تفسير سورة هل أتى - ج ١

السيد جعفر مرتضى العاملي

تفسير سورة هل أتى - ج ١

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٤
الجزء ١ الجزء ٢

«من نطفة» :

قد تقدم أن كلمة «من» الواردة هنا هي «من» النشوية ، أي لتشير إلى أن نشأة الإنسان وبداية تكوينه تبدأ من نطفة.

وليس المراد أن الإنسان بعض من النطفة ، أو من جنس النطفة ، لتكون كلمة «من» تبعيضية ، أو جنسية ..

«نطفة أمشاج» :

النطفة هي الماء القليل .. ثم أطلق على ماء الرجل أو الحيوان الذي يتولد منه مثله. وقد أشارت كلمة أمشاج إلى أن لهذه النطفة اختلاطا وامتزاجا متكررا في عمق ذاتها ، وكذلك مع غيرها ، كبويضة المرأة ، التي تكون لها أيضا أمشاجية ، واختلاط ، وامتزاج ذاتي مع نطفة الرجل ، وقد يكون ذلك في عرض واحد ، وقد يكون في ضمن امتزاجات ممتدة عبر مراحل الخلق : العلقة ، ثم المضغة : مخلقة ، أو غير مخلقة ، ثم العظام ، ثم كسوتها لحما ، ثم بعث الروح في هذا الموجود ، ليصبح خلقا آخر ..

وهي امتزاجات لا تقتصر على النواحي المادية ، بل هي تمتد لتشمل النواحي والخصائص المشاعرية ، والإدراكية ، وغيرها ، ثم تستمر في سيرها في عملية ابتلاء واختبار ، ينقل الإنسان من مرحلة إلى مرحلة أرقى منها ، ليصبح بعد ذلك سميعا بصيرا ..

إعراب كلمة «أمشاج» :

واختلفوا في إعراب كلمة أمشاج ، فزعم الزمخشري : أنها وصف مفرد لموصوف مفرد ، فإن الصفة تتبع الموصوف في الإفراد والتثنية والجمع ..

لكن غير الزمخشري قال : إن العرب قد تصف المفرد بالجمع مثل :

٦١

ثوب أسمال ..

ونقول :

أما بالنسبة لوصف المفرد بالجمع ، فقد قيل : إن هذا شاذ فلا يقال مثلا : رجل أبطال ، أو امرأة أخيار.

أما كلمة أمشاج : فقد تكون اسم جنس له واحد من لفظه ، فيكون معناه الجمع ، وإن كان لفظه مفردا ، ولعل هذا هو السبب في أنهم قالوا : إن واحده مشيج ، ولم يقولوا : مفرده مشيج .. فلا مانع إذن من إعرابه وصفا لكلمة نطفة ..

كما لا مانع من إعرابه بدلا ، كما ذكره البعض .. ويكون تفسيره بكلمة أطوار ، قد جاء على سبيل استخراج معناه ، لا لأجل أنه جمع وله مفرد ، بل لأنه مفرد معناه الجمع ..

«أمشاج نبتليه» :

الأمشاج واحده مشيج. وهو الخلط.

وقد فسر الأمشاج بأخلاط من ماء الرجل وماء المرأة ، عن ابن عباس ، وغيره.

وقال قتادة : معنى أمشاج أي أطوار : طورا نطفة ، وطورا مضغة ، وطورا عظما إلى أن صار إنسانا ليختبره بهذه الصفات.

ونقول :

إن كلمة أمشاج قد جاءت وصفا لكلمة نطفة .. مما يشير إلى أن الأمشاجية موجودة أولا وبالذات ، في ذات النطفة ، ولا ينافي ذلك عروض أمشاجية أخرى لها من خلال تلاقح نطفة الرجل ببويضة المرأة ، كما ربما يقال ..

٦٢

كما أن الابتلاء قد رتب على الأمشاجية ، لتكون هي مقدمة له ، فلا بد أن تكون هذه النطفة ، بملاحظة أمشاجيتها ، لها قابلية الابتلاء والاختبار المباشر ، بحيث يكون هذا الابتلاء ناشئا من واقع تلك النطفة المختلطة ، وهو الذي نشأ عنه كون الإنسان سميعا بصيرا ، ثم يكون أهلا لأن يهديه الله السبيل ، إما شاكرا وإما كفورا ..

وواضح : أن ذلك لا يتحقق من مجرد اختلاط نطفة الرجل ببويضة المرأة .. فإن هذا النوع من التلقيح لا ينحصر بالإنسان .. بل هو أمشاجية تفترق عن أمشاجية النطفة الحيوانية ، في أن ذات النطفة تحمل في داخلها مزايا ، وكمالات ، وخصائص ، وصفات إنسانية بالقوة. وقد اختلط بعضها ببعض أكثر من مرة سواء كانت الاختلاطات عرضية للعديد من الخصائص الموجودة في النطفة ، أم طولية في نطاق تحولاتها إلى علقة حاوية لتلك الخصائص ، ثم إلى مضغة إلخ ..

