تفسير سورة هل أتى - ج ١

السيد جعفر مرتضى العاملي

تفسير سورة هل أتى - ج ١

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٤
الجزء ١ الجزء ٢

قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (١).

ويقول : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٢).

وقال : (وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٣).

وقال سبحانه : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٤).

ولكنه قد عبّر بكلمة «عباد» فيما يقرب من مئة مورد .. حيث إنه تعالى يريد أن يظهر ما ينبغي أن تكون عليه طبيعة العلاقة بين الربّ وعباده .. وأنها علاقة كرامة ، ومحبة وطاعة ، وتقرب له من قبل العبد ، فلاحظ : (فَبَشِّرْ عِبادِ).

(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) (٥).

(يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) (٦).

وغير ذلك من الموارد التي تعد بالعشرات ..

بل إنه سبحانه حتى حينما قال : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (٧).

إنما نفى صفة الشكورية عن عباده ، ولم ينف ، ولا ينفي عنهم صفة الطاعة والانقياد ، والرغبة في التقرب منه تعالى ، والأنس به ..

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ١٨٢.

(٢) سورة الحج الآية ١٠.

(٣) سورة فصلت الآية ٤٦.

(٤) سورة ق الآية ٢٩.

(٥) سورة الحجر الآية ٤٢.

(٦) سورة الزمر الآية ٥٣.

(٧) سورة سبأ الآية ١٣.

١٦١

الأبرار .. وعباد الله :

وقد أشرنا في ما سبق إلى ما ربما يكون سببا في التحول عن التعبير بكلمة «أبرار» إلى كلمة «عباد» .. وقد قلنا :

إن البر يطلق على عدة معان ، مثل : المحسن ، والمطيع ، والقاهر ، والواسع إلخ .. ولكنها معان تبقى مطلقة وعامة .. وقد أراد سبحانه أن يحددها ، ويوجهها ، ويربطها به تعالى ، ويبين أن هذه الصفات للأبرار قد نشأت من كونهم عبادا لله ، يمارسون هذا البر كعبادة لهم ، مختارين لها ، وبدوافع الحصول على القرب والزلفى .. ومع مزيد من الحب لله تعالى ، والأنس به.

«الله» :

وقد صرحت الآية بلفظ الجلالة ، وأظهرته ، حيث قالت : (يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) ، مع أن السياق يتجه بنا إلى توقع الإتيان بضمير المتكلم بصيغة الجمع ، فيقول : «عينا يشرب بها عبادنا» .. ليتوافق مع الآيات السابقة : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ).

(نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ).

(إِنَّا أَعْتَدْنا).

فهذا الإظهار في موقع الإضمار ، وتحول الكلام من كونه كلاما عن الحاضر المتكلم بصيغة الجمع إلى التصريح بالاسم ، الذي يعني تحول مسار الكلام إلى الغائب ، لعله يرجع إلى جهتين :

الجهة الأولى :

إن إظهار الاسم بدل إضماره ، قد يكون :

١ ـ لأجل التبرك به ، مثل اللهم صل على محمد وآل محمد ، فإن

١٦٢

العدول عن ضمير الغائب إلى التصريح مرة أخرى بكلمة «محمد» هو لأجل ذلك ..

٢ ـ وقد يكون لأجل الاستئناس والتلذذ بذكره ، ولعل المثال المذكور آنفا ، آت هنا أيضا .. ولعل منه قوله [صلى‌الله‌عليه‌وآله] : «حسين مني وأنا من حسين» ، بدل أن يقول : «وأنا منه». فإن ذكر الحبيب باستمرار أمر لذيذ ومحبب للنفس.

٣ ـ وقد يكون من أجل إظهار أهميته وقيمته العالية ، وعظيم شأنه ..

٤ ـ وقد يكون لمجموع ذلك كله ، بالإضافة إلى الإيحاء بخصوصيات معان يحتاج الطرف الآخر إلى استحضارها. قد ذكرنا طرفا منها في عرضنا هذا ..

فالتصريح بلفظ الجلالة في هذه الآية المباركة يحدث في ذهن المخاطب تداعيات لمعان كثيرة ومتنوعة .. فهو يحضر إلى الذهن معنى الألوهية ، التي تستجمع صفات الذات وصفات الفعل ، أو فقل : صفات الكمال : الجلالية ، والجمالية ، بأسمى وأعمق معانيها ..

