تفسير القاسمي - ج ٧

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٧

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٥

السَّامِرِيُ) يعني اليهوديّ الذي وسوس لهم أن يعبدوا عجلا يتخذوه إلها ، لما طالت عليهم غيبة موسى ويئسوا من رجوعه. و (السامري) في لغة العرب ، بمعني اليهودي. وقد قال بالظن ، من ادعى تسميته أو حاول تعيينه. وأما الطائفة السامرية الآن فهم فئة من اليهود في (نابلس) قليلة العدد تخالف بقية اليهود في جلّ عاداتها.

وقد تضمنت هذه الجملة ـ أعني إخباره تعالى لموسى بالفتنة ـ الأمر ـ برجوعه لقومه ، وإصلاحه ما فسد من حالهم ، كما قال تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) (٨٦)

(فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) أي حزينا (قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً) أي بإنزال التوراة عليّ ، ورجوعي بها إليكم (أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ) أي زمان الإنجاز ، أو مجيئي (أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) أي وعدكم إياي بالثبات على ما أمرتكم به إلى أن أرجع من الميقات.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) (٨٨)

(قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا) قرئ بالحركات الثلاث على الميم.

قال الزمخشري : أي ما أخلفنا موعدك ، بأن ملكنا أمرنا. أي لو ملكنا أمرنا ، وخلينا وراءنا ، لما أخلفناه. ولكن غلبنا من جهة السامريّ وكيده (وَلكِنَّا حُمِّلْنا) بفتح الحاء مخففا ، وبضمها وكسر الميم مشددا (أَوْزاراً) أي أثقالا وأحمالا (مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ) أي من حلي القبط ، قوم فرعون ، وهو حليّ نسائهم (فَقَذَفْناها) أي في النار لسبكها (فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ) أي كان إلقاؤه (فَأَخْرَجَ لَهُمْ) أي من تلك الحليّ المذابة (عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) أي صوت عجل. وقد قيل : إنه صار حيّا ، وخار

١٤١

كما يخور العجل. وقيل : لم تحلّه الحياة وإنما جعل فيه منافذ ومخارق ، بحيث تدخل فيها الرياح فيخرج صوت يشبه صوت العجل. أفاده الرازي.

وقوله : (فَقالُوا) أي السامريّ ومن افتتنوا به (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) أي غفل عنه وذهب يطلبه في الطور. ثم أنكر تعالى على من ضل بهذا العجل وأضل. مسفها لهم فيما أقدموا عليه ، مما لا يشتبه بطلانه على أحد ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) (٨٩)

(أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ) أي العجل (إِلَيْهِمْ قَوْلاً) أي لا يردد لهم جوابا (وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) أي دفع ضرّ ولا جلب نفع ، أي فكيف يتخذ إلها؟.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) (٩٠)

(وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ) أي قبل رجوع موسى إليهم (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) أي ضللتم بعبادته (وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) في عبادته سبحانه ، ونبذ العجل.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) (٩٣)

(قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى قالَ) أي موسى (يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ) أي في الغضب لله ، وشدة الزجر عن الكفر. و (لا) مزيدة. أو المعنى ما حملك على أن لا تتبعني ، بحمل النقيض على النقيض. فإن المنع عن الشيء مستلزم للحمل على مقابله. أو ما منعك أن تلحقني وتخبرني بضلالهم ، فتكون مفارقتك مزجرة لهم (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) وهو ما أمره به من أن يخلفه في قومه ، ويصلح ما يراه فاسدا.

١٤٢

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (٩٤)

(قالَ) أي هارون (يَا بْنَ أُمَ) بكسر الميم وفتحها. أراد (أمي) وذكرها أعطف لقلبه (لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) أي بشعره. وكان قبض عليهما يجره إليه من شدة غضبه : (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي بتركهم لا راعي لهم (وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) أي لم تراعه في الاستخلاف والوجود بين ظهرانيهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ) (٩٥)

(قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُ) أي ثم أقبل على السامري وقال له منكرا : ما شأنك فيما صنعت؟ وما دعاك إليه؟.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) (٩٧)

(قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) أي فطنت لما لم يفطنوا له (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها) أي في الحلي المذاب حتى حيّ (وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) أي حسّنته وزينته (قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ) أي لعذابك (مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) أي لنطيّرنّه رمادا في البحر ، بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر.

تنبيهات :

الأول ـ اعلم أن هارون عليه‌السلام ، سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه. لأنه زجرهم عن الباطل ، أوّلا بقوله (إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) ثم دعاهم لمعرفة الله تعالى ثانيا بقوله : (وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ) ثم دعاهم ثالثا إلى معرفة النبوة بقوله تعالى :

١٤٣

(فَاتَّبِعُونِي) ثم دعاهم إلى الشرائع رابعا بقوله : (وَأَطِيعُوا أَمْرِي) وهذا هو الترتيب الجيّد. لأنه لا بد قبل كل شيء في إماطة الأذى عن الطريق ، وهو إزالة الشبهات. ثم معرفة الله تعالى ، فإنها هي الأصل. ثم النبوة ثم الشريعة. فثبت أن هذا الترتيب على أحسن الوجوه. أفاده الرازي.

وقد برأ الله تعالى بهذه الآيات البينات ، هارون عليه‌السلام مما افتراه عليه كتبة التوراة ، من أنه هو السامري الذي اتخذ العجل وأمر بعبادته ، كما هو موجود عندهم. وهو من أعظم الفري ، بلا امتراء.

الثاني ـ عامة المفسرين قالوا : المراد بالرسول في قوله تعالى : (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) هو جبريل عليه‌السلام. وأراد بأثره ، التراب الذي أخذه من موضع حافر دابته. ثم اختلفوا : أن السامري متى رآه؟ فقيل : إنما رآه يوم فلق البحر. وقيل : وقت ذهابه بموسى إلى الطور.

