تفسير القاسمي - ج ٧

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٧

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٥

قال الزمخشريّ : ربّع عليه‌السلام بتخويفه سوء العاقبة ، وبما يجره ما هو فيه من التبعة والوبال. ولم يخل ذلك من حسن الأدب ، حيث لم يصرّح بأن العقاب لا حق له ، وأن العذاب لاصق به ، ولكنه قال (أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ) فذكر الخوف والمس ونكّر العذاب. وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه ، أكبر من العذاب. وصدّر كل نصيحة من النصائح الأربع بقوله (يا أَبَتِ) توسلا إليه واستعطافا. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) (٤٦)

(قالَ) أي أبوه ، مصرّا على عناده لفرط غلوّه في الضلال (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ) أي : أمعرض ومنصرف أنت عنها. وإنما قدم الخبر على المبتدأ ، لأنه كان أهم عنده. وصدّره بالهمزة لإنكار نفس الرغبة ، على ضرب من التعجب. كان الرغبة عنها مما لا يصدر عن العاقل ، فضلا عن ترغيب الغير عنها. وفيه تسلية للرسول صلوات الله عليه ، عما كان يلقى من مثل ذلك من كفار قومه.

وقوله (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ) تهديد متناه. أي لئن لم تنته عن القول فيها ، وعن نصحك ، لأرجمنك بالحجارة (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) أي تباعد عني زمانا طويلا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) (٤٧)

(قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) أي مبالغا في اللطف بي. وفي جوابه بقوله عليه‌السلام (سَلامٌ عَلَيْكَ) مقابلة السيئة بالحسنة. كما قوله تعالى : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان : ٦٣] ، أي لا أصيبك بمكروه بعد. ولكن سأدعو ربي أن يغفر لك. كما قال : (وَاغْفِرْ لِأَبِي) [الشعراء : ٨٦] ، قال الزمخشريّ : وفي الآية دليل على جواز متاركة المنصوح ، والحال هذه. ويجوز أن يكون دعا له بالسلامة ، استمالة له. ألا ترى أنه وعده بالاستغفار؟

وفي (الإكليل) : استدل بعضهم بالآية على جواز ابتداء الكافر بالسلام.

وقال ابن كثير : قد استغفر إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبيه مدة طويلة ، وبعد أن هاجر إلى الشام وبنى المسجد الحرام. وبعد أن ولد له إسماعيل وإسحاق في قوله : (رَبَّنَا اغْفِرْ

١٠١

لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) [إبراهيم : ٤١] ، وقد استغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإسلام. وذلك اقتداء بإبراهيم الخليل في ذلك. حتى أنزل الله تعالى : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) إلى قوله : (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) [الممتحنة : ٤] ، يعني إلا في هذا القول ، فلا تتأسّوا به. ثم بيّن تعالى أن إبراهيم أقلع عن ذلك ورجع عنه ، فقال تعالى (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) ، إلى قوله : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ، إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة : ١١٣ ـ ١١٤] ، وقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) (٤٨)

(وَأَعْتَزِلُكُمْ) أي أتباعد عنك وعن قومك بالهجرة (وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي من أصنامكم.

قال الزمخشريّ : المراد بالدعاء العبادة ، لأنه منها ومن وسائطها. ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) : الدعاء هو العبادة. ويدل عليه قوله تعالى : (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [مريم : ٤٩] ، (وَأَدْعُوا رَبِّي) أي أعبده وحده (عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) أي خائبا ضائع السعي. وفيه تعريض بشقاوتهم بدعاء آلهتهم ، مع التواضع لله بكلمة (عَسى) ، وما فيه من هضم النفس ومراعاة حسن الأدب ، والتنبيه على أن الإجابة والإثابة بطريق التفضل منه تعالى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا) (٤٩)

(فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) وذلك بالمهاجرة إلى الشام (وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا) أي جعلنا له بنين وحفدة ، أنبياء قرّت عينه بهم في حياته. بدل من فارقهم من أقربائه الكفرة الفجرة. وقوله تعالى :

__________________

(١) أخرجه الترمذي في : التفسير ، ٢ ـ سورة البقرة ، ١٦ ـ حدثنا هناد ، عن النعمان بن بشير.