والإله هو العزيز ، وهو الجبار ، وهو الخالق ، والرازق ، والشافي ، والعالم ، والقادر ، والكريم ، والرؤوف ، والرحيم ، والحي ، والقيوم ، وهو مصدر الحياة ، ومصدر المعارف الحقة ، وغير ذلك مما هو معلوم.

فهو إذن المستحق للعبادة ، الذي يرغب الأبرار في تعظيمه وتكريمه لنفس مقام ألوهيته وحبا لذاته المقدسة ، فإن هذه هي عبادة الأحرار ، الذين وجدوا الله أهلا للعبادة فعبدوه ولم يعبدوه لمقام ربوبيته وحسب ..

أما لو ذكره بصيغة الضمير ، فقد لا يلتفت السامع إلى أي من المعاني والخصوصيات التي ذكرناها. كما أنه استبدل كلمة «إله» ، بكلمة «ربّ» ، فإن

١٦٣

الإيحاء سيقتصر على خصوصية الربوبية ، التي هي الخصوصية الأبرز ، وهي تعني الرعاية من موقع الحكمة ، والفضل ، والحب.

وهذا نظير اسم حاتم الذي أصبح عند بعض الناس ، يوحي بالكرم والسخاء ، واسم عنتر ، الذي يذكّر بعض الذين يجهلون التاريخ ، بالشجاعة ـ مع تحفظنا على صحة نسبة ذلك لعنترة ولحاتم ، لأكثر من سبب ليس هنا مكان بيانه ـ فالتصريح بهذين الاسمين يحمل تداعيات الشجاعة والكرم ، إلى ذهن هؤلاء الناس بصورة عفوية .. لكن لو تحدثت عنه بواسطة الضمير العائد إليه ، فسوف تغيب هذه التداعيات عن ذهنك.

الجهة الثانية :

قد يقال : لو أنه جاء بالضمير فقال : «عبادنا» ، فقد لا يلتفت إلى أنهم هم الذين اختاروا ذلك وفعلوه .. بل قد يتخيل أن هذا الأمر قد عرض لهم بسبب الإلف ، أو العادة ، أو المحيط ، أو الغفلة ، فانساقوا إلى العبادية عن غير شعور ، واختيار ، أو من دون تأمل وتفكير منهم ..

ولكن إذا صرح بلفظ الجلالة ، وقال : «عباد الله» ، فإن ذلك يذكّر بالألوهية وبصفاتها ، وبالجلال والكبرياء ، ويشعرنا بأن ألوهيته تعالى هذه هي التي جعلتهم يعبدونه ، ويسعون للحصول على رضاه ، ويتقربون إليه ..

فشربهم من العين هو شرب استحقاق وجزاء على عبادتهم الاختيارية .. وليس لأجل أن معبودهم قد وضعهم في مواقع معينة ، أو فرض عليهم وضعا أو سلوكا بعينه ، ثم أعطاهم هذه العين في مقابل ذلك إرضاء لهم ، وإن لم يفعلوا ما يوجب استحقاقهم لذلك ..

وبتعبير آخر : لو قال «عبادنا» ، لأمكن توهم أن عباديتهم قد لا تكون باختيارهم .. أما مع التصريح بلفظ الجلالة ، فلا يبقى مجال لاحتمال

١٦٤

كهذا .. لأن العبادية منطلقة من معرفتهم بأنهم أمام مقام الألوهية الحقيقية. فمن الطبيعي أن لا يختاروا سواها ، وأن يندفعوا إليها ، وأن يؤدوا مراسم العبودية لها .. باختيارهم.

فتكون عباديتهم لله من موقع الوعي ، والمعرفة ، والاختيار ، والاندفاع.

«يفجّرونها» :

ولا شك في أن القرآن كتاب هدى وبيان .. وعلينا أن نستخرج دقائق المعاني من كل كلمة ، وكل حرف فيه.

وقد ذكر سبحانه في هذه الآية الشريفة : أن عباد الله هم الذين يفجرون تلك العين ، باختيار منهم ..

وقد ألمحنا إلى أن التعبير بالعين أيضا يشير إلى الغزارة وإلى الاستمرار في العطاء ، وعدم الانقطاع ..