واختلفوا أيضا في : أن السامري كيف اختص برؤية جبريل عليه‌السلام ، ومعرفته من بين سائر الناس؟ فقيل إنما عرفه لأنه رآه في صغره ، وحفظه من قتل آل فرعون له ، وكان ممن رباه. وكل هذا ليس عليه أثارة من علم ولا يدل عليه التنزيل الكريم. ولذا قال أبو مسلم الأصفهاني : ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون. فههنا وجه آخر وهو : أن يكون المراد بالرسول موسى عليه‌السلام. وبأثره سنته ورسمه الذي أمر به ، فقد يقول الرجل : فلان يقفو أثر فلان ويقبض أثره ، إذا كان يمتثل رسمه. والتقدير ، أن موسى عليه‌السلام لما أقبل على السامري باللوم ، والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في باب العجل ، فقال ((بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) أي عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق ، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول ، أي شيئا من سنتك ودينك. فقذفته ، أي طرحته. فعند ذلك أعلمه موسى عليه‌السلام بما له من العذاب في الدنيا والآخرة. وإنما أورد بلفظ الإخبار عن غائب ، كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له : ما يقول الأمير في كذا؟ وبما ذا يأمر الأمير؟.

وأما دعاؤه موسى عليه‌السلام رسولا ، مع جحده وكفره ، فعلى مثل مذهب من حكى الله تعالى عنه قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر : ٦] ، وإن لم يؤمنوا بالإنزال. انتهى.

قال الرازي : ما ذكره أبو مسلم أقرب إلى التحقيق مما ذكره المفسرون ، لوجوه :

١٤٤

أحدها ـ أن جبريل عليه‌السلام ليس بمشهور باسم الرسول. ولم يجر له فيما تقدم ذكر ، حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه. فإطلاق لفظ (الرسول) لإرادة جبريل عليه‌السلام ، كأنه تكليف بعلم الغيب.

وثانيها ـ أنه لا بد فيه من الإضمار. وهو قبضة من أثر حافر فرس الرسول. والإضمار خلاف الأصل.

وثالثها ـ أنه لا بد من التعسف في بيان أن السامري كيف اختص من بين جميع الناس برؤية جبريل عليه‌السلام ومعرفته؟ ثم كيف عرف أن لتراب حافر فرسه هذا الأثر؟ والذي ذكروه من أن جبريل عليه‌السلام هو الذي رباه ، فبعيد. لأن السامري ، إن عرف جبريل حال كمال عقله ، عرف قطعا أن موسى عليه‌السلام نبيّ صادق. فكيف يحاول الإضلال؟ وإن كان ما عرفه حال البلوغ ، فأيّ منفعة لكون جبريل عليه‌السلام مربيا له حال الطفولية ، في حصول تلك المعرفة؟ انتهى.

التنبيه الثالث في قوله (لا مِساسَ) وجوه :

أحدها ـ إني لا أمسّ ولا أمسّ.

وثانيها ـ المراد المنع من أن يخالط أحدا أو يخالطه أحد ، عقوبة له.

ثالثها ـ ما ذكره أبو مسلم من أنه يجوز في حمله (ما أريد مسي النساء) فيكون من تعذيب الله إياه انقطاع نسله. فلا يكون له ولد يؤنسه ، فيخليه الله تعالى من زينتي الدنيا اللتين ذكرهما بقوله : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) [الكهف : ٤٦] ، أي لأن المسّ يكنى به عن النكاح كما في آية (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) [البقرة : ٢٣٧] ، والله أعلم.

ولما فرغ موسى عليه‌السلام من إبطال ما دعا إليه السامري ، عاد إلى بيان الدين الحق ، فقال :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) (٩٨)

(إِنَّما إِلهُكُمُ) أي المستحق للعبادة والتعظيم (اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي أحاط علمه كل شيء. ثم أشار تعالى إلى فضله ، فيما قصه على خاتم رسله صلوات الله عليه ، من أنباء الأنبياء ، تنويها بشأنه ، وزيادة في معجزاته ، وتكثيرا للاعتبار والاستبصار في آياته ، بقوله سبحانه :

١٤٥

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) (٩٩)

(كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ ، وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) أي كتابا عظيما جامعا لكل كمال ، وسمي القرآن (ذِكْراً) لما فيه من ذكر ما يحتاج إلى الناس من أمر دينهم ودنياهم ، ومن ذكر آلاء الله ونعمائه. ففيه التذكير والمواعظ ، ولما فيه من الذكر والشرف له صلوات الله عليه ولقومه.

قال الرازي : وقد سمى تعالى كل كتبه (ذكرا) فقال (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) [النحل : ٤٣] ، ثم ، كما بيّن تعالى نعمته بذلك ، بيّن شدة الوعيد لمن أعرض عنه ولم يؤمن به ، بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً) (١٠١)

(مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً) أي إثما. يعني عقوبة ثقيلة. شبهت بالحمل الثقيل لثقلها على المعاقب وصعوبة احتمالها (خالِدِينَ فِيهِ) أي في احتماله المستمر (وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً). وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً) (١٠٣)

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) بدل من يوم القيامة أو منصوب بمحذوف. والنفخ في الصور تمثيل لبعث الله للناس يوم القيامة بسرعة لا يمثلها إلا نفخة في بوق (فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) [الزمر : ٦٨] ، وعلينا أن نؤمن بما ورد من النفخ في الصور. وليس علينا أن نعلم ما هي حقيقة ذلك الصور. والبحث وراء هذا ، عبث لا يسوغ للمسلم. أفاده بعض المحققين.

(وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ) أي نسوقهم إلى جهنم (يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) أي زرق الوجوه. الزرقة تقرب من السواد. فهو بمعنى آية (وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ). [آل عمران : ١٠٦].

١٤٦

وقال أبو مسلم : المراد بهذه الزرقة شخوص أبصارهم. والأزرق شاخص ، لأنه لضعف بصره ، يكون محدقا نحو الشيء يريد أن يتبينه. وهذه حال الخائف المتوقع لما يكره. وهو كقوله تعالى : (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) [إبراهيم : ٤٢] ، نقله الرازي. والأول أظهر. (يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ) أي يتسارّون من الرعب والهول ، أو من الضعف ، قائلين (إِنْ لَبِثْتُمْ) أي في الدنيا (إِلَّا عَشْراً) أي عشر ليال. قال الزمخشري : يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا ، إما لما يعاينون من الشدائد التي تذكرهم أيام النعمة والسرور ، فيتأسّفون عليها ويصفونها بالقصر. لأن أيام السرور قصار. وإما لأنها ذهبت عنهم وتقضّت. والذاهب ، وإن طالت مدته ، قصير بالانتهاء. ومنه توقيع عبد الله بن المعتز تحت : أطال الله بقاءك (كفى بالانتهاء قصرا). وإما لاستطالتهم الآخرة ، وأنها أبد سرمد ، يستقصر إليها عمر الدنيا ، ويتقالّ لبث أهلها فيها ، بالقياس إلى لبثهم في الآخرة. وقد استرجح الله قول من يكون أشد ثقالا منهم ، في قوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً) (١٠٤)

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) أي أعدلهم رأيا (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) ونحوه قوله تعالى : (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ) [المؤمنون : ١١٢ ـ ١١٣] ، انتهى.

قال أبو السعود : ونسبة هذا القول إلى أمثلهم ، استرجاع منه تعالى له ، لكن لا لكونه أقرب إلى الصدق ، بل لكونه أدلّ على شدة الهول. أي : ولكونه منتهى الأعداد القليلة. وكذلك لبثهم بالنسبة إلى الخلود السرمديّ ، وإلى تقضي الغائب الذي كأن لم يكن. ولا ينافي هذا ما جاء في آية (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) [الروم : ٥٥] ، لأن المراد بالساعة الحصة من الزمان القليل ، فتصدق باليوم. كما أن المراد باليوم مطلق الوقت. ولذلك نكر ، تقليلا له وتحقيرا.

قال الشهاب : ليس المراد بحكاية قول من قال (عشرا) أو (يوما) أو (ساعة) حقيقة اختلافهم في مدة اللبث ، ولا الشك في تعيينه. بل المراد أنه لسرعة زواله ، عبر عن قلّته بما ذكر. فتفنن في الحكاية ، وأتى في كل مقام بما يليق به.

١٤٧

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) (١٠٧)

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ) أي هل تبقى يوم القيامة أو تزول (فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) أي يزيلها عن مقارّها. فيسيّرها مقذوفة في الفضاء. وقد تمرّ على الرؤوس مرّ السحاب. حتى تتساوى مع سطح الأرض. كما قال (فَيَذَرُها) أي فيذر مقارّها ومراكزها. أو الأرض المدلول عليها بقرينة الحال (قاعاً) أي سهلا مستويا (صَفْصَفاً) أي أملس (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) أي نتوءا يسيرا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً) (١٠٨)

(يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ) أي يجيبون الداعي إلى المحشر ، فينقلبون من كل صوب إليه (لا عِوَجَ لَهُ) أي لا يعوج له مدعوّ ، ولا ينحرف عنه. بل يستوون إليه. متبعين لصوته ، سائرين بسيره.

في شروح (الكشاف) : هذا كما يقال (لا عصيان له) أي لا يعصى. و (لا ظلم له) أي لا يظلم. وضمير (له) للداعي. وقيل : للمصدر. أي لا عوج لذلك الاتباع (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ) أي انخفضت لهيبته ولهول الفزع (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) أي صوتا خفيّا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) (١٠٩)

(يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) أي قبل قوله.

والمعنى : يومئذ لا يستطيع أحد أن يشفع لأحد ، إلا إذا أذن الله له. ولا يأذن إلا لمن علم أنه سيجاب.

قال بعض المحققين : وإنما يكون الكلام ضربا من التكريم ، لمن يأذن الله له به ، يختص به من يشاء. ولا أثر له فيما أراد الله البتة.

١٤٨

القول في تأويل قوله تعالى :

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (١١٠)

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) أي بمعلوماته ، أو بذاته العلية.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) (١١١)

(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) أي ذلت وخضعت خضوع العناة ، أي الأسارى.

لأنها في أسر مملكته وذلّ قهره وقدرته. لا تحيا ولا تقوم إلا به.

ولما كانت الوجوه يومئذ ، منها الظالمة لنفسها ومنها الصالحة ، أشار إلى ما يجزي به الكل ، بقوله سبحانه (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) أي خسر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) (١١٢)

(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً) أي نقص ثواب (وَلا هَضْماً) أي ولا كسرا منه ، بعدم توفيته.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) (١١٣)

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ) أي بعبارات شتى ، تصريحا وتلويحا ، وضروب أمثال ، وإقامة براهين (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي الكفر والمعاصي بالفعل (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) أي اتعاظا واعتبارا ، يؤول بهم إلى التقوى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (١١٤)

(فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) أي تناهى في العلوّ والعظمة ، بحيث لا يقدر قدره ،

١٤٩

ولا يغدر أمره في ملكه الذي يعلو كل شيء ، ويصرفه بمقتضى إرادته وقدرته. وفي عدله الذي يوفي كل أحد حقه بموجب حكمته (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) أي : بل أنصت. فإذا فرغ الملك من قراءته فاقرأه بعده. وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا لقّنه جبريل الوحي ، يتبعه عند تلفظ كل حرف وكل كلمة ، لكمال اعتنائه بالتلقي والحفظ. فأرشد إلى أن لا يساوقه في قراءته ، وأن يتأنّى عليه ريثما يسمعه ويفهمه. ثم ليقبل عليه بالحفظ بعد ذلك. ونحوه قوله تعالى (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) [القيامة : ١٦ ـ ١٩] ، ثم أمره تعالى باستفاضة العلم واستزادته منه بقوله : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) أي سله زيادة العلم. فإن مدده غير متناه.

وهذا ـ كما قال الزمخشري ـ متضمن للتواضع لله تعالى والشكر له ، عند ما علم من ترتيب التعلم. أي علمتني يا رب لطيفة في باب التعلم ، وأدبا جميلا ما كان عندي ، فزدني علما إلى علم. فإن لك في كل شيء حكمة وعلما. قيل : ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم.

ثم أشار تعالى إلى أخذه العهد على بني آدم ، من اتّباعهم كل هدى يأتيهم منه سبحانه ، وترتب الفوز عليه. وإلى أن الإعراض عنه من وسوسة الشيطان ، العدوّ لهم ولأبيهم قبلهم. وترتب الشقاء عليه ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (١١٥)

(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل هذا الزمان ، أن لا يقرب من الشجرة (فَنَسِيَ) أي العهد (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) أي تصميما في حفظه. إذ لو كان كذلك ، لما أزلّه الشيطان ولما استطاع أن يغرّه. كما بيّنه الله تعالى بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) (١١٧)

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) أي بالابتلاء. وإسناد الشقاء إليه خاصة ،

١٥٠

لأصالته في الأمور ، واستلزام شقائه بشقائها. فاختصر الكلام لذلك ، مع المحافظة على الفاصلة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) (١١٩)

(إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) أي لا تتصوّن من حرّ الشمس.

قال أبو السعود : هذا تعليل لما يوجبه النهي. فإن اجتماع أسباب الراحة فيها. مما يوجب المبالغة في الاهتمام بتحصيل مبادئ البقاء فيها. والجدّ في الانتهاء عما يؤدي إلى الخروج عنها. والعدول عن التصريح بأن له عليه‌السلام فيها تنعما بفنون النعم. من المآكل والمشارب ، وتمتعا بأصناف الملابس البهية والمساكن المرضية ، مع أن فيه من الترغيب في البقاء فيها ، ما لا يخفى. إلى ما ذكر من نفي نقائضها التي هي الجوع والعطش والعري والضحو ، لتذكير تلك الأمور المنكرة والتنبيه على ما فيها من أنواع الشقوة التي حذره عنها ، ليبالغ في التحامي عن السبب المؤدي إليها. انتهى.

لطيفة :

قال الناصر : في الآية سر بديع من البلاغة ، يسمى قطع النظير عن النظير. وذلك أنه قطع الظمأ عن الجوع ، والضحو عن الكسوة ، مع ما بينهما من التناسب. والغرض من ذلك تحقيق تعداد هذه النعم وتصنيفها : ولو قرن كلّا بشكله لتوهم المعدودات نعمة واحدة. وقد رمق أهل البلاغة سماء هذا المعنى قديما وحديثا ، فقال الكندي الأول :

كأنّي لم أركب جوادا للذّة

ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال

ولم أسبأ الزّقّ الرويّ ولم أقل

لخيلي : كرّي كرّة بعد إجفال

فقطع ركوب الجواد عن قوله (لخيلي كري كرة) وقطع تبطن الكاعب عن ترشف الكأس ، مع التناسب. وغرضه أن يعدّد ملاذّه ومفاخره ويكثرها.

على أن هذه الآية سرّا لذلك ، زائدا على ما ذكر ، وهو قصد تناسب الفواصل. ولو قرن الظمأ بالجوع فقيل : إن لك أن لا تجوع فيها ولا تظمأ ، لانتثر سلك رؤوس الآي. وأحسن به منتظما. انتهى. وهذا السرّ الذي سمّاه (قطع النظير عن النظير)

١٥١

يسمى بالوصل الخفي. ومما قيل في وجه القطع : أن فيه التنبيه على أن الأولين ، أعني الشبع والكسوة أصلان. وأن الأخيرين متممان. فالامتنان على هذا أظهر. ولذا فرّق بين القرينتين. فقيل (إنّ لك) و (أنّك) وأيضا روعي مناسبة الشبع والكسوة. لأن الأول يكسو العظام لحما. وأما الظمأ والضحى فمن واد واحد. وقيل : إن الغرض تعديد هذه النعم. ولو قرن كل بما يشاكله ، لتوهم المقرونان نعمة واحدة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) (١٢١)

(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ) أي من أكل منها خلد ولم يمت (وَمُلْكٍ لا يَبْلى فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما) أي يلزقان (مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) أي فحصل لهما هذا الخزي ، بدل عزّ الملك المخلد. وهذه الأوراق الفانية ، بدل نفائس الملابس الخالدة (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ) أي بارتكاب النهي ، وترك العزم في حفظ العهد (فَغَوى) أي عن المأمور به. حيث اعتز بقول العدوّ.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) (١٢٣)

(ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ) أي اصطفاه ووفّقه للإنابة (فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى قالَ) أي بعد قبول توبته (اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً) أي انزلا من الجنة إلى الأرض (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) أي متعادين.

قال المهايمي : فالمرأة عدوّة الزوج ، في إلجائه إلى تحصيل الحرام. والزوج عدوّها في إنفاقه عليها. وإبليس يوقع الفتنة بينهما ، ويدعوهما إلى أنواع المفاسد التي لا ترتفع إلا باتباع الأمر السماويّ. (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) أي من كتاب ورسول. (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) أي لا في الدنيا ولا الآخرة. قال أبو السعود : ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله (هداي) مع الإضافة إلى ضميره

١٥٢

تعالى ، لتشريفه والمبالغة في إيجاب اتباعه. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) (١٢٧)

(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) اعلم أنه لما أخبر سبحانه عن حال من اتبع هداه في معاشه ومعاده ، أخبر عن حال من أعرض عنه ولم يتبعه ، من شقائه في الدنيا والآخرة. وهذا الشقاء بقسميه ، هو نوع من أفانين العذاب اللاحقة لمن تولى عن هدى الله الذي بعث به خاتم أنبيائه ، ولم يقبله ولم يستجب له ، ولم يتعظ به فينزجر عما هو عليه مقيم من خلافه أمر ربه.