١٠٢

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (٥٠)

(وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا) أي ما عرف فيهم من النبوّة والذرية وسعة الرزق وحوزة الأرض المقدسة (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) أي ثناء حسنا. عبّر ب (اللسان) عما يوجد باللسان. كما عبّر ب (اليد) عما يطلق باليد وهي العطية. وإضافته إلى الصدق ووصفه بالعلوّ ، للدلالة على أنهم أحقاء بما يثني عليهم ، وأن مجاهدتهم لا تخفى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) (٥٢)

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً) بكسر اللام أي أخلص العبادة عن الشرك ، وأسلم وجهه لله. وقرئ بفتحه. أي أخلصه الله ، أي اصطفاه ، كما قال (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ) [الأعراف : ١٤٤] ، (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) أي من جانبه الأيمن من موسى ، حين ذهب يبتغى من تلك النار جذوة ، فرآها تلوح فقصدها فوجدها ثمة. فنودي عندها (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) أي مناجيا ، أي كليما. إذ كلمناه بلا واسطة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) (٥٣)

(وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) ليشد أزره في أداء الرسالة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) (٥٥)

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ) وهو ابن إبراهيم عليهما‌السلام. وإنما فصل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه ، لإبراز كمال الاعتناء بأمره ، بإيراده مستقلّا. وقوله : (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) تعليل للأمر. وإيراده عليه‌السلام بهذا الوصف ، وإن شاركه فيه

١٠٣

بقية الأنبياء ، تشريفا له وإكراما. ولأنه المشهور من خصاله. وناهيك أنه وعد من نفسه الصبر على الذبح ، فوفّى به حيث قال : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات : ١٠٢] ، وهذا أعظم ما يتصور فيه. وفيه تنبيه بعظم هذه الخلة. ولذا كان ضدها نفاقا ، كما صرّحت به الأخبار. (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) أي كان يبدأ أهله في الأمر بالصلاح والعبادة ليجعلهم قدوة لمن وراءهم. ولأنهم أولى من سائر الناس (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء : ٢١٤] ، (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) [طه : ١٣٢] ، (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) [التحريم : ٦] ، ألا ترى أنهم أحق بالتصدق عليهم؟ فالإحسان الدينيّ أولى. أفاده الزمخشريّ. (وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) أي لاتصافه بالنعوت الجليلة التي منها ما ذكر. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) (٥٧)

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) هو شرف النبوّة والزلفى عند الله تعالى. فالعلوّ معنويّ. أو رفعه بجسده حيّا إلى السماء. قال الشهاب : قيل : والثاني أقرب لأن الرفعة المقترنة بالمكان لا تكون معنوية ، وفيه نظر لأنه ورد مثله بل ما هو أظهر منه ، كقوله :

وكن في مكان إذا ما سقطت

تقوم ورجلاك في عافية

انتهى. ومما يؤيد الثاني ما روي في الصحيحين (١) عن أنس في حديث المعراج ؛ أنه صلوات الله عليه رأى إدريس في السماء الرابعة. وإدريس هو إلياس الآتي ذكره في سورة الصافات. ويسمى في التوراة إيليا. ولرفعه إلى السماء فيها نبأ عجيب ، قد يكون التنزيل الكريم في هذه الآية أشار إليه والله أعلم. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) (٥٨)

__________________

(١) أخرجه البخاري في : مناقب الأنصار ، ٤٢ ـ باب المعراج ، حديث رقم ١٥١٣ ، عن مالك بن صعصعة. وأخرجه مسلم في : الإيمان ، حديث رقم ٢٦٤.

١٠٤

(أُولئِكَ) إشارة إلى المذكورين في السورة من لدن زكريا إلى إدريس عليه‌السلام. وما فيه من معنى البعد ، للإشعار بعلوّ رتبتهم وبعد منزلتهم في الفضل. وقوله تعالى (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي بفنون النعم الدينية والدنيوية (مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا) أي هديناهم للحق واجتبيناهم للنبوة والكرامة (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) أي إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه ، سجدوا لربهم خضوعا واستكانة. مع ما لهم من علوّ الرتبة. وسموّ الزلفى عنده تعالى. وفي الآية استحباب السجود والبكاء عند سماع التلاوة.

قال ابن كثير : أجمع العلماء على مشروعية السجود هاهنا ، اقتداء بهم ، واتباعا لمنوالهم. وروى ابن جرير وابن أبي حاتم : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ سورة مريم فسجد. وقال : هذا السجود فأين البكي.