وقد يستظهر من الآية أيضا : أن عباديتهم لله تعالى هي التي منحتهم القدرة على تفجيرها .. إذ إن الذي جعل موضوعا للحكم في الكلام التام له حالتان :

الأولى : أن لا يكون له خصوصية سوى الإشارة إلى من ثبت الحكم له .. مثل : أكرم هذا الجالس. فليس لصفة الجلوس أثر في وجوب الإكرام ..

الثانية : أن يكون للموضوع مدخلية في الحكم ، وسببية فيه ، مثل : أقتل القاتل ، أو اقطع يد السارق ، ومثل المسكر حرام ، وأكرم العالم .. ونحو ذلك ..

فالإسكار له مدخلية في الحرمة ، وكذلك موضوعات باقي الأمثلة ..

والأمر في الآية التي نتحدث عنها من هذا القبيل ، فإن سر التفجير

١٦٥

للعين يكمن في كونهم عبادا لله سبحانه ، إذ إن من لا يكون مطيعا لهواه ، ولا عبدا للشيطان ، ولا يفقد توازنه عند ما يرى المال ، والجاه ، والمنصب ، وسائر المغريات .. ويكون عابدا وعبدا لله سبحانه فقط .. فإنه سوف يتمكن من الوصول إلى الله ، ومن الشرب من عين الخيرات ، شربا هانئا رويا ، يعطيه القدرة على تفجير تلك العين بصورة مؤكدة وقوية ، ويحقق الرضا والاكتفاء والوصول إلى درجة السّلام ، والأمن ، والغنى الذاتي ، وكل ذلك يحصل بإرادة واختيار منهم ..

وتفجيرهم لهذه العين تفجيرا ، معناه : أنها تملك مخزونا عظيما وهائلا ، لا ينتهي. ونفس كونها عينا ، معناه : أنها غزيرة ، وأن فيها قوة واندفاعا ، وهو اندفاع دائم ومستمر ، كما دل عليه المفعول المطلق ، وهو قوله «تفجيرا» الذي جيء به لتأكيد عامله ..

وكونها عينا ، يشير أيضا إلى الغنى بها ، فلا يحتاجون إلى غيرهم ، وأصبح مستقبلهم بيدهم ، بل هم الذين ينتجون ما يسعدهم ، ولا يخشون من حرمان الآخرين لهم.

وهذه الأمور كلها حين يشعر بها الإنسان ، فإنه يعيش حالة الأمن والسّلام ، والرضا ، والاطمئنان للمستقبل.

وقد قلنا : إن الآية تتحدث عن الأمور بواسطة الكنايات والاستعارات ، التي هي أبلغ من التصريح ، لأنها تتضمن الدعوى مع مبرراتها الموضوعية ، وأدلتها الحسية ..

وخلاصة ما ذكر في هذه الآيات عن الأبرار : أن عباديتهم لله تعالى ، تؤهلهم للشرب من عين الخيرات ، حتى إنهم يفجرونها تفجيرا ، ويحصلون على الاكتفاء الذاتي بسبب ارتباطهم بالله سبحانه ، الذي هو مصدر

١٦٦

الفيوضات ، والقدرات كلها ، ومصدر المعرفة ، والعطاء ، والقوة ، والخلق ، والرزق ، وكل نعمة. وهم يملكون مستقبلهم ، ولا يحتاجون إلى أحد سوى الله .. وهم يوفون بالنذر ، ويخافون. ويطعمون إلخ ..

وذلك كله يجعلهم يستحقون الجزاء والعطاء ، والكرم ، واللطف ، والفوز بالتالي بمقامات القرب والرضا منه تعالى.

* * *

١٦٧
١٦٨

الفصل السابع :

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً)

١٦٩
١٧٠

قال تعالى :

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً.)

«يُوفُونَ بِالنَّذْرِ» :

وتستمر الآيات في بيان أسباب نيل الأبرار الفيوضات خاصة ، والنعم في الدنيا ..

وهي توجب بدورها نيلهم لفيوضات وخيرات تكون جزاءهم في الآخرة.