فإن هذه الاختلاطات لتلك العناصر الخاصة بالتكوين الإنساني عرضا وطولا تؤثر جميعها في جعل الإنسان صالحا لأن يكون موردا للاختبارات ، ثم أن يجعله الله مختارا ، يستجيب لتلك الاختبارات من موقع اختياره ، ثم تكون نتيجة ذلك هي أن يصبح هذا الإنسان شديد السمع ، حديد البصر جدا (نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ..)

لا بد من إجابة :

وتبقى أسئلة في الآية المباركة تحتاج إلى إجابة ، مثل السؤال عن السبب في أنه تعالى لم يقل : سامعا مبصرا ، بل قال : (سَمِيعاً بَصِيراً؟! ..)

والسؤال عن سبب تقديم السمع على البصر؟! ..

ولماذا فرعهما على الابتلاء؟! ..

٦٣

ولما ذا عبر بالجعل؟

ولما ذا كان هذا الجعل منه تعالى ، فلم يقل : فكان سميعا بصيرا؟! ..

ولما ذا السمع والبصر دون غيرهما من الحواس؟! ..

أو لما ذا لم يقل : جعلناه عاقلا ، أو جعلناه ذا شعور وإدراك؟!. مع أن العقل من أعظم نعم الله على الإنسان ..

كما أنه حين ذكر هدايته السبيل ، لم يقل : إما شاكرا ، وإما كافرا ، بل جاء بصيغة المبالغة ، فقال : إما شاكرا ، وإما كفورا؟! ..

وأشار أيضا إلى الشكر والكفر ، لا إلى الهداية والضلال؟! ..

وكل ذلك سيتضح إن شاء الله فيما يأتي من مطالب ..

الأمشاجية للمزايا الإنسانية ، لا المادية :

ثم إننا نستطيع أن نؤكد ما ذكرناه ببيان آخر ، هو كما يلي :

أولا : إنهم يقولون : إن نطفة الرجل تهاجم بويضة المرأة في القرار المكين ، وتمتزج بها ، ثم تبدأ بالنمو والتطور في مراحل الخلق (خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ.) وفي هذه الأطوار قد يبتلى ببعض البلاءات التي تفرض عليه وراثيا ، بفعل السنن الإلهية الحاكمة ، وتكون النتيجة هي إرث أمراض وعاهات ، وإرث مواصفات جسمانية ، أو حيوانية ، كاللون والشكل ، والطول .. وإرث بعض الحالات النفسانية كقلة الحياء ، أو نحو ذلك .. وقد لا يعرض له شيء من ذلك ، بل يبقى يسير في مراحل النشأة بصورة طبيعية ، وفقا للسنن الإلهية الحاكمة ، في هذه الأحوال أيضا ..

وليس ذلك كله هو المقصود بقوله في هذه الآية (نَبْتَلِيهِ) ، لأن احتمال انتقال تلك الحالات والابتلاءات ، مساوق لاحتمال عدم عروضها للإنسان ، لأن الآية قد فرضت حصول الابتلاء المصاحب للخلق

٦٤

والتكوين ، على نحو لا بد معه من حصول السميعية والبصيرية التي هي من مظاهر الإدراك والشعور والوعي العميق ، والفهم للدقائق ..

فهذه الحتمية ، وذلك الترديد في الحصول تعطينا أن هذه الأمشاجية ليست من ذلك النوع الآنف الذكر ، بل هي من نوع آخر.

ثانيا : إن هذا النوع من البلاء والابتلاء ، يترتب عليه صيرورة الإنسان سميعا بصيرا ، كما دلت عليه فاء التفريع في قوله : (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ..) وليس ما ذكر آنفا مما يترتب عليه ذلك ، لعدم وجود سنخية بين تلك الابتلاءات وبين هذه النتيجة ..

كما أنه ليس المراد أن هذا الابتلاء قد أوجب أن يجعل الله له حاسة السمع والبصر ، إذ لو كان كذلك لقال : «فجعلناه سامعا مبصرا» ..

بل المراد : أنه قد جعل له رهافة السمع وشدته ، وقوة البصر وحدته ، بعد الفراغ عن أصل وجود تلك الحاسة لديه .. والرهافة إنما هي من أوصاف حاسة السمع والبصر في مجال العمل .. ولكن لا لمجرد آليتهما التي تربط بين الإنسان ، وبين الأشياء ، ثم تغيب عنه ، ليتدبر أمره معها ، بل من حيث دورهما في عمق إدراكه للحقائق ، وشدة حساسيته تجاهها وتجاه كل حالاتها وخصائصها ..

فاتضح : أن النشأة للمزايا والكمالات المادية الحيوانية ، الكامنة في النطفة من حيث تكوينها الذاتي التي اكتسبتها النطفة عن طريق الوراثة ، وهي مرحلة يشارك فيها الإنسان غيره من الحيوانات ـ إن هذه النشأة ـ ليست هي المقصودة في هذه الآية ، بل المقصود هو أن تلك النطفة تحمل في داخلها مزايا أخرى ، تختص بإنسانية الإنسان ، ومنها تتكون فطرته الإنسانية ، فهذه النطفة ، بهذا اللحاظ ، هي التي اختلطت ، وتفاعلت ،

٦٥

وانتقلت من مرحلة إلى مرحلة ، حتى جاء دور النشوء الأكبر ، الذي أشار إليه تعالى بقوله : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١).

فانفصل بذلك عن غيره من الحيوان ، ليتدرج في الحصول على خصائصه وميزاته ، من حيث هو إنسان ، مريد ، مختار ، عاقل ، مفكر إلخ ..

وهذا بالذات ما ترتب عليه الابتلاء والاختبار الذي نشأت عنه السميعية والبصيرية ..

آدم أبو البشر :

وقد يسأل سائل : هل كان خلق النبي آدم [عليه‌السلام] أيضا من نطفة أمشاج؟! .. أم أنه مستثنى من هذه الآية؟! ، لأنها تتكلم عن الإنسان المولود من النطفة ، والنبي آدم إنما خلق من تراب!! ..

ويجاب عن ذلك : بأن الأمشاج تعني الاختلاطات المختلفة ، ويراد بالنطفة الماء القليل ، أو كل ما هو قليل ..

وهذا الأمر يمكن تصوره أيضا بالنسبة للنبي آدم عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسّلام .. فإنه خلق من شيء قليل ، وفيه اختلاطات تستبطن مزايا .. تؤهل هذا المخلوق للابتلاء ، الذي تنتج عنه السميعية والبصيرية.

«الابتلاء» :

وقد قلنا : إن محور الكلام في الآية الكريمة هو الإنسان بما له من صفة إنسانية ، لا البشر ، ولا خصوصيات الحيوانية في الإنسان ، وذلك لأن الإنسان هو الذي يصح ابتلاؤه واختباره.

__________________

(١) سورة المؤمنون الآية ١٤.

٦٦

فالأمشاجية في الإنسان أكمل منها في الحيوان ، من حيث إن فوق الصفات التي يشترك فيها الإنسان والحيوان ، صفات أخرى تختص بالإنسان ، هي التي أهّلته للابتلاء ، وهي التي تنشأ عنها السميعية والبصيرية ، والإرادة ، والاختيار ، ولأجلها ظهرت حاجته إلى الهدايات على أنواعها ، مما يعني أنها أمشاجية لمزايا إنسانية ، وحيوانية ترتقي إلى مستوى التأثير في إنسانيته إلى حد إبطالها ، أو حفظها وتكاملها. فبعد خلق الإنسان من النطفة الأمشاج الجامعة لتلك المزايا ويصير أمامنا إنسان ماثل للعيان ، تبدأ عملية الابتلاء له ..

ولعل عملية الابتلاء تبدأ حين يبدأ الإنسان بالسعي لاستجماع خصائصه ومزاياه الإنسانية ، والحصول على كمالاته بإرادته ، واختياره ، بما له من فطرة هادية ، وعقل راشد ومرشد ، فيواجه في داخله غرائزه ، ومنها حب المال ، والجنس ، والأنا ، ونحوها من النوازع التي تدعوه إلى الإغراق والإفراط إلى حد السير في غير ذلك الاتجاه.

ولحالات الجسد تأثيرها على حالات الروح والنفس ، فيكون الاحتكاك والصراع فيما بين هذين .. ويكون للعقل وللفطرة دور الهادي والمرشد ..

وينشأ عن ذلك التصدي تمييز بين الأمور ، وإدراك لدقائق القضايا ، وحصول على معارف وخبرات جديدة ..

ويصبح الإنسان بعد أن تبلورت في شخصيته مزاياها بأبه وأجلى مظاهرها ، وبعد أن صفت وزكت ، وطهرت ، سميعا بصيرا ، ثاقب النظر ، عميق الفكر ، عارفا بالحسن والقبيح ، مميزا للخطأ من الصحيح .. واقفا على مواضع الخلل والنقص ، والحاجة والعجز في داخل ذاته ، وفي قدراته ..

٦٧

ويفترض فيه أن يتعامل مع الأمور من موقع المتطلب لما هو أصوب ، والساعي لما هو أزكى وأطيب ، ولما هو أتم وأكمل في الإنسانية ، ملبيا لنداء عقله وفطرته ، قبل أن يلبي أية دعوة أخرى ، غرائزية كانت أو غيرها ..

وهذا معناه : أن عليه أن يدرك مزايا الأشياء ، ويعرف مدى ما تسهم به في معالجة مواضع النقص ، والعجز ، والخلل ، التي يواجهها.

ولكنه قد يشذ عن الطريق ، ويتخذ سبيل الاستجابة لأهوائه وغرائزه ، زاعما أن ما تدعوه إليه هو ما يحقق الكمال له ، مستخدما في ذلك يده ، ورجله ، وعينيه ، وسائر ما أعطاه الله إياه من قوى ظاهرية وباطنية ، ليستخدمه في الوصول إلى الخير والصلاح والهدى ، فيتوصل به إلى الشرور والآثام ، ويقهرها على الاستجابة له ، فتطيعه رغما عنها ، وتقوم بما تقوم به ، وهي تسبح الله وتلعن من قهرها ، وتسجل ذلك عليه ، لتشهد به في يوم القيامة ، فينتهي به الأمر ، بسبب الكفر والطغيان ، إلى فقدانه لمزاياه الإنسانية ، حتى يصير كالأنعام ، بل أضل سبيلا.

فظهر : أن السميعية والبصيرية قد جاءت على شكل نتيجة طبيعية لذلك الابتلاء ، فقال تعالى : (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ...)

وظهر أيضا : أن الابتلاء ليس بمعنى الابتلاء بالمصائب والرزايا في دائرة الجسد ، بل هو ابتلاء في دائرة المسؤولية ، ينتج عنه كمال ، ووعي ، ورهافة إحساس ، وسميعية ، وبصيرية ، وبلورة مزايا ، ونشوء خصائص عن هذا السبيل.

فاذا كلفك بالصدق مثلا ، فإنه يشير بذلك إلى نقاط الضعف التي لو أثيرت ، فإنها ستذهب ببعض سعادتك ، وتصدك بعض الصدود عن

٦٨

هدفك .. ثم هو يدلك بذلك على ما يتلافى به هذا الضعف ، ويتدارك به ذلك الخلل ، لتستقيم حياتك ، وتطّرد حركتك بقوة وثبات ، نحو تحقيق طموحاتك ، وأنت تدرك حجمك ومستواك ، وتعرف مواضع الضعف والقوة ، والنقص والكمال في عمق وجودك ..

نبتليه!! بما ذا؟! :

وكلمة «نبتليه» جملة في موقع الحال : أي أن هذا الخلق قد صاحبه ابتلاء نتج عنه في نهاية المطاف السميعية والبصيرية مع ملاحظة :

أولا : إن ابتلاء كل مرحلة إنما هو بما يناسبها.

ثانيا : إن الابتلاء قد بدأ من النشأة الطينية ، ثم النشأة الحيوانية ، ثم النشأة الإنسانية.

وبعبارة أخرى : هناك نظرتان للابتلاء الذي أشارت إليه الآية المباركة ..

النظرة الأولى :

إن للابتلاء مراحل مختلفة ، ولكل مرحلة مستوى ونوع يناسبها .. ثم تكون له نتائج ، تختلف وتتفاوت أيضا ..

فهناك ابتلاء يؤهل لمقام النبوة ، أو لمقام أولي العزم من الأنبياء ، أو لمقام أدنى من ذلك بدرجات تكثر وتقل ..

ولكن مما لا شك فيه أن ثمة مرحلة من الابتلاء يمر بها البشر جميعا بنسبة واحدة ، وهي التي تؤهلهم للخطاب الإلهي والتكليف بالأحكام.

٦٩

النظرة الثانية :

ثم إن الابتلاء من حيث ترتبه على خلق الإنسان من نطفة أمشاج ، قد جاء ليثير كوامن الإنسان ، في صراط نموه وتكامله المتمثل في حصوله على خصوصياته ومزاياه الإنسانية ، وفي ترميم وإصلاح ما وجده مشوها أو منقوصا ، وفي الحفاظ على حالة السلامة فيه بعد إصلاحه ..

ويتجلى هذا الابتلاء تارة في مواجهة الإنسان بالمغريات المحرمة ، وبالمصائب والبلايا ، فإن هذه المصائب والبلايا إذا أحسن الإنسان الاستفادة منها ، هي من أسباب تكاثر النعم ، بل هي بنفسها نعم ، من حيث أنها من أسباب تكامل الإنسان ، ومن موجبات صقل شخصيته.

ثم يتجلى تارة أخرى في مواجهة الإنسان بالنعم نفسها ، لتكون هي مادة الابتلاء والاختبار له : فيعطيه الله القوة والجمال والمال ، والغرائز ، ثم يعطيه العقل ، والفطرة الهادية إلى الكمال. بالإضافة إلى الهدايات التشريعية ، التي يحتاجها ، من حيث إن إعطاء تلك النعم له قد جعله بحاجة إلى هدايات تناسبها ، ولينظر ، أيشكر أم يكفر.

