تفسير القاسمي - ج ٧

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٧

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٥

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) (٥٨)

(فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً) أي قطعا مكسرة ، بعد أن ولوا عنها ، ليعلموا أنها لا تتحلم إلى هذا الحدّ. فهو عجّزهم في الدفع عن أنفسهم. فتوقع عابدهم الدفع عن نفسه غاية السفه (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) أي فيسألونه : لم فعل بآلهتهم؟ فإذا ظهر عجزه عن النطق ، فمن دونه أعجز منه في ذلك. فضلا عن الدفع للذي أظهر عجزهم فيه. فرجعوا فأتوا بيت الأصنام فوجدوها جذاذا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (٥٩)

(قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا) أي هذا الفعل الفظيع (بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي لجرأته على إهانتها وهي الجديرة عندهم بالتعظيم. أو لإفراطه في التجذيذ والحطم ، وتماديه في الاستهانة بها. أو بتعريض نفسه للهلكة. والاستفهام للإنكار والتوبيخ والتشنيع.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) (٦١)

(قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) أي يحضرون عقوبته.

قال ابن كثير : وكان هذا هو المقصود الأكبر لإبراهيم عليه‌السلام ، أن يبين في هذا المحفل العظيم كثيرة جهلهم وقلة عقلهم في عبادة هذه الأصنام التي لا تدفع عن نفسها ضرا ولا تملك لها نصرا. فكيف يطلب منها شيء من ذلك؟.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) (٦٣)

(قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) يعني الذي

٢٠١

تركه لم يكسره. فإن ترددتم أنه فعلي أو فعله (فَسْئَلُوهُمْ) أي يجيبوكم (إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) أي والأظهر عجزهم الكليّ المانع من القول بإلهيتها. والقول فيه ، أن قصد إبراهيم صلوات الله عليه ، لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم. وإنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضيّ يبلغ فيه غرضه عن إلزامهم الحجة ، وتبكيتهم. ولقائل أن يقول : عاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة مرتبة. وكان غيظ كبيرها أكبر وأشد ، لما رأى من زيادة تعظيمهم له. فأسند الفعل إليه لأنه هو الذي متسبب لاستهانته بها وحطمه لها والفعل كما يسند إلى مباشره ، يسند إلى الحامل عليه. فيكون تمثيلا أراد به عليه‌السلام تنبيههم على غضب الله تعالى عليهم ، لإشراكهم بعبادته الأصنام. ويحكى أنه قال : فعله كبيرهم هذا ، غضب أن تعبد معه هذه الصغار وهو أكبر منها. فكأنه قيل : فعله ذلك الكبير على مقتضى مذهبكم ، والقضية ممكنة. وأظهر هذه الأوجه هو الأول. وعليه اقتصر الإمام ابن حزم في كتابه (الفصل) في الرد على من جوز على الأنبياء المعاصي ، وعبارته : وأما قوله عليه‌السلام (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) فإنما هو تقريع لهم وتوبيخ كما قال تعالى (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان : ٤٩] ، وهو في الحقيقة مهان ذليل مهين معذب في النار. فكلا القولين توبيخ لمن قيلا له ، على ظنهم أن الأصنام تفعل الخير والشر. وعلى ظن المعذب في نفسه في الدنيا أنه عزيز كريم. ولم يقل إبراهيم هذا على أنه محقق لأن كبيرهم فعله. إذ الكذب ، إنما هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه ، وقصدا إلى تحقيق ذلك. وجليّ أن مراده عليه‌السلام ، على كلّ ، إنما هو توجيههم نحو التأمل في أحوال أصنامهم كما ينبئ عنه قوله (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) أي إن كانوا ممن يمكن أن ينطقوا. قال أبو السعود : وإنما لم يقل عليه‌السلام (إن كانوا يسمعون أو يعقلون) مع أن السؤال موقوف على السمع والعقل أيضا ، لما أن نتيجة السؤال هو الجواب ، وأنّ عدم نطقهم أظهر ، وتبكيتهم بذلك أدخل. وقد حصل ذلك أولا حسبما نطق به قوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) (٦٤)

(فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ) أي فراجعوا عقولهم ، ومراجعة العقل مجاز عن التفكير والتدبر ، والمراد بالنفس النفس الناطقة ، والرجوع إليها عبارة عما ذكر (فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) أي بهذا السؤال أو بعبادة من لا ينطق ولا يضر ولا ينفع ، لا من

٢٠٢

كسرها ، فلم تنسبوه إلى الظلم بقولكم (إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) (٦٥)

(ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) أي حياء من نقصهم ، وخضوعا وانفعالا من إبراهيم ، قائلين (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) أي ليس من شأنهم النطق ، فكيف تأمرنا بسؤالهم؟.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٦٧)

(قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ، ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي قبح صنيعكم في عبادة ما لا يضر ولا ينفع.

تنبيه :

ذكر في الكشاف في قوله تعالى : (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) أربعة أوجه. وحاصله كما في العناية ـ أن التنكيس قلب الشيء بجعل أعلاه أسفله. فإما أن يستعار للرجوع عن الفكرة المستقيمة في تظليم أنفسهم ، إلى الفكرة الفاسدة في تجويز عبادتها ، مع عجزها فضلا عن كونها في معرض الألوهية. فقوله (لَقَدْ عَلِمْتَ) معناه لم يخف علينا وعليك أنها كذلك وأنا اتخذناها آلهة مع العلم به. والدليل عليه قوله (أَفَتَعْبُدُونَ) إلخ ، أو أن التنكيس الرجوع عن الجدال الباطل إلى الحق في قولهم (لَقَدْ عَلِمْتَ) لأنه نفي لقدرتها واعتراف بأنها لا تصلح للألوهية ، وسمي (نكسا) وإن كان حقّا ، لأنه ما أفادهم مع الإصرار. ولكنه نكس بالنسبة لما كانوا عليه من الباطل. أو النكس مبالغة في إطراقهم خجلا وقولهم (لَقَدْ عَلِمْتَ) لحيرتهم أتوا بما هو حجة عليهم. أو النكس مبالغة في الحيرة وانقطاع الحجة. (أُفٍ) صوت إذا صوت به علم أن صاحبه متضجر. وفيه لغات كثيرة كما في كتب اللغة. قال الزمخشري : أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم وبعد وضوح الحق وزهوق الباطل ، فتأفف بهم. ولما عجزوا عن المحاجّة أخذوا في المضارّة ، شأن المبطل إذا قرعت شبهته بالحجة لم يكن أحد أبغض إليه من المحقّ ، ولم يبق له مفزع إلا مناصبته.

