تفسير القاسمي - ج ٧

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٧

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٥

قال في (الإكليل) : قال مكيّ : في هذه الآيات دلالة على جواز محاجة الكفار والمبطلين ، وإقامة الحجة وإظهار الباطل من قولهم ومذهبهم ، ووجوب النظر في الحجج على من خالف في دين الله.

القول في تأويل قوله تعالى :

(بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٩٤)

(بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أي في دعواهم أن له ولدا ومعه شريكا (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ ، إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ ، وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) لأنه يجب أن يتخالفا بالذات ، وإلا لما تصوّر العدد ـ والمتخالفان بالذات يجب أن يتخالفا في الأفعال فيذهب كل بما خلقه ، ويستبد به ، ويظهر بينهم التحارب والتغالب ، فيفسد نظام الكون ، كما تقدم بيانه في آية (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] ، (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ) أي من العذاب. أي إن كان لا بد من أن تريني. لأن (ما) و (النون) للتأكيد (رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي نجني من عذابهم. وفيه إيذان بكمال فظاعة ما وعدوه من العذاب ، وكونه بحيث يجب أن يستعيذ منه من لا يمكن أن يحيق به. وردّ لإنكارهم إياه واستعجالهم به ، استهزاء. وتكرير النداء ، لإظهار زيادة الابتهال.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١٠٠)

(وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ) أي من العذاب (لَقادِرُونَ) أي : وإنما نؤخره لحكمة بلوغ الكتاب أجله (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي بالخلة التي هي أحسن

٣٠١

الخلال. وهو العفو الصفح (السَّيِّئَةَ) يعنى أذى المشركين (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) أي فسيرون جزاءه (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) أي وساوسهم المغرية على الباطل والشرور والفساد ، والصدّ عن الحق (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) أي يحضروني في حال من الأحوال (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) أي حتى إذا احتضر وشاهد أمارات العذاب ، وعاين وحشة هيئات السيئات ، تمنى الرجوع ، وأظهر الندامة ، ونذر العمل الصالح في الإيمان الذي ترك. وقوله تعالى (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ) يعني قوله (ربّ ارجعون) إلخ (هُوَ قائِلُها) أي لا يجاب إليها ولا تسمع منه ، يعني أنه لم يحصل إلا على الحسرة والندامة ، والتلفظ بألفاظ التحسر والندم ، والدعوة دون المنفعة والفائدة والإجابة. والآية نظيرها قوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [المنافقون : ١٠] ، (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي حائل يحول بينهم وبين الرجعة ، يلبثون فيه إلى يوم القيامة.

لطيفة :

الواو في (ارجعون) قيل لتعظيم المخاطب وهو الله تعالى ، وردّه ابن مالك بأنه لا يعرف أحدا يقول (رب ارحموني ، ونحوه) لما فيه من إيهام التعدد. مدفوع بأنه لا يلزم من عدم صدوره عنا كذلك ، ألا يطلقه الله تعالى على نفسه. كما في ضمير المتكلم. وقيل إنه لتكرير قوله (ارجعني) كما قيل في (قفا) و (أطرقا) إن أصله (قف قف) على التأكيد ، وبه فسر قوله تعالى : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ) [ق : ٢٤] ، قال الشهاب : فيكون من باب استعارة لفظ مكان لفظ آخر لنكتة ، بقطع النظر عن معناه ، وهو كثير في الضمائر. كاستعمال الضمير المجرور الظاهر مكان المرفوع المستتر في (كفى به) حتى لزم انتقاله عن صفة إلى صفة أخرى ، ومن لفظ إلى آخر. وما نحن فيه من هذا القبيل. فإنه غيّر الضميران المستتران إلى ضمير مثنى ظاهر. فلزم الاكتفاء بأحد لفظي الفعل ، وجعل دلالة الضمير على المثنى على تكرير الفعل ، قائما مقامه في التأكيد ، من غير تجوز فيه ولابن جني في (الخصائص) كلام يدل على ما ذكرناه.

انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) (١٠١)

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ) أي لشدة الهول من هجوم ما شغل

٣٠٢

البال حتى زال به التعاطف والتآلف ، إذ (يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس : ٣٤ ـ ٣٧] ، ونفي نفع النسب ، إذا دهم مثل ذلك معروف.

كما قال :

لا نسب اليوم ولا خلّة

اتّسع الخرق على الراقع

(وَلا يَتَساءَلُونَ) أي لا يسأل بعضهم بعضا ، لعظم الفزع وشدة مآبهم من الأهوال ، وذهولهم عما كان بينهم من الأحوال ، فتنقطع العلائق والوصل التي كانت بينهم ، وجليّ أن نفي التساؤل إنما هو وقت النفخ ، كما دل عليه قوله (فَإِذا) أي فوقت القيام من القبور وهو المطلع يشتغل كل بنفسه. وأما ما بعده فقد يقع التساؤل ، كما قال تعالى : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) [الصافات : ٢٧] و [الطور : ٢٥] ، لأن يوم القيامة يوم ممتد. ففيه مشاهد ومواقف. فيقع في بعضها تساؤل وفي بعضها دهشة تمنع منه.

تنبيه :

روى هنا بعض المفسرين أخبارا في نفع النسب النبويّ. وحبذا لو روي شيء منها في الصحيحين ، أو في مسانيد من التزم الصحة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) (١٠٤)

(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) أي رجحت حسناته (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي بتضييع ما منحت من الاستعداد لأن تربح في تجارة الكمال ، بفطرة الإيمان وصالح الأعمال ، ولله در القائل :

إذا كان رأس المال عمرك ، فاحترس

عليه من الإنفاق في غير واجب

(فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) أي تحرقها. وتخصيص الوجوه لأنها أشرف الأعضاء. فبيان حالها أزجر عن المعاصي المؤدية إلى النار (وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) أي مشوهون ، قبيحو المنظر. ويقال لهم تعنيفا وتوبيخا :

٣٠٣

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) (١٠٦)

(أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا) أي ملكتنا (شِقْوَتُنا) أي التي اقترفناها بسوء اختيارنا (وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) أي عن الحق ، ولذلك فعلنا ما فعلنا من التكذيب ، قال أبو السعود : وهذا ، كما ترى ، اعتراف منهم ، بأن ما أصابهم قد أصابهم بسوء صنيعهم ، وأما ما قيل من أنه اعتذار منهم بغلبة ما كتب عليهم من الشقاوة الأزلية ، فمع أنه باطل في نفسه ، لما أنه لا يكتب عليهم من السعادة والشقاوة إلا ما علم الله تعالى أنهم يفعلونه باختيارهم ، ضرورة أن العلم تابع للمعلوم ـ يردّه قوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ(١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) (١١٠)

(رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) أي أخرجنا من النار ، وارجعنا إلى الدنيا. فإن عدنا بعد ذلك إلى ما كنا عليه من الكفر والمعاصي ، فإنا متجاوزون الحدّ في الظلم. ولو كان اعتقادهم أنهم مجبورون على ما صدر عنهم ، لما سألوا الرجعة إلى الدنيا ، ولما وعدوا الإيمان والطاعة (قالَ اخْسَؤُا فِيها) أي ذلوا فيها كخسء الكلاب (وَلا تُكَلِّمُونِ) أي في رفع العذاب ، فإنه لا يرفع ولا يخفف. ثم أشار إلى علة ذلك بقوله تعالى (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي) وهم المؤمنون (يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ) أي بتشاغلكم بهم على تلك الصفة (ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ).