وقد روي : أن أول ما ابتلى الله به عباده هو نعمة خلقهم ، حيث يفرض عليهم أن يحسنوا التصرف بأنفسهم ، وأن يشكروا الله المتفضل عليهم بهذا الخلق ، ثم الاستفادة منه في دائرة تكامل خصائصهم الإنسانية والروحية ، وحتى الجسدية ، وحفظها.

والمناسب لسياق الآيات هنا هو إرادة الابتلاء بالنعم ، لا الابتلاء بالمصائب والبلايا .. فإن الآيات تحدثت عن الشكر للنعمة ، والكفر بها. فقال تعالى : (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً).

٧٠

الاختبار والاختيار :

ويأتي في الدرجة التالية حالة المواجهة والصراع بين الخصوصيات للأفراد والجماعات ، وهو الأمر الذي تفرضه حاجات الحياة ، وحركتها المستمرة ..

غير أن السؤال الذي يحتاج إلى إجابة صريحة وصحيحة هو : هل أن الابتلاء والاختبار الذي ذكر في هذه الآية المباركة ، يأتي في دائرة اختيار الإنسان؟ أم أنه يحصل خارج دائرة اختيار الإنسان؟! بمعنى أن الاختبار والابتلاء أمر تكويني وتصرف إلهي قاهر للإنسان ، ومفروض عليه تماما كما يختبر الإنسان المعادن ويجري عليها تجاربه ، لكي تأتيه النتائج من خلالها ، من دون أن يكون لتلك المعادن أي دور في القبول أو الرد ..

والجواب :

أن الاختبار إنما هو في دائرة اختيار الإنسان ، ومن خلال رفضه وقبوله وممارسته ، وعلى أساس ذلك ومن خلاله تتكون خصائصه وتتنامى وتتكامل ميزاته .. مما يعني أن الاختلاط والأمشاجية في النطفة ، لا يعني الجبرية ، ولا يسلب الاختيار (١) ، ونقصد بها نطفة الرجل وبويضة

__________________

(١) فإن ما يزعمون أنه أسباب شر في الإنسان ، وهي غرائزه ، وملكاته ، وميوله ، ما هي إلا أسباب الخير له وفيه .. بل هي نعم كبرى عليه ، ومن أهم أسباب حفظ وجوده ، وبناء حياته .. إذا أحسن الاستفادة منها ، ولم يستعملها في غير السبيل الصحيح ..

فإذا أعطاك طبيبك دواء ، وأسأت استعماله ، وجلب لك الضرر ، فذلك ليس ذنب الدواء ، ولا هو ذنب الطبيب ، بل الطبيب ناصح متفضّل ، والدواء نافع ولازم. والمذنب هو من أساء استعماله. ولم يدر لنصائح الطبيب باله ..

٧١

المرأة ، التي تحمل بدورها خصائص تتشارك ، فيتشاركان في أمشاجية مؤثرة ، في صنع خصائص الكيان الإنساني ، لأن الأمشاجية هي تصرف يوقظ مقتضيات الغرائز ، وتتبلور من خلاله الحالات النفسية والروحية ، والصفات المختلفة للإنسان ..

فالتنشئة تحصل في خضم صراع الخصوصيات. وهي لا توجب سلب الاختيار ، وإنما هي توجب تأكيده. ولذا قال تعالى : (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً).

وإنما قلنا : لا يصح الاختبار إلا للمختار ، لأن الإنسان يتنامى بصورة تدريجية ، وفي هذه النشأة تستيقظ غرائزه التي أنعم الله عليه بها لتقوم بها حياته ، كغريزة حب التملك ، وحب الذات ، والغريزة الجنسية وغير ذلك ، وتنمو قواه الجسدية ، وتصير لديه حالات ، وصفات مختلفة ، كالخوف والكرم والشجاعة والجبن ، وما إلى ذلك ..

وتحصل صراعات ، وتتصادم خصوصيات الأفراد فيما بينها داخليا ، ثم مع خصوصيات الجماعات. ويحتاج إلى الهدايات لتحدد له كيف ومتى يتحتم عليه التنازل عن الخصوصية الفردية لصالح القواسم المشتركة فيما بينه وبين الآخرين ، ليكون المحور هو الله ، وليكون الذي يتحرك في الحياة هو الإنسان الإلهي لا الفرد ، المحكوم بالأنا ، وبغير ذلك من الغرائز. فيمنّ الله عليه بما يحتاجه من هدايات ، ويكون له الخيار والاختيار بين الكفر أو الشكر ، ويكون عليه أن يحسن الاختيار لمكونات شخصيته الإنسانية ، فيختار أن يكون شجاعا لا بخيلا ، وأن يكون ودودا لا حسودا ، من خلال الهداية الإلهية في تحديد موارد الإقدام والإحجام التي تستند إلى نظرة واقعية إلهية عميقة ومؤثرة ..

فإذا وقع في المحذور ، واستخدم غرائزه بالطريقة الخاطئة ، فإنها

٧٢

ستكون مفسدة لحياته ، فغريزة الجنس الضرورية لحياته ، ليس له أن يمارسها بالطريقة المحرّمة ـ كالزنى مثلا ـ وغريزة حب الذات ، ضرورية لاندفاع الإنسان لنيل الكمالات ، فإذا تجاوز الأمر ذلك ، فأصبحت الذات معبوده وإلهه ، كانت الآثار سلبية ومدمرة ..

فهي كالدواء الذي يفرط الإنسان في تناول جرعاته ، فإنه بدل أن يكون نافعا ، سيكون ضارا ، بل مهلكا له أحيانا.

هذا كله بالنسبة للخصوصيات التي تحدّث عنها في قوله : نطفة أمشاج.

وأمّا الخصوصيات الموروثة ، التي لها ارتباط بالروح والنفس ، أو التي يكتسبها بالتربية ، أو بالتعامل الاجتماعي ، فهي ، وإن كانت تجعله أميل إلى هذا الجانب أو ذاك .. ولكنها لا تبرر انسياقه مع ميوله ، إذ إنه لا يفقد معها عامل الاختيار والإرادة ، ولا تبرؤه من مسؤولياته الوجدانية والعقلية ، والشرعية أيضا ، وتفرض عليه أن يقوم بمهمة إزالة التلوثات التي لحقت بمرآة نفسه ، وإعادة الرونق والصفاء لها ، وليكون ذلك من أسباب كماله ، ومن أسباب نيله للمزايا ، ورفع درجته ، وزيادة كرامته وسؤدده ، وليصبح من ثم من عباده المكرمين ، المخلصين.

وسوف يجد أن ما يملكه من مزايا وهبات وملكات ، سيكون له دور في ترميم ، وتقوية المزايا الأخرى ، ليصل من ثم إلى حالة التوازن والاعتدال.

ولو أنه أهمل ذلك ، فإنه لن يكون معذورا في التعدي على الحرمات ، لأن مجرد ميله إليها لا يجعله مجبرا على الارتطام بها ..

ولو أنه فعل ذلك ، فإنه سيواجه آثار المعاصي في الدنيا وفي

٧٣

الآخرة ، بما في ذلك آثارها على النفس والروح ، والقلب ، والفكر ، والحياة كلها ، وقد أشارت الروايات إلى أن بعض المعاصي يوجب القسوة في القلب ، وبعضها يوجب الزيغ ، وبعضها يوجب ذهاب حب أهل البيت [عليهم‌السلام] .. وغير ذلك.

والتكليف الإلهي أيضا هداية ونعمة ، ولكنه في نفس الوقت ابتلاء له أثره في تكامل الإنسان .. وفي ترشيد وتوجيه طموحه ، وهو حركة ، وغنى ، ونماء ، وصفاء ، إذ ليس الإنسان بمثابة لوحة فنية معلقة على جدار .. بل هو مخلوق له .. قلب ، وحياة ، وإرادة واختيار ، وهي معه تعمل وتؤثر حتى آخر لحظة من حياته .. وكم رأينا من إنسان ينحرف بعد عشرات السنين من الاستقامة ، أو يستقيم ويهتدي بعد عشرات السنين من الانحراف ، وكلاهما بقرار واختيار.

«فجعلناه» :

إن هناك فرقا بين كلمة : «جعل» ، وكلمة : «خلق» ، إذ إننا إذا تتبعنا الآيات القرآنية ، فسنرى : أن كلمة «خلق» مثلا ترد أحيانا على نفس الشيء مباشرة ، فيقال : خلق السماء ، وخلق الأرض مثلا .. ثم إنه وبعد ورود الخلق عليه يصبح محورا لأمور أخرى ، تضاف إليه ، أو تنشأ منه ، أو تحل فيه وتطرأ عليه ، وترد أحيانا أخرى لبيان عروض الهيئات والحالات على الأمر الموجود ..

أما كلمة «جعل» فتتعلق أولا بالأمر الطارئ على أمر آخر ، كالسميعية والبصيرية الطارئة على الإنسان ، بعد أن تفرضه كمحور ثابت ومرتكز. فكلمة «جعل» تضيف إلى هذا المرتكز أمرا آخر ، أو تحوله من حالة إلى حالة أخرى ، أو توجد فيه حالة ما ، أو نحو ذلك ..

٧٤

ونجد لهذا وذاك ، شواهد في الآيات المباركة ..

فأما بالنسبة لكلمة «جعل» ، فلاحظ الآيات التالية :

١ ـ (جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) (١).

٢ ـ (جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٢).

٣ ـ (هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً) (٣).

٤ ـ (وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) (٤).

٥ ـ (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ* وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ) (٥).

٦ ـ (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (٦).

٧ ـ (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) (٧).

وغير ذلك كثير ..

وأما بالنسبة لكلمة «خلق» فلاحظ الآيات التالية :

١ ـ (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) (٨).

__________________

(١) سورة الانعام الآية ٩٦.

(٢) سورة النحل الآية ٧٨.

(٣) سورة الرعد الآية ٣٠.

(٤) سورة الجاثية الآية ٢٣.

(٥) سورة البلد الآيتان ٨ / ٩.

(٦) سورة المائدة الآية ٤٨.

(٧) سورة المائدة الآية ٤٨.

(٨) سورة فاطر الآية ١١.

٧٥

٢ ـ (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ* فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ) (١).

٣ ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً) (٢).

٤ ـ (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً).

كما أن الجعل قد أطلق على التوليد لشيء من شيء ، كقوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ).

وأطلق على التحويل من شيء إلى شيء كقوله : (جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ).

وأطلق على تشكيل الشيء نفسه ، وإعطائه صورته ، كقوله تعالى : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً ..) وقوله : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ* وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ).

وأطلق على إضافة خصوصية لشيء ما ، كقوله : (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً ..) (٣).

وقد جاء التعبير بجعلناه بصيغة جمع المتكلمين في إشارة إلى مقام العزة والعظمة الإلهية من جهة ، وليعرفنا : أن تضافر الأسباب وتكاملها وفقا للسنن الإلهية الجارية ، لا يعني أن يصبح الإنسان سميعا بصيرا استنادا إلى تلك الأسباب وحسب ، بل دور تلك الأسباب هو أن تؤهله ليصبح محلا وقابلا للفيض الإلهي. فالله هو الذي يجعله كذلك ، بعد اكتمال أسبابه ، مع قدرته على حجب الفيض عنه ، حتى مع اكتمال تلك الأسباب ..

__________________

(١) سورة المرسلات الآية ٢١.

(٢) سورة الفرقان الآية ٥٤.

(٣) سورة مريم الآيتان ٣٠ / ٣١.

٧٦

فالابتلاء المصاحب للتكليف والمسؤولية يجعل الإنسان مستعدا لإفاضة المزيد من الإدراك ، والفهم ، والوعي ، والسميعية والبصيرية عليه. ولذا قال : (فَجَعَلْناهُ) ولم يقل : فيصير سميعا بصيرا.

تقديم كلمة سميع على بصير :

وبالمراجعة إلى الآيات القرآنية يتضح : أن ديدن القرآن قد جرى على تقديم السمع والسميعية على البصر والبصيرية ..

فلعل من أسباب ذلك :

أن درجات الإحساس بالأشياء تختلف وتتفاوت ، باختلاف صاحب الحاسة ، وباختلاف الحاسة نفسها ، وباختلاف المحسوس أيضا ، نوعا ، وكما ، وكيفا.

ولتوضيح ذلك نقول :

إن الإبصار يتم بارتسام صورة لشيء مّا ، ثم يتم إرسال هذه الصورة إلى القوة المدركة ، لتمييز ألوانها ، وأشكالها ، وأحجامها ، ونحو ذلك ..

أما السمع ، فهو يحصل بصورة أكثر تعقيدا ، وذلك لأن احتكاك المسموعات يحدث ارتجاجات ، يصل مداها إلى قوى الإدراك التي تقوم بالتمييز بين حالات ومستويات وميزات ذلك الصوت ، الذي نشأ عن ذلك الاحتكاك من خلال ملاحظة حالات وخصوصيات تلك الارتجاجات ..

فإذا كان البصر يعكس صورة ، ثم تتلقفها قوة الإدراك ، وتضعها على المشرحة ، وتميز بين حالاتها ، وألوانها ، وأشكالها ..

فإن السمع ليس كذلك ، بل إن الصوت يصل أولا إلى مناطق الإحساس ، ويتفاعل معها ، وتتفاعل معه .. ويثيرها ، ويؤثر فيها .. ثم تتلقفها

٧٧

قوى الإدراك والتمييز عن هذا الطريق. وتتولى هذه القوة بيان الحدود والحالات والخصوصيات التي تميز ذلك الصوت ، عما عداه ، ويدرك كثيرا من الأمور المرتبطة بذلك الصوت فيدرك آثاره ، ويدرك أيضا أن ما يسمعه هو صوت طفل ، أو صوت رجل ، أو امرأة ، وأن صاحب هذا الصوت خائف ، أو مستبشر ، وأنه قريب أو بعيد ، وأنه في هوة بعيدة ، أو على رأس جبل .. وأن مصدره هو هذه الجهة أو تلك ..

كما أن بعض الأصوات حتى حينما تكون على درجة من الخفوت ، قد لا يستطيع الإنسان أن يتحملها ، ويشعر : أن قلبه يتقطع بسببها ، بل قد تصل حاله ـ لو استمرت ـ إلى درجة الانهيار .. كما أن بعض الأصوات تستفزه بصورة لا شعورية ، أو تؤثر على مشاعره ، فيتمايل طربا لها ، وقد يقوم بحركات لا شعورية ، انسياقا مع أنغامها المثيرة للطرب ، والمحركة لأحاسيسه. وقد توجب تلك الأصوات كآبته ، أو خوفه ، أو الانبساط والتراخي ، والاستسلام ، إلى آخر ما هناك ..

