياريّ أتى به العبد طوعا ومحبة لله وفرقا منه ، وأما العقوبة ، فالتكفير بها من جنس التكفير بالمصائب التي تصيبه بغير اختياره ، بل يفعل الله. ولا ريب أن تأثير الأفعال الاختيارية التي يحبها الله ويرضاها في محو الذنوب ، أعظم من تأثير المصائب التي تناله بغير اختياره. انتهى كلامه رحمه‌الله. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً) (٧١)

(وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً) أي ومن يترك المعاصي ويندم عليها ويدخل في العمل الصالح ، فإنه بذلك تائب إلى الله متابا مرضيّا عنده ، مكفرا

٤٤٣

للخطايا ، محصلا للثواب. قرره الزمخشريّ.

والآية صريحة في أن العمل الصالح والمثابرة عليه قولا وفعلا ، شرط في صحة التوبة وقبولها وأنه لا اعتداد بها بدون العمل الصالح. فليتفطن لمعنى هذه الآية من يتوهم أن التوبة استغفار بلسان ، أو تخشع بأركان ، ولا عمل صالح له يرضي الرحمن.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) (٧٣)

(وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) أي لا يحضرون الباطل. يقال (شهد كذا) أي حضره. ف (الزور) مفعول به بتقدير مضاف أي محالّه. و (يشهدون) من الشهادة. فالزور منصوب على المصدر أو بنزع الخافض أي شهادة الزور أو بالزور. وقد أشار الزمخشريّ للوجهين بقوله : يحتمل أنهم ينفرون عن محاضر الكذابين ومجالس الخطّائين ، فلا يحضرونها ولا يقربونها ، تنزها عن مخالطة الشر وأهله وصيانة لدينهم عما يثلمه. لأن مشاهدة الباطل شركة فيه. ولذلك قيل في النظارة إلى كل ما لم تسوغه الشريعة (هم شركاء فاعلية في الإثم) لأن حضورهم ونظرهم دليل الرضا به ، وسبب وجوده ، والزيادة فيه لأن الذي سلط على فعله هو استحسان النظارة ، ورغبتهم في النظر إليه. ويحتمل أنهم لا يشهدون شهادة الزور. انتهى وهي الكذب متعمدا على غيره.

قال المبرد في (الكامل) : ويروى عن ابن عباس في هذه الآية (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) قال : أعياد المشركين. وقال ابن مسعود : الزور الغناء. فقيل لابن عباس : أو ما هذا في الشهادة بالزور؟ فقال : لا ، إنما آية شهادة الزور (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) [الإسراء : ٣٦] ، (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) أي اتفق مرورهم بأهل اللغو ، وهو كل ما ينبغي ويطرح ، مرّوا معرضين عنهم ، مكرمين أنفسهم عن الخوض معهم كقوله تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) [القصص : ٥٥] ، ويدخل في ذلك الإغضاء عن الفواحش ، والصفح عن الذنوب ، والكناية عما يستهجن التصريح به وذلك لأن (كراما) جمع كريم بمعنى مكرم لنفسه وغيره بالصفح ونحوه (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) أي

٤٤٤

وعظوا بها وخوفوا (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) أي بل أكبّوا عليها سامعين بآذان واعية ، مجتلين لها بعيون راعية. وإنما عبر بنفي الضد ، تعريضا بما يفعله الكفرة والمنافقون من شدة الإعراض والإباء والنفرة ، المستعار لها (الخرور) على تلك الحالة استعارة بديعة. لما فيها من إسقاطهم عن الإنسانية إلى البهيمية ، بل إلى أدنى منها ، لأنها تسمع وتبصر ، وقد نفيا عنهم.

وفي التنزيل الكريم من توصيف المؤمنين بوجل قلوبهم لذكره تعالى ، وزيادة إيمانهم إذا تلي عليهم الذكر الحكيم ، آيات عديدة. ولذا قال قتادة فيهم : هم قوم عقلوا عن الله ، وانتفعوا بما سمعوا من كتابه ويرحم الله الحسن البصريّ : فقد قال : كم من رجل يقرؤها ، ويخر عليها أصم أعمى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) (٧٤)

(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) أي أولادا وحفدة ، تقر بهم العيون وتسر بمكانهم الأنفس ، لحيازتهم الفضائل واتصافهم بأحسن الشمائل. و (قرة العين) إما من القر وهو البرد. لأن دمعة السرور باردة ، ولذا قيل في ضده (أسخن الله عينه) أو من القرار لعدم النظر لغيره ، وجوز في (من) أن تكون بيانية وعليه قول كثير من أن فيه الدعاء بصلاح الزوجات. وقوله تعالى : (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) أي أئمة. اكتفى بالواحد لدلالته على الجنس ، مع رعاية الفواصل. أي يقتدى بنا في الخير. أو هداة دعاة إلى الخير. فإن ذلك أكثر ثوابا وأحسن مآبا. قال في (الإكليل) : في الآية طلب الإمامة في الخير. وفي (العجائب) للكرمانيّ : قال القفال وغيره من المفسرين : في الآية دليل على أن طلب الرياسة في الدين واجب. انتهى.

وكذا قال الزمخشريّ ، عن بعضهم : إن فيه ما يدل على أن الرياسة في الدين ، يجب أن تطلب ويرغب فيها. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) (٧٧)

٤٤٥

(أُوْلئِكَ) إشارة إلى المتصفين بما ذكر. خبر ل (عباد الرحمن) أو مبتدأ خبره (يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا) أي على مشاق المجاهدات في الدعوة إلى الخيرات ، والدأب على الخيرات ، واجتناب المحظورات. و (الغرفة) الدرجة العالية من المنازل في الجنة (وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) أي تحييهم الملائكة وتسلم عليهم. أو يحيّي بعضهم بعضا ويسلم عليه. والقصد أنهم يلقون فيها التوقير والاحترام ، فلهم السلام وعليهم‌السلام (خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) لسلامة أهلها عن الآفات ، وخلودهم أبد الآباد.

(قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) أي لا يبالي بكم ولا يبقيكم إلا إذا عبدتموه وآمنتم به وحده. فالدعاء بمعنى العبادة ، كما مرّ.

ثم أشار إلى أنه كيف يمكن العبء بهم ، أو يتصور ، وقد وجد منهم ما ينافيه ، بقوله تعالى : (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) أي بما جاءكم من الحق. أي وقد تلي عليكم سنة من كذب وأصرّ (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) (اللزام) مصدر مؤول باسم الفاعل أتى به للمبالغة. أي فسوف يكون هذا النبأ أو الذكر الحكيم ، أو الأمر الجليل ، أمر الرسالة ، لازما وثابتا. يفتح من الحق رتاجا. وتدخل الناس في دين الله أفواجا. ولقد صدق الله وعده. ونصر عبده وأعز جنده. هزم الأحزاب وحده. نسأله تعالى خير ما عنده.

٤٤٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الشعراء

وهي مكية ، إلا قوله تعالى : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) [الشعراء : ٢٢٤ ـ ٢٢٧] ، إلى آخرها. وقوله : (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء : ١٩٧] ، فقد روي أنهما نزلتا بالمدينة ، وكان شعراؤه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ، حسان وكعب بن مالك وابن رواحة ، رضي الله عنهم.

وقال الداني : روي بسند صحيح أنها نزلت في شاعرين تهاجيا في الجاهلية ، مع كل واحد منهم جماعة. فالسورة على هذا كلها مكية. انتهى.

وقال المهايميّ : سميت هذه السورة بها ، لاختصاصها بتمييز الرسل عن الشعراء ، لأن الشاعر ، إن كان كاذبا فهو رئيس الغواة لا يتصور منه الهداية ، وإن كان صادقا لا يتصور منه الافتراء على الله تعالى ، وهذا من أعظم مقاصد القرآن ، انتهى.

يشير إلى أن ذكر الشعراء فيها ، لبيان أنهم في معزل عن الرسالة وتبرئة مقام الرسول صلوات الله عليه. عما افتروا عليه من أنه شاعر ؛ فالسورة على هذا كلها مكية ، ردّا لفريتهم.

ولما كان لفظ (الشعراء) عامّا ، جاز حمله على ما حكوه لشموله له ، لا أنه نزل فيه خاصة دون غيره. وسيأتي ، إن شاء الله تعالى ، إيضاح ذلك وهي مائتان وسبع وعشرون آية. قال ابن كثير : وقع في تفسير مالك المرويّ عنه ، تسميتها (الجامعة).

٤٤٧

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(طسم) (١)

(طسم) سبق في سورة البقرة الأقوال في هذه الفواتح ، وأن الأكثر على أنها اسم للسورة ، فمحله الرفع على أنه خبر لمحذوف ، وهو أظهر من رفعه على الابتداء ، أو النصب بتقدير : اقرأ ونحوه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) (٢)

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) الإشارة إلى السورة ، وما فيها من معنى البعد للتفخيم ، ومحله الرفع على الابتداء ، خبره ما بعده أو بدل مما قبله. والمراد ب (الكتاب) القرآن. وب (المبين) الظاهر إعجازه وآيته وبرهانه. ومن (أبان) بمعنى بان ـ أو المبين للحق من الباطل.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٣)

(لَعَلَّكَ باخِعٌ) أي قاتل (نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي لعدم إيمانهم. و (لعل) للإشفاق. أي أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة على عدم إيمانهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) (٤)

(إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً) أي ملجئة لهم إلى الإيمان ، قاسرة عليه (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) أي منقادين ، والجملة مستأنفة لتعليل ما يفهم من الكلام من النهي عن التحسر المذكور ، ببيان أن إيمانهم ليس مما تعلقت به مشيئة

٤٤٨

الله تعالى حتما ، فلا وجه للطمع فيه ، والتألم من فواته. قاله أبو السعود.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) (٥)

(وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) أي مكذبين ، استهزاء وإصرارا على ما كانوا عليه من الكفر. وتقديم نظير الآية في أول سورة الأنبياء ، وتحقيق معنى قوله تعالى (محدث) فتذكر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٦)

(فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي أحواله الباهرة وشؤونه القاهرة ، وظهور أعلامه ، وبقاء أيامه ، وفيه وعيد لهم بحلول الذل بهم ، ونزول الصّغار وقتئذ بدارهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) (٧)

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) أي صنف مرضيّ كثير المنافع.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (٨)

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) لصرفهم اختيارهم إلى جانب الكفر ، وعدم تدبرهم في هذه الآيات.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٩)

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي فهو القادر على الانتقام منهم بلا ممانع ، والرحيم بإمهاله وحلمه عنهم ، فلينتبهوا قبل أن يحل بهم ما حلّ بفرعون وقومه ، ولذا استأنف نبأ موسى عليه‌السلام معه ، بقوله تعالى :

٤٤٩

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) (١٣)

(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ ، أَلا يَتَّقُونَ قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي) أي في أداء الرسالة ، في بسطة من المقال (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) أي ليوازرني ويشدّ به عضدي. والمفعول محذوف ، أي ملكا أو جبريل.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) (١٥)

(وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) وهو قتل القبطيّ ، المبسوط في غير هذه السورة (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ قالَ كَلَّا) أي لا تخف إنك من الآمنين (فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) مزيد تسلية لهما ، بكمال الحفظ والنصرة.

قال أبو السعود : مثل حاله تعالى بحال ذي شوكة قد حضر مجادلة قوم يستمع ما يجري بينهم ، ليمد أولياءه ويظهرهم على أعدائهم ، مبالغة في الوعيد بالإعانة. انتهى.

ولو قيل هو كناية عن ذلك ، كان أولى. لجواز بقاء المعنى الحقيقيّ معها ، وهو هنا كذلك فهو تعالى مستمع لهما وحافظ وناصر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) (١٧)

(فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) ليتحرروا من عبوديتك وعذابك المهين.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) (١٩)

(قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ)

٤٥٠

يعني قتل القبطي. (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي بنعمتي.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) (٢٠)

(قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) أي الجاهلين بكون الوكزة مفضية إلى القتل. أو الذاهبين عن صواب الحلم والعفو والدفع بالأحسن.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٢١)

(فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ) أي تقتلوني على القتل الخطأ ، فنجاني الله منكم ، وزادني إنعاما (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً) أي حكمة أو نبوة (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي لإبطال دعواك الربوبية ، واستئصال شبه ما عليه قومك من الوثنية. وطلب إرسال قومي إلى مواطنهم الأصلية ، وقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) (٢٢)

(وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) إبطال لمنته عليه في التربية ، ببيان أنها في الحقيقة نقمة. لأنه كان اتخذ بني إسرائيل ؛ عبيدا مسخرين في شؤونه ، مذللين لأموره ، مقهورين لعسفه. وموسى عليه‌السلام ، وإن لم ينله من ذلك ما نالهم ، إلا أنه لما كان منهم ، فكأنه وصل إليه ، وحلّ به ، كما قيل (وظلم الجار إذلال المجير) أي لا يفي إحسانك إلى رجل منهم بما أسأت إلى مجموعهم ، وما أنا إلا عضو منهم. وفي فحواها تقريعه بالكبرياء المتناهية ، والقسوة البالغة ، والسلطة الغالية التي من ورائها الفرج القريب ، والمخرج العجيب.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ) (٢٥)

(قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا ، إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ) أي لهذا النبأ العجيب ، وهو توحيد المعبود.

٤٥١

وإنما عدّه جديرا بأن يتعجبوا منه ، لأنهم ، على ما حققه المؤرخون ، غلوا في عبادة الأصنام وتعديد الآلهة غلوّا أربوا على كل من سواهم في الضلال. فكانوا يسجدون للشمس والقمر ، والنجوم ، والأشخاص البشرية ، والحيوانات ، حتى الهوامّ ، وأدنى حشرات الأرض.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (٢٨)

(قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) أي لكونه يدعو إلى خلاف ما عقل عن الآباء.

(قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أي شيئا ما ، أو إن كنتم من أهل العقل علمتم أن الأمر كما قلته. وفيه إيذان بغاية وضوح الأمر ، بحيث لا يشتبه على من له عقل في الجملة ، وتلويح بأنهم بمعزل من دائرة العقل ، وإنهم المتصفون بما رموه عليه‌السلام به من الجنون.

تنبيه :

ذهب بعض المفسرين إلى أن فرعون كان من المعطلة ، لا يقر بخالق ، ولا يعترف بمعبود لظاهر قوله : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص : ٣٨] ، وأن قومه كانوا لا يؤلهون سواه.

قال ابن كثير : ومن زعم من أهل المنطق أن هذا سؤال عن الماهية فقد غلط. فإنه لم يكن مقرّا بالصانع ، حتى يسأل عن الماهية ، بل كان جاحدا له بالكلية فيما يظهر. انتهى.

وقدمنا أنه حقق الاكتشاف الصحيح والتاريخ الوثيق ، أنه كان من الوثنيين الغالين. وأن له ولقومه عدة معبودين علويين وسفليين.

وعليه فمعنى قوله (ما علمت لكم من إله غيري) أي مطاع عظيم ، وكانوا لا يتحاشون من إطلاق الإله على الجبار المسيطر. فبقي سؤاله بما يحتمل أن يكون على نهج القاعدة المنطقية ، من طلب الاكتناه ، وتعجبه من جوابه ، ثم رميه بالجنون ، ثانيا ، لعدوله عن الكنه إلى الأثر. ويحتمل أن يكون لتعرفه من جهة وحدته في ربوبيته التي ادعاها موسى ، وأن تعجبه لما شاهد من الجد في الدعوة والثبات عليها ، والصدع بما يؤلم عظمته ، ويغمز جبروته ؛ وهذا هو الذي أذهب إليه ، فإن القوم

٤٥٢

بمعزل عن أن يعجبوا لكون الجواب كان بالرسم لا بالحد ، إذ هو اصطلاح لفئة خاصة ، ومع هذا فالنظم يحتمله ولا يأباه. وقد عول عليه كثير من أهل النظر ، ولا بأس بأن نأثر شيئا من لطائفهم فيه.