ثم أشار تعالى لبيان حسن حالهم ، وأنهم انتفعوا بما آذوهم ، بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١١٤)

٣٠٤

(إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ قالَ) أي الله أو الملك المأمور بسؤالهم (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً ، لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي شيئا ما. أو لو كنتم من أهل العلم. والجواب محذوف ، ثقة بدلالة ما سبق عليه. أي لعلمتم يومئذ قلة لبثكم فيها ، كما علمتم اليوم ولعملتم بموجبه ولم تخلدوا إليها.

قال الرازيّ : الغرض من هذا السؤال التبكيت والتوبيخ ، فقد كانوا ينكرون اللبث في الآخرة أصلا ، ولا يعدون اللبث إلا في دار الدنيا. ويظنون أن بعد الموت يدوم الفناء ، ولا إعادة. فلما حصلوا في النار وأيقنوا أنها دائمة وهم فيها مخلدون ، سألهم : كم لبثتم في الأرض؟ تنبيها لهم على أن ما ظنوه دائما طويلا ، فهو يسير ، بالإضافة إلى ما أنكروه. فحينئذ تحصل لهم الحسرة على ما كانوا يعتقدونه في الدنيا. من حيث أيقنوا خلافه. فليس الغرض مجرد السؤال ، بل ما ذكر.

قال الزمخشريّ : استقصروا مدة لبثهم في الدنيا ، بالإضافة إلى خلودهم ، ولما هم فيه من عذابها. لأن الممتحن يستطيل أيام محنته ، ويستقصر ما مر عليه من أيام الدعة إليها. أو لأنهم كانوا في سرور. وأيام السرور قصار ، أو لأن المنقضي في حكم ما لم يكن ، وصدّقهم الله في تقالّهم لسني لبثهم في الدنيا ، ووبخهم على غفلتهم التي كانوا عليها. وقرئ (فسل العادين) والمعنى : لا نعرف من عدد تلك السنين ، إلا أنا نستقله ونحسبه يوما أو بعض يوم. لما نحن فيه من العذاب ، وما فينا أن نعدها ، فسل من فيه أن يعدّ ، ويقدر أن يلقى إليه فكره. وقيل : فسل الملائكة الذين يعدون أعمار العباد ويحصون أعمالهم. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) (١١٨)

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) أي بغير حكمة ، حتى أنكرتم البعث (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) أي للجزاء (فَتَعالَى اللهُ) أي تعاظم عما تصفون ، لأنه (الْمَلِكُ الْحَقُ) أي المتصرف وحده ، الذي قصد بالخلق معرفته وعبادته. والذي لا يترك الجزاء بل يحق الحق (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) أي العظيم المجيد. وقرئ

٣٠٥

بالرفع (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) قال ابن جرير : أي : ومن يدع مع المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له ، معبودا آخر لا حجة لما بما يقول ولا بينة. فإنما حساب عمله السيّئ عند ربه. وهو موفيه جزاءه إذا قدم عليه. فإنه لا ينجح أهل الكفر بالله ، عنده ، ولا يدركون الخلود والبقاء في النعيم ، قال الزمخشريّ : وقوله (لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) كقوله : (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) [آل عمران : ١٥١] ، وهي صفة لازمة ، نحو قوله (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] ، جيء بها للتوكيد ، لا أن يكون في الآلهة ما يجوز أن يقوم عليه برهان. ويجوز أن يكون اعتراضا بين الشرط والجزاء. كقولك (من أحسن إلى زيد ـ لا أحق بالإحسان منه ـ فالله مثيبه).

قال في (الانتصاف) : إن كان صفة ، فالمقصود بها التهكم بمدعي إله مع الله ، كقوله (بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) [آل عمران : ١٥١] ، فنفى إنزال السلطان به ، وإن لم يكن في نفس الأمر سلطان ، لا منزل ولا غير منزل.

وقال الرازيّ : نبه تعالى بالآية ، على أن كل ما لا برهان فيه ، لا يجوز إثباته ، وذلك يوجب صحة النظر وفساد التقليد. انتهى.

ثم أمر تعالى نبيّه بالابتهال إليه واستغفاره والثناء عليه ، بقوله (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) أي خير من رحم ذا ذنب ، فقبل توبته.

٣٠٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة النور

سميت به لاشتمالها على ما أمكن من بيان النور الإلهيّ ، بالتمثيل المفيد كمال المعرفة الممكنة لنوع الإنسان ، مع مقدماتها ، وهي أعظم مقاصد القرآن ـ قاله المهايميّ ، وهي مدنية. وقال القرطبيّ : إن آية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ) [النور : ٥٨] ، إلخ مكية وهي أربع وستون آية.

٣٠٧

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (١)