والصوت الذي تسمعه إذا كان آتيا من بعيد ، فإنه يتلاشى بصورة حقيقية. لكن ما تبصره في المبصرات لا يتلاشى .. حتى وإن رأيته صغير الحجم كالطائرة التي تراها وهي في علوها الشاهق ..

والبصر قد يقرّب لك البعيد ، ويبعّد لك القريب ، ويريك الكبير صغيرا ، والصغير كبيرا .. كما أن هذا البصر قد يخطىء في المبصرات ، بخلاف السمع ، فإنه أكثر دقة في إدراكه للمسموعات .. شاهدنا على ذلك :

أنك لو وضعت عصا نصفها في الماء ، ونصفها في خارجه ، فسترى أنها عوجاء ، كالمكسورة. كما أنك قد تجد أنها مرتفعة عن المستوى الذي يفترض أن تكون فيه ..

٧٨

وإذا نظرت إلى حيوانات البحر ، كالسمك مثلا ، فإنك ترى السمكة في مكان ، مع أنها في واقع الأمر ليست فيه .. فهي تبدو قريبة إلى سطح الماء مع أنها بعيدة عنه ..

وفي حر الشمس ترى السراب الذي يبدو لك ، وكأنه مستنقع ماء ، حتى إنك لترى ظلال الأشجار وغيرها من الأجسام في ذلك السراب ..

وأما فيما يرتبط باختلاف درجات الإحساس من شخص لآخر .. فنوضحه بالمثالين التاليين :

الأول : لو دخل رجلان ، أحدهما مرهف الحسّ ، يرسم بريشته أبدع الصور وأجملها ، والآخر إنسان عادي ، إلى حديقة غناء ، من أجمل ما خلق الله .. فستجد اختلافا كبيرا في تلذذهما بتلك الحديقة ، تبعا لما يدركانه من جمالياتها ، فإن الفنان سيكون أعرف بجمالياتها ، وأشد ابتهاجا بها ، لأنه يدرك بصورة أعمق حالات التناسق ، ودقائق الصنع ، وبدائع التراكيب ذات الإيحاء التي تلامس شغاف القلب ، وتغمر النفس والروح بالرضى والبهجة ، وسيدرك الكثير من ميزات تلك الصورة العامة التي تتماوج جمالا بارعا ، وأخّاذا ، ورائعا ..

ولنفترض : أن طفلا تردى من شاهق أمام عيني أمه ، وعمه ، ورجل غريب ، ورجل جلاد يتولى تعذيب الأبرياء من السجناء في حكومة أهل الطغيان ..

فإن الصورة الذهنية لما يعانيه هذا الطفل واحدة عند كل هؤلاء. ولكن مما لا ريب فيه : أن انفعالهم ، وتحسسهم لما يعانيه ذلك الطفل من آلام ، لن يكون في مستوى واحد .. بل سيكون إحساس الأم بالألم أعظم من إحساس العم ، وإحساس العم به سيكون أشد من إحساس الرجل

٧٩

الغريب .. وسيكون أقلهم إحساسا بآلامه ذلك الجلاد القاسي.

وببيان آخر نقول :

إن المحسوس قد يكون هو نفسه في داخل ذاتك ، كالألم ، والجوع ، والفرح ، والخوف ، والحزن ، والعطش وغير ذلك ..

وقد يكون في غيرك ، كمريض تراه ، وتسمع أنينه وشكواه .. فلا شك في أن علمك وإحساسك بالألم الموجود في داخلك أعمق وأقوى من علمك وإحساسك بألم غيرك ، وأنت تراه يتألم ..

وإحساسك بألم من هو أمامك قد يكون أعمق ، وأقوى من إحساسك بألم رجل غائب عنك ، وينقل لك خبره ، كما أن علمنا بالآخرة الغائبة عنا فعلا ، يكون أضعف من علم الأنبياء والأوصياء بها .. حتى إن أمير المؤمنين [عليه‌السلام] يقول : لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا.

وقد أشار الله إلى أننا لا نعلم حقيقة الآخرة فقال : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ..) (١)

وحين تتساقط الحجب المانعة من الإدراك ، ويصبح النظر حديدا. كما قال تعالى : (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٢) .. يصبح الإدراك أشد والتفاعل مع المدركات أعمق ..

والمعاصي أيضا تحجب الإنسان عن فهم معاني القرآن الكريم ، والتكبر والغرور يقللان من مستوى إدراك الواقع ، والإحساس به.

__________________

(١) سورة العنكبوت الآية ٦٤.

(٢) سورة ق الآية ٢٢.

٨٠