وبعد أن ذكر الله سبحانه أن من صفة الأبرار ، أنهم : (يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً) ، وأشار أيضا إلى أن هذه الكأس هي عين تحقق الري ، والاكتفاء ، والغنى .. وهم يختارون تفجيرها .. لارتباطهم بمصدر العطاء والفيض ، وهو الله سبحانه.

إنه تعالى بعد أن ذكر ذلك وسواه مما تقدمت الإشارة إليه ، قال : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ).

والمقصود في هذه الآيات ، جماعة بعينها ، هم محور الحديث في هذه السورة .. والسؤال هو :

إنه حين بدأ بذكر صفات الأبرار ، قدم صفة الوفاء بالنذر على سائر الصفات ، التي منها كونهم : (يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً .. وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ ..) إلى آخر الآيات؟.

١٧١

فلما ذا قدم هذه الصفة بالذات يا ترى؟!

ولعل الجواب على هذا السؤال هو :

أن النذر هو تعهد ، والتزام أمام الله سبحانه بالعمل بأمر مّا ..

والذي نعرفه عن البشر أنهم في تعهداتهم لبعضهم أو فى منهم في تعهداتهم أمام الله سبحانه ..

وذلك لغفلتهم ، أو لضعف معرفتهم به تعالى ، أو لغير ذلك من أمور ، يمكن أن يكون الجامع فيما بينها :

أن إيمانهم بالله سبحانه لم يتجاوز حدود الخضوع للحكم العقلي ، والتعهد بالالتزام بهذا الحكم ، والوقوف عنده. وهذا هو الحد الأدنى الذي يخرجهم عن دائرة الكفر ، وليحملوا صفة الإيمان والإسلام ، وتترتب عليهم أحكامه ..

وانتهاؤهم إلى هذا الحد يعطي : أنهم لم يصل الأمر بهم إلى حد حضور الله في قلوبهم ، وانسيابه في أعماق وجودهم ، وهيمنته على مشاعرهم وأحاسيسهم .. بل بقي أمرا غيبيا بالنسبة إليهم. كما أن إيمانهم بالنبوة ، والنبي ، وصفاته ، وبالآخرة ، وحسابها ، وثوابها ، وعقابها ، ونعيمها ، وجحيمها ، لا يبتعد عن هذا الحال ..

فلم تتحول العقيدة بالله ، وبالآخرة ، وبالأنبياء ، والأوصياء إلى حالة وجدانية ، وضميرية. ولم تمازج الفطرة ، والمشاعر ، لتصبح حركة عفوية ، وطريقة حياة ، وليكون ذلك المعتقد إنسانا إلهيا يعيش الإسلام والقرآن ، واقعا حيا يتلمسه في كل ما يواجهه أو يحيط به ..

ولأجل هذا الضعف الظاهر ، في مستوى الوعي والإيمان ، نجد أنهم عند الممارسة تتناقض أفعالهم مع أقوالهم ، ومع اعتقاداتهم.

١٧٢

وهذا بالذات هو السبب في سعي الإسلام إلى تحويل الشأن العقيدي ، وقضايا الإيمان إلى شأن حياتي ، حيث يحدثنا عن الله ، وعن صفاته ، وعن الآخرة ، وغير ذلك .. بأسلوب التجسيد لها في الواقع الخارجي. وكأن الإنسان يراها ويتلمسها ويحس بها عن قرب ..

وما أكثر التعبير في القرآن الكريم ، فضلا عن كلمات النبي [صلى‌الله‌عليه‌وآله] والأئمة [عليهم‌السلام] بكلمة : أفرأيتم .. وأأنتم ..

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) (١).

(أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) (٢).

(أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) (٣).

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) (٤).

(أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) (٥).

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) (٦).

(أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (٧).

__________________

(١) سورة الملك الآية ٣٠.

(٢) سورة الواقعة الآية ٧١.

(٣) سورة الواقعة الآية ٧٢.

(٤) سورة الواقعة الآية ٥٨.

(٥) سورة الواقعة الآية ٥٩.

(٦) سورة الواقعة الآية ٦٣.

(٧) سورة الواقعة الآية ٦٤.

١٧٣

(أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ) (١).

(أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) (٢).

وغير ذلك ..