(سُورَةٌ أَنْزَلْناها) خبر محذوف. أي هذه السورة. والتنكير للتفخيم (وَفَرَضْناها) أي أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجابا قطعيّا (وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي تتذكرونها فتعملون بموجبها. قال الإمام ابن تيمية رحمه‌الله ، في تفسير هذه الآيات : هذه السورة فرضها تعالى بالبينات والتقدير والحدود ، التي من يتعد حلالها إلى الحرام فقد ظلم نفسه. ومن قرب من حرامها فقد اعتدى وتعدى الحدود. وبيّن فيها فرض العقوبة وآية الجلد وفريضة الشهادة على الزنى وفريضة شهادة المتلاعنين. كل منهما يشهد أربع شهادات بالله. ونهى فيها عن تعدي حدود الله في الفروج والأعراض والعورات وطاعة ذي السلطان. سواء كان في منزله أو ولايته. ولا يخرج ولا يدخل إلا بإذنه. إذ الحقوق نوعان : نوع لله فلا يتعدى حدوده ، ونوع للعبادة فيه أمر فلا يفعل إلا بإذن المالك ، فليس لأحد أن يفعل شيئا في حق غيره إلا بإذن الله. وإن لم يأذن المالك فإذن الله هو الأصل ، وإذن المالك حيث أذن الله وجعل له الإذن فيه. ولهذا ضمنها الاستئذان في المساكن والمطاعم وفي الأمور الجامعة. كالصلاة والجهاد ونحوهما. ووسطها بذكر النور الذي هو مادة كل خير وصلاح كل شيء. وهو ينشأ عن امتثال أمر الله واجتناب نهيه ، وعن الصبر على ذلك ، فإنه ضياء. فإن حفظ الحدود بتقوى الله ، يجعل لصاحبه نورا. كما قال تعالى : (اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ...) [الحديد : ٢٨] الآية. فضدّ النور الظلمة ، ولهذا عقب ذكر النور وأعمال لمؤمنين بأعمال الكفار. وأهل البدع والضلال. فقال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ) [النور : ٣٩] الآية ، إلى قوله : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ ...) [النور : ٤٠] الآية ، وكذلك الظلم ظلمات يوم القيامة. وظلم العبد نفسه من الظلم. فإن للسيئة ظلمة في القلب ، وسوادا في الوجه ، ووهنا في البدن ، ونقصا

٣٠٨

في الرزق ، وبغضا في قلوب الخلق. كما روي ذلك عن ابن عباس ، يوضحه أن الله ضرب مثل إيمان المؤمنين بالنور ، وأعمال الكفار بالظلمة. والإيمان اسم جامع لكل ما يحبه الله. والكفر اسم جامع لكل ما يبغضه ، وإن كان لا يكفر العبد إذا كان معه أصل الإيمان وبعض فروع الكفر من المعاصي. كما لا يصير مؤمنا إذا كان معه بعض فروع الإيمان. ولغضّ البصر اختصاص بالنور كما في حديث أبي هريرة الذي صححه الترمذيّ (١) : أن العبد إذا أذنب .. الحديث. وفيه : فذلك الرّان الذي ذكر الله. وفي الصحيح (٢) : إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة. والغين حجاب رقيق أرقّ من الغيم ، فأخبر أنه يستغفر ليزيل الغين ، فلا يكون نكتة سوداء. كما أنها إذا أزيلت لا تصير رينا. وقال حذيفة : إن الإيمان يبدو في القلب لمظة بيضاء. فكلما ازداد العبد إيمانا ، ازداد قلبه بياضا ، وفي خطبة الإمام أحمد ، في الرد على الزنادقة : الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل ، بقايا من أهل العلم ، يدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى. يحيون بكتاب الله الموتى ، ويبصّرون بنور الله أهل العمى .. إلخ. وقد قرن الله سبحانه بين الهدى والضلال بما يشبه هذا. كقوله تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ) [فاطر : ١٩ ـ ٢٠] ، وقال : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) [هود : ٢٤] ، وقال : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) [البقرة : ١٧] الآيات ، وهذا النور الذي يكون للمؤمن في الدنيا على حسن عمله واعتقاده ، يظهر في الآخرة ، كما قال تعالى : (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ ..) [الحديد : ١٢ ـ ١٥] الآية ، فذكر النور هنا عقيب أمره بالتوبة ، كما في سورة النور عقيب أمره بغض البصر والتوبة. وذكر ذلك بعد أمره بحقوق الأهلين والأزواج وما يتعلق بالنساء. وقال في سورة الحديد (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) إلى قوله : (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [الحديد : ١٢ ـ ١٥] ، فأخبر سبحانه أن المنافقين يفقدون النور الذي كان المؤمنون يمشون به ، ويطلبون الاقتباس من نورهم ، فيحجبون عن ذلك بحجاب يضرب بينهم. كما أنهم في الدنيا لما فقدوا النور (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) [البقرة : ١٧] الآية.

وقوله تعالى :

__________________

(١) أخرجه الترمذي في : التفسير ، ٨٣ ـ سورة المطففين ، حدثنا قتيبة ، حدثنا الليث.

(٢) أخرجه مسلم في : الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ، حديث ٤١.

٣٠٩

القول في تأويل قوله تعالى :

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢)

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) شروع في تفصيل ما ذكر من الآيات البينات وبيان أحكامها. أي كل من زنى من الرجال والنساء ، فأقيموا عليه هذا الحد. وهو أن يجلد ، أي يضرب على جلده مائة جلدة ، عقوبة لما صنع (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) أي رقة ورحمة في طاعته فيما أمركم به ، من إقامة الحد عليهما ، على ما ألزمكم به (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي تصدقون بالله ربكم وباليوم الآخر ، وأنكم مبعوثون لحشر القيامة وللثواب والعقاب. فإن من كان بذلك مصدقا ، فإنه لا يخالف الله في أمره ونهيه ، خوف عقابه على معاصيه (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي وليحضر جلدهما طائفة من أهل الإيمان بالله ورسوله ، قال ابن جرير : العرب تسمي الواحد فما زاد طائفة.

قال ابن تيمية عليه الرحمة : فأمر تعالى بعقوبتهما بحضور طائفة من المؤمنين. وذلك بشهادته على نفسه أو شهادة المؤمنين عليه. لأن المعصية إذا ظهرت كانت عقوبتها ظاهرة. كما في الأثر : (من أذنب سرا فليتب سرا. ومن أذنب علانية فليتب علانية) وليس من الستر الذي يحبه الله ، كما في الحديث (إن الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها. فإذا أعلنت ولم تنكر ، ضرت العامة) فإذا أعلنت أعلنت عقوبتها بحسب العدل الممكن. ولهذا لم يكن للمعلن بالبدع والفجور غيبة. كما روي عن الحسن وغيره ، لأنه لما أعلن استحق العقوبة. وأدناها أن يذم عليها لينزجر ويكف الناس عنه وعن مخالطته. ولو لم يذكر إلا بما فيه لاغتر به الناس. فإذا ذكر انكف وانكف غيره عن ذلك وعن صحبته. قال الحسن : أترغبون عن ذكر الفاجر؟ اذكروا بما فيه كي يحذره الناس. و (الفجور) اسم جامع لكل متجاهر بمعصية أو كلام قبيح ، يدل السامع له على فجور قلب قائله. ولهذا استحق الهجرة ، إذا أعلن ببدعة أو معصية ، أو فجور أو تهتك أو مخالطة لمن هذا حاله. بهذا لا يبالي بطعن الناس عليه. فإن هجره نوع تعزير له. فإذا أعلن السيئات ، أعلن هجره ، وإذا أسر أسرّ هجره ، إذ الهجرة هي الهجرة على السيئات وهجرة السيئات ، كقوله (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) [المدثر : ٥] ، وقوله : (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) [المزمل : ١٠] ، وقوله : (فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ، إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) [النساء :

٣١٠

٤٠] ، وقد روي عن عمر ؛ أن ابنه عبد الرحمن لما شرب الخمر بمصر وذهب به أخوه إلى أميرها عمرو بن العاص ليحده ، جلده سرا ، فبعث إليه عمر ينكر عليه. ولم يعتدّ بذلك حتى أرسل إلى ابنه ، فأقدمه المدينة وجلده علانية ، وعاش ابنه مدة ثم مرض ثم مات ولم يمت من الجلد ، ولا ضربه بعد الموت ، كما يزعمه الكذابون.