٢٠٣

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) (٦٨)

(قالُوا حَرِّقُوهُ) أي لأنه استحق أشد العقاب عندهم ، والنار أهول ما يعاقب به (وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ) أي بالانتقام لها (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) أي به شيئا من السياسة ، فلا يليق به غيرها.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) (٦٩)

(قُلْنا) أي تعجيزا لهم ولأصنامهم ، وعناية بمن أرسلناه ، وتصديقا له في إنجاء من آمن به (يا نارُ كُونِي بَرْداً) أي باردة على إبراهيم ، مع كونك محرقة للحطب (وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) أي ولا تنتهي في البرد إلى حيث يهلكه ، بل كوني غير ضارة. وجوز كون سلاما منصوبا بفعله. والأمر مجاز عن التسخير ، كما في قوله (كُونُوا قِرَدَةً) [البقرة : ٦٥] ، ففيه استعارة بالكناية بتشبيهها بمأمور مطيع ، وتخييلها الأمر والنداء ، ولذا قال أبو مسلم : المعنى أنه سبحانه وتعالى جعل النار بردا وسلاما ، لا أن هناك كلاما ، كقوله (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢] ، أي فيكونه. فإن النار جماد ولا يجوز خطابه. وهو ظاهر.

تنبيه :

قال الرازي : لهم في كيفية برودة النار ثلاثة أقوال : أحدها ـ أن الله تعالى أزال عنها ما فيها من الحرّ والاحتراق ، وأبقى ما فيها من الإضاءة والإشراق. والله على كل شيء قدير.

وثانيها ـ أن الله تعالى خلق في جسم إبراهيم كيفية مانعة من وصول أذى النار إليه. كما يفعل بخزنة جهنم في الآخرة. وكما أنه ركب بنية النعامة بحيث لا يضرها ابتلاع الحديدة المحماة. وبدن السمندل بحيث لا يضره المكث في النار

ثالثها ـ أنه سبحانه خلق بينه وبين النار حائلا يمنع من وصول أثر النار إليه.

قال المحققون : والأول أولى لأن ظاهر قوله : (يا نارُ كُونِي بَرْداً) أن نفس النار صارت باردة حتى سلم إبراهيم من تأثيرها ، لا أن النار بقيت كما كانت.

٢٠٤

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) (٧١)

(وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) أي أرادوا أن يكيدوه بالإضرار ، فما كانوا إلا مغلوبين مقهورين. قال الزمخشري : غالبوه بالجدال فغلّبه الله ولقنه بالمبكّت. وفزعوا إلى القوة والجبروت فنصره وقوّاه (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً) أي لأنه هاجر معه (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) وهي أرض الشام. بورك فيها بكثرة الأنبياء وإنزال الشرائع التي هي طريق السعادتين. وبكثرة النعم والخصب والثمار وطيب عيش الغنيّ والفقير. وقد نزل إبراهيم عليه‌السلام بفلسطين ، ولوط عليه‌السلام بسدوم. ثم بين بركته تعالى على إبراهيم بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ) (٧٢)

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ) أي بدعوته (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) [الصافات : ١٠٠] ، (وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) أي زيادة وفضلا من غير سؤال. ثم أشار إلى أن منشأ البركة فيهما الصلاح بقوله : (وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ) بالاستقامة والتمكين في الهداية.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) (٧٣)

(وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) أي قدوة يقتدى بهم في أمور الدين ، إجابة لدعائه عليه‌السلام بقوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) [البقرة : ١٢٤] ، (يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) أي يهدون الناس إلى الحق بأمرنا لهم بذلك وإذننا. قال الزمخشريّ : فيه أن من صلح ليكون قدوة في دين الله ، فالهداية محتومة عليه ، مأمور هو بها ، من جهة الله. ليس له أن يخلّ بها ويتثاقل عنها. وأول ذلك أن يهتدي بنفسه ، لأن الانتفاع بهداه أعم ، والنفوس إلى الاقتداء بالمهدي أميل (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ) أي أن تفعل الخيرات ، مما يختص بالقلوب أو الجوارح (وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) أي بالتوحيد الخالص والعمل الصالح.

٢٠٥

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٧٥)

(وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً) أي حكمة. وهو ما يجب فعله (وَعِلْماً) أي بما ينبغي علمه للأنبياء. وقد بعثه الله تعالى إلى سدوم فكذبه أهلها وخالفوه فأهلكهم الله ودمر عليهم ما قص خبرهم في غير ما موضع في كتابه العزيز ، وقد أشار إلى ذلك في ضمن بيان عنايته به وكرامته له بقوله : (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ) أي من عذابها (الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ) يعني اللواطة ، وكانت أشنع أفعالهم. وبها استحقوا الإهلاك. ولذا ذهب بعض الفقهاء إلى رمي اللوطي منكسا من مكان عال ، وطرح الحجارة عليه ، كما فعل بهم (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا) أي في أهلها (إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي العاملين بالعلم ، الثابتين على الاستقامة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) (٧٦)

(وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ) أي دعا ربه في إهلاك قومه لما كذبوه بقوله : (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) [القمر : ١٠] ، (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٢٦] ، (فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) وهو الطوفان ، أو من الشدة والتكذيب والأذى. فإنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله عزوجل فلم يؤمن به إلا القليل.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) (٧٧)

(وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ) أي نصرناه نصرا مستتبعا للانتصار والانتقام من قومه (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) أي فلم يبق منهم أحد كما دعا نبيّهم.