قال الرازيّ : السؤال ب (ما) طلب لتعريف حقيقة الشيء. وتعريف حقيقة الشيء إما أن يكون بنفس تلك الحقيقة ، أو بشيء من أجزائها ، أو بأمر خارج عنها ، أو بما يتركب من الداخل والخارج. أما تعريفها بنفسها فمحال ؛ لأن المعرف معلوم قبل المعرف. فلو عرف الشيء بنفسه لزم أن يكون معلوما قبل أن يكون معلوما ، وهو محال. وأما تعريفها بالأمور الداخلية فيها ، فهاهنا في حق واجب الوجود محال ، لأن التعريف بالأمور الداخلة ، لا يمكن إلا إذا كان المعرف مركبا ، وواجب الوجود يستحيل أن يكون مركبا ؛ لأن كل مركب ، فهو محتاج إلى كل واحد من أجزائه. وكل واحد من أجزائه فهو غيره ؛ فكل مركب محتاج إلى غيره. وكل ما احتاج إلى غيره فهو ممكن لذاته. وكل مركب فهو ممكن ، فما ليس بممكن يستحيل أن يكون مركبا. فواجب الوجود ليس بمركب ، وإذا لم يكن مركبا استحال تعريفه بأجزائه. ولما بطل هذان القسمان ، ثبت أنه لا يمكن تعريف ماهية واجب الوجود ، إلا بلوازمه وآثاره.

ثم إن اللوازم قد تكون خفية ، وقد تكون جلية. ولا يجوز تعريف الماهية باللوازم الخفية ، بل لا بد من تعريفها باللوازم الجلية. وأظهر آثار ذات واجب الوجود ، وهو هذا العالم المحسوس ، وهو السموات والأرض وما بينهما.

فقد ثبت أنه لا جواب البتة لقول فرعون (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) إلا ما قاله موسى عليه‌السلام ، وهو أنه رب السموات والأرض وما بينهما. فأما قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ). فمعناه إن كنتم موقنين باستناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود ، فاعرفوا أنه لا يمكن تعريفه إلا بما ذكرته. لأنكم لما سلمتم انتهاء هذه المحسوسات إلى الواجب لذاته ، وثبت أن الواجب لذاته فرد مطلق ، وثبت أن الفرد المطلق لا يمكن تعريفه إلا بآثاره. وثبت أن تلك الآثار لا بد وأن تكون أظهر آثاره وأبعدها عن الخفاء ، وما ذاك إلا السموات والأرض وما بينهما. فإن أيقنتم بذلك لزمكم أن تقطعوا بأنه لا جواب عن ذلك السؤال ، إلا هذا الجواب.

ولما ذكر موسى عليه‌السلام هذا الجواب الحق ، قال فرعون لمن حوله (أَلا تَسْتَمِعُونَ) وإنما ذكر ذلك على سبيل التعجب من جواب موسى ، يعني أنا أطلب منه الماهية ، وخصوصية الحقيقة ، وهو يجيبني بالفاعلية والمؤثرية.

٤٥٣

وتمام الإشكال أن تعريف الماهية بلوازمها ، لا يفيد الوقوف على نفس تلك الماهية ، وذلك لأنا إذا قلنا في الشيء أنه الذي يلزمه اللازم الفلانيّ ، فهذا المذكور ، إما أن يكون معرّفا لمجرد كونه أمرا ما يلزمه ذلك اللازم. أو لخصوصية تلك الماهية التي عرضت لها هذه الملزوميّة والأول محال. لأن كونه أمرا يلزمه ذلك اللازم جعلناه كاشفا. فلو كان المشكوف هو هذا القدر لزم كون الشيء معرفا لنفسه ، وهو محال. والثاني محال ، لأن العلم بأنه أمر ما ، يلزمه اللازم الفلانيّ ، لا يفيد العلم بخصوصية تلك الماهية الملزومة ، لأنه لا يمتنع في العقل اشتراك الماهيات المختلفة في لوازم متساوية. فثبت أن التعريف بالوصف الخارجيّ ، لا يفيد معرفة نفس الحقيقة فلم يكن كونه ربّا للسموات والأرض وما بينهما جوابا عن قوله (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) فأجاب موسى عليه‌السلام بأن قال : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) وكأنه عدل عن التعريف بخالقية السماء والأرض ، إلى التعريف بكونه تعالى خالقا لنا ولآبائنا. وذلك لأنه لا يمتنع أن يعتقد أحد أن السموات والأرضين ، واجبة لذواتها ، فهي غنية عن الخالق والمؤثر. ولكن لا يمكن أن يعتقد العاقل في نفسه وأبيه وأجداده ، كونهم واجبين لذواتهم. لما أن المشاهدة دلت على أنهم وجدوا بعد العدم ، ثم عدموا بعد الوجود ، وما كان كذلك استحال أن يكون واجبا لذاته. وما لم يكن واجبا لذاته ، استحال وجوده إلا لمؤثر. فكان التعريف بهذا الأثر أظهر ، فلهذا عدل موسى عليه‌السلام من الكلام الأول ، إليه. فقال فرعون (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) يعني المقصود من سؤال (ما) طلب الماهية ، وخصوصية الحقيقة. والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا يفيد البتة تلك الخصوصية ، فهذا الذي يدعى الرسالة مجنون ، لا يفهم السؤال فضلا عن أن يجيب عنه.