وقوله تعالى : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) نهى تعالى عما يأمر به الشيطان في العقوبات عموما وفي الفواحش خصوصا. فإن هذا الباب مبناه على المحبة والشهوة ، والرأفة التي يزينها الشيطان بانعطاف القلوب على أهل الفواحش ، حتى يدخل كثير من الناس بسبب هذه الآفة في الدياثة ، إذا رأى من يهوى بعض المتصلين به ، أو يعاشره عشرة منكرة ولو كان ولده ، رقّ به وظن أن هذا من رحمة الخلق. وإنما ذلك دياثة ومهانة وعدم دين وإعانة على الإثم والعدوان. وترك للتناهي عن المنكر. وتدخل النفس به في القيادة التي هي أعظم من الدياثة كما دخلت عجوز السوء مع قومها ، في استحسان ما كانوا يتعاطونه من إتيان الذكران والمعاونة لهم على ذلك ، وكانت في الظاهر مسلمة على دين زوجها لوط ، وفي الباطن منافقة على دين قومها. لا تقلي عملهم كما قلاه لوط. وكما فعل النسوة بيوسف. فإنهن أعنّ امرأة العزيز على ما دعته إلى من فعل الفاحشة معها ولهذا قال (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) [يوسف : ٣٣] ، وذلك بعد قولهن (إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ولا ريب أن محبة الفواحش مرض في القلب. فإن الشهوة توجب السكر كما قال تعالى : (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الحجر : ٧٢] ، وفي الصحيحين (١) ومن حديث أبي هريرة (العينان تزنيان) إلخ فكثير من الناس يكون مقصوده بعض هذه الأنواع كالنظر والاستمتاع والمخاطبة. ومنهم من يرتقي إلى المس والمباشرة. ومنهم من يقبل وينظر. وكل ذلك حرام. وقد نهانا الله سبحانه أن تأخذنا بالزناة رأفة ، بل نقيم عليهم الحد ، فكيف بما دونه من هجر؟ ونهي وتوبيخ وغير ذلك؟ بل ينبغي شنآن الفاسقين وقلاهم على ما يتمتع به الإنسان من أنواع الزنى المذكورة في الحديث. والمحب ، وإن كان يحب النظر والاستمتاع بصورة المحبوب وكلامه ، فليس دواؤه في ذلك ، لأنه مريض. والمريض إذا اشتهى ما يضره أو جزع من تناول الدواء الكريه ، فأخذتنا به رأفة ، فقد أعناه على ما يهلكه ويضره وقال تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت : ٤٥] ، أي فيها الشفاء والبرء

__________________

(١) أخرجه أبو هريرة في : الاستئذان ، ١٢ ـ باب زنى الجوارح دون الفرج ، حديث ٢٣٧٢.

٣١١

من ذلك. بل الرأفة به أن يعان على شرب الدواء وإن كان كريها ، مثل الصلاة وما فيها من الأذكار والدعوات وأن يحمى عما يزيد علته. ولا يظن أنه إذا استمتع بمحرم يسكن بلاؤه. بل ذلك يوجب له زيادة في البلاء. فإنه وإن سكن ما به عقيب استمتاعه ، أعقبه ذلك مرضا عظيما لا يتخلص منه ، بل الواجب دفع أعظم الضررين باحتمال أدناهما قبل استحكام الداء. ومن المعلوم أن ألم العلاج النافع أيسر من ألم المرض الباقي. وبهذا يتبين أن العقوبات الشرعية أدوية نافعة. وهي من رأفة الله بعباده ، الداخلة في قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] ، فمن ترك هذه الرحمة النافعة ، لرأفة بالمريض ، فهو الذي أعان على عذابه ، وإن كان لا يريد إلا الخير ، إذ هو في ذلك جاهل أحمق ، كما يفعله بعض النساء بمرضاهن وبمن يربينهن من أولادهن في ترك تأديبهم على ما يأتونه من الشر ويتركونه من الخير. ومن الناس من تأخذه الرأفة بهم لمشاركته لهم في ذلك المرض وبرودة القلب والدياثة. وهو في ذلك من أظلم الناس وأديثهم في حق نفسه ونظرائه. وهو بمنزلة جماعة مرضى قد وصف لهم الطبيب ما ينفعهم ، فوجد كبيرهم مرارته ، فترك شربه. ونهى عن سقيه للباقين. ومنهم من تأخذه الرأفة لكون أحد الزانيين محبوبا له. إما لقرابة أو مودة أو إحسان ، أو لما يرجوه منه ، أو لما في العذاب من الألم الذي يوجب رقة القلب. ويتأوّل (١) (إنّما يرحم الله من عباده الرّحماء) وليس كما قال. بل ذلك وضع الشيء في غير موضعه. بل قد ورد (٢)(لا يدخل الجنة ديوث) فمن لم يكن مبغضا للفواحش كارها لها ولأهلها ، ولا يغضب عند رؤيتها وسماعها ، لم يكن مريدا للعقوبة عليها. فيبقى العذاب عليها يوجب ألم قلبه ، قال تعالى : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) الآية. في دين الله هو طاعته وطاعة رسوله. المبنيّ على محبته ومحبة رسوله ، وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. فإن الرأفة والرحمة يحبهما الله ما لم تكن مضيعة لدين الله. فالرحمة مأمور بها بخلاف الرأفة في دين الله. والشيطان يريد من الإنسان الإسراف في أموره كلها. فإنه إن رآه مائلا إلى الرحمة ، زيّن له الرحمة حتى لا يبغض ما أبغضه الله ، ولا يغار ،. وإن رآه مائلا إلى الشدة ، زيّن له الشدة في غير ذات الله ، فيزيد في الذم والبغض والعقاب على ما

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الجنائز ، ٣٣ ـ باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه» ، حديث رقم ٦٨٢ ، عن أسامة بن زيد.

(٢) أخرجه النسائي في : الزكاة ، ٦٩ ـ باب المنان بما أعطى ، عن ابن عمر ، ونصه : ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه ، والمرأة المترجلة ، والديوث .. إلخ.

٣١٢

يحبه. ويترك من اللين والصلة والإحسان والبر ما يأمر الله به. فالأول مذنب والثاني مسرف. وفليقولا جميعا (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا) [آل عمران : ١٤٧] ، الآية. وقوله (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فالمؤمن بذلك يفعل ما يحبه الله ، وينهى عما يبغضه الله. ومن لم يؤمن بالله واليوم الآخر فإنه يتبع هواه. ، فتارة تغلب عليه الشدة (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) [القصص : ٥٠] ، والنظر والمباشرة ، وإن كان بعضه من اللمم ، فإن دوام ذلك وما يتصل به ، من المعاشرة والمباشرة قد تكون أعظم بكثير من فساد زنى لا إصرار فيه. بل قد ينتهي النظر والمباشرة بالرجل إلى الشرك. كما قال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) [البقرة : ١٦٥] الآية. ولهذا لا يكون عشق الصور إلا من ضعف محبة الله وضعف الإيمان. والله تعالى إنما ذكره عن امرأة العزيز المشركة وعن قوم لوط. وقد جمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحدود فيما رواه أبو داود من حديث ابن عمر (١)(من حالت شفاعته دون حد من حدود الله ، فقد ضادّ الله في أمره. ومن خاصم في باطل ، وهو يعلم ، لم يزل في سخط لله حتى ينزع ومن قال في مسلم ما ليس فيه ، حبس في ردعة الخبال حتى يخرج مما قال). فالشافع في الحدود مضادّ لله في أمره. فلا يجوز أن يأخذ المؤمن رأفة بأهل البدع والفجور والمعاصي ، وجماع ذلك كله قوله : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) [المائدة : ٥٤] ، وقوله : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح : ٢٩] ، فإن هذه الكبائر كلها من شعب الكفر كما في الصحاح (٢)(لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) إلخ. ففيهم من نقص الإيمان ما يوجب زوال الرأفة بهم. ولا منافاة بين كون الواحد يحب من وجه ويبغض من وجه ، ويثاب من وجه ويعاقب من وجه. خلافا للخوارج والمعتزلة. ولهذا جاء في السنة أن من أقيم عليه الحد ، يرحم من وجه آخر ، فيحسن إليه ويدعى له. وهذا الجانب أغلب في الشريعة ، كما في صفة الرب سبحانه وتعالى. ففي الصحيح (٣)(إن رحمتي تغلب غضبي) وقال : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ

__________________

(١) أخرجه أبو داود في : ٢٣ ـ الأقضية ، ١٤ ـ باب فيمن يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها ، حديث رقم ٣٥٩٧.

(٢) أخرجه البخاري في : المظالم والغصب ، ٣٠ ـ باب النهي بغير إذن صاحبه ، حديث رقم ١٢٢٠ ، عن أبي هريرة.

(٣) أخرجه البخاري في : التوحيد ، ٥٥ ـ باب قول الله تعالى : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) ، حديث ١٥٠٩ ، عن أبي هريرة.

٣١٣

وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) [الحجر : ٤٩ ـ ٥٠] ، وقال : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة : ٩٨] ، فجعل الرحمة صفة مذكورة في أسمائه. وأما العذاب والعقاب فجعلهما من مفعولاته. ومن هذا ما أمر الله تعالى به من الغلظة على الكفار والمنافقين. وقال تعالى : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ) [النساء : ١٥] الآية ، وفي الحديث (١) بيان السبيل الذي جعله الله لهن وهو جلد مائة وتغريب عام في البكر ، وفي الثيب الرجم لكن الذي في الحديث الجلد والنفي للبكر من الرجال وأما الآية ففيها ذكر الإمساك في البيوت للنساء إلى الموت ، والسبيل للنساء خاصة. ومن الفقهاء من لا يوجب مع الحد تغريبا ، ومنهم من يفرق بين الرجل والمرأة. كما أن أكثرهم لا يوجبون الجلد مع الرجم. ومنهم من يوجبهما جميعا. كما (٢) فعل بشراحة الهمدانية ، حيث جلدها ثم رجمها. وقال : جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة نبيّه. رواه البخاريّ. والله سبحانه ذكر في سورة النساء ما يختص بهن من العقوبة. ثم ذكر ما يعم الصنفين فقال : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما ، فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما ، إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً) [النساء : ١٦] ، فإن الأذى يتناول الصنفين. وأما الإمساك فيختص بالنساء ، لأن المرأة يجب أن تصان بما لا يجب مثله في الرجل ولهذا خصت بالاحتجاب وترك الزينة وترك التبرج ، لأن ظهورها يسبب الفتنة ، والرجال قوامون عليهن ، وقوله : (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) [النساء : ١٥] ، دل على شيئين : على نصاب الشهادة وعلى أن الشهداء على نسائنا منا. وهذا لا نزاع فيه. وأما شهادة الكفار بعضهم على بعض ففيها روايتان عن أحمد. الثانية أنها تقبل. اختارها أبو الخطاب. وهو قول أبي حنيفة. وهو أشبه بالكتاب والسنة. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لا تجوز شهادة أهل ملة على ملة ، إلا أمتي) فمفهومه جواز شهادة أهل الملة الواحدة بعضهم على بعض. ولكن فيه : أن المؤمنين تقبل شهادتهم على من سواهم ، لقوله تعالى : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة : ١٤٣] ، وفي آخر الحج مثلها وفي البخاري (٣) من حديث أبي سعيد (يدعى نوح) الحديث. وكذلك فيهما (٤) من حديث أنس ، شهادتهم على

__________________

(١) أخرجه مسلم في : الحدود ، حديث ١٢.

(٢) أخرجه البخاري في : الحدود ، ٢١ ـ باب رجم المحصن ، حديث رقم ٢٥١٣.

(٣) أخرجه البخاري في : الأنبياء ، ٣ ـ باب قول الله عزوجل : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) حديث رقم ١٥٧٨.

(٤) أخرجه البخاري في : الجنائز ، ٨٦ ـ باب ثناء الناس على الميت ، حديث رقم ٧٢٣.

وأخرجه مسلم في : الجنائز ، حديث ٦٠.

٣١٤

الجنازتين خيرا وشرا ، فقال (أنتم شهداء الله في أرضه) الحديث. ولهذا ، لما كان أهل السنة والجماعة لم يشوبوا الإسلام بغيره ، كانت شهادتهم مقبولة على سائر فرق الأمة ، بخلاف أهل البدع والأهواء ، كالخوارج والروافض ، فإن بينهم من العداوة والظلم ما يخرجهم عن هذه الحقية التي جعلها الله لأهل السنة ، قال فيهم (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) واستدل من جوّز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض بهذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) [المائدة : ١٠٦] الآية ، قالوا : دلت على قبول شهادتهم على المسلمين. ففيه تنبيه على قبول شهادة بعضهم على بعض بطريق الأولى. ثم نسخ الظاهر لا يوجب نسخ الفحوى ، والتنبيه على الأقوى. كما نص عليه أحمد وغيره من أئمة الحديث الموافقين للسلف. ولهذا يجوز في الشهادة للضرورة ما لا يجوز في غيرها. كما تقبل شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال. حتى نص أحمد على قبول شهادتين في الحدود التي تكون في مجامعهن الخاصة. فالكفار الذي لا يختلط بهم المسلمون أولى ، والله أمرنا أن نحكم بينهم ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) رجم الزانيين من اليهود ، ومن غير سماع إقرار منهم ولا شهادة مسلم. ولو لا قبول شهادة بعضهم على بعض لم يجز ذلك. وفي تولي بعضهم مال بعض ، نزاع ، فهل يتولى الكافر العدل في دينه ، مال ولده الكافر؟ على قولين والصواب المقطوع به أن بعضهم أولى ببعض وقد مضت السنة بذلك وسنة خلفائه. وقوله تعالى : (فَآذُوهُما) أمر. بالأذى مطلقا ، ولم يذكر صفته ولا قدره. ولفظ (الأذى) يستعمل في الأقوال كثيرا. كقوله (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) [آل عمران : ١١١] ، والإعراض هو الإمساك عن الإيذاء. فالمذنب لا يزال يؤذي وينهى ويوبخ إلا أن يتوب. وأدنى ذلك هجره. فلا يكلم بالكلام الطيب. وهذه محكمة فمن أتى الفاحشة وجب إيذاؤه بالكلام الزاجر إلى أن يتوب. وليس ذلك محدودا بقدر ولا صفة. إلا ما يكون زاجرا له داعيا إلى حصول المقصود ، وهو توبته وصلاحه. وعلّقه تعالى على التوبة والإصلاح ، فإذا لم يوجدا ، فلا يجوز أن يكون الأمر بالإعراض موجودا. فأما من تاب بترك الفاحشة ولم يصلح ، فتنازعوا : هل من شرط التوبة صلاح العمل؟ على قولين. وهذه تشبه قوله (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) [التوبة : ٥] ، فعلق تخلية سبيلهم على التوبة والعمل الصالح. مع أنهم إذا تكلموا بالشهادتين وجب الكفّ

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الحدود ، ٢٤ ـ باب الرجم في البلاط ، حديث رقم ٧٠٤ ، عن ابن عمر.

٣١٥

عنهم. ثم إن صلوا وزكوا ، وإلا عوقبوا على ترك الفعل. لأن الشارع في التوبة شرع الكف عن أذاه. ويكون الأمر فيه موقوفا على التمام. وكذلك التائب من الفاحشة. وهذه الآية مما يستدل به على التعزير بالأذى. والأذى ، وإن كان كثيرا يستعمل في الكلام ، فليس مختصّا به. كقوله لمن بصق في القبلة (١) (إنك قد آذيت الله ورسوله) وكذا قوله في حق فاطمة (٢)(ويؤذيني ما آذاها) وقوله (٣) لمن أكل البصل (إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم) وهل يكون من توبته اعترافه بالذنب؟ فإذا ثبت الذنب بإقراره فجحد وكذب الشهود أو ثبت بشهادة شهود. فيه نزاع. فذكر أحمد أنه لا توبة لمن جحد. واستدل بقصة عليّ بن أبي طالب : أنه أتى بجماعة ممن شهد عليهم بالزندقة ، فاعترف منهم ناس فتابوا. فقبل توبتهم. وجحد جماعة فقتلهم. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعائشة (٤)(فإن العبد إذا اعترف ثم تاب ، تاب الله عليه) فمن أذنب سرا فليتب سرا ، كما في الحديث (٥)(ومن ابتلي بشيء من هذه القاذروات فليستتر) إلخ ، وفي الصحيح (٦)(كل أمتي معافى إلا المجاهرون) الحديث. فإذا ظهر من العبد الذنب فلا بد من ظهور التوبة. ومع الجحود لا تظهر التوبة. فإن الجاحد يزعم أنه غير مذنب. ولهذا كان السلف يستعملون ذلك فيمن أظهر بدعة أو فجورا ، فإن هذا أظهر حال الضالين ، وهذا أظهر حال المغضوب عليهم. ومن أذاه منعه ، مع القدرة ، من الإمامة والحكم والفتيا والرواية والشهادة. وأما بدون القدرة ، فليفعل المقدور عليه. ولم يعلق الأذية على استشهاد أربعة ، وليس هذا من حمل المطلق على المقيد. لأن ذلك لا بد أن يكون فيه الحكم واحدا ، مثل الإعتاق. فإذا كان متفقا في الجنس دون النوع كإطلاق الأيدي في التيمم ، وتقييدها إلى المرافق في الوضوء ، فلا يحمل. ولم يحمل الصحابة والتابعون المطلق على المقيد في قوله تعالى : (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ

__________________

(١) أخرجه أبو داود في : الصلاة ، ٢٢ ـ باب في كراهية البزاق في المسجد ، حديث رقم ٤٨١ عن أبي سهلة الشائب بن خلاد.

(٢) أخرجه البخاري في : النكاح ، ١٠٩ ـ باب ذب الرجل عن ابنته في الغيرة والإنصاف ، حديث رقم ٥٣٨ عن المسور بن مخرمة.

(٣) أخرجه مسلم في : المساجد ، حديث رقم ٧٤.

(٤) أخرجه البخاري في : المغازي ، ٣٤ ـ باب حديث الإفك ، حديث ١٢٦٦ ، عن عائشة.

(٥) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في : الحدود ، رقم ١٢ ، عن زيد بن أسلم.

(٦) أخرجه البخاري في ، الأدب ، ٦٠ ـ باب ستر المؤمن على نفسه ، حديث قم ٢٣٣٥ ، عن أبي هريرة.