٢٠٦

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) (٧٨)

(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ) أي الزرع (إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) أي رعته ليلا (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) أي لحكم الحاكمين والمتحاكمين إليهما ، عالمين.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ) (٧٩)

(فَفَهَّمْناها) أي الفتوى أو الحكومة المفهومين من السياق (سُلَيْمانَ) أي فكان القضاء فيها قضاءه ، لا قضاء أبيه. روي عن ابن عباس أن غنما أفسدت زرعا بالليل ، فقضى داود بالغنم لأصحاب الحرث ، فقال سليمان : بل تؤخذ الغنم فتدفع إلى أصحاب الزرع فيكون لهم أولادها وألبانها ومنافعها. ويبذر أصحاب الغنم لأهل الزرع مثل زرعهم فيعمروه ويصلحوه ، فإذا بلغ الزرع الذي كان عليه ، ليلة نفشت فيه الغنم ، أخذه أصحاب الحرث وردوا الغنم إلى أصحابها. وكذا روي عن ابن مسعود موقوفا لا مرفوعا. والله أعلم بالحقيقة. وقوله تعالى : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) أي وكل واحد منهما آتيناه حكمة وعلما كثيرا ، لا سليمان وحده. ففيه دفع ما عسى يوهمه تخصيص سليمان عليه‌السلام بالتفهم ، من عدم كون حكم داود عليه‌السلام حكما شرعيّا.

تنبيهات :

الأول ـ استدل بالآية على أن خطأ المجتهد مغفور له ، وعكس بعضهم ، فاستدل بالآية على أن كل مجتهد مصيب.

قال : لأنها تدل بظاهرها على أنه لا حكم لله في هذه المسألة قبل الاجتهاد. وأن الحق ليس بواحد. فكذا غيرها إذ لا قائل بالفصل. إذ لو كان له فيها حكم تعين. وهذا مذهب المعتزلة ، كما بيّن في الأصول. وردّ بأن مفهوم قوله : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) لتخصيصه بالفهم دون داود عليه‌السلام ، يدل على أنه المصيب للحق

٢٠٧

عند الله. ولولاه لما كان لتخصيصه بالفهم معنى. والمستدلون يقولون : إن الله لما لم يخطئه ، دل على أن كلا منهما مصيب. وتخصيصه بالفهم لا يدل على خطأ داود عليه‌السلام ، لجواز كون كلّ مصيبا. ولكن هذا أرفق وذاك أوفق ، بالتحريض على التحفظ من ضرر الغير. فلذلك استدل بهذه الآية كلّ. فكما لم يعلم حكم الله فيها ، لم يعلم تعين دلالتها. كذا في (العناية).

وجاء في (فتح البيان) ما مثاله : لا شك أنها تدل على رفع الإثم عن المخطئ ، وأما كون كل واحد منهما مصيبا فلا تدل عليه هذه الآية ولا غيرها ، بل صرح الحديث المتفق عليه في الصحيحين (١) وغيرهما أن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران ، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر. فسماه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخطئا. فكيف يقال إنه مصيب لحكم الله موافق له؟ فإن حكم الله سبحانه واحد لا يختلف باختلاف المجتهدين. وإلا لزم توقف حكمه عزوجل على اجتهادات المجتهدين ، واللازم باطل فالملزوم مثله. وأيضا يستلزم أن تكون العين التي اختلف فيها اجتهاد المجتهدين ، بالحلّ والحرمة ، حلالا وحراما في حكم الله سبحانه. وهذا اللازم باطل بالإجماع ، فالملزوم مثله. وأيضا يلزم أن حكم الله سبحانه لا يزال يتجدد عند وجود كل مجتهد ، له اجتهاد في تلك الحادثة ، ولا ينقطع ما يريده الله سبحانه وتعالى فيها إلا بانقطاع المجتهدين. واللازم باطل فالملزوم مثله. والحاصل أن المجتهدين لا يقدرون على إصابة الحق في كل حادثة. لكن لا يصرون على الخطأ. كما رجع داود هنا إلى حكم سليمان ، لما ظهر له أنه الصواب.

قال الحسن : لو لا هذه الآية ، لرأيت الحكام قد هلكوا. ولكن الله حمد هذا بصوابه ، وأثنى على هذا باجتهاده.

الثاني ـ دلت هذه الآية على جواز الاجتهاد للأنبياء عليهم‌السلام. وهو مذهب الجمهور. ومنعه بعضهم. ولا مستند له. لأن قضاء داود لو كان بوحي لما أوثر قضاء ابنه سليمان عليه. ومما يدل على وقوعه دلالة ظاهرة قوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [التوبة : ٤٣] ، فعاتبه على ما وقع منه. ولو كان ذلك بالوحي لم يعاتبه. ومنه ما صح عنه صلوات الله عليه من قوله (٢) : (لو استقبلت من أمري ما استدبرت

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الاعتصام ، ٢١ ـ باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ. الحديث رقم ٢٥٩٣ ، عن عمرو بن العاص.

وأخرجه مسلم في : الأقضية ، حديث رقم ١٥.

(٢) أخرجه البخاري في : الحج ، ٨١ ـ باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت ، حديث ٨٢٦ ، عن جابر بن عبد الله. وأخرجه مسلم في : الحج ، حديث رقم ١٤١.

٢٠٨

لما سقت الهدي) ومثل ذلك لا يكون فيما عمله بالوحي ، ونظائر ذلك كثيرة في الكتاب والسنة. وأيضا ، فالاستنباط أرفع درجات العلماء. فوجب أن يكون للرسول فيه مدخل. وإلا لكان كل واحد من آحاد المجتهدين أفضل منه في هذا الباب.

قال الرازي : إذا غلب على ظن نبيّ أن الحكم في الأصل معلل بمعنى ، ثم علم أو ظن قيام ذلك المعنى في صورة أخرى ، فلا بد وأن يغلب على ظنه أن حكم الله تعالى في هذه الصورة مثل ما في الأصل. وعنده مقدمة يقينية ، وهي أن مخالفة حكم الله تعالى سبب لاستحقاق العقاب. فيتولد من هاتين المقدمتين ظن استحقاق العقاب لمخالفة هذا الحكم المظنون. وعند هذا ، إما أن يقدم على الفعل والترك معا ، وهو محال ، لاستحالة الجمع بين النقيضين. أو يتركهما وهو محال ، لاستحالة الخلوّ عن النقيضين. أو يرجح المرجوح على الراجح وهو باطل ببديهة العقل ، أو يرجح الراجح على المرجوح ، وذلك هو العمل بالقياس ـ وهذه النكتة هي التي عليها التعويل في العمل بالقياس. وهي قائمة أيضا في حق الأنبياء عليهم‌السلام. انتهى.

الثالث ـ قال السيوطي في (الإكليل) : استدل بها على جواز الاجتهاد في الأحكام ووقوعه للأنبياء. وقد ذكرناه قبل. وأن المجتهد قد يخطئ ، وأنه مأجور مع الخطأ غير آثم ، لأنه تعالى أخبر بأن إدراك الحق مع سليمان ، ثم أثنى عليهما. وقد تقدم أولا. واستدل بها من قال برجوع الحاكم بعد قضائه من اجتهاد إلى أرجح منه. وفيها تضمين أرباب المواشي ما أفسدت بالليل دون النهار. لأن النفش لا يكون إلا بالليل ، كما أخرجه ابن أبي حاتم عن شريح والزهري وقتادة. ومن عمم الضمان فسره بالرعي مطلقا. وذهب قوم منهم الحسن إلى أن صاحب الزرع تدفع إليه الماشية ، ينتفع بدرّها وصوفها حتى يعود الزرع كما كان. كما حكم به سليمان في هذه الواقعة. إذ لم يرد في شرعنا ناسخ مقطوع به عندهم. انتهى.

الرابع : روى ابن جرير عن عامر قال : جاء رجلان إلى شريح فقال أحدهما : إن شياه هذا قطعت غزلا لي. فقال شريح : نهارا أم ليلا؟ فإن كان نهارا فقد برئ صاحب الشياه. وإن كان ليلا فقد ضمن ، ثم قرأ هذه الآية.

قال ابن كثير : وهذا الذي قاله شريح شبيه بما رواه (١) الإمام أحمد وأبو داود (٢)

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٥ / ٤٣٦.

(٢) أخرجه أبو داود في : البيوع ، ٩٠ ـ باب المواشي تفسد زرع قوم ، حديث رقم ٣٥٧٠.

٢٠٩

وابن ماجة (١) من حديث الليث بن سعد عن الزهري عن حرام بن محيّصة ، أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطا. فأفسدت فيه. فقضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أهل الحوائط ، حفظها بالنهار. وما أفسد المواشي بالليل ضامن على أهلها. وقد علّل هذا الحديث. وروى ابن أبي حاتم أن إياس بن معاوية ، لما استقضى أتاه الحسن ، فبكى. فقال : ما يبكيك؟ قال : يا أبا سعيد! بلغني أن القضاة رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار. ورجل مال به الهوى فهو في النار. ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة. فقال الحسن البصريّ : إن فيما قصّ الله من نبأ داود وسليمان عليهما‌السلام والأنبياء ، حكما يردّ قول هؤلاء الناس عن قولهم. قال الله تعالى : (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ ...) الآية. فأثنى الله على سليمان ، ولم يذمّ داود.

ثم قال (يعني الحسن) : إن الله اتخذ على الحكماء ثلاثا : لا يشتروا به ثمنا قليلا. ولا يتبعوا فيه الهوى. ولا يخشوا فيه أحدا. ثم تلا (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [ص : ٢٦] ، وقال : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) [المائدة : ٤٤] ، وقال : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) [البقرة : ٤١].

ثم قال ابن كثير : وقد ثبت في صحيح البخاري عن عمرو بن العاص أنه قال. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران. وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) فهذا الحديث يردّ نصّا ما توهمه إياس من أن القاضي إذا اجتهد فأخطأ فهو في النار.

وفي السنن (٢) : (القضاة ثلاثة : قاض في الجنة وقاضيان في النار. رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة. ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار ، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار).

ثم بيّن سبحانه ما خص كلّا من داود وسليمان من كراماته ، إثر بيان كرامته العامة لهما ، بقوله : (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ) أي سخرنا

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في : الأحكام ، ١٣ ـ باب الحكم فيما أفسدت المواشي ، حديث رقم ٢٣٣٢.

(٢) أخرجه أبو داود في : الأقضية ، ٢ ـ باب في القاضي يخطئ ، حديث رقم ٣٥٧٣ ، عن بريدة.

وأخرجه ابن ماجة في : الأحكام ، ٣ ـ باب الحاكم يجتهد فيصيب الحق ، حديث رقم ٢٣١٥.

٢١٠

الجبال والطير يقدسن الله معه ، بصوت يتمثل له أو يخلق فيها. قال ابن كثير : وذلك لطيب صوته بتلاوة كتابه (الزبور) وكان إذا ترنم به تقف الطير في الهواء فتجاوبه. وترد عليه الجبال تأويبا ، ولهذا لما مرّ (١) النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أبي موسى الأشعريّ وهو يتلو القرآن من الليل ، وكان له صوت طيّب جدا ، فوقف واستمع لقراءته وقال : لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود. قال : يا رسول الله! لو علمت أنك تسمع لحبّرته لك تحبيرا.

قال أبو عثمان الهنديّ : ما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا مزمار مثل صوت أبي موسى رضي الله عنه. انتهى.

وتقديم الجبال على الطير ، لأن تسبيحها أعجب وأدل على القدرة ، وأدخل في الإعجاز ، لأنها جماد. والتذييل بقوله (وَكُنَّا فاعِلِينَ) إشارة إلى أنه ليس ببدع في جانب القدرة الإلهية ، وإن كان عند المخاطبين عجيبا. وهذه الآية كقوله تعالى في سورة (ص) (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) [ص : ١٧ ـ ١٩].

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) (٨٠)

(وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) أي عمل الدروع الملبوسة. قيل كانت الدروع قبله صفائح ، فحلقها وسردها. أي جعلها حلقا وأدخل بعضها في بعض كما قال تعالى : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) [سبأ : ١٠ ـ ١١] ، أي لا توسع الحلقة فتقلق المسمار. ولا تغلظ المسمار فتقدّ الحلقة. ولهذا قال (لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) أي لتحفظكم من جراحات قتالكم (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) أي لنعم الله عليكم ، لما ألهم عبده داود فعلّمه ذلك رحمة بكم فيما يحفظ عليكم في المعامع حياتكم. وفي إيراد الأمر بالشكر على صورة الاستفهام ، مبالغة في التقريع والتوبيخ ، لما فيه من الإيماء إلى التقصير في الشكر.

__________________

(١) أخرجه البخاري في : فضائل القرآن ، ٣١ ـ باب حسن الصوت بالقراءة ، حديث رقم ٢٠٩٧.

وأخرجه مسلم في : صلاة المسافرين وقصرها ، حديث رقم ٢٣٦.

٢١١

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) (٨١)

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً) أي سخرناها له (تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) وهي بيت المقدس (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) أي ما تقتضيه الحكمة البالغة فيه. وهذا كقوله تعالى : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) [ص : ٣٦].

قال الزمخشري رحمه‌الله : فإن قلت : وصفت هذه الريح بالعصف تارة وبالرخاوة أخرى ، فما التوفيق بينهما؟ قلت : كانت في نفسها رخية طيبة كالنسيم. فإذا مرت بكرسيّه أبعدت به في مدة يسيرة على ما قال : (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) [سبأ : ١٢] ، فكان جمعها بين الأمرين ، أن تكون رخاء في نفسها ، وعاصفة في عملها ، مع طاعتها لسليمان ، وهبوبها على حسب ما يريد ويحتكم ، آية إلى آية ، ومعجزة إلى معجزة.

قال في (الانتصاف) : وهذا كما ورد في وصف عصا موسى تارة بأنها جانّ وتارة بأنها ثعبان. والجانّ الرقيق من الحيات والثعبان العظيم الجافي منها. ووجه ذلك أنها جمعت الوصفين فكانت في خفتها وفي سرعة حركتها كالجانّ ، وكانت في عظم خلقها كالثعبان ، ففي كل واحد من الريح والعصا ، على هذا التقرير ، معجزتان. والله أعلم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) (٨٢)

(وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ) أي في البحر لاستخراج نفائسه ، تكميلا لخزائنه وتزيينا لقومه (وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) أي غير ذلك كبناء المدن والقصور واختراع الصنائع العجيبة كما قال تعالى : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ) [سبأ : ١٣] ، (وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) أي مؤيدين ومعينين.

تنبيه :

الشياطين المذكورون ، إما مردة الإنس وأشداؤهم ، وإما مردة الجن لظاهر

٢١٢

اللفظ. وعليه قال الجبائيّ : كيف يتهيأ لهم هذه الأعمال وأجسامهم رقيقة لا يقدرون على عمل الثقيل؟ وإنما يمكنهم الوسوسة. وأجاب بأنه تعالى كثّف أجسامهم خاصة وقواهم ، وزاد في عظمهم ليكون ذلك معجزا لسليمان عليه‌السلام. والله أعلم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) (٨٤)

(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ).

أي اذكر أيوب وما أصابه من البلاء ودعاءه ربه في كشف ما نزل به ، واستجابته تعالى دعاءه وما امتن به عليه في رفع البلاء. وما ضاعف له بعد صبره من النعماء ، لتعلم أن النصر مع الصبر ، وأن عاقبة العسر اليسر. وأن لك الأسوة بمثل هذا النبيّ الصبور ، فيما ينزل أحيانا بك من ضرّ. وأن البلاء لم ينج منه الأنبياء. بل هم أشد الناس ابتلاء. كما في الحديث (١)(أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل).

وإن من أسباب الفرج دعاءه تعالى والابتهال إليه والتضرع له ، وذكره بأسمائه الحسنى وصفاته العليا. وإن البلاء لا يدل على الهوان والشقاء. فإن السعادة والشقاء في هذا العالم لا يترتبان على صالح الأعمال وسيئها. لأن الدنيا ليست دار جزاء. وإن عاقبة الصدق في الصبر ، هي توفية الأجر ومضاعفة البر. وقد روي أن أيوب عليه‌السلام ، لما امتحن بما فقد معه أرزاقه وهلك به جميع آل بيته ، وبما لبث يعاني من قروح جسده آلاما ، وصبر وشكر ، رحمه مولاه فعادت له صحة بدنه وأوتي أضعاف ما فقده. ورزق عدة أولاد ، وعاش عمرا طويلا أبصر أولاد أولاده إلى الجيل الرابع. ولذا قال تعالى : (وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) أي تذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر ، حتى يثابوا كما أثيب في الدنيا والآخرة. وبالجملة فالسر هو تثبيت قلوب المؤمنين

__________________

(١) أخرجه الترمذي في : الزهد ، ٥٧ ـ باب ما جاء في الصبر على البلاء ، عن سعد.

٢١٣

وحملهم على الصبر في المجاهدة في سبيل الحق. وقد روى المفسرون هاهنا في بلاء أيوب روايات مختلفات ، بأسانيد واهيات ، لا يقام لها عند أئمة الأثر وزن. ولا تعار من الثقة أدنى نظر. نعم يوجد في التوراة سفر لأيوب فيه من شرح ضره ، بفقد كل مقتنياته ومواشيه وآل بيته ، وبنزول مرض شديد به ، عدم معه الراحة ولذة الحياة ، غرائب. إلا أنها مما لا يوثق بها جميعها. لما داخلها من المزيج ، وتوسع بها في الدخيل ، حتى اختلط الحابل بالنابل. وإن كان يؤخذ من مجموعها بلاء فادح وضر مدهش. ولو علم الله خيرا في أكثر مما أجمله في تنزيله الحكيم ، لتفضل علينا بتفصيله. ولذا يوقف عند إجماله فيما أجمل ، وتفصيله فيما فصّل.