والخلاصة : أن الاعتقاد ليس مجرد خضوع واستسلام عقلي ، بل هو عقد قلبي مستقر في النفس : حاضر في عمق الذات ، متمازج مع الفطرة ، ومع المشاعر ، ليصبح هو العين التي يبصر بها ، والأذن التي يسمع بها ، واليد التي يبطش بها ..

كما أن الإسلام ليس مجرد نظام اقتصادي ، أو سياسي ، أو تربوي ، أو عبادي أو غير ذلك. بل هو دين يريد أن يصنع الإنسان كله ، وفق الإرادة الإلهية ، ليمكّنه من تحقيق الأهداف العليا التي خلق من أجلها.

ولأجل هذا .. كان النبي آدم [عليه‌السلام] ـ الإنسان الأول ـ هو النموذج ، الذي يحمل مواصفات الإنسان الكامل ، الذي يسعى إلى نيل رضا الله ، والوصول إلى مقامات القرب والزلفى ..

فكأنه تعالى يقول لنا : هكذا أريد لبني البشر ، أن يكونوا إلهيين بكل ما لهذه الكلمة من معنى ، خالصين ومخلصين لله سبحانه. كالنبي آدم [عليه‌السلام] ..

وحين يقول سبحانه عن هؤلاء الأبرار العباد : إنهم (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) ، فإنما يريد أن يفهمنا أن ذلك دليل وصولهم في إيمانهم ، ووعيهم ، وخلوصهم إلى أن أصبحوا أناسا إلهيين بكل ما لهذه الكلمة من معنى ،

__________________

(١) سورة الواقعة الآية ٦٨.

(٢) سورة الواقعة الآية ٦٩.

١٧٤

وأن الله حاضر في قلوبهم ، وفي وعيهم ، وفي كل وجودهم حضورا حقيقيا وتاما ، فلا يمكن أن يخلفوا أو أن يتوانوا في الوفاء بتعهداتهم أمامه جلّ وعلا ..

قيمة الوفاء بالنذر :

وقد يزعم زاعم أنه ليس في الوفاء بالنذر ما يميزه عن غيره ، فإن الصلاة مثلا ، عمود الدين ، فهي أهم منه ، وهي أولى بالذكر من الوفاء بالنذر ، وكذلك الحال بالنسبة للجهاد في سبيل الله ، والحج إلى بيت الله .. وغير ذلك ..

فلماذا جاء التنصيص على خصوص الوفاء بالنذر ، دون سواه ..

ونقول في الجواب :

إن ما تقدم من إشارة إلى أهمية وقيمة الوفاء بعهود الله سبحانه قد يكون كافيا في بيان لزوم البدء بهذا الأمر هنا ، من حيث إن الوفاء بعهود الله هو العنوان الأوسع والأتم ، والأكمل ، لسائر عناوين الطاعة والانقياد ، ومنها فريضة الصلاة ، والحج ، والزكاة ، وما إلى ذلك ، غير أننا نود أن نزيد هنا : أن الله سبحانه لا يريد أن يعطي هنا صورة عن حجم العمل وصعوبته ، وإنما يريد أن يقدم لنا كواشف وجدانية وواقعية عن الحد الذي وصل إليه ذلك البرّ العابد في بناء إنسانيته ، وفي تأثير ميزاته الإيمانية والإنسانية ، في ممارسته العملية ، وفي بناء وجدانه. حتى إن نذرهم في مورد نزول السورة ، كان هو خصوص الصوم. المقرب إليه تعالى ، بما للصوم من رمزية للكثير من المعاني ، ولم ينذروا بذل مال ، أو نحوه ..

وقد تكون هذه الأمور التي نتخيل أنها غير ذات أهمية ، أعظم وأقوى في كشف هذه الحقيقة.

١٧٥

فإن الأعمال الكبرى ، قد تكون الحوافز التي تدعو إليها قوية .. وقد يكون للحوافز الخارجة عن ذات ، وشخصية ، ووجدان الإنسان ، تأثير كبير في ذلك أيضا. ولأجل ذلك فقد يكون كشفها عن واقع تلك المزايا أضعف من كاشفية تلك الأمور التي تخلو من ذلك كله ..