ولما ذكر تعالى حزب السعداء ، وهم الأنبياء ومن اتبعهم من القائمين بحدود الله وأوامره ذكر من نبذ دعوتهم ممن خلفهم ، وما سينالهم ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) (٥٩)

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ) وقرئ (الصلوات) بالجمع أي المتضمنة للسجود والأذكار ، المستدعية للبكاء. وإذا أضاعوها ، فهم لما سواها من الواجبات أضيع. لأنها عماد الدين وقوامه وخير أعمال العباد (وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) أي فأتوا بما ينافي البكاء والأمور المرضية من الأخلاق والأعمال ، من الانهماك في المعاصي التي هي بريد الكفر (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) أي شرّا. قال الزمخشريّ : كل شر عند العرب غيّ ، وكل خير رشاد. قال المرقش :

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره

ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما

أي من يفعل خيرا ، يحمد الناس أمره. ومن يفعل الشر لا يعدم اللوائم على فعله. وقيل : أراد الشاعر بالخير المال. وبالغي الفقر أي ومن يفتقر. ومنه القائل :

والناس من يلق خيرا قائلون له

ما يشتهي. ولأمّ المخطئ الهبل

أي الثكل. ويجوز أن يكون المعنى جزاء غيّ. كقوله تعالى : (يَلْقَ أَثاماً) [الفرقان : ٦٨] ، أي شرّا وعقابا. فأطلق عليه كما أطلق الغيّ على مجازاته المسببة

١٠٥

عنه ، مجازا. أو (غَيًّا) ضلالا عن طريق الجنة. فهو بمعناه المشهور.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) (٦١)

(إِلَّا مَنْ تابَ) أي عن ترك الصلوات واتباع الشهوات (وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) متعلق بمضمر العائد إلى الجنات. أو من (عباده) أي وعدها إياهم ملتبسة أو ملتبسين بالغيب. أي غائبة عنهم غير حاضرة. أو غائبين عنها لا يرونها ، وإنما آمنوا بها بمجرد الأخبار. أو بمضمر هو سبب للوعد أي وعدها إياهم بسبب إيمانهم ، أفاده أبو السعود (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) أي لا يخلفه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) (٦٣)

(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً) أي لا يسمعون فيها فضول كلام لا طائل تحته. وهو كناية عن عدم صدور اللغو عن أهلها. قال الزمخشريّ رحمه‌الله : فيه تنبيه ظاهر على وجوب تجنب اللغو واتقائه. حيث نزه الله عنه الدار التي لا تكليف فيها. وما أحسن قوله سبحانه : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان : ٧٢] ، (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) [القصص : ٥٥] ، نعوذ بالله من اللغو والجهل والخوض فيما لا يعنينا.

ومعنى (إِلَّا سَلاماً) أي تسليما. تسليم الملائكة عليهم ، أو بعضهم على بعض ، على الاستثناء المنقطع كما قال : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) [الواقعة : ٢٥ ـ ٢٦] ، (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) وهم المتصفون بشعب الإيمان ، المسرودة في مواضع شتى من آي القرآن. ولما قص سبحانه من أنباء الأنبياء عليهم‌السلام ما قص ، مثبتا له ، وعقبه بما أحدثه الخلف ، وذكر جزاءهم ـ عقبه بحكاية نزول جبريل عليه

١٠٦

السلام ، ردّا لما زعمه المشركون من أنه كان يقلوه فلا يزوره ، تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإعلاما بأن الحال ليس على ما زعمه هؤلاء الخلف. فقال سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) (٦٤)

(وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) أي ينسى شيئا ما ، بل لا يفيض علما ولا ينزل ملكا إلا لحكمة يستعد لها الحال ، أي فليس عدم النزول إلا لعدم الأمر به ، ولم يكن لتركه تعالى لك وتوديعه إياك. وفي إعادة اسم (الرب) المعرب عن التبليغ إلى الكمال اللائق ، مضافا إلى ضميره عليه‌السلام ، من تشريفه والإشعار بعلة الحكم ، ما لا يخفى. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (٦٥)

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) أي من التوابع والنجيمات والسحب وغير ذلك.

قال بعض علماء الفلك : الآية تدل على أن السموات أكثر من سبع. وأن ذكر السبع ليس للحصر كما قدمناه في البقرة ، من أن السموات عني بها الكواكب ، والأرض كوكب منها. قال أبو السعود : الآية بيان لاستحالة النسيان عليه تعالى. فإن من بيده ملكوت السموات والأرض وما بينهما ، كيف يتصور أن يحوم حول ساحة سبحاته الغفلة والنسيان. وهو خبر محذوف. أو بدل من (ربك). (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) أي اثبت لها على الدوام. وقوله (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) أي مثلا وكفؤا ، فتلتفت إليه وتقبل بوجهك نحوه ، فيفيض عليك مطلوبك. والجملة تقرير لوجوب عبادته وحده. أي إذا صح أن لا مثل له ، ولا يستحق العبادة غيره ، لم يكن بدّ من التسليم لأمره ، والقيام بعبادته ، والاصطبار على مشاقّها.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) (٦٦)

(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) أي يقول بطريق الإنكار والاستبعاد : أأخرج حيّا بعد ما لبثت في القبر مدة.

١٠٧

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) (٦٧)

(أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) أي قبل جعله ترابا ونطفة.

وكان عدما صرفا لا وجود له في الأعيان. فلا تبعد إعادته.

قال أبو السعود : وفي الإظهار موضع الإضمار ، زيادة التقرير بأن الإنسانية من دواعي التفكر فيما جرى عليه من شؤون التكوين المنحية بالقلع عن القول المذكور. وهو السرّ في إسناده إلى الجنس أو إلى الفرد بذلك العنوان. أي ما أعجب الإنسان في إنكاره وعدم تذكره لما ذكر ، وهو الذي أعطى العقل لينظر في العواقب ، وأنعم عليه بخلق السموات والأرض وما بينهما ، ليعرف المنعم فيشكره ، ويعبده فيجازى على فعله.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) (٦٨)

(فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ) أي لنحشرن المنكرين للبعث مع الشياطين الذين أغووهم وأضلوهم عن الحق (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) جمع (جاث). من (جثا) إذا قعد على ركبتيه. وذلك لهول المطلع. فلا يستطيعون قياما. كقوله تعالى (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) [الجاثية : ٢٨].

القول في تأويل قوله تعالى :

(ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) (٦٩)

(ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) أي لنخرجن إلى النار ، من كل فرقة ، الذي هو أشد على الرحمن ، الذي رحمه بإنزال الكتاب وإرسال الرسول وتعريف مضار الشهوات بالعقل والنقل ، (عِتِيًّا) أي جراءة بإيثار الشهوات على أمره وعدم مبالاته به.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) (٧٠)

(ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) وهم المنتزعون. فإنهم أولى الشيع.

١٠٨

إذ ضلوا وأضلوا ، لأجل لذّات الدنيا وشهواتها. فصاروا أولى بالصليّ بها. فيخصّون بعذاب مضاعف.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) (٧١)

(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) أي ليس أحد منكم ، من برّ وفاجر ، إلا وهو يردها. (كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) أي حكما جزما مقطوعا به.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) (٧٢)

(ثُمَ) أي بعد الورود والإحضار للتعريف (نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) أي لا يمكنهم التجاوز عنها.

قال الزمخشريّ : فيه دليل على أن المراد بالورود ، الجثوّ حواليها. وأن المؤمنين يفارقون الكفرة إلى الجنة ، بعد تجاثيهم. وتبقى الكفرة في مكانهم جاثين.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) (٧٣)

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً) أي موضعا ومكانا (وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) أي مجتمعا للقوم ، والمعنى أن هؤلاء الكفرة إذا تليت عليهم آياته تعالى بينة الحجة واضحة البرهان على مقاصدها ، أعرضوا وأخذوا يحتجون على فضل ما هم عليه بكونهم أوفر حظا من الدنيا ، لكونهم أحسن منازل وأرفع دورا وأعمر ناديا وأكثر طارقا وواردا ، أي فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على باطل ، وأولئك الذين هم مختفون في دار الأرقم بن أبي الأرقم على الحق؟ كما قال تعالى مخبرا عنهم : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) [الأحقاف : ١١] ، وقال قوم نوح (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) [الشعراء : ١١١] ، وقال تعالى : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا ، أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ). [الأنعام : ٥٣].