٣١٦

نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) [النساء : ٢٣] ، وقوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) [النساء : ٢٢] ، قالوا : الشرط في الربائب خاصة. قالوا : أبهموا ما أبهم الله. والمبهم هو المطلق. والمشروط فيه هو المقيد. لكن تنازعوا : هل الموت كالدخول؟ على قولين. وذلك لأن الحكم مختلف ، والقيد ليس متساويا في الأعيان. فإن تحريم جنس ، ليس مثل تحريم جنس يخالفه. كما أن تحريم الدم والميتة ولحم الخنزير ، لما كان أجناسا ، فليس تقييد الدم بالمسفوح موجبا تقييد الميتة والخنزير أن يكون مسفوحا. وهنا القيد قيد الربيبة بدخول أمها. والدخول بالأم لا يوجد مثله في حليلة الأب وأم المرأة. إذ بالدخول في الحليلة ، بها نفسها. وفي أم المرأة ببنتها. وكذلك المسلمون لم يحملوا المطلق على المقيد في نصاب الشهادة. بل لما ذكر الله في آية الدّين (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) [البقرة : ٢٨٢] ، وفي الرجعة (رَجُلَيْنِ) [الطلاق : ٢] ، أقروا كلا منهما على حاله. لأن سبب الحكم مختلف وهو المال والبضع. كما أن إقامة الحد في الفاحشة والقذف بها اعتبر فيه أربعة ، فلا يقاس بذلك عقود الأثمان والأبضاع ، وذكر في حد القذف ثلاثة أحكام : جلد ثمانين ، وترك قبول شهادتهم أبدا ، (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ، إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) [النور : ٤ ـ ٥] الآية. والتوبة لا ترفع الجلد إذا طلبه المقذوف ، وترفع الفسق بلا تردد. والأكثر قالوا : ترفع المنع من قبول الشهادة. وإذا اشتهر عن شخص الفاحشة لم يرجم ، كما في الصحيح (١)(إن جاءت به يشبه الزوج فقد كذب عليها وإن جاءت به يشبه الرجل الذي رماها به ، فقد صدق عليها) فجاءت به على النعت المكروه. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لو لا الأيمان لكان لي ولها شأن) فقيل لابن عباس : هذه التي قال فيها (لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمتها) فقال : لا. تلك امرأة كانت تعلن السوء في الإسلام فقد أخبر أنه لا يرجم أحدا إلا ببينة ، ولو ظهر على الشخص السوء. ودل الحديث على أن الشبه له تأثير في ذلك ، ولم تكن بينة. وكذلك ثبت عنه في الجنازة لما أثنوا عليها شرّا ، والأخرى خيرا. فقال (أنتم شهداء الله في أرضه) وفي المسند عنه (٢) أنه قال (يوشك أن تعلموا أهل الجنّة من أهل النّار) قالوا يا رسول الله! وبم ذاك؟ قال بالثناء الحسن وبالثناء السيّئ فقد جعل الاستفاضة حجة وبينة في هذه الأحكام. ولم يجعلها حجة في الرجم. وكذلك تقبل شهادة أهل الكتاب على المسلمين في

__________________

(١) أخرجه البخاري في : التفسير ، ٢٤ ـ سورة النور ، ٣ ـ باب ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، حديث رقم ١٢٩٦ ، عن ابن عباس.

(٢) أخرجه في المسند بالصفحة رقم ٣ / ٤١٦.

٣١٧

الوصية في السفر. وكذلك تقبل شهادة الصبيان في الجراح إذا أدّوها قبل التفرق ، في إحدى الروايتين. وإذا شهد شاهد أنه رأى الرجل والمرأة أو الصبي في لحاف ، أو بيت مرحاض ، أو محلولي السراويل ، ويوجد مع ذلك ما يدل على ذلك ، من وجود اللحاف فقد خرج عن العادة إلى مكانهما أو يكون مع أحدهما أو معهما ضوء قد أظهره ، فرآه فأطفأه فإن إطفاءه دليل على استخفائه بما يفعل. فإن لم يكن ما يستخفي به إلا ما شهد به الشاهد ، كان ذلك من أعظم البيان على ما شهد به فهذا باب عظيم النفع في الدين. وهو مما جاءت الشريعة التي أهملها كثير من القضاة والمتفقهة ، زاعمين أنه لا يعاقب أحد إلا بشهود عاينوا ، أو إقرار مسموع. وهذا خلاف ما تواترات به السنّة وسنة الخلفاء الراشدين. وما فطرت عليه القلوب التي تعرف المعروف وتنكر المنكر. ويدل عليه قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) الآية. ففيها دلالات : إحداها أنه لم يأمر بالتبين عند مجيء كل فاسق بكل نبأ ؛ إذ من الأنباء ما ينهى فيه عن التبين. ومنه ما يباح فيه ترك التبين. ومن الأنباء ما يتضمن العقوبة لبعض الناس ، لأنه علل بخشية الإصابة ، بجهالة. فلو كان كل ما أصيب بنبإ كذلك ، لم تحصل التفرقة بين العدل والفاسق. بل هذه دلالة واحدة على أن الإصابة بنبإ كذلك لم تحصل التفرقة بين العدل والفاسق ، بل هذه دلالة واحدة على أن الإصابة بنبإ العدل الواحد لا ينهى عنه مطلقا. وذلك يدل على قبول شهادة العدل الواحد في جنس العقوبات. فإن سبب نزول الآية يدل على ذلك. فإنها نزلت بإخبار واحد. أن قوما قد حاربوا بالردة أو نقض العهد. وفيه أيضا أنه متى اقترن بخبر الفاسق دليل آخر يدل على صدقه فقد استبان الأمر وزال الأمر بالتثبت. فيجوز إصابة القوم إذا. فكيف خبر العدل مع دلالة أخرى؟ ولهذا كان أصح القولين ، أن مثل هذا لوث في القسامة فإذا انضاف أيمان المقسمين صار ذلك بينة تبيح دم المقسم عليه. وقوله (بِجَهالَةٍ) جعل المحذور هو الإصابة لقوم بلا علم. فمتى أصيبوا بعلم زال المحذور. وهذا هو المناط الذي دل عليه القرآن كما قال : (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [الزخرف : ٨٦] ، وقال : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الإسراء : ٣٦] ، وأيضا علل بخوف الندم وهو إنما يحصل على عقوبة البريء من الذنب كما في السنن (١)(ادرءوا الحدود بالشبهات. فإن الإمام ، أن

__________________

(١) أخرجه الترمذي في : الحدود ، ٢ ـ باب ما جاء في درء الحدود ، عن عائشة ونصه : «ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم» إلخ.