ولأجل ذلك .. فإن الله حين جعل أعظم وأخطر مقام لأمير المؤمنين [عليه‌السلام] وهو مقام الولاية العظمى ، لم يشر إلى جهاد الإمام علي [عليه‌السلام] ، ولا ربطه بقلعه لباب خيبر ، أو قتل عمرو بن عبد ود ، ولا ربطه بعلم علي ، وتضحياته الجسام ، أو غير ذلك من فضائله ، بل هو قد جعل له ذلك في سياق التذكير بصدقة كانت منه على فقير أثناء الصلاة ، قال تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (١).

فكان هذا العمل الإنساني ، والإيماني من علي [عليه‌السلام] دليلا واقعيا وعمليا على كماله في الإيمان ، والعلم ، والتقوى ، والوعي ، ثم هو دليل على صحة وشمولية مفاهيمه ، وسلامة مشاعره ، وتفوقه في كل مزاياه الإنسانية ، فاستحق بذلك أن يكون وليا وإماما ..

هذا ، وقد ذكر القرآن الإمام عليا [عليه‌السلام] أكثر من مرة بما يشبه هذه المناسبة أيضا ، وذلك كآية النجوى ، وآية الصدقة سرا وجهرا ، وليلا ونهارا. وآيات سورة هل أتى بدءا من هذه الآية. ثم الآيات التي تليها ، ومنها آيات إطعام الطعام للمسكين ، واليتيم ، والأسير ..

وخلاصة القول : أن الوفاء بالنذر يكشف بصورة واقعية عن كمال

__________________

(١) سورة المائدة الآية ٥٥.

١٧٦

حضور الله سبحانه في قلب هؤلاء الأبرار ، وفي كل وجودهم. وعن أنهم قد بلغوا درجة الكمال في مزاياهم .. حتى أصبح الوفاء بتعهداتهم هو السمة المميزة لهم ، ولكن لا خوفا من عقاب ، ولا طمعا في ثواب ، بل لأن هذا هو خلقهم الأصيل.

ولعل ذلك يوضح السبب في أنه تعالى قدم قوله : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) على ما عداه ، حيث قال : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ). ولم يقل : يخافون من ربهم يوما عبوسا قمطريرا ، ويوفون بالنذر.

فإن هذا هو السياق الطبيعي لحياة هؤلاء الأبرار ، ولعباديتهم له تعالى. ولارتباطهم به سبحانه ، ومستوى هذا الارتباط ..

لا يوجد عاطف :

وقد رأينا : أنه تعالى لم يأت بعاطف ، فلم يقل : يشربون ويوفون بالنذر ، بل رتب الوفاء على نفس الشرب من الكأس التي هي عين. واعتبر هذه الجملة هي المورد الأول الذي يسوقه ليشرح لنا من خلاله ، كيف أن شرب الأبرار من تلك العين ، وتفجيرهم لها يتحول إلى وفاء بالنذر ، وإلى خوف من يوم الجزاء ، وإلى إطعام الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إلخ ..

حيث إن أبراريتهم بكل المعاني التي تتضمنها ، قد اقتضت ذلك كله ..

فهذا التفصيل لذلك الإجمال ، وارتكاز الوفاء على الشرب ، لا يتلاءم مع ذكر الواو الدالة على أن الموردين في عرض واحد ..

«يوفون» :

وقد قال : «يوفون» ، ولم يقل «يفون» ، لأن كلمة «يفون» مأخوذة من وفى ، ومضارعها يفي ، وكلمة «يوفون» مأخوذة من أوفى ، ومضارعها هو يوفي.

١٧٧

وهمزة أوفى يقال لها : همزة التعدية ، فهي مثل علم وأعلم ، وكرم وأكرم.

والمراد بالإيفاء هنا الإتمام بحيث يظهر قصد الفاعل إلى ذلك ، وتعمده حصوله ..

أما كلمة يفون ، فتدل على مجرد حصول الوفاء كيفما اتفق ..

فكلمة الإيفاء : تشير إلى الفاعل ، وإلى اختياره وقصده من جهة ..

وتشير من جهة أخرى ، إلى صفة وحالة ما وقع عليه هذا الفعل ، وقد قال يوسف لإخوته : (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) (١). فوجه نظرهم إلى حالة الامتلاء التي يكون عليها الكيل الذي وقع عليه فعل الإيفاء. وذلك ترغيبا لهم في الاستجابة إلى ما طلبه منهم ