تفسير القاسمي - ج ٧

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٧

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٥

والركبان. أو استئناف ، فيكون الضمير للناس (مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) أي طريق واسع بعيد (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) أي ليحصروا منافع لهم دينية ودنيوية (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) أي على ما ملكهم منها ، وذلّلها لهم ، ليجعلوها هديا وضحايا. قال الزمخشريّ : كنى عن البحر والذبح ، بذكر اسم الله. لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن ذكر اسمه إذا نحروا أو ذبحوا. وفيه تنبيه على أن الغرض الأصليّ فيما يتقرب به إلى الله أن يذكر اسمه ـ زاد الرازيّ ـ وأن يخالف المشركون في ذلك. فإنهم كانوا يذبحونها للنصب والأوثان ، قال القفال : وكأن المتقرب بها وبإراقة دمائها متصوّر بصورة من يفدي نفسه بما يعادلها. فكأنه يبذل تلك الشاة بدل مهجته ، طلبا لمرضاة الله تعالى ، واعترافا بأن تقصيره كاد يستحق مهجته. والأيام المعلومات أيام العشر. أو يوم النحر وثلاثة أيام أو يومان بعده. أو يوم عرفة والنحر ويوم بعده. أقوال للأئمة.

قال ابن كثير : ويعضد الثاني والثالث قوله تعالى (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) يعني به ذكر الله عند ذبحها. انتهى.

أقول ـ لا يبعد أن تكون (على) تعليلية ، والمعنى : ليذكروا اسم الله وحده في تلك الأيام بحمده وشكره وتسبيحه ، لأجل ما رزقهم من تلك البهم. فإنه هو الرزاق لها وحده والمتفضل عليهم بها : ولو شاء لحظرها عليهم ولجعلها أوابد متوحشة. وقد امتن عليهم بها في غير موضع من تنزيله الكريم. كقوله سبحانه : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ) [يس : ٧١ ـ ٧٢] والسر في إفراده هذه النعمة ، والتذكير بها دون غيرها من نعمه وأياديه ، أن بها حياة العرب وقوام معاشهم. إذ منها طعامهم وشرابهم ولباسهم وأثاثهم وخباؤهم وركوبهم وجمالهم. فلو لا تفضله تعالى عليهم بتذليلها لهم ، لما قامت لهم قائمة.

لأن أرضهم ليست بذات زرع ، وما هم بأهل صناعة مشهورة ، ولا جزيرتهم متحضرة متمدنة. ومن كانوا كذلك ، فيجدر بهم أن يذكروا المتفضل عليهم بما يبقيهم ، ويشكروه ويعرفوا له حقه. من عبادته وحده وتعظيم حرماته وشعائره. فالاعتبار بها من ذلك ، موجب للاستكانة لرازقها ، والخضوع له والخشية منه. نظير الآية ـ على ما ظهر لنا ـ قوله تعالى : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش : ٣ ـ ٤] ، هذا أولا. وثانيا قد يقال : إنما أفردت لتتبع بما هو البر

٢٤١

الأعظم والخير الأجزل. وهو مواساة البؤساء منها. فإن ذلك من أجلّ ما يرضيه تعالى ، ويثيب عليه. والله أعلم.

(فَكُلُوا مِنْها) أي من لحومها. والأمر للندب. وإزاحة ما كان عليه أهل الجاهلية من التحرج فيه. وقد ثبت (١) أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نحر هديه ، أمر من كل بدنة ببضعة فتطبخ ، فأكل من لحمها ، وحسا من مرقها.

وعن إبراهيم قال : كان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم. فرخص للمسلمين. فمن شاء أكل ومن شاء لم يأكل.

قال في (الإكليل) : والأمر للاستحباب حيث لم يكن الدم واجبا بإطعام الفقراء. وأباح مالك الأكل من الهدى الواجب ، إلا جزاء الصيد والأذى والنذر ، وأباحه أحمد ، إلا من جزاء الصيد والنذر. وأباح الحسن الأكل من الجميع تمسكا بعموم الآية. وذهب قوم إلى أن الأكل من الأضحية واجب ، لظاهر الأمر. وقوم إلى أن التصدق منها ندب ، وحملوا الأمر عليه. ولا تحديد فيما يؤكل أو يتصدق به ، لإطلاق الآية. انتهى.

(وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ) أي الذي أصابه بؤس أي شدة (الْفَقِيرَ) أي الذي أضعفه الإعسار ، والأمر هنا للوجوب. وقد قيل به في الأول أيضا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) (٣١)

(ثُمَ) أي بعد الذبح (لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) أي ليؤدوا إزالة وسخهم من الإحرام ، بالحق والتقصير وقصّ الأظفار ولبس الثياب (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) أي ما ينذرونه من أعمال البر في حجهم (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أي طواف الإفاضة. وهو طواف

__________________

(١) أخرجه مسلم في : الحج ، حديث ١٤٧ ، عن جابر بن عبد الله.

٢٤٢

الزيارة الذي هو من أركان الحج. ويقع به تمام التحلل. و (العتيق) القديم. لأنه أول بيت وضع للناس. أو المعتق من تسلط الجبابرة (ذلِكَ) خبر محذوف. أي الأمر ذلك. وهو وأمثاله من أسماء الإشارة ، تطلق للفصل بين الكلامين ، أو بين وجهي كلام واحد.

قال الشهاب : والمشهور في الفصل (هذا) كقوله : (هذا ، وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) [ص : ٥٥] ، واختيار (ذلك) هنا لدلالته على تعظيم الأمر وبعد منزلته. وهو من الاقتضاب القريب من التخلص ، لملائمة ما بعده لما قبله ، كما هنا (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) أي أحكامه. أو الحرم وما يتعلق بالحج من المناسك. و (الحرمات) جمع حرمة وهو ما لا يحل هتكه ، بل يحترم شرعا (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي ثوابا. و (خير) اسم تفضيل حذف متعلقة. أي من غيره ، أو ليس المراد به التفضيل فلا يحتاج لتقديره ، قاله الشهاب. والثاني هو الأظهر ، لأنه أسلوب التنزيل في مواضع لا يظهر التفاضل فيها. وإيثاره ، مع ذلك ، لرقة لفظه ، وجمعه بين الحسن والروعة (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) أي آية تحريمه. وذلك قوله في سورة المائدة (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) [المائدة : ٣] ، والمعنى : أن الله قد أحل لكم الأنعام كلها ، إلا ما استثناه في كتابه. فحافظوا على حدوده. وإياكم أن تحرموا مما أحل لكم شيئا. كتحريم عبدة الأوثان البحيرة والسائبة وغير ذلك. وأن تحلوا مما حرم الله. كإحلالهم أكل الموقوذة والميتة وغير ذلك. أفاده الزمخشري. (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) تفريع على ما سبق من تعظيم حرماته تعالى. فإن ترك الشرك واجتناب الأوثان من أعظم المحافظة على حدوده تعالى. و (من) بيانية. أي فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان ، كما تجتنب الأنجاس. وهو غاية المبالغة في النهي عن تعظيمها والتنفير عن عبادتها. قال الزمخشريّ : سمى الأوثان رجسا وكذلك الخمر والميسر والأزلام ، على طريق التشبيه. يعني أنكم ، كما تنفرون بطباعكم عن الرجس وتجتنبونه ، فعليكم أن تنفروا عن هذه الأشياء مثل تلك النفرة. ونبه على هذا المعنى بقوله (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) [المائدة : ٩٠] ، جعل العلة في اجتنابه أنه رجس ، والرجس مجتنب. وقوله تعالى : (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) تعميم بعد تخصيص. فإن عبادة الأوثان رأس الزور. كأنه لما حث على تعظيم الحرمات ، أتبعه ذلك ، ردّا لما كانت الكفرة عليه من تحريم البحائر والسوائب. وتعظيم الأوثان والافتراء على الله تعالى بأنه حكم بذلك ، وإعلاما بأن توحيد الله ونفي الشركاء عنه ، وصدق القول ، أعظم الحرمات وأسبقها خطوا (حُنَفاءَ لِلَّهِ) مخلصين له الدين ،

٢٤٣

منحرفين عن الباطل إلى الحق (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) أي شيئا من الأشياء. ثم ضرب للمشرك مثلا في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى ، فقال تعالى (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ) أي سقط منها فقطعته الطيور في الهواء (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ) أي تقدمه (فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) أي بعيد مهلك لمن هوى فيه. و (أو) للتخيير أو التنويع. قال الزمخشريّ : يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق. فإن كان تشبيها مركبا ، فكأنه قال : من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده نهاية. بأن صور حاله بصورة حال من خرّ من السماء فاختطفته الطير ، فتفرق مزعا في حواصلها. أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة. وإن كان مفرقا ، فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء ، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله ، بالساقط من السماء. والأهواء التي تتوزع أفكاره ، بالطير المختطفة. والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة ، بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة. فكتب الناصر عليه : أما على تقدير أن يكون مفرّقا فيحتاج تأويل تشبيه المشرك بالهاوي من السماء ، إلى التنبيه على أحد أمرين : إما أن يكون الإشراك المراد ردّته ، فإنه حينئذ كمن علا إلى السماء بإيمانه ثم هبط بارتداده وإما أن يكون الإشراك أصليا ، فيكون قد عدّ تمكن المشرك من الإيمان ومن العلوّ به ثم عدوله عنه اختيارا ، بمنزلة من علا إلى السماء ثم هبط كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) [البقرة : ٢٥٧] ، فعدهم مخرجين من النور وما دخلوه قط ، ولكن كانوا متمكنين منه. وفي تقريره تشبيه الأفكار المتوزعة للكافر ، بالطير المختطفة ، وفي تشبيه تطويح الشيطان بالهوي مع الريح في مكان سحيق ـ نظر. لأن الأمرين ذكرا في سياق تقسيم حال الكافر إلى قسمين. فإذا جعل الأول مثلا لاختلاف الأهواء والأفكار ، والثاني مثلا لنزغ الشيطان ، فقد جعلهما شيئا واحدا. لأن توزع الأفكار واختلاف الأهواء ، مضاف إلى نزغ الشيطان ، فلا يتحقق التقسيم المقصود. والذي يظهر في تقرير التشبيهين غير ذلك. فنقول : لما انقسمت حال الكفر إلى قسمين لا مزيد عليهما ، الأول منهما المتذبذب والمتمادي على الشك وعدم التصميم على ضلالة واحدة. فهذا القسم من المشركين مشبه بمن اختطفته الطير وتوزعته ، فلا يستولي طائر على مزعة منه إلا انتهبها منه آخر ، وذلك حال المذبذب. لا يلوح له خيال إلا اتّبعه ونزل عما كان عليه. والثاني مشرك مصمم على معتقد باطل. لو نشر بالمنشار لم يكع ولم يرجع. لا سبيل إلى تشكيكه ، ولا مطمع في نقله عما هو عليه ، فهو فرح مبتهج بضلالته.

٢٤٤

فهذا مشبه في إقراره على كفره ، باستقرار من هوت به الريح إلى واد سافل فاستقرّ فيه. ويظهر تشبيهه بالاستقرار في الوادي السحيق ، الذي هو أبعد الأحباء عن السماء ، وصف ضلاله بالبعد في قوله تعالى : (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) [إبراهيم : ٣] ، و (ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً) [النساء : ١٦٧] ، أي صمموا على ضلالهم فبعد رجوعهم إلى الحق فهذا تحقيق القسمين والله أعلم. انتهى كلامه.

ولا يخفى أن في النظم الكريم مساغا له. إلا أنه لا قاطع به. نعم ، هو من بديع الاستنباط ، ورقيق الاستخراج. فرحم الله ناسجه.

قال ابن كثير : وقد ضرب تعالى للمشركين مثلا آخر في سورة الأنعام. وهو قوله تعالى : (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا ، قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) [الأنعام : ٧١] الآية.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (٣٢)

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) أي علائم هدايته ، وهو الدين. أو معالم الحج ومناسكه. أو الهدايا خاصة ، لأنها من معالم الحج وشعائره تعالى. كما تنبئ عنه آية (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) [الحج : ٣٦] ، وهو الأوفق لما بعده. وتعظيمها أن يختارها عظام الأجرام حسانا سمانا ، غالية الأثمان. ويترك المكاس في شرائها. فقد كانوا يغالون في ثلاث ويكرهون المكاس فيهن : الهدي والأضحية والرقبة.

وعن سهل (١) : كنا نسمن الأضحية في المدينة وكان المسلمون يسمنون. رواه البخاريّ.

وعن أنس (٢) : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين. رواه البخاريّ

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الأضاحي ، ٧ ـ باب في أضحية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بكبشين أقرنين.

(٢) أخرجه البخاري في : الأضاحي ، ٧ ـ باب في أضحية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بكبشين أقرنين. حديث رقم ٢٢١١. وأخرجه مسلم في : الأضاحي ، حديث رقم ١٧.

٢٤٥

وعن البراء (١) مرفوعا. أربع لا تجوز في الأضاحي ، العوراء البيّن عورها ، والمريضة البيّن مرضها ، والعرجاء البيّن ظلعها ، والكسيرة التي لا تنقي : رواه أحمد وأهل السنن. (فَإِنَّها) أي فإن تعظيمها (مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) أي من أفعال ذوي التقوى. والإضافة إلى القلوب ، لأن التقوى وضدها تنشأ منها.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (٣٣)

(لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أي لكم في الهدايا منافع درّها ونسلها وصوفها وظهرها إلى وقت نحرها. وقد روي في الصحيحين (٢) عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى رجلا يسوق بدنة قال : اركبها. قال : إنها بدنة قال : أركبها ، ويحك. في الثانية أو الثالثة. وقوله : (ثُمَّ مَحِلُّها) أي محل الهدايا وانتهاؤها إلى البيت العتيق وهو الكعبة كما قال تعالى : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة : ٩٥] ، وقال : (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) [الفتح : ٢٥].

قال في (الإكليل) : فيه أن الهدي لا يذبح إلا بالحرم. وقيل : المعنى : محل هذه الشعائر كلها الطواف بالبيت العتيق. فيقتضي أن الحاج بعد طواف الإفاضة. يحل له كل شيء. وكذا روي عن ابن عباس : ما طاف أحد بالبيت إلا حل ، لهذه الآية. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) (٣٤)

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ).

أي شرعنا لكل أمة أن ينسكوا. أي يذبحوا لوجهه تعالى ، على وجه التقرب. وجعل العلة ، أن يذكر اسمه. تقدست أسماؤه. على النسائك. ف (منسكا) مصدر

__________________

(١) أخرجه النسائي في : الضحايا ٥ ـ باب ما هي عنه من الأضاحي.

(٢) أخرجه البخاري في : الحج ، ١٠٣ ـ باب ركوب البدن ، حديث رقم ٨٧٨.

وأخرجه مسلم في : الحج ، حديث رقم ٣٧٣.

٢٤٦

ميميّ على أصله. أو بمعنى المفعول. وفي الآية تنبيه على أن القربان يجب أن يكون نعما.

(فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا) أي أخلصوا له الذكر خاصة ، لا تشوبوه بإشراك. (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٣٦)

(الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) أي خافت لتأثرهم عند ذكره مزيد تأثر (وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها) أي في ذبحها تضحية (خَيْرٌ) من المنافع الدينية والدنيوية (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَ) أي قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن. وعن ابن عباس : قياما على ثلاث قوائم ، معقولة يدها اليسرى. يقول : بسم الله ، والله أكبر ، لا إله إلا الله : اللهم منك ولك. وفي الصحيحين (١) عن ابن عمر ؛ أنه أتى على رجل قد أناخ بدنة وهو ينحرها. فقال : ابعثها قياما مقيدة سنة أبي القاسم صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وفي صحيح مسلم (٢) عن جابر في صفة حجة الوداع ، قال فيه : فنحر رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده ثلاثا وستين بدنة. جعل يطعنها بحربة في يده (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) أي سقطت على الأرض ، وهو كناية عن الموت (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ) أي السائل (وَالْمُعْتَرَّ) أي المتعرض بغير سؤال. أو القانع الراضي بما عنده وبما يعطي من غير سؤال ، والمعتر المتعرض بسؤال وقد استنبط من الآية أن الأضحية تجزأ ثلاثة أجزاء : فيأكل ثلثا ويهدي ثلثا ويتصدق بثلث.

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الحج ، ١١٨ ـ باب نحر الإبل مقيدة ، حديث ٨٨٥.

وأخرجه مسلم في : الحج ، حديث ٣٥٨.

(٢) أخرجه مسلم في : الحج ، حديث رقم ١٤٧.

٢٤٧

(كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي ذللناها لكم ، لتشكروا إنعامنا ، والشكر صرف العبد ما أنعم عليه ، إلى ما خلق لأجله.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) (٣٧)

(لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) أي لن يصيب رضاءه لحومها المتصدق بها ، ولا دماؤها المهراقة ، من حيث أنها لحوم ودماء. ولكن بمراعاة النية والإخلاص ، ابتغاء وجهه الأعلى ، ويقرب من هذه الآية قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) [البقرة : ١٧٧] ، إلى آخرها (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) أي لتعرفوا عظمته فتوحدوه بالعبادة على ما أرشدكم إلى طريق تسخيرها ، وكيفية التقرب بها على لسان أكرم رسله المبعوث بسعادة الدارين. وإنما كرره تذكيرا للنعمة وتعليلا بما بعده. وفي التعليل المذكور شاهد لما قدمناه أولا في معنى قوله تعالى : (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) [الحج : ٢٨] ، فتذكر. وقوله تعالى : (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) أي المخلصين في أعمالهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) (٣٨)

(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) كلام مستأنف ، مسوق لتوطين قلوب المؤمنين ، ببيان أن الله تعالى ناصرهم على أعدائهم ، بحيث لا يقدرون على صدهم عن الحج ، ليتفرغوا إلى أداء مناسكه. كذا قاله أبو السعود. وسبقه الرازي إليه. والأولى أن يقال : إنه طليعة لما بعده من الإذن بالقتال ، مبشرة بغاية النصرة والحفظ والكلاءة والعاقبة للمؤمنين. تشجيعا لهم على قتال من ظلمهم ، وتشويقا إلى استخلاص بيته الحرام ، ليتسنى لهم إقامة شعائره وأداء مناسكه. وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ) أي في أمانة الله (كَفُورٍ) أي لنعمته بعبادته غيره ، فلا يرتضي فعلهم ولا ينصرهم. وصيغة المبالغة فيهما ، لأنه في حق المشركين ، وهم كذلك ولأن خيانة أمانة الله وكفران نعمته لا يكون حقيرا ، بل هو أمر عظيم.

٢٤٨

القول في تأويل قوله تعالى :

(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٤٠)

(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) أي يقاتلهم المشركون. والمأذون فيه محذوف ، لدلالة المذكور عليه. وقرئ بكسر التاء. (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) أي بغير حق سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين ، لا موجب الإخراج والتسيير. ومثله (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ) [المائدة : ٥٩] ، وهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم.

(وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً) أي لو لا كفه تعالى المشركين بالمسلمين ، وإذنه بمجاهدة المسلمين للكافرين ، لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم ، وعلى متعبداتهم فهدموها.

قال ابن جرير : ومنه كفه تعالى ببعضهم التظالم. كالسلطان الذي كف به رعيته عن التظالم بينهم ومنه كفه تعالى لمن أجاز شهادته بينهم ببعضهم عن الذهاب بحق من له قبله حق. ونحو ذلك. وكل ذلك دفع منه الناس بعضهم عن بعض. لو لا ذلك لتظالموا. فهدم القاهرون صوامع المقهورين وبيعهم ، وما سمى جل ثناؤه. و (الصوامع) مباني الرهبانية لخلوتهم. (والبيع) معابد النصارى. و (الصلوات) روي عن ابن عباس أنه عنى بها كنائس اليهود. سميت بها لأنها محلها. وقيل هي بمعناها الحقيقي. و (هدمت) بمعنى عطلت. أو فيه مضاف مقدر (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) أي ينصر دينه وأولياءه.

قال القاضي : وقد أنجز الله وعده ، بأن سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرتهم ، وأورثهم أرضهم وديارهم. (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).

٢٤٩

القول في تأويل قوله تعالى :

(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) (٤١)

(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أي مرجعها إلى حكمه وتقديره. وفيه تأكيد لما وعده من إظهار أوليائه وإعلاء كلمتهم. ثم أشار تعالى إلى تسلية نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عما يناله من أذى المشركين ، وحاضّا له على الصبر على ما يلحقه منهم من التكذيب ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) (٤٤)

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ) وهم قوم هود (وَثَمُودُ) وهم قوم صالح (وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ مَدْيَنَ) وهم قوم شعيب (وَكُذِّبَ مُوسى) وإنما لم يقل (وقوم موسى) كسابقه ، لأن موسى ما كذبه قومه بنوا إسرائيل ، وإنما كذبه غير قومه وهم القبط. وفيه شيء آخر كأنه قيل ، بعد ما ذكر تكذيب كل قوم رسولهم (وَكُذِّبَ مُوسى) مع وضوح آياته وعظم معجزاته ، فما ظنك بغيره؟ أفاده الزمخشري.

قال الناصر : ويحتمل عندي ، والله أعلم ، أنه لما صدّر الكلام بحكاية تكذيبهم ، ثم عدّد أصناف المكذبين وطوائفهم ، ولم ينته إلى موسى إلا بعد طول الكلام ، حسن تكريره ليلي قوله (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) فيتصل المسبب بالسبب ، كما قال في آية (ق) بعد تعديدهم (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) [ق : ١٤] ، فربط العقاب والوعيد ، ووصلهما بالتكذيب ، بعد أن جدد ذكره ، والله أعلم.

وإيراد من زعم بأن موسى كذبه قومه بعبادة العجل ، إيراد من لم يفهم معنى التكذيب الذي هو ردّ دعوة النبيّ وعدم الإيمان به والإصرار على الكفر بوحيه ، والقيام في وجهه وصد الناس عن اتباعه. وما وقع من قوم موسى هو تخليط ، وخطأ اجتهاد ، وتعنت ولجاج مع الاستظلال بظل دعوته ، والانتظام في سلك إجابته. وقوله

٢٥٠

تعالى : (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) أي أمهلتهم (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) أي بالعقوبة (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي إنكاري عليهم بالإهلاك.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) (٤٥)

(فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) أي فكم من أهالي قرية (أَهْلَكْناها) أي بالعذاب (وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي مشركة كافرة (فَهِيَ خاوِيَةٌ) أي ساقطة (عَلى عُرُوشِها) أي سقوفها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) أي وكم من بئر متروكة لا يستقى منها ، لهلاك أهلها (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) أي مرفوع. من (شاد البناء) رفعه. أو معناه مطليّ ومعمول بالشيد ، بالكسر ، وهو الجص ، أي مجصص ، أخليناه عن ساكنيه ، ومن شواهد الأول قول عديّ بن زيد :

شاده مرمرا وجلّله كل

سا ، فللطير في ذراه وكور

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٤٦)

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا) أي أهل مكة في تجارتهم (فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ) أي بما يشاهدونه من مواد الاعتبار (قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) أي ما يجب أن يعقل من التوحيد (أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) أي ما يجب أن يسمع من الوحي والتخويف (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) الضمير في (فإنها) للقصة. أو مبهم يفسره (الأبصار). والمعنى : ليس الخلل في مشاعرهم ، وإنما هو في عقولهم باتباع الهوى والانهماك في الغفلة. وفائدة ذكر (الصدور) هو التأكيد مثل (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ) [آل عمران : ١٦٧] ، و (طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] ، إلا أنه لتقرير معنى الحقيقة ، وهنا لتقرير معنى المجاز.

وقال الزمخشري : الفائدة زيادة التصوير والتعريف وعبارته : الذي قد تعورف واعتقد ؛ أن العمى على الحقيقة مكانه البصر ، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها. واستعماله في القلب استعارة ومثل. فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ، ونفيه عن الأبصار ، احتاج هذا التصوير إلى زيادة

٢٥١

تعيين وفضل تعريف ، ليتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار. كما تقول (ليس المضاء للسيف ، ولكنه للسانك الذي بين فكيك) ، فقولك (الذي بين فكيك) تقرير لما ادعيته للسانه ، وتثبيت. لأن محل المضاء هو هو لا غير. وكأنك قلت : ما نفيت المضاء عن السيف. وأثبته للسانك ، فلتة ولا سهوا مني ، ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمدا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٤٧)

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) أي المبيّن في آية (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢] ، (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) أي فيصيبهم ما أوعدهم به ، ولو بعد حين (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) أي هو تعالى حليم لا يعجل ، فإن مقدار ألف سنة عند خلقه ، كيوم واحد عنده ، بالنسبة إلى حلمه. لعلمه بأنه على الانتقام قادر ، وأنه لا يفوته شيء. وإن أنظر وأملى. ولهذا قال بعده :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) (٤٨)

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها) أي أمهلتها (وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) إلى حكمي مرجع الكل فأجزيهم بأعمالهم. فتأثر هذه الآية ما قبلها صريح في بيان خطئهم في الاستعجال المذكور ، ببيان كمال سعة حلمه تعالى ، وإظهار غاية ضيق عطنهم ، المستتبع لكون المدة القصيرة عنده تعالى ، مددا طوالا عندهم ، حسبما ينطق به قوله تعالى : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) [المعارج : ٦ ـ ٧] ، ولذلك يرون مجيئه بعيدا ، ويتخذونه ذريعة إلى إنكاره ، ويجترءون على الاستعجال به ، ولا يدرون أن معيار تقدير الأمور كلها ، وقوعا وإخبارا ، ما عنده تعالى من المقدار. أفاده ابن كثير وأبو السعود.

وفي (العناية) : لما ذكر استعجالهم ، وبيّن أنه لا يتخلف ما استعجلوه ، وإنما أخر حلما ، لأن اليوم ألف سنة عنده. فما استطالوه ليس بطويل بالنسبة إليه ، بل هو أقصر من يوم. فلا يقال : إن المناسب حينئذ أن ألف سنة كيوم ، والقلب لا وجه له.

٢٥٢

وقال الرازي : لما حكى تعالى من عظم ما هم عليه من التكذيب ، أنهم يستهزءون باستعجال العذاب ، بيّن أن العاقل لا ينبغي أن يستعجل عذاب الآخرة فقال : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ) يعني فيما ينالهم من العذاب وشدته (كَأَلْفِ سَنَةٍ) لو عدّ في كثرة الآلام وشدتها. فبيّن سبحانه أنهم لو عرفوا حال عذاب الآخرة ، وأنه بهذا الوصف لما استعجلوه.

قال الرازي : وهذا قول أبي مسلم ، وهو أولى الوجوه. انتهى.

وقد حكاه الزمخشريّ بقوله : وقيل معناه : كيف يستعجلون بعذاب من يوم واحد من أيام عذابه ، في طول ألف سنة من سنيكم. لأن أيام الشدائد مستطالة ، أي تعدّ طويلة كما قيل :

تمتع بأيام السرور فإنّها

قصار. وأيام الهموم طوال

أو كان ذلك اليوم الواحد ، لشدة عذابه ، كألف سنة من سني العذاب. انتهى.

واعتمد الوجه الأول أبو السعود. وناقش فيما بعده ؛ بأنه لا يساعده سياق النظم الجليل ولا سياقه. فإن كلا منهما ناطق بأن المراد هو العذاب الدنيوي. وأن الزمان الممتد هو الذي مرّ عليهم قبل حلوله بطريق الإملاء والإمهال. لا الزمان المقارن له. ألا يرى إلى قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) إلخ ، فإنه صريح في أن المراد هو الأخذ العاجل الشديد ، بعد الإملاء المديد. انتهى. وفيه قوة. فالله أعلم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١)

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) وهي الجنة (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي والذين سعوا في ردّ آياتنا ، وصدّ الناس عنها مشاقّين. فالمعاجزة مستعارة للمشاقة مع المؤمنين ومعارضتهم. فكلما طلبوا إظهار الحق طلب هؤلاء إبطاله. كما يقال (جاراه في كذا). قال تعالى (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا) [العنكبوت : ٤] ، وقرئ (معجّزين) بتشديد الجيم. بمعنى أنهم عجّزوا الناس

٢٥٣

وثبطوهم عن اتباع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والإيمان بالقرآن. وكلتا القراءتين متقاربة المعنى. وذلك أن من عجّز عن آيات الله ، فقد عاجز الله. ومن معاجزة الله التعجيز عن آيات الله ، والعمل بمعاصيه ، وخلاف أمره. وكان من صفة القوم الذين نزلت فيهم الآيات أنهم كانوا يبطّئون الناس عن الإيمان بالله واتباع رسوله. ويغالبون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يحسبون أنهم يعجزونه ويغلبونه. وقد ضمن الله له نصره عليهم. فكان ذلك معاجزتهم الله. كذا في الشهاب وابن جرير. ثم أشار تعالى إلى تسلية رسوله صلوات الله عليه ، عما كان يلاقيه من صدّ شياطين قومه عن سبيل الله ، بأن تلك سنة كل رسول وأن العاقبة له ، فقال سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٥٢)

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى) أي رغب في انتشار دعوته ، وسرعة علوّ شرعته (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) أي بما يصدّ عنها ، ويصرف المدعوّين عن إجابتها (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) أي يبطله ويمحقه (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) أي يثبتها (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً ، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) [الرعد : ١٧] ، (وَاللهُ عَلِيمٌ) يعلم الإلقاءات الشيطانية ، وطريق نسخها من وجه وحيه. (حَكِيمٌ) يحكم آياته بحكمته. ثم أشار إلى أن من مقتضيات حكمته أنه يجعل الإلقاء الشيطانىّ فتنة للشاكّين المنافقين والقاسية قلوبهم عن قبول الحق ، ابتلاء لهم ليزدادوا إثما. ورحمة للمؤمنين ليزدادوا ثباتا واستقامة ، فقال تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) (٥٣)

(لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شك وارتياب (وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) وهم العتاة المتمردون (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ) أي خلاف للحق (بَعِيدٍ) عن موافقته جدا ، بسبب ظلمهم وشركهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥٤)

٢٥٤

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) أي بالانقياد ، والخشية. والضمير للقرآن أو لله تعالى : (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي إلى طريق الحق والاستقامة ، فلا تزلّ أقدامهم بقبول ما يلقي الشيطان ، ولا تقبل قلوبهم إلا ما يلقي الرحمن ، لصفائها. هذا هو الصواب في تفسير الآية. ولها نظائر تظهر المراد منها كما أشرنا إليه ، لو احتاجت إلى نظير. ولكنها بيّنة بنفسها ، غنية عن التطويل في التأويل ، لو لا ما أحوج المحققين إلى ردّ ما دسه بعض الرواة هنا من الأباطيل. ونحن نسوق ما قيل فيها من ذلك ، ثم نتبعه بنقد المحققين ، لئلا يبقى في نفس الواقف حاجة.

قال ابن جرير الطبري : قيل : إن السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن الشيطان كان ألقى على لسانه ، في بعض ما يتلوه مما أنزل الله عليه من القرآن ، ما لم ينزل الله عليه. فاشتد ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واغتم به ، فسلّاه الله مما به من ذلك ، بهذه الآيات. ثم ذكر من قال ذلك. فأسند عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس وغيرهما ؛ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جلس في ناد من أندية قريش ، كثير أهله ، فتمنى يومئذ ألا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه. فأنزل الله عليه (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) [النجم : ١ ـ ٢] ، فقرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى إذا بلغ (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) [النجم : ١٩ ـ ٢٠] ، ألقى عليه الشيطان كلمتين (تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى) فتكلم بها ، ثم مضى فقرأ السورة كلها. فسجد في آخر السورة وسجد القوم جميعا معه ، ورضوا بما تكلم به.

قالا : فلما أمسى أتاه جبريل عليه‌السلام فعرض عليه السورة. فلما بلغ الكلمتين المذكورتين قال : ما جئتك بهاتين. فحزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فأنزل الله تبارك وتعالى عليه يعزيه (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) الآية.

وقال القاضي عياض في (الشفا) : اعلم أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين : أحدهما في توهين أصله ، والثاني على تسليمه.

أما المأخذ الأول ، فيكفيك أن هذا لم يخرّجه أحد من أهل الصحة ، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل. وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب ، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم. وصدق القاضي بكر بن العلاء المالكي حيث قال : لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفاسير. وتعلق بذلك

٢٥٥

الملحدون مع ضعف بعض نقلته ، واضطراب رواياته ، وانقطاع إسناده ، واختلاف كلماته. ومن حكيت عنه هذه الحكاية من المفسرين والتابعين ، لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب. وأكثر الطرق عنهم فيها ، واهية ضعيفة ، والمرفوع فيه حديث شعبة عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس فيما أحسب (الشك في الحديث) أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان بمكة ، وذكر القصة.

قال أبو بكر البزّار : هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإسناد متصل ، يجوز ذكره إلا هذا ، ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد. وغيره يرسله عن سعيد ابن جبير. وإنما يعرف عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس. فقد بين لك أبو بكر رحمه‌الله أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا. وفيه من الضعف ما نبه عليه ، مع وقوع الشك فيما ذكرناه ، الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه. وأما حديث الكلبي فما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره ، لقوة ضعفه وكذبه ، كما أشار إليه البزار رحمه‌الله : والذي منه في الصحيح ؛ أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ سورة (النجم) وهو بمكة. فسجد معه المسلمون والمشركون والإنس والجن.

هذا توهينه من طريق النقل.

وأما من جهة المعنى فقد قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته عليه‌السلام ، ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة. إما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح غير الله وهو كفر ، أو أن يتسوّر عليه الشيطان ويشبه عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه ، حتى ينبهه عليه جبريل عليهما‌السلام. وذلك كله ممتنع في حقه عليه‌السلام. أو يقول ذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قبل نفسه عمدا ، وذلك كفر. أو سهوا وهو معصوم من هذا كله. ووجه ثان ـ وهو استحالة هذه القصة نظرا وعرفا. وذلك أن الكلام ، لو كان كما روي ، بعيد الالتئام ، متناقض الأقسام ممتزج المدح بالذم ، متخاذل التأليف. ولما كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا من بحضرته من المسلمين وصناديد المشركين ، ممن يخفى عليه ذلك ، وهذا لا يخفى على أدنى متأمل. فكيف بمن رجح حلمه ، واتسع في باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه؟ ووجه ثالث ـ أنه قد علم من عادة المنافقين ومعاندي المشركين وضعفة القلوب والجهلة من المسلمين ، نفورهم من أول وهلة ، وتخليط العدوّ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأقل فتنة ، وتعييرهم المسلمين والشمّات بهم الفينة بعد الفينة. وارتداد من في قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة. ولم يحك أحد في هذه القصة شيئا سوى هذه الرواية الضعيفة الأصل. ولو كان

٢٥٦

ذلك لوجدت قريش بها على المسلمين الصولة. ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة. كما فعلوه مكابرة في قصة الإسراء حتى كانت في ذلك لبعض الضعفاء ردّة. وكذلك ما روي في قصة القضية. ولا فتنة أعظم من هذه البلية لو وجدت. ولا تشغيب للمعادي حينئذ أشد من هذه الحادثة لو أمكنت. فما روي عن معاند فيها كلمة. ولا عن مسلم بسببها بنت شفة. فدل على بظلها ، واجتثاث أصلها. ولا شك في إدخال بعض شياطين الإنس والجن ، على بعض مغفلي المحدثين ، ليلبس به على ضعفاء المسلمين.

ووجه رابع ـ ذكر الرواة لهذه القضية أن فيها نزلت : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) [الإسراء : ٧٣] الآيتين. وهاتان الآيتان تردّان الخبر الذي رووه. لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري ، وأنه لو لا أن ثبّته لكاد يركن إليهم. فمضمون هدا ومفهومه ، أن الله تعالى عصمه من أن يفتري ، وثبته حتى لم يركن إليهم قليلا ، فكيف كثيرا؟ وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم. وهذا ضد مفهوم الآية ، ويضعّف الحديث ، لو صح ، فكيف ولا صحة له؟ وأما المأخذ الثاني فهو مبنيّ على تسليم الحديث ، لو صح. وقد أعاذنا الله من صحته. ولكن على كل حال فقد أجاب عن ذلك أئمة المسلمين بأجوبة منها الغث والسمين. فمنها ما رواه قتادة ومقاتل أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصابته سنة عند قراءة هذه السورة. فجرى هذا الكلام على لسانه بحكم النوم. وهذا لا يصح. إذ لا يجوز على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثله في حالة من أحواله. ولا يخلقه الله على لسانه ولا يستولي الشيطان عليه في نوم ولا يقظة ، لعصمته في هذا الباب من جميع العمد والسهو. وقد قال عليه‌السلام (١)(إن عينيّ تنامان ولا ينام قلبي). وفي حديث الكلبي ؛ أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حدّث نفسه ، فقال ذلك الشيطان على لسانه. وفي رواية ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال : ومنها لما أخبر بذلك قال : إنما ذلك من الشيطان. وكل هذا لا يصح أن يقوله عليه‌السلام لا سهوا ولا قصدا. ولا يتقوّله الشيطان على لسانه. وقيل : لعلّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله أثناء تلاوته ، على تقدير التقرير والتوبيخ للكفار. كقول إبراهيم (هذا رَبِّي) [الأنعام : ٧٧] ، على أحد التأويلات. وكقوله : (بَلْ فَعَلَهُ

__________________

(١) أخرجه البخاري في : التهجد ، ١٦ ـ باب قيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالليل في رمضان وغيره ، حديث رقم ٦٣١ ، عن عائشة.

وأخرجه مسلم في : صلاة المسافرين وقصرها ، حديث رقم ١٢٥.

٢٥٧

كَبِيرُهُمْ هذا) [الأنبياء : ٦٣] ، بعد السكت وبيان الفصل بين الكلامين. ثم رجع إلى تلاوته. وهذا ممكن مع بيان الفصل وقرينة تدل على المراد ، وأنه ليس من المتلوّ. وهو أحد ما ذكره القاضي أبو بكر.

ومما يظهر في تأويله ، إن سلمنا القصة ، أن يراد بالغرانيق الملائكة. ورجاء الشفاعة من الملائكة صحيح. فلما تأوّله المشركون على أن المراد بها آلهتهم ، ولبّس عليهم الشيطان ذلك وزيّنه في قلوبهم ، وألقاه إليهم ، نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته ورفع تلاوة تلك اللفظتين. انتهى كلام القاضي ملخصا.

وقال أبو بكر الباقلاني : وقيل : كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرتل القرآن ، فارتصده الشيطان في سكتة من السكتات. ونطق بتلك الكلمات ، محاكيا نغمته ، بحيث سمعه من دنا إليه ، فظنها من قوله تعالى وأشاعها.

قال : وهذا أحسن الوجوه. ويؤيده ما روي عن ابن عباس من تفسير (تمنى) ب (تلا) وكذا استحسن ابن العربي هذا التأويل. وقال قبله : إن هذه الآية نص في براءة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما نسب إليه ، وأن الشيطان زاده في قوله صلوات الله عليه ، لا أنه عليه‌السلام قاله.

قال : وقد سبق إلى ذلك الطبري فصوب هذا المعنى وحوّم عليه. واستحسان ابن العربي ذلك ، على فرض صحة القصة ، وإلا فقد قال : ذكر الطبري في ذلك روايات كثيرة باطلة لا أصل لها. وقال تقي الدين بن تيمية : في الآية قولان والمأثور عن السلف يوافق القرآن بذلك. والذين منعوا ذلك من المتأخرين طعنوا فيما ينقل من الزيادة في سورة النجم بقوله (تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهنّ لترتجى) وقالوا : إن هذا لم يثبت. ومن علم أنه ثبت قال : هذا ألقاه الشيطان في مسامعهم ، ولم يلفظ به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولكن السؤال وارد على هذا التقدير أيضا.

وقالوا في قوله : (إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) : هو حديث النفس وأما الذين قرروا ما نقل عن السلف ، فقالوا : هذا منقول نقلا ثابتا لا يمكن القدح فيه وقالوا : الآثار في تفسير هذه الآية معروفة ثابتة في كتب التفسير والحديث. والقرآن يوافق ذلك. فإن نسخ الله لما يلقي الشيطان ، وإحكامه آياته ، إنما يكون لرفع ما وقع في آياته ، وتمييز الحق عن الباطل حتى لا تختلط آياته بغيرها. وجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم ، إنما يكون ذلك ظاهرا يسمعه الناس ، لا باطنا في النفس. والفتنة التي تحصل بهذا النوع من النسخ ، من جنس

٢٥٨

الفتنة التي تحصل بالنوع الآخر من النسخ. وهذا النوع أدلّ على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعده عن الهوى ، من ذلك النوع. فإنه إذا كان يأمر بأمر ثم يأمر بخلافه وكلاهما من عند الله ، وهو مصدق في ذلك ، فإذا قال عن نفسه أن الثاني هو الذي من عند الله وهو الناسخ ، وإن ذلك المرفوع الذي نسخه الله ليس كذلك ، كان أدل على اعتماده للصدق وقول الحق. وهذا كما قالت عائشة (١) رضي الله عنها : لو كان محمد كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) ألا ترى أن الذي يعظم نفسه بالباطل يريد أن ينصر كل ما قاله ولو كان خطأ. فبيان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الله أحكم آياته ونسخ ما ألقاه الشيطان ، هو أدل على تحريه للصدق وبراءته من الكذب. وهذا هو المقصود بالرسالة. فإنه الصادق المصدوق صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما. انتهى.

وفي كلامه رحمه‌الله نظر من وجوه :

أولا ـ دعواه أن المأثور يوافق القرآن. فإنه ذهاب إلى أن الإلقاء إلقاء في الآيات. ولا تدل الآية عليه ، لا مطابقة ولا التزاما. بل القول بذلك ينافي التنزيل والوحي منافاة النار للماء ، كما ستراه.

وثانيا ـ دعواه أن تلك الرواية نقلها ثابت لا يمكن القدح فيه. فقد قدح فيها من لا يحصى من المتقدمين والمتأخرين. ويكفي أن تلميذه الحافظ ابن كثير قال : قد ذكر كثير من المفسرين ها هنا قصة الغرانيق. وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة ، ظنا منهم أن مشركي قريش أسلموا. ولكنها من طرق كلها مرسلة. ولم أرها مسندة من وجه صحيح. وتعداد طرقها ، بعد ضعف أصلها ، لا يفيد. وهذه شبهة يعتمدها كثير من الواقفين مع الروايات. يظنون أن الضعيف بكثرة طرقه يقوى. والحال أن الضعيف ضعيف كيفما جاء. وقد سرت هذه الشبهة للحافظ ابن حجر. فأخذ يقوي بعض طرقها ويصححها من جهة الإسناد. كما ستمر بك مناقشته. ولو كان لها أدنى رائحة من الصحة لأخرجها البخاري معلقة أو موقوفة ، أو أرباب السنن.

وثالثا ـ اعترافه بأن السؤال وارد على تقدير ثبوتها ، وإلقاء الشيطان ذلك في مسامعهم ، مما يبرهن أن فيها مغامز تنبذها العقول ، كما نبذتها صحة النقول.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في : التفسير ، ٣٣ ـ سورة الأحزاب ، حدثنا علي بن حجر.

٢٥٩

فصل

وقال الفخر الرازي في (تفسيره) : هذه الرواية باطلة موضوعة ، عند أهل التحقيق. واحتجوا عليه بالقرآن والسنة والمعقول. أما القرآن فوجوه :

أحدها ـ قوله تعالى (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) [الحاقة : ٤٤ ـ ٤٦].

وثانيها ـ قوله : (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي ، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) [يونس : ١٥].

وثالثها ـ قوله (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [النجم : ٣ ـ ٤].

ورابعها ـ قوله تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ ، وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) [الإسراء : ٧٣] ، وكلمة (كاد) عند بعضهم معناها أنه لم يحصل.

وخامسها ـ قوله : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) [الإسراء : ٧٤] ، وكلمة (لو لا) تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره. فدل على أن ذلك الركون القليل لم يحصل.

وسادسها ـ قوله : (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) [الفرقان : ٣٢].

وسابعها ـ قوله : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) [الأعلى : ٦].

وأما السنة فهي ما روي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة ، أنه سئل عن هذه القصة فقال : هذا وضع من الزنادقة. وصنف فيه كتابا.

وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل. ثم أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعون فيهم. وأيضا فقد روى البخاري (١) في صحيحه أن النبيّ عليه‌السلام قرأ سورة (النجم) وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن. وليس فيه حديث الغرانيق. وروي هذا الحديث من طرق كثيرة وليس فيها البتة حديث الغرانيق.

وأما المعقول فمن وجوه :

أحدها ـ أن من جوّز على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعظيم الأوثان ، فقد كفر لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان.

__________________

(١) أخرجه البخاري في : التفسير ، ٣٥ ـ سورة النجم ، ٤ ـ باب فاسجدوا لله واعبدوا ، حديث رقم ٥٩٠.

٢٦٠