وفي الآية مسائل :

الأولى ـ قال الرازي في قوله تعالى : (عَنْ ذِكْرِي) : الذكر يقع على القرآن وعلى سائر كتب الله تعالى. ويحتمل أن يراد به الأدلة. وقال ابن القيّم في (مفتاح دار السعادة) : أي عن الذكر الذي أنزلته. و (الذكر) هنا مصدر مضاف إلى الفاعل. كـ (قيامي وقراءتي) لا إلى المفعول. وليس المعنى : ومن أعرض عن أن يذكرني. بل هذا لازم المعنى ومقتضاه من وجه آخر. وأحسن من هذا الوجه أن يقال : الذكر هنا مضاف إضافة الأسماء ، لا إضافة المصادر إلى معمولاتها. والمعنى : ومن أعرض عن كتابي ولم يتبعه ، فإن القرآن يسمى ذكرا. قال تعالى : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) [الأنبياء : ٥٠] ، وقال تعالى : (ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) [آل عمران : ٥٨]. وقال تعالى : (وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) [القلم : ٥٢]. وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ) [فصلت : ٤١]. وقال تعالى : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) [يس : ١١] ، وعلى هذا فإضافته كإضافة الأسماء الجوامد التي لا يقصد بها إضافة العامل إلى معموله. ونظيره في إضافة اسم الفاعل (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ) [غافر : ٣] ، فإن هذه الإضافات لم يقصد بها قصد الفعل

١٥٣

المتجدد ، وإنما قصد الوصف الثابت اللازم. ولذلك جرت أوصافا على أعرف المعارف ، وهو اسم الله تعالى في قوله تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ) [غافر : ٢ ـ ٣] الآية.

الثانية ـ قرئ (ضنكا) بالتنوين على أنه مصدر وصف به ، ولذا لم يؤنث لاستوائه في القبيلين. كما قال ابن مالك :

ونعتوا بمصدر كثيرا

فالتزموا الإفراد والتذكيرا

وفي القاموس : الضنك الضيق في كل شيء ، للذكر والأنثى. يقال : ضنك ككرم ، ضنكا وضناكة وضنوكة ، ضاق. وقال السمين : (ضنكا) صفة معيشة. وأصله المصدر فلذلك لم يؤنث. ويقع للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد. وقرأ الجمهور (ضنكا) بالتنوين وصلا ، وإبداله ألفا وقفا ، كسائر المعربات. وقرأت فرقة (ضنكي) بألف كسكري. وفي هذه الألف احتمالان : فإما أن تكون بدلا من التنوين ، وإنما أجرى الوصل مجرى الوقف ، وإما أن تكون ألف التأنيث بني المصدر على (فعلى) نحو دعوى.

الثالثة ـ ذكروا في هذه المعيشة الضنك التي للكافر أقوالا : إنها في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة أو في الدين. والأظهر الأول لمقابلته بالوعيد الأخروي. قال ابن كثير : أي ضنكا في الدنيا ، فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره. بل صدره ضيّق حرج لضلاله ، وإن تنعم ظاهره ، ولبس ما شاء ، وأكل ما شاء ، وسكن حيث شاء ، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى ، فهو في قلق وحيرة وشك. فلا يزال في ريبه يتردد : فهذا من ضنك المعيشة. انتهى.

وذلك لأن الاعتقاد بالدين الحق واليقين الصحيح لراحة الضمائر والأنفس ، فوق كل الأهواء والذات والمآرب. فالضنك المعنيّ بها ، إذن هو الضنك الحيويّ والقلق الدنيوي ، من اضطراب القلب وعدم سكون النفس إلى الاعتقاد الحق والإيمان بالدين القيّم الذي هو دين الإسلام. فكل من لم يؤمن به فهو في ضيق صدر وهموم ومحابس ، لا يجد منها مخارج إلا به ولا يرتاب في ذلك إلا من كابر حسه وناقض وجدانه. فإن دين الإسلام هو دين الفطرة. دين اليسر. دين العقل. دين النور الذي تنشرح به الصدور وتطمئن به القلوب وتشفى به الأنفس من أدوائها ، وتهتدي به من ضلالها وحيرتها ، وتستنير به من ظلماتها. ولذلك سمي هدى ونورا وشفاء ورحمة. ألق نظرك على الأديان كلها ، وقابل بينها وبينه ، لتدرك ذلك.

١٥٤

هذه اليهودية ، يرى في اشتراعها في الآصار والأغلال والتكاليف الشاقة في المعيشة الحيوية ما لا يطاق. قيود في المأكل والمشرب. وحجر في المنكح والمبيت والمعاشرة. وضغط على الأنفس بتقسيمها إلى طاهرين يحضرون الاحتفالات ، ونجسين مبعدين لا يلمسون ولا يلمسون. دع عنك خرافات الاعتقادات والافتراء بالأهواء في التشريعات وتشعبها في الأهواء إلى شعب تتباين في العبادات.

وهذه النصرانية ، الذي أساسها تعديل الشرعة الموسوية قام رهبانها بعد رفع المسيح ، ومضي عصر الحواريين. فأطلقوا لأتباعهم كل قيد في اليهودية. وأمروهم بنبذ أحكام التوراة نكاية لليهود. وأخذوا يشرعون للناس ما لا ينطبق على أصل التوراة ولا بعثة عيسى. فإنه عليه‌السلام قال (ما جئت لأهدم الناموس ـ التوراة ـ بل لأتممه) : فترى ما أحدث من طقوس الكنيسة وتعاليمها ، اعتقادا وعبادة وسلطة وسيطرة جائرة على العقل والفكر ، وربط الأمور بأيدي الكهنة حلّا وإبراما ، تبعا لرغائب الأنفس والشهوات ، مما يتضجر منه كل مسيحيّ ذاق جوهر الدين المسيحي حقّا. إذ جوهره مع ابتداعهم على طرفي نقيض ، فإنّى لا يضيق ذرعه ولا تضنك معيشته! لذلك لما استقر سلطان الإسلام بالأندلس ، واحتك النصارى بالمسلمين في الحروب الصليبية ، واستمدوا من معارف الإسلام وعلومه ما قلد جيدهم مننا لا تنكر ؛ أخذوا يقاومون الكنيسة في حظرها على المعارف والفنون ، ومعاداتها للعلوم. وجرى بإغراء الكهنة ، من الدماء المسفوكة ما اسودت به صحف التاريخ. ثم كان الفوز لدعاة الإصلاح. وتفرقوا أحزابا. ولا يزالون يتقربون إلى الإسلام ، بنبذهم سخائف ما ورثوه. ولذا تراهم في عيشة ضنك يسعون لأرقى مما هم عليه ، علما بأن الدخائل والبدع في دينهم ، أفسدت عليهم ما أفسدت. ولن يتسنى لهم الرقي إلا بالرجوع إلى دين الفطرة. وهم يسعون إليه ، وإن كانوا لا يشعرون ، أو يشعرون ويتجاهلون. هذه رشحات من المعيشة الضنك لأمتين عظيمتين ، وهما تنتميان إلى كتابين منزلين .. فما ظنك بالمجوس والوثنيين وفرقهم التي لا تحصى. ولا يزال عقلاؤهم يطلبون التملص منها ، لكثرة خرافاتها وضررها ، نفسا ومالا وعرضا. فأهلها في شقاء وعذاب لا يشاكله عذاب. ومن نجا من ويلاتها بالإسلام ، لا يعد ولا يحصى. وقس على هؤلاء ، الطائفة المسماة بالماديين. وهم الدهريون والطبيعيون. فإنهم بلا ريب أضيق صدرا وأضنك معيشة وأشد اضطرابا وأعظم فرقة. فلا يمكن أن يوجد اثنان على رأي واحد. بل يتصور كل منهم إلهه كما يهوى وكما تخيّله له رغائبه وشهواته. قال بعضهم : هؤلاء الذين يحصرون دينهم في أن يعرف الإنسان الله ، ويكون مستقيما في أعماله ، إذا سئلوا : ما هو الدين الطبيعي الذي تعترفون به؟ فيجيبون إنما هو الذي

١٥٥

يرشد إليه العقل عريّا عن الوحي. فيقال لهم : العقل ، من حيث هو ، ضعيف متغيّر قاصر. يرى اليوم صوبا ما يراه في الغد خطأ. ويحكم اليوم على أمر أنه حلال مباح ، ويرى غدا أنه حرام لا يجوز إتيانه. تحمله أغراضه على استحلال ما يلذّ له وتجعله مستنفرا مما يضادّ أهواءه ، فكيف يكون صاحبه مستقيما في أعماله؟ وما هي القاعدة المطردة الثابتة للاستقامة عند هؤلاء؟ وكلّ يرى نفسه ويخيّل له أنه مستقيم!! فالصيني مثلا يرى نفسه مستقيما ولو باع أو قتل أولاده. والهندي يرى هذه الاستقامة في نفسه ، ولو أحرق المرأة على جثة رجلها. والوثني يرى نفسه مستقيما ، ولو ارتكب الفحشاء تكرمة للزهرة.

هذا ، وإن أكبر الفلاسفة ضلّوا في موادّ ما يشرعون. ولم يهتدوا لجادّة الاستقامة الحقة. فإنّى يمكن لعامة الناس أن يكون لكل منهم دين طبيعي يقلبه كيف شاء ، ويجعله كشيء مرن ، يمده إلى ما طاب له ، ويقصره عن كل ما عافه. فيختلف هذا الدين باختلاف العقول والأهواء فيهم. وكيف نسمي شريعة ثابتة عامة ، ما كان وقفا على إرادة كل فرد وأهوائه؟ وإذا سلمنا ، مجاراة ، أنه يوجد من كان ميّالا طبعا إلى الاستقامة والعدل والعفة ، فيحمله طبعه على ذلك ، فماذا نقول فيمن كان بالطبع محبّا للانتقام والاعتداء والشهوات. لا سيما والعقل ضعيف والنفس أمّارة بالسوء ، فإنّى يكون العقل وحده وازعا عن ارتكاب المعاصي والجرائم. فما قضى سبحانه بشريعته لمخلوقاته رحمة منه بهم ، إلا لضعفهم وميلهم إلى الشر. وضعف الإنسان وانحرافه يقضي بإلزامه شريعة يخضع لها. فهي ضرورية له ضرورة نظام الأجرام الفلكية لها. وملازمة له ملازمة النطق والإدراك والحرية ، ولزوم الامتداد والثقل والجذب والدفع للأجرام الجامدة. وأول بينة على ملازمة الشريعة طبع الإنسان ، ما يجده في نفسه ووجدانه من انغراسها فيه انغراسا نظريّا. حتى لا يمكنه أن يجرّد نفسه. مثلا ، كيف يمكن للإنسان ، ولو مهما تعامى في الشر ، أن يجرّد نفسه عن تصور أنه خاضع لشريعة تنهاه عن القتل واختلاس مال غيره والاعتداء عليه بأيّ نوع كان؟ فالشريعة مكتوبة على قلوبنا في ألواح لحمية. ومن بحث عن عموم سكان البسيطة ، وجد إجماع القبائل والشعوب قاطبة على شرائع ، وإن اختلفت في بعض موادها. والحرية التي منحت للإنسان إنما قيدت محاسنها بالشرائع والخضوع لها. وإلا فهي دمار لنظام العالم ، وجائحة للأدب ، وآفة لما غرس البارئ في عقول الناس أجمعين ، من عهد آدم إلى يومنا هذا. وذلك لاستلزامها إفساد الطبع الإنساني ، والإجحاف بالشرائع الأدبية. لأن الإنسان متى علم أن ليس له إله يثيب على الخير

١٥٦

ويعاقب على الشر ، أطلق لنفسه عنان الفساد ، واطّرح العذار في مضمار الشهوات وإحراز الرغائب ، قضاء لما يحسبه من سعادته ، واعتقاد أن نفسه ليست خالدة. وليس لسعادته موضوع خارج عن هذه العاجلة. ولاستلزامها أيضا هدم الاجتماع الإنسانيّ والذهاب بشأفته. إذ لا ترعى بعد الله ذمة بين الملأ ، ولا حرمة للسنن والشرائع ، ولا برّ بالملوك ، ولا عدل بالرعية ، ولا محبة ولا صدق ولا وفاء ولا نحو ذلك مما هو ضروريّ بالذات لقيام الألفة البشرية ونظام العمران.