١٠٩

وكذلك رد عليهم شبهتهم بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) (٧٤)

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً) أي متاعا (وَرِءْياً) أي منظرا وهيئة ، من عظم الجاه ، فما أغنى عنهم من عذاب الله شيئا. كما قال تعالى عن قوم فرعون المغرقين (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) [الدخان : ٢٥ ـ ٢٦] ، و (رِءْياً) فعل بمعنى مفعول كالطّحن.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً) (٧٥)

(قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) أي من كان مغمورا بالجهل والغفلة عن عواقب الأمور. وهم المذكورون قبل ، ومن شاكلهم ، (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ) أي يمدّ له ويمهله بطول العمر وإعطاء المال. وإخراجه على صيغة الأمر للإيذان بأن ذلك مما ينبغي أن يفعل بموجب الحكمة ، لقطع المعاذير. كما ينبئ عنه قوله تعالى : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) [فاطر : ٣٧] ، أو للاستدراج كما ينطق به قوله تعالى : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) [آل عمران : ١٧٨] ، وقيل المراد به الدعاء بالمد والتنفيس والإمهال. أي فأمهله الله فيما هو فيه حتى يلقى ربه وينقضي أجله ، إما بعذاب يصيبه ، وإما الساعة بغتة. وقد بيّن سبحانه غاية المد بقوله :

(حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً) أي فئة وأنصارا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا) (٧٦)

(وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً ، وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) أي الأعمال التي تبقى

١١٠

فوائدها (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا) أي مرجعا. وتكرير (الخير) لمزيد الاعتناء ببيانه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) (٧٧)

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَ) أي في الآخرة (مالاً وَوَلَداً) أي انظر إلى هذا القائل المجترئ على الغيب ، ما أكفره!

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) (٧٨)

(أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) أي بذلك ، لأنه لا يتوصل إلى العلم به إلا بأحد هذين الطريقين.

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً) (٨٠)

(كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ) أي نحفظه عليه للمؤاخذة به (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) بمضاعفته له ، جزاء لاستهزائه (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) أي ننزع عنه ما آتيناه من مال وولد ، فلا يبقيان له حتى يمكنها قطع العذاب عنه (وَيَأْتِينا فَرْداً) أي في الحشر ، لا يصحبه مال ولا ولد. فما يجدي عليه تمنّيه وتألّيه.

وقد روى البخاريّ (١) : عن خباب رضي الله عنه ، قال : كنت قينا ـ حدّادا ـ في الجاهلية بمكة. فعملت للعاص بن وائل سيفا ، فجئت أتقاضاه فقال : لا أقضيك حتى تكفر بمحمد. قلت : لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث. قال. فذرني حتى أموت ، ثم أبعث فسوف أوتى مالا وولدا فأقضيك. فنزلت الآية. قال ابن عباس : فضرب الله مثله في القرآن.

__________________

(١) أخرجه البخاري في : البيوع ، ٢٩ ـ باب ذكر القين والحداد ، حديث رقم ١٠٦٠.

١١١

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) (٨١)

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) أي ليتعززوا بهم ، بأن يكونوا لهم وصلة إليه عزوجل ، وشفعاء عنده.

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) (٨٢)

(كَلَّا) أي ليس الأمر كما زعموا ، ولا يكون ما طمعوا (سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ) أي ستجحد الآلهة استحقاقهم للعبادة (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) أي يريدون إهلاكهم ، إذ أوقعوهم في هلاك دعوى الشرك ، كما قال تعالى (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) [الأحقاف : ٥ ـ ٦]. وقال تعالى : (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ ، فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) [النحل : ٨٦] ، قيل : المراد بالآلهة من عبد من ذوي العلم. لإطلاق ضمير العقلاء عليهم ونطقهم. وقيل : الأصنام. بأن يخلق الله فيهم قوة النطق ، فيطلق عليهم ما يطلق على العقلاء. وقيل : الأعم منهما ، وهو الأظهر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) (٨٣)

(أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ) أي بأن سلّطناهم عليهم ومكّنّاهم من إضلالهم. أو قيضناهم لهم يغلبون عليهم (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) أي تغريهم وتهيجهم على المعاصي ، بالتسويلات وتحبيب الشهوات ، تهيجا شديدا.

قال الزمخشريّ : الأز والهز والاستفزاز أخوات. ومعناها التهييج وشدة الإزعاج والمراد تعجيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بعد الآيات التي ذكر فيها العتاة والمردة من الكفار ، وأقاويلهم وملاحاتهم ومعاندتهم للرسل ، واستهزاؤهم واجتماعهم على دفع الحق بعد وضوحه وانتفاء الشك عنه ، وانهماكهم لذلك في اتباع الشياطين وما تسوّل لهم. فهذه الآية كالتذييل لما قبلها وقوله تعالى :

١١٢

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) (٨٤)

(فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ) أي بوقوع العذاب بهم لتطهر الأرض منهم. و (الفاء) للإشعار بكون ما قبلها مظنة لوقوع المنهيّ عنه ، محوجة إلى النهي. يقال : عجلت عليه بكذا إذا استعجلته منه. وقوله تعالى : (إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) تعليل لموجب النهي ، ببيان اقتراب هلاكهم. أي إنما نؤخرهم لأجل معدود مضبوط ، ونحوه قوله تعالى : (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) [الأحقاف : ٣٥].

قال الشهاب : العدّ كناية عن القلة. وقلته لتقضّيه وفنائه ، كما قال المأمون (ما كان ذا عدد ، ليس له مدد ، فما أسرع ما نفد) ولا ينافي هذا ما مرّ من أنه يمد لمن كان في الضلالة. أي يطوّل. لأنه بالنسبة لظاهر الحال عندهم. وهو قليل باعتبار عاقبته وعند الله. ولله در القائل :

إن الحبيب من الأحباب مختلس

لا يمنع الموت بوّاب ولا حرس

وكيف يفرح بالدنيا ولذّتها

فتى يعدّ عليه اللفظ والنّفس

القول في تأويل قوله تعالى :

(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) (٨٥)

(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) أي وافدين عليه. وأصل الوفود القدوم على العظماء للعطايا والاسترفاد. ففيه إشارة إلى تبجيلهم وتعظيمهم ، المزور والزائر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) (٨٦)

(وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) أي عطاشا. وفي ذكرهم بالسّوق إشعار بإهانتهم واستخفافهم. كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء. والورد : الذهاب إلى الماء ، ويطلق على الذاهبين إليه. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) (٨٧)

(لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) الضمير لأصنامهم المتقدم

١١٣

ذكرها في قوله : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) [مريم : ٨١] ، ردّ على عابديهم في دعواهم أنهم شفعاؤهم عند الله. واتخاذ العهد هو الإيمان والعمل الصالح. أي لكن من آمن وعمل صالحا فإنه يشفع للعصاة على ما وعد الله تعالى. وجوز أن يكون (العهد) بمعنى الإذن والأمر. يقال : أخذت الإذن في كذا واتخذته بمعنى. من باب (عهد الأمير إلى فلان بكذا) إذا أمره به. أي لا يشفع إلا المأمور بالشفاعة ، المأذون له فيها. وتعضده مواضع في التنزيل (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) [النجم : ٢٦] ، (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) [سبأ : ٢٣] ، (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) [طه : ١٠٩] ، ونحو هذه الآية قوله تعالى (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [الزخرف : ٨٦] ، ولما قرر تعالى في هذه السورة عبودية عيسى عليه‌السلام ، وذكر خلقه من مريم بلا أب ، عطف عليه حكاية جنايتهم من دعوى النبوّة له ، مهولا لأمرها. وكذا جناية أمثالهم من اليهود والعرب ممن يسمي بعض المخلوقات ابنا أو بنتا له ، تعالى وتقدّس ـ عطف قصته على قصته بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) (٨٩)

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) أي عظيما منكرا. وفي رد مقالتهم وتهويل أمرها بطريق الالتفات ، إشعار بشدة الغضب المفصح عن غاية التشنيع ، والتسجيل عليهم بنهاية الوقاحة والجراءة والجهل. ثم وصف شدة شأن مقولهم بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) (٩٣)

(تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) أي يتشقّقن (وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ) أي لأن (دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) وذلك لغيرتها على المقام الربانيّ الأحديّ أن ينسب له ما ينزه عنه ويشعر بحاجته ووجود كفء له وفنائه. وذلك لأن الولادة إنما

١١٤

تكون من الحيّ الذي له مزاج. وما له مزاج فهو مركب ونهايته إلى انحلال وفناء ، وهو سبحانه تنزه عن ذلك ، كما قال : (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) أي مملوكا له يأوي إليه بالعبودية والذل.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) (٩٥)

(لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) أي حصرهم وأحاط بهم إحاطة لا يخرج بها أحد عن حيطة علمه وقبضة قدرته (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) أي منفردا مجردا من الأتباع والأنصار ، وعمن زعم أن له من الشفعاء. فإنهم منهم برآء. ولما فصل مساوئ الكفرة ، تأثره بمحاسن البررة ، فقال سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) (٩٦)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) أي يغرس لهم في قلوب عباده الصالحين محبة ومودة ، من غير تعرض للأسباب التي تكسب الود. كذا قالوا في تأويله. وقال أبو مسلم : معناه أنه يهب لهم ما يحبون. قال : والود والمحبة سواء. آتيت فلانا محبته. وجعل لهم ما يحبون وجعلت له وده. ومن كلامهم : وددت لو كان كذا. أي أحببت. فمعناه سيعطيهم الرحمن ودهم أي محبوبهم في الجنة. ثم قال أبو مسلم : وهذا القول الثاني أولى لوجوه : أحدها ـ كيف يصح القول الأول مع علمنا بأن المسلم المتقي يبغضه الكفار وقد يبغضه كثير من المسلمين؟ وثانيها ـ أن مثل هذه المحبة قد تحصل للكفار والفساق أكثر ، فكيف يمكن جعله إنعاما في حق المؤمنين؟ وثالثها ـ أن محبتهم في قلوبهم من فعلهم. فكان حمل الآية على إعطاء المنافع الأخروية أولى. انتهى. وقد حاول الرازيّ التمويه في اختيار الأول والجواب عن الثاني. والحق أحق. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) (٩٧)

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) أي سهلنا هذا القرآن بلغتك (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ) أي الذين اتقوا عقاب الله ، بأداء فرائضه واجتناب معاصيه ، بالجنة (وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا)

١١٥

أي تخوف بهذا القرآن عذاب الله قومك من بني قريش. فإنهم أهل لدد وجدل بالباطل ، لا يقبلون الحق (واللدد) شدة الخصومة. والباء في قوله (بِلِسانِكَ) بمعنى (على). أي على لغتك. أو ضمّن (التيسير) معنى (الإنزال) أي يسرنا القرآن ، منزلين له بلغتك ، ليسهل تبليغه وفهمه وحفظه.

قال الزمخشريّ : هذه خاتمة السورة ومقطعها. فكأنه قال : بلّغ هذا المنزل ، أو بشر به وأنذر ، فإنما أنزلناه إلخ ، أي فالفاء لتعليل أمر ينساق إليه النظم الكريم.

وقال الرازيّ : بيّن به بهذا ، عظيم موقع هذه السورة ، لما فيها من التوحيد والنبوّة ، والحشر والنشر ، والرد على فرق المضلين المبطلين. وأنه يسّر ذلك لتبشير المتقين وإنذار من خالفهم ، وقد ذكرهم بأبلغ وصف سيء وهو اللدد. لأن الألد الذي يتمسك بالباطل ويجادل فيه.

ثم إنه تعالى ختم هذه السورة بموعظة بليغة ، فقال تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) (٩٨)

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) أي قوم لدّ ، مثل هؤلاء ، إهلاكا عظيما (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) أي تشعر به وتراه (أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) أي صوتا خفيّا. والمعنى أنهم بادوا وهلكوا وخلت منهم دورهم وأوحشت منهم منازلهم. وكذلك هؤلاء صائرون إلى ما صار إليه أولئك ، إن لم يتداركوا بالتوبة.

١١٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة طه

وهي مكية. وقيل : إلّا قوله تعالى : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) [طه : ١٣٠] الآية. وقوله : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) [طه : ١٣١] الآية ، وآياتها مائة وخمس وثلاثون.

١١٧

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) (٣)

(طه) قدمنا أن الحق في هذه الحروف التي افتتحت بها سورها ، أنها أسماء لها. وفيه إشارة إلى أنها مؤلفة منها. ومع ذلك ففي عجزهم عن محاكاتها أبلغ آية على صدقها. ونبه الإمام ابن القيم رحمه‌الله على نكتة أخرى في (الكافية الشافية) بقوله :

وانظر إلى السور التي افتتحت بأح

رفها ترى سرّا عظيم الشان

لم يأت قط بسورة إلا أتى

في إثرها خبر عن القرآن

إذ كان إخبارا به عنها. وفي

هذا الشفاء لطالب الإيمان

ويدل أن كلامه هو نفسها

لا غيرها ، والحق ذو تبيان

فانظر إلى مبدأ الكتاب وبعدها ال

أعراف ثم كذا إلى لقمان

مع تلوها أيضا ومع حم مع

يس وافهم مقتضى الفرقان

(ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) أي لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم ، وتحسرك على أن يؤمنوا و (الشقاء) في معنى التعب. ومنه المثل : أشقى من رائض مهر.

وقوله تعالى : (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) أي تذكيرا له. أي (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) لتتعب بتبليغه ، ولكن تذكرة لمن في قلبه خشية ورقة يتأثر بالإنذار. والقصد أنه ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر ، ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة. وقد جرت السنة الإلهية في خطاب الرسول في مواضع من التنزيل ، أن ينهاه عن الحزن عليهم وضيق الصدر بهم ، كقوله تعالى : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ) [الأعراف : ٢] ، (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ) [الكهف : ٦] ، (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) [آل عمران : ١٧٦] ، وهذه الآية من هذا الباب أيضا.

١١٨

وفي ذلك كله من تكريم الرسول صلوات الله عليه ، وحسن العناية به والرأفة ، ما لا يخفى. ثم أشار إلى تضخيم شأن هذا المنزل الكريم ، لنسبته إلى المتفرد بصفاته وأفعاله ، بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٥)

(تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى الرَّحْمنُ) قرئ بالرفع على المدح. أي هو الرحمن. وبالجر على أنه صفة للموصول. وقوله (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) أي علا وارتفع. قاله ابن جرير. وقد ذهب الخلف إلى جعل ذلك مجازا عن الملك والسلطان. كقولهم (استوى فلان على سرير الملك) وإن لم يقعد على السرير أصلا.

وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته أيضا.

قال ابن كثير : والمسلك الأسلم في ذلك طريقة السلف ، من إمرار ما جاء في ذلك من الكتاب والسنة ، من غير تكييف ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل.

وقد أسلفنا ما حققته أئمة الفلك الحديث ؛ من أن العرش جرم حقيقيّ موجود. وأنه مركز العوالم كلها. أي مركز الجذب والتدبير والتأثير والنظام.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى) (٦)

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى).

بيان لشمول قهره وملكته للكل. أي كلها تحت ملكته وقهره وسلطنته وتأثيره. لا توجد ولا تتحرك ولا تسكن ولا تتغير ولا تثبت إلا بأمره.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) (٧)

(وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى).

بيان لكمال لطفه. أي علمه نافذ في الكل. يعلم ظواهرها وبواطنها والسر وسر السر. فكذلك إن تجهر وإن تخفت ، فيعلمه بجهر وخفت.

١١٩

القول في تأويل قوله تعالى :

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٨)

(اللهُ) أي ذلك المنزل الموصوف بهذه الصفات هو الله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) أي الفضلى ، لدلالتها على معاني التقديس والتمجيد والتعظيم والربوبية والأفعال التي هي النهاية في الحسن. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) (١٠)

(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) من عطف القصة أو استئناف. والقصد تقرير أمر التوحيد الذي انتهى إليه الآية قبله ، ببيان أنه دعوى كل نبيّ لا سيما أشهرهم نبأ ، وهو موسى عليه‌السلام. فقد خوطب بقوله تعالى : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) [طه : ١٤] وبه ختم تعالى نبأه في هذه السورة بقوله : (إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [طه : ٩٨] ، أو تقرير لسعة علمه المبين في قوله تعالى : (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ) [طه : ٩٨] ، أو تقرير لسعة علمه المبين في قوله تعالى : (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ) [طه : ٧] إلخ لقوله بعد (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) [طه : ٩٨] ، أو لهما معا. أو لحمله ، صلوات الله عليه ، على التأسي بموسى في الصبر والثبات. لكونه ابتلي بأعظم من هذا فصبر ، وكانت العاقبة له. وقد أشير في طليعة نبأ موسى عليه‌السلام ، إلى كيفية ابتداء الوحي إليه ، وتكليمه تعالى إياه. وذلك بعد أن قضى موسى الأجل الذي كان بينه وبين صهره في رعاية الغنم. وصار بأهله قاصدا بلاد مصر ، بعد ما طالت غيبته عنها ومعه زوجته. فأضلّ الطريق. وكانت ليلة شاتية ، ونزل منزلا بين شعاب وجبال في برد وشتاء. وبينما هو كذلك إذ آنس من جانب الطور نارا ، كما قصه تعالى بقوله : (إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أي أبصرتها إبصارا بيّنا لا شبهة فيه (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ) أي بشعلة مقتبسة تصطلون بها : (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) أي هاديا يدلني على الطريق.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) (١٢)

(فَلَمَّا أَتاها) أي النار (نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ

١٢٠