فقال موسى عليه‌السلام (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) فعدل إلى طريق ثالث أوضح من الثاني ، وذلك لأنه أراد بالمشرق طلوع الشمس وظهور النهار ، وأراد بالمغرب غروب الشمس وزوال النهار ، والأمر ظاهر في أن هذا التدبير المستمر على الوجه العجيب ، لا يتم إلا بتدبير مدبر ، وأما قوله (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) فكأنه عليه‌السلام قال : إن كنت من العقلاء ، عرفت أنه لا جواب عن سؤالك ، إلا ما ذكرت ، لأنك طلبت مني تعريف حقيقته بنفس حقيقته ، وقد ثبت أنه لا يمكن تعريف حقيقته بنفس حقيقته ولا بأجزاء حقيقته. فلم يبق إلا أن أعرف حقيقته بآثار حقيقته. وأنا قد عرفت حقيقته بآثار حقيقته ، فقد ثبت أن كل من كان عاقلا ، يقطع بأنه لا جواب عن هذا السؤال إلا ما ذكرته.

ثم قال الرازيّ : وقد بينا في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ

٤٥٤

فَوْقَ عِبادِهِ) [الأنعام : ١٨] ، أن حقيقة الإله سبحانه من حيث هي ، هي غير معقولة للبشر ، انتهى.

وقال الإمام ابن حزم في (الملل والنّحل) في الكلام في المائية : ذهب طوائف من المعتزلة إلى أن الله تعالى لا مائية له. وذهب أهل السنة وضرار بن عمرو ، إلى أن لله تعالى مائية. قال ضرار : لا يعلمها غيره. قال ابن حزم : والذي نقول به ، وبالله تعالى التوفيق ، أن له مائية هي إنيّته نفسها ، وإنه لا جواب لمن سأل : ما هو البارئ ، إلا ما أجاب به موسى عليه‌السلام ؛ إذ سأله فرعون (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ)؟ ونقول أنه لا جواب هاهنا لا في علم الله تعالى ولا عندنا ، إلا ما أجاب به موسى عليه‌السلام. لأن الله تعالى حمد ذلك منه وصدق فيه. ولو لم يكن جوابا صحيحا تامّا لا نقص فيه ، لما حمده الله تعالى.

ثم قال : هاهنا نقف ولا نعلم أكثر. ولا هاهنا أيضا شيء غير هذا ، إلا ما علمنا ربنا تعالى ، من سائر أسمائه ، كالعليم والقدير والمؤمن والمهيمن وسائر أسمائه.

قال تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) [طه : ١١٠] ، إذ كل ما أحاط به العلم فهو متناه محدود وهذا منفيّ عن الله عزوجل ، وواجب في غيره ، لوقوع العدد المحاط به في أعراض كل ما دونه تعالى ، ولا يحاط بما لا حدود له ولا عدد له. فصح يقينا أننا نعلم الله عزوجل حقّا ، ولا نحيط به علما. انتهى ملخصا.

ولما سمع فرعون تلك المقالات المبينة على أساس الحكم البالغة ، وشاهد شدة حزم موسى عليه‌السلام وقوة عزمه على دعوته ، عدل عن خطة الإنصاف إلى الاعتساف ، بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) (٣٩)

٤٥٥

(قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ) قرئ بهمز وبدونه ، وهما لغتان. يقال أرجأته وأرجيته إذا أخرته. والمعنى أخرهما ومناظرتهما لوقت اجتماع السحرة (وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) أي شرطا يحشرون السحرة ، أي يجمعونهم عندك (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) أي لرؤية ما يعارض معجزة موسى. وكان خامر فؤادهم عجب منها واندهاش. والاستفهام مجاز عن الحث والاستعجال.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ(٤٤) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) (٤٦)

(لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) أي تبتلع ما موّهوا به إفكا وزورا (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) أي على وجوههم منقادين له بالإيمان ، لعلمهم بأن مثله لا يتأتى بالسحر. وفيه دليل على أن منتهى السحر تمويه وتزويق يخيل شيئا لا حقيقة له ، التبحر في كل فن نافع وإن لم يكن من العلوم الشرعية ، فإن هؤلاء السحرة. لتبحرهم في علم السحر ، علموا حقيقة ما أتى به موسى عليه‌السلام ، وأنه معجزة. فانتقلوا بزيادة علمهم الذي أداهم إلى الاعتراف بالحق والإيمان ، لفرقهم بين المعجزة والسحر. قاله القاضي شهاب.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠)

٤٥٦

(قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) أي فعلمكم شيئا دون شيء ، ولذلك غلبكم. أو فواعدكم ذلك وتواطأتم عليه. أراد به التلبيس على قومه ؛ كي لا يعتقدوا أنهم آمنوا على بصيرة وظهور حقّ.

(فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ، لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) أي جانبين متخالفين. (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) أي لا ضرر علينا في ذلك ، بل لنا فيه أعظم النفع ، لأنا بفعلك هذا وصبرنا عليه ، شهادة على حقيّته ، إلى ثوابه ورحمته راجعون ، فننقلب خير منقلب ، شهداء سعداء (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ) أي لأن (كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) أي من أظهر الإيمان كفاحا ، مجاهرة بالحق بلا تقية. ثم أشار تعالى إلى خروج موسى بقومه من مصر بإيحائه إليه. وكان إذن فرعون له بذلك بعد ما أراه الآيات البينات ثم ندم عليه ، فأتاه الإذن الإلهيّ به ، كما قال تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) (٥٢)

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) أي سر بهم ليلا ، فإنه إذا وصل خبر سيركم إلى فرعون ، لا بد أن يتبعكم بجنوده لإرجاعكم ، إلا أنكم تتقدمونه ولا يدرككم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) (٥٣)

(فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ) أي حين أخبر بسراهم (فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) أي جامعين لعسكره ، قائلين ما يقلل به الأعداء في أعين الجنود :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) (٥٨)

٤٥٧

(إِنَّ هؤُلاءِ) أي بني إسرائيل الخارجين (لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) أي يفعلون أفعالا تغيظنا وتضيق صدورنا من مخالفة أمرنا والخروج بغير إذن منا (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) أي من مكرهم وسعيهم بالفساد في الأرض (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) يعني : المنازل الحسنة والمجالس البهية.

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) (٥٩)

(كَذلِكَ) إشارة إلى مصدر ، أي مثل ذلك الإخراج أخرجناهم ، فهو في محل نصب صفة لمصدر مقدر ، أو هو خبر لمحذوف ، أي الأمر كذلك.

قال الشهاب : وإذا قدر (الأمر كذلك) فالمراد تقريره وتحقيقه ، والجملة معترضة حينئذ كالتي بعدها. (وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ). قال الشهاب : هو استعارة ؛ أي ملكناها لهم تمليك الإرث بعد زمان. وكأن العاقبة ، لما كانت لهم ، صاروا كأنهم ملكوها حين خروج أربابها منها.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) (٦٠)

(فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) أي لحقوهم وقت شروق الشمس.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) (٦٣)

(فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ) أي تقاربا رأى كل واحد منهما الآخر (قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) أي لملحقون (قالَ كَلَّا) أي لن يدركوكم فإن الله وعدكم بالخلاص منهم (إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) أي لطريق النجاة منهم. (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) أي فضربه فانفلق (فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) أي كل جزء متفرق منه كالجبل الكبير.