وبالجملة ، فلا يظنن أحد أن العالم يدوم أو يبقى فيه شيء من النظام أو الهيئة الاجتماعية ، إذا لم يكن الناس مقيّدين بشريعة إلهية ، تصدّ الفاجر عن الفجور. فكما أن الهواء ضروريّ للحياة الطبيعية ، فكذا الشريعة ضرورية للحياة الأدبية. فلا حياة للموجودات الحية دون هواء ، فكذا لا انتظام ولا هيئة في العالم دون الشريعة. انتهى.

وقال إمام مدقق ، في بحث تصحيح الاعتقاد وضرورته لطمأنينة النفس وسعادتها ، ما مثاله : إنا نرى أمام أعيننا بعضا من الناس قد رزقوا صحة عظيمة وثروة جسمية وتهذبوا بأنواع العلوم والمعارف ، ولكنهم كثير والضجر شديد والحيرة. لا يكادون يشعرون بالراحة ولا يلتذون بملذة. كأن لهم في لذة ألما ، وبإزاء كل فرح ترحا ، يحسّون بكآبة قد رانت على صدورهم : فلا يعلمون سببها ولا يعرفون موجبها. كآبة لا تزايلهم إلا بزوال عقولهم عنهم ، بكأس من الرحيق. فلذلك تراهم شديدي الكلف به كثيري التحرق لفقدانه ، لأنه دواؤهم الوحيد. ما سر هذا الأرق والضجر ، مع هذه الصحة الجسمية وتلك الثروة المالية ، وهما الأمران اللذان عليهما ، كما يزعمون ، مدار السعادة الإنسانية؟ ما هذه الحيرة الوجدانية والوحشة الضميرية ، مع تهذبهم بأنواع العلم ، وهو كما يزعمون ، الشافي للناس من نزعات الوسواس؟.

أما يدلنا هذا الضجر السري على أن النفس تائقة لأمر ما ، إن غاب على الإنسان علمه ، فقد دله عليه أثره. وإن ذلك الأمر ليس هو صحة البدن ولا وفرة المال ولا كثرة البنين ، ولا سكنى القصور ، ولا أكل الصنوف ، ولا سماع العيدان ، ولا مغازلة الغيد. بل هو أمر آخر لا تعد هذه الملاذ بالنسبة له إلا هباء ، ولا الأكوان بجانبه إلا فناء .. ما هو هذا الأمر السامي الذي لو حصلت عليه النفس اطمأنت وسكنت ، وهامت به وسكرت ، ورضيت به وقنعت. هو لا شك صحة المعتقد ، وإليك الدليل :

ليست النفس من طبيعة هذه الأجسام الصماء. ولا من طينة هذه المادة العمياء ، حتى تأنس إلى شيء من أشياء هذه الأرض الحقيرة ، أو تهتم بملاذها مهما

١٥٧

كانت كبيرة. بل هي من طبيعة نورانية محضة. فلا تأنس إلا لنور يجلي عنها ظلمات الأشياء الأرضية الكثيفة ، لتشرف على حضرة القدس المنيفة ، وتطل على حظائرها الشريفة. النفس أجلّ من أن تقنع بالمشتهيات الجسمانية ، وأكبر من أن ترضى بملاذها المموهة الفانية. فمهما غالط الإنسان نفسه ، بجمع المال ورفاهة الحال ، ليرتاح سره ويسكن اضطرابه ، فإن النفس لا تفتأ تقيم عليه الحجة بعد الحجة ، ليهتدي إلى وضح المحجة. فإن تبصر في أمره ، واكتنه حقيقة سره ، وأنال نفسه بغيتها من إبلاغها نورها المرجوّ لها ، سكن فؤاده وآب إليه رشاده. ولو كان جسمه بين القنا والقنابل. وحاله من الفقر في أخس المنازل. فما هو السبيل إلى إبلاغ هذه النفس الهائمة أمنيتها ، وإمتاعها بطلبتها ، من صحة العقيدة؟ السبيل لذلك هو العقل السليم. العقل في النوع الإنسانيّ خصيصة من أجلّ خصائصه ، ومنحة من أفضل منح الله عليه ، لو استعمل فيما وضع له ، واعتنى بصحته واعتداله. بالعقل يسبر الإنسان غور هذا الوجود العظيم ، على ضخامة أجزائه وعظم أبعاده ، ويستكنه سير النواميس السائدة عليه ، فيستدل بها على وجود الخالق عزوجل ، وعلى تنزه أفعاله عن العبث ، وصنائعه عن اللهو. كما يستدل به على علمه وتدبيره ورحمته وحكمته ، استدلالا محسوسا لا يقبل شبهة ولا يداخله ريبة. بالعقل يدرس الإنسان أحوال الجمعيات البشرية. فيرى نواميس رقيّها وهبوطها ، وأسباب رفعتها وضعتها. ويتبصر في أحوال الأنبياء الذين أرسلهم الله إلى خلقه هادين مرشدين. فيستدل بالتدقيق فيما جاءوا به ، وفي الآثار التي تركوها ، على معنى النبوّة وضرورتها للبشر. وحكمة الله تعالى في اختلاف المدارك والإحساسات ، وفي تباين الملل والديانات. بالعقل يميز الإنسان بين أحوال الماضي والحال. فيفرق تبعا لذلك بين الديانات الخاصة وبين الديانات العامة. ويعثر بتعضيد العلم والبدائه ، على الديانة التي يجب أن تكون خاتمة الأديان كلها ، وباقية بقاء النوع الإنسانيّ ، وهي شريعة خاتم النبيين صلوات الله عليه وسلامه.

الرابعة ـ رأيت للإمام ابن القيّم ، رحمه‌الله ، كلاما على هذه الآية في كتابيه : (الجواب الكافي) و (مفتاح دار السعادة) فأحببت نقله هنا لفوائده وللعناية بهذه الآية ، فإنها جديرة بذلك. قال في (الجواب الكافي) في فصل أبان فيه العقوبات المترتبة على المعاصي : ومنها المعيشة الضنك في الدنيا وفي البرزخ والعذاب في الآخرة. قال : وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر. ولا ريب أنه من المعيشة الضنك. والآية تتناول ما هو أعمّ منه ، وإن كانت نكرة في سياق الإثبات ، فإن عمومها من حيث المعنى. فإنه سبحانه رتّب المعيشة الضنك على الإعراض عن

١٥٨

ذكره. فالمعرض عنه له من ضنك المعيشة بحسب إعراضه ، وإن تنعم في الدنيا بأوصاف النعم ، ففي قلبه من الوحشة والذل والحسرات التي تقطع القلوب ، والأماني الباطلة والعذاب الحاضر ما فيه ، وإنما تواريه عنه سكرات الشهوات والعشق وحب الدنيا والرياسة ، إن لم ينضم إلى ذلك سكر الخمر. فسكر هذه الأمور أعظم من سكر الخمر. فإنه يفيق صاحبه ، ويصحو. وسكر الهوى وحب الدنيا لا يصحو صاحبه إلا إذا سكر في عسكر الأموات. فالمعيشة الضنك لازمة لمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدنيا وفي البرزخ ويوم المعاد. ولا تقرّ العين ولا يهدأ القلب ولا تطمئن النفس إلا بإلهها ومعبودها الذي هو حق ، وكل معبود سواه باطل ، فمن قرت عينه بالله ، قرت به كل عين. ومن لم تقر عينه بالله ، تقطعت نفسه على الدنيا حسرات. والله تعالى إنما جعل الحياة الطيبة لمن آمن بالله وعمل صالحا ، كما قال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل : ٩٧] ، فضمن لأهل الإيمان والعمل الصالح ، الجزاء في الدنيا بالحياة الطيبة ، والحسنى يوم القيامة. فلهم أطيب الحياتين وهم أحياء في الدارين. ونظير هذا قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ ، وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ، وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) [النحل : ٣٠] ، ونظيرها قوله تعالى : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) [هود : ٣] ، ففاز المتقون المحسنون بنعيم الدنيا والآخرة ، وحصلوا على الحياة الطيبة في الدارين ، فإن طيب النفس وسرور القلب وفرحه ولذته وابتهاجه وطمأنينته وانشراحه ونوره وسعته وعافيته ، من ترك الشهوات المحرمة والشبهات الباطلة ، هو النعيم على الحقيقة. ولا نسبة لنعيم البدن إليه ، فقد كان بعض من ذاق هذه اللذة يقول : لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه ، لجالدونا عليه بالسيوف. وقال آخر : إنه يمر بالقلب أوقات أقول فيها : إن كان أهل الجنة في مثل هذا ، إنهم لفي عيش طيّب. وقال آخر : إن في الدنيا جنة ، هي في الدنيا كالجنة في الآخرة. من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.

وقد (١) أشار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى هذه الجنة بقوله : (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا. قالوا : وما رياض الجنة؟ قال : حلق الذكر. وقال (٢) : ما بين بيتي ومنبري روضة من

__________________

(١) أخرجه الترمذي في : الدعوات ، ٨٢ ـ باب حدثنا يوسف بن حماد البصري.

(٢) أخرجه البخاري في : الصلاة في مسجد مكة والمدينة ، ٥ ـ باب فضل ما بين القبر والمنبر ، حديث ٦٤٨ ، عن عبد الله بن زيد المازني.

١٥٩

رياض الجنة) ولا تظن أن قوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) [الانفطار : ١٣ ـ ١٤] ، يختص بيوم المعاد فقط ، بل هؤلاء في نعيم في دورهم الثلاثة. وهؤلاء في جحيم في دورهم الثلاثة. وأي لذة ونعيم في الدنيا أطيب من بر القلب وسلامة الصدر ومعرفة الرب تعالى ومحبته والعمل على موافقته؟ وهل عيش في الحقيقة إلا عيش القلب السليم؟ وقد أثنى الله تعالى على خليله عليه‌السلام بسلامة قلبه فقال : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الصافات : ٨٣ ـ ٨٤] ، وقال حاكيا عنه أنه قال : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء : ٨٨ ـ ٨٩] ، والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدنيا والرياسة. فسلم من كل آفة تبعده من الله ، وسلم من كل شبهة تعارض خبره ، ومن كل شهوة تعارض أمره. وسلم من كل إرادة تزاحم مراده. وسلم من كل قاطع يقطعه عن الله. فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا ، وفي جنة في البرزخ وفي جنة يوم المعاد انتهى ملخصا.

وقال رحمه‌الله في (مفتاح دار السعادة) : فسّر غير واحد من السلف قوله تعالى : (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) بعذاب القبر. وجعلوا هذه الآية أحد الأدلة الدالة على عذاب القبر. ولهذا قال (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) أي تترك في العذاب كما تركت العمل بآياتنا. فذكر عذاب البرزخ وعذاب دار البوار ، ونظيره قوله تعالى في حق آل فرعون : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) [غافر : ٤٦] ، فهذا في البرزخ (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) فهذا في القيامة الكبرى. ونظيره قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) فقول الملائكة (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) المراد به عذاب البرزخ الذي أوله يوم القبض والموت. ونظيره قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) [الأنفال : ٥٠] ، فهذه الإذاقة في البرزخ. وأولها حين الوفاة ، فإنه معطوف على قوله (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) وهو من القول المحذوف لدلالة الكلام عليه كنظائره. وكلاهما واقع وقت الوفاة.

١٦٠