تنبيه :

قال بعضهم : أكثر المحققين على أن أيوب كان بعد زمن إبراهيم عليهما‌السلام. وأنه كان غنيّا من أرباب العقار والماشية. وكان أميرا في قومه. وأن أملاكه ومنزله في أرض خصيبة رائعة التربة كثيرة المياه المتسلسلة في الجنوب الشرقي من البحر الميت. ومن جبل سعير بين بلاد أدوم وصحراء العربية. والله أعلم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٨٦)

(وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ ، كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) أي على القيام بأمر الله ، وعلى شدائد النوب ، وعلى احتمال الأذى في نصرة دينه تعالى ، ففيهم أعظم أسوة (وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا) أي في النبوة أو في نعمة الآخرة (إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي الكاملين في الصلاح.

قال ابن كثير : أما إسماعيل فالمراد به ابن إبراهيم الخليل عليهما‌السلام. وقد تقدم ذكره في سورة مريم. وكذا إدريس عليه‌السلام. وأما ذو الكفل فالظاهر من السياق أنه ما قرن مع الأنبياء إلا وهو نبيّ.

وقال آخرون : إنما كان رجلا صالحا ، وكان ملكا عادلا وحكما مقسطا ، وتوقف ابن جرير في ذلك ، فالله أعلم.

وذهب بعض المحققين إلى أن ذا الكفل هو حزقيل عليه‌السلام.

٢١٤

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (٨٨)

(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) أي اذكر ذا النون يعني صاحب الحوت ، وهو يونس عليه‌السلام ، وصبره على ما أصابه ، ثم إنابته ونجاته ، ليتثبت في نبئه فؤادك ويقوى على الصبر على ما يقوله الطغاة جنانك. وهذه القصة مذكورة هاهنا وفي سورة (الصافات) وفي سورة (ن). وذلك أن يونس بن متى عليه‌السلام ، أمره الله أن ينطلق إلى أهل نينوى ـ من أرض الموصل ، كرسي سلطنة الآشوريين ليدعوهم إلى الإيمان به تعالى وحده ، وإلى إقامة القسط ونشر العدل وحسن السيرة. وكانوا على الضد من ذلك ، تعاظم كفرهم وتزايد شرهم. فخشي أن لا يتم له الأمر معهم ، فأبق من بيت المقدس إلى يافا. ونزل في سفينة سائرة إلى ترشيش ليقيم فيها. فأرسل الله ريحا شديدة على البحر أشرفت السفينة معه على الغرق. فتخفف الركاب من أمتعتهم فلم يفد ، فوقع في أنفسهم أن في السفينة شخصا سيهلكون بسببه ، فاقترعوا لينظروا من هو فخرجت القرعة على يونس ، فقذفوه في البحر وسكن جيشانه وتموجه. وهيأ الله حوتا ليونس فابتلعه ، فمكث في جوف الحوت ثلاثة أيام. ثم دعا ربه فاستجاب له ، وألقاه الحوت على الساحل. ثم أوحى الله إلى يونس ثانية بالمسير إلى نينوى ، ودعوتها إلى الله تعالى ، فوصلها ونادى فيهم بالتوحيد والتوبة. وتوعدهم إن لم يؤمنوا أن تنقلب بهم نينوى ، فلما تحققوا ذلك آمنوا. فرفع الله عنهم العذاب ، قال تعالى (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) [يونس : ٩٨].

تنبيهات :

الأول ـ يونس عليه‌السلام يسمى في التوراة (يونان) وهو عبراني. ويقال إنه من جت حافر وهي قرية في سبط زبولون ، في شمال الأرض المقدسة. وإنه نبّئ قبل المسيح بنحو ثمانمائة سنة. والله أعلم.

٢١٥

الثاني ـ أكثر المفسرين (كما حكاه الرازي) على أن يونس ذهب مغاضبا لربه. وأنه ظن بإباقه إلى الفلك ، وتركه المسير إلى نينوى أولا ، أن يترك ولا يقاصّ. قال بعض المحققين : إنما خالف يونس أولا الأمر الإلهي وترخص فيه ، مخافة أن يظن أنه نبيّ كاذب إذا تاب أهل نينوى وعفا الله عن جرمهم. وإيثار صيغة المبالغة في (مغاضبا) للمبالغة. لأن أصله يكون بين اثنين ، يجهد كل منهما في غلبة الآخر. فيقتضي بذل المقدور والتناهي. فاستعمل في لازمه للمبالغة ، دون قصد (مفاعلة) وقد استدل بظاهر هذه الآية وأمثالها ، من ذهب إلى جواز صدور الخطأ من الأنبياء ، إلا الكذب في التبليغ ، فإنه لا يجوز عليهم الخطأ فيه ، لأنه حجة الله على عباده. وإلا ما يجري مجرى بيان الوحي ، فإنه لا يجوز عليهم الخطأ في حال بيان المشروع. وهو قول الكرامية في المرجئة (كما في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد) وقول الباقلاني من الأشعرية : (على ما حكاه ابن حزم في الملل). وأما الجمهور المانعون من ذلك ، فلهم في هذه الآية وأشباهها تأويلات. ونحن نؤثر ما قاله ابن حزم في هذا المقام ، لأنه أطلق لسانا ، قال رحمه‌الله (بعد أن حكى مذهب الكرامية المذكور) : وذهب أهل السنة والمعتزلة والنجاريّة والخوارج والشيعة إلى أنه لا يجوز البتة أن يقع من نبيّ معصية بعمد لا صغيرة ولا كبيرة.

ثم قال : وهذا القول الذي ندين الله تعالى به. ولا يحل لأحد أن يدين بسواه. ونقول : إنه يقع من الأنبياء السهو عن غير قصد. ويقع منهم أيضا قصد الشيء يريدون به وجه الله تعالى ، والتقرب به منه. فيوافق خلاف مراد الله تعالى. إلا أنه تعالى لا يقرهم على شيء من هذين الوجهين أصلا ، بل ينبههم على ذلك ولا بد ، إثر وقوعه منهم. وربما يبغض المكروه في الدنيا ، كالذي أصاب آدم ويونس والأنبياء عليهم‌السلام ، بخلافنا في هذا. فإننا غير مؤاخذين بما سهونا فيه ، ولا بما قصدنا به وجه الله عزوجل ، فلم يصادف مراده تعالى. بل نحن مأجورون على هذا الوجه أجرا واحدا.

ثم قال (في الكلام على يونس عليه‌السلام) : وأما إخبار الله تعالى أن يونس ذهب مغاضبا ، فلم يغاضب ربه قط ، ولا قال الله تعالى إنه غاضب ربه. فمن زاد هذه الزيادة كان قائلا على الله الكذب ، وزائدا في القرآن ما ليس فيه. هذا لا يحل ولا يجوز أن يظن بمن له أدنى مسكة من عقل ، أنه يغاضب ربه تعالى. فكيف أن يفعل ذلك نبيّ من الأنبياء؟ فعلمنا يقينا أنه إنما غاضب قومه ، ولم يوافق ذلك مراد الله عزوجل ، فعوقب بذلك. وإن كان يونس عليه‌السلام لم يقصد بذلك إلا رضاء الله عزّ

٢١٦

وجلّ. وأما قوله تعالى : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) فليس على ما ظنوه من الظن السخيف الذي لا يجوز أن يظن بضعيفة من النساء أو بضعيف من الرجال. إلا أن يكون قد بلغ الغاية من الجهل. فكيف بنبيّ مفضل على الناس في العلم؟ ومن المحال المتيقن أن يكون نبيّ يظن أن الله تعالى الذي أرسله بدينه لا يقدر عليه. وهو يرى أن آدميّا مثله يقدر عليه. ولا شك في أن من نسب هذا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الفاضل ، فإنه يشتد غضبه لو نسب ذلك إليه أو إلى ابنه. فكيف إلى يونس بن متى الذي يقول فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١)(لا تفضلوني على يونس بن متى)؟ فقد بطل ظنهم بلا شك ، وصح أن معنى قوله (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي لن نضيق عليه كما قال تعالى (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) [الفجر : ١٦] ، أي ضيق عليه. فظن يونس عليه‌السلام أن الله تعالى لا يضيق عليه في مغاضبته لقومه ، إذ ظن أنه محسن في فعله ذلك : وإنما نهى الله عزوجل ، محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أن يكون كصاحب الحوت ، فنعم ، نهاه الله عزوجل عن مغاضبة قومه ، وأمره بالصبر على أذاهم وبالمطاولة لهم. وأما قوله تعالى : أنه استحق الذم والملامة ، لو لا النعمة التي تداركه بها ، للبث معاقبا في بطن الحوت ، فهذا نفس ما قلناه من أن الأنبياء عليهم‌السلام يؤاخذون في الدنيا على ما فعلوه ، مما يظنونه خيرا وقربة إلى الله عزوجل ، إذا لم يوافق مراد ربهم. وعلى هذا الوجه أقر على نفسه بأنه كان من الظالمين. والظلم وضع الشيء في غير موضعه. فلما وضع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم المغاضبة في غير موضعها ، اعترف في ذلك بالظلم. لا على أنه قصده وهو يدري أنه ظلم. انتهى كلام ابن حزم.

وأقول : إن الذي يفتح باب الإشكالات هو التعمق في الألفاظ. والتنطع في شرحها وتوليد معاني ولوازم لها ، والتوسع في وجوهها توسعا يميت رونق التركيب ونصاعة بلاغته. ومعلوم أن التنزيل الكريم فاق سائر أساليب الكلام المعهودة بأسلوبه البديع. ولذا كانت آية تأخذ بمجامع القلوب رقة وانسجاما. وبلاغة وانتظاما. فلا ترى في كلمه إلا المختارات لطفا ، ولا في جمله إلا الفخيمات تركيبا ، ولا في إشاراته إلا الأقوى رمزا ، ولا في كناياته إلا الأعلى مغزى. ومن ذلك سنته في الملام والوعيد من إفراغ القول في أبلغ قالب شديد ، مما يؤخذ منه شدة الخطب ، وقوة العتب وذلك لعزة الجناب الإلهي والمقام الرباني. فالعربيّ البليغ طبعا ، الذائق جبلة ،

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الأنبياء ، ٣٥ ـ باب قول الله تعالى : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) ، حديث رقم ١٦٠٠ ، عن ابن عباس ، ونصه : ما ينبغي لعبد أن يقول : إني خير من يونس بن متى.

٢١٧

إذا تلي عليه مجمل نبأ يونس عليه‌السلام في هذه الآية ، يدهش لما ترمي إليه من قوة العتب والملام ، وأنه بإباقه غاضب مولاه ، غضبا لا يماثل الغضب على العصاة. فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين. وأنه ظن أن ينسى فلا يؤاخذ. ويفلت فلا يحصر. فأتاه ما لم يكن على بال. ووقع في شرك قدرة المتعال ، ثم تداركته النعمة ، ولحقته الرحمة. هذا مجمل ما يفهم من الآية منطوقا ومفهوما. فافهم ما ذكرته لك. فإنه يبلغك من التحقيق أملك.

الثالث : عدّ بعض الملاحدة ابتلاع الحوت يونس محالا. فكتب بعض المحققين مجيبا بأن هذا إنكار لقدرة الله فاطر السموات والأرض. الذي له في خلقه غرائب. ومنها الحيتان المتنوعة الهائلة الجثث ، التي لم يزل يصطاد منها في هذا العصر ، وفي بطونها أجساد الناس بملابسهم. وكتب آخر : لم يتعرض لتعيين نوع الحوت الذي ابتلع يونس. ولعله فيما قال قوم من المحققين. من النوع المعروف عند بعضهم (بالزفا) وهو من كبار الحيتان يكون في بحر الروم ، واسع الحلقوم ، حتى أنه ليبتلع الرجل برمته ، دون أن يشدخه أو يجرحه. حتى يبقى في الإمكان أن يخرج منه وهو حيّ : ومع ذلك فلم يكن بغير معجزة بقاؤه ثلاثة أيام في جوف هذا الحوت ، ولبث مالكا رشده متمكنا من التسبيح والدعاء. انتهى.

الرابع : الجمع في قوله : (فِي الظُّلُماتِ) إما على حقيقته ، وهي ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل. وقد روي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما. أو مجاز ، يجعل الظلمة لشدتها وتكاثفها في بطن الحوت كأنها ظلمات. والمراد منها أحد المذكورات ، أو بطن الحوت. وقدمه الزمخشري ونظره بآية (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ) [البقرة : ١٧].

الخامس : قوله تعالى : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) أي دعاؤه (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ) يعني بأن قذفه الحوت إلى الساحل ، قيل لم يقل (فنجيناه) كما قال في قصة أيوب عليه‌السلام (فَكَشَفْنا) [الأنبياء : ٨٤] ، لأنه دعا بالخلاص من الضر ، فالكشف المذكور يترتب على استجابته ويونس عليه‌السلام لم يدع ، فلم يوجد وجه الترتيب في استجابته. وردّ بأن (الفاء) في قصة أيوب تفسيرية. والعطف هنا أيضا تفسيري. والتفنن طريقة مسلوكة في علم البلاغة. ثم لا نسلم أن يونس لم يدع بالخلاص ولو لم يكن دعاء لم تتحقق الاستجابة. واستظهر الشهاب في سر الإتيان بالفاء ثمة. والواو هنا غير التفنن المذكور. أن يقال : إن الأول دعاء بكشف الضر وتلطف في السؤال.

٢١٨

فلما أجمل في الاستجابة ، وكان السؤال بطريق الإيماء ، ناسب أن يؤتى بالفاء التفصيلية. وأما هنا ، فإنه لما هاجر من غير أمر ، على خلاف معتاد الأنبياء عليهم‌السلام. كان ذلك ذنبا. كما أشار إليه بقوله : (مِنَ الظَّالِمِينَ) فما أومأ إليه هو الدعاء بعدم مؤاخذته بما صدر منه من سيئات الأبرار. فالاستجابة عبارة عن قبول توبته وعدم مؤاخذته : وليس ما بعده تفسيرا له ، بل زيادة إحسان على مطلوبه. ولذا عطف بالواو. انتهى.

السادس : قوله (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) أي إذا كانوا في غموم ، وأخلصوا في أدعيتهم منيبين ، لا سيما بهذا الدعاء : وقد روي في الترغيب آثار : منها عند أحمد والترمذي (دعوة (١) ذي النون ، لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط ، إلا استجاب له). وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) (٨٩)

(وَزَكَرِيَّا) أي واذكر خبره (إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً) أي حين طلب أن يهبه ربه ولدا يكون من بعده نبيّا ، ولا يتركه فردا وحيدا بلا وارث ، وقد تقدمت القصة مبسوطة في أول سورة مريم وفي سورة آل عمران أيضا. وقوله : (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) ثناء مناسب للمسألة. قال الغزالي في (شرح الأسماء الحسنى) : الوارث هو الذي ترجع إليه الأملاك بعد فناء الملاك. وذلك هو الله سبحانه ، إذ هو الباقي بعد فناء خلقه ، وإليه مرجع كل شيء ومصيره. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) (٩٠)

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ) أي دعاءه (وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) أي أصلحناها للولادة بعد عقرها ، معجزة وكرامة له. وقوله تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ١ / ١٧٠ ، والحديث رقم ١٤٦٢.

وأخرجه الترمذي في : الدعوات ، ٨١ ـ باب حدثنا محمد بن يحيى.

٢١٩

الْخَيْراتِ) تعليل لما فصّل من فنون إحسانه تعالى ، المتعلقة بالأنبياء المذكورين ، أي كانوا يبادرون في كل باب من الخير. وإيثار (في) على (إلى) للإشارة إلى ثباتهم واستقرارهم في أصل الخير. لأن (إلى) تدل على الخروج عن الشيء والتوجه إليه (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) أي ذوي رغب ورهب ، أو راغبين في الثواب راجين للإجابة (وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) أي مخبتين متضرعين. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) (٩١)

(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) أي اذكر نبأ التي أحصنته إحصانا كليا ، عن الحلال والحرام جميعا. كما قالت : (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) [آل عمران : ٤٧] و [مريم : ٢٠]. والتعبير عنها بالموصول ، لتفخيم شأنها ، وتنزيهها عما زعموه في حقها ، بادئ بدء (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) أي نفخنا الروح في عيسى فيها. أي أحييناه في جوفها. فنزّل نفخ الروح في عيسى ، لكونه في جوف مريم ، منزلة نفخ الروح فيها. ونفخ الروح في الجسد عبارة عن إحيائه. وقيل : المعنى فعلنا النفخ فيها من جهة روحنا جبريل عليه‌السلام ، أي أمرناه فنفخ. أو فنفخنا فيها بعض روحنا ، أي بعض الأرواح المخلوقة لنا. وذلك البعض هو روح عيسى ، لأنها وصلت في الهواء الذي نفخه في رحمها (وَجَعَلْناها وَابْنَها) أي نبأهما (آيَةً لِلْعالَمِينَ) أي في كمال قدرته واختصاصه من شاء بما شاء. وقد كان من آيتهما إتيان الرزق لمريم في غير أوانه. وتثمير النخل اليابس. وإجراء العين ، ونطق ابنها في المهد. وإحياء الموتى. وإبراء الأكمه والأبرص.

قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل (ءايتين) كما قال : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) [الإسراء : ١٢]؟ قلت : لأن حالهما بمجموعهما آية واحدة. وهي ولادتها إياه من غير فحل. انتهى. وقيل : المعنى (وجعلناها آية وابنها آية). فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها. ولما أنهى ما ذكر تعالى من شأن جماعة من الأنبياء صلوات الله عليهم ، أشار إلى أن عقائدهم وأصول دينهم واحدة ، بقوله سبحانه وتعالى :

٢٢٠