٤٥٨

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٦٨)

(وَأَزْلَفْنا) أي قرّبنا (ثَمَ) أي حيث انفلق البحر (الْآخَرِينَ) يعني قوم فرعون ، أي قدمناهم إلى البحر حتى دخلوا على أثر بني إسرائيل (وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ) أي بحفظ البحر على تلك الهيئة إلى أن عبروا. (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) أي بإطباقه عليهم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي لعبرة (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي مع مشاهدة هذه الآية العظمى التي توجب تصديقه بعدها في كل ما جاء به. منهم من بقي على كفره كبقية القبط. ومنهم من عصاه واقترح عليه ما اقترح كبعض بني إسرائيل. وفيه تسلية للنبيّ صلوات الله عليه. ووعد له ووعيد لمن عصاه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ) (٧٤)

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) أي على مشركي العرب (نَبَأَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ) أي ما الذي تدعونه وتلجئون إليه. وكان عليه‌السلام يعلم أنهم عبدة أصنام ، ولكنه سألهم ليريهم ، أن ما يعبدونه ليس من استحقاق العبادة في شيء (قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) أي مقيمين على عبادتها لا نتخطاها إلى غيرها. (قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ) أي مثل عبادتنا يعبدون ، فقلدناهم.

قال أبو السعود : اعترفوا بأنها بمعزل مما ذكر من السمع والمنفعة والمضرّة بالمرة. واضطروا إلى إظهار أن لا سند لهم سوى التقليد.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) (٨١)

٤٥٩

(قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) أي أفأبصرتم ، أو أتأملتم فعلمتم ما كنتم تعبدونه أنتم وسلفكم. فإنهم بغضائي (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) أي لكن رب العالمين ليس كذلك ، فإنه وليّ في الدنيا والآخرة ، لا أعبد غيره ثم برهن على موجب قصر عبادته عليه تعالى بقوله (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) أي إلى كل ما يهمني من أمور الدين والدنيا ، فإنه تعالى وحده يهدي كلا لما خلق له. والموصول صفة ل (رب) وجعله مبتدأ وما بعده خبرا ـ غير حقيق بجزالة التنزيل. قاله أبو السعود.

(وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) أي يرزقني بما سخر ويسر من الأسباب السماوية والأرضية ، فساق المزن ، وأنزل الماء وأحيى به الأرض وأخرج به من كل الثمرات رزقا للعباد ، وأنزل الماء عذبا زلالا يسقيه مما خلق أنعاما وأناسيّ كثيرا.

(وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) أي إذا وقعت في مرض فإنه لا يقدر على شفائي أحد غيره بما قدره من الأسباب الموصلة إليه. وإنما نسب المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله تعالى ، مع أنهما منه ، لمراعاة حسن الأدب معه تعالى. بتخصيصه بنسبة الشفاء الذي هو نعمة ظاهرة إليه تعالى كما قال الخضر : (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) [الكهف : ٧٩] ، وقال : (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما) [الكهف : ٨٢] ، وكقول الجن في آية : (أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) [الجن : ١٠] ، ولأن كثيرا من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك. ومن ثم قالت الحكماء : لو قيل لأكثر الموتى : ما سبب آجالكم؟ لقالوا : التخم.

(وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) فإنه هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده ، لا يقدر على ذلك أحد سواه. فإن قيل إن الموت قد يكون بتفريط الإنسان ، وقد أضافه تعالى إلى نفسه ، فما الفرق بين نسبة الموت ونسبة المرض في مقتضى الأدب؟ أجيب كما في (الانتصاف) : بأن الموت قد علم به بأنه قضاء محتوم من الله تعالى على سائر البشر ، وحكم عامّ لا يخص ، ولا كذلك المرض فكم من معافى منه قد بغته الموت ؛ فالتأسي بعموم الموت لعله يسقط أثر كونه بلاء ، فيسوغ في الأدب نسبته إلى الله تعالى. وأما المرض ، فلما كان مما يخص به بعض البشر دون بعض ، كان بلاء محققا. فاقتضى العلوّ في الأدب مع الله تعالى ، أن ينسبه الإنسان إلى نفسه ، باعتبار ذلك السبب الذي لا يخلو منه. ويؤيد ذلك أن كل ما ذكره مع المرض ، أخبر عن وقوعه بتّا وجزما ، لأنه أمر لا بد منه. وأما المرض ، فلما كان قد يتفق وقد لا ، أورده مقرونا

٤٦٠