٣١٨

يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة) فإذا حصل عنده علم أنه لم يعاقب إلا مذنبا ، فإنه لا يندم ولا يكون فيه خطأ. وقد ذكر الشافعيّ وأحمد أن التغريب جاء في السنة في موضعين : أحدهما الزنى ، والثاني المخنّث (١) ، فيما روت أم سلمة أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل عليها وعندها مخنث وهو يقول لعبد الله أخيها : إن فتح الله لكم الطائف غدا ، أدلك على ابنة غيلان. فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أخرجوهم من بيوتكم). أخرجاه ، وفي لفظ(لا يدخل هؤلاء عليكم) وفي رواية(أرى هذا يعرف مثل هذا. لا يدخلن عليكم بعد اليوم) وقال ابن جريج : هو هيت. وقال غيره : هنب. وقيل : ماتع. وذكر بعضهم أنهم ثلاثة : نهم وهيت وماتع. ولم يكونوا يرمون بالفاحشة الكبرى. إنما كان تخنيثهم لينا في القول ، وخضابا في الأيدي والأرجل ، ولعبا كلعب النساء. وفي السنن : أنه أمر بمخنث فنفي إلى النقيع. فإذا كان الله أمر بإخراج هؤلاء من البيوت ، فمعلوم أن الذي يمكن الرجال من نفسه ، شر من هؤلاء : وهو أحق بالنفي. فإن المخنث فيه فساد للرجال والنساء. لأنه إذا تشبه بالنساء ، فقد يعاشرنه وهو رجل ، فيفسدهن. ولأنها إذا رأت الرجل يتخنث فقد تترجل وتعاشر الصنفين. وقد تختار مجامعة النساء كما يختار هو مجامعة الرجال. وأما إفساده للرجال فهو أن يمكنهم من الفعل به ، بمشاهدته وعشقه فإذا خرج إلى بلد ووجد هناك من يفعل به ، فهنا يكون نفيه بحبسه في مكان ليس معه غيره فيه. وإن خيف خروجه ، قيد ؛ إذ هذا هو معنى نفيه. ولهذا تنازع العلماء في نفي المحارب : هل هو طرده بحيث لا يأوي إلى بلد ، أو حبسه ، أو بحسب ما يراه الإمام من هذا وهذا؟ فعن أحمد ثلاث روايات : الثالثة أعدل وأحسن. فإن نفيه بحيث لا يأوي إلى بلد لا يمكن ، لتفرق الرعية واختلافهم واختلاف هممهم. وحبسه قد لا يمكن لأنه يحتاج إلى مؤونة. وروي أن هنبا لما اشتكى الجوع أمره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدخل المدينة من الجمعة إلى الجمعة يسأل ما يقيته ، والذي جاءت به الشريعة من النفي هو نوع من الهجرة وليس كنفي الثلاثة (٢) الذين خلفوا ، ولا هجرهم. فإنه لم يمنعهم من مشاهد الناس وحضور مجامعهم في الصلاة وغيرها. وذلك أن الله خلق الآدميين محتاجين إلى معاونة بعضهم بعضا. فمن كانت مخالطته تضر ، استحق

__________________

(١) أخرجه البخاري في : اللباس ، ٦٢ ـ باب إخراج المتشبهين بالنساء من البيوت ، حديث رقم ١٩٢٧.

(٢) أخرجه البخاري في : التفسير ، ٩ ـ سورة التوبة ، ١٨ ـ باب : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) ، حديث ١٣٢.

٣١٩

الإخراج من بينهم ، لأنه مضرة بلا مصلحة. فإن الصبيّ إذا رأى صبيا يفعل شيئا تشبه به. والاجتماع بالزناة واللوطية : فيه أعظم الفساد والضرر على الرجال والنساء والصبيان. فيجب أن يعقب اللوطيّ والزاني بما فيه تقريعه وإبعاده. وجماع الهجرة هي هجرة السيئات وأهلها. وكذلك هجران الدعاء إلى البدع وهجران الفساق وهجران من يخالط هؤلاء كلهم ويعاونهم. وكذلك من يترك الجهاد الذي لا مصلحة لهم بدونه فإنه يعاقب بهجرهم له ، لما لم يخالطهم في البر. فمن لم يهجر هؤلاء كان تاركا للمأمور فاعلا للمحذور. فهذا ترك المأمور من الاجتماع. وهذا فعل المحذور منه. فعوقب كل منهما بما يناسب جرمه. وما جاءت به الشريعة من المأمورات والعقوبات والكفارات وغير ذلك ، يفعل بحسب الاستطاعة. فإن لم يقدر المسلم على جهاد جميع المشركين ، جاهد من يقدر على جهاده. وإذا لم يقدر على عقوبة جميع المعتدين ، عاقب من يقدر على عقوبته. فإذا لم يكن النفي والحبس عن جميع الناس ، كان النفي والحبس على حسب القدرة. ويكون هو المأمور به ، فالقليل من الخير ، خير من تركه. ودفع بعض الشر خير من تركه كله. وكذلك المتشبهة بالرجال تحبس ، كحالها إذا زنت فإن جنس الحبس مما شرع في جنس الفاحشة. وممّا يدخل في هذا : أن عمر نفى نصر ابن حجاج من المدينة إلى البصرة ، لما شبب به النساء. وكان أولا قد أمر بأخذ شعره ليزيل جماله الفاتن ، فلما رآه من أحسن الناس وجنتين ، غمه ذلك فنفاه إلى البصرة. فهذا لم يصدر منه ذنب يعاقب عليه ، لكن كان في النساء من يفتتن به ، فأمر بإزالة جماله الفاتن. فإن انتقاله من وطنه مما يضعف همته وبدنه ويعلم أنه معاقب. وهذا من باب التفريق بين الذين يخاف عليهم الفاحشة والعشق قبل وقوعه. وليس من باب المعاقبة. وقد كان عمر ينفي في الخمر إلى خيبر ، زيادة في عقوبة شاربها. ومن أقوى ما يهيج الفاحشة. إنشاد أشعار الذين في قلوبهم مرض من العشق ومحبة الفواحش ، وإن كان القلب في عافية ، جعل فيه مرضا ، كما قال بعض السلف : الغناء رقية الزنى. ورقية الحية هي التي تستخرج بها الحية من جحرها. وقية العين والحمة ورقية الزنى. أي تدعو إليه وتخرج من الرجل الأمر الخبيث. كما أن الخمر أم الخبائث. قال ابن مسعود : الغناء ينبت النفاق في القلب ، كما ينبت الماء البقل. وقال تعالى : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) [الإسراء : ٦٤] ، واستفزازه إياهم بصوته يكون بالغناء ، كما قاله من قاله من السلف ، وبغيره من الأصوات كالنياحة وغير ذلك. فإن هذه الأصوات توجب انزعاج القلوب والنفوس الخبيثة إلى ذلك ، وتوجب حركتها

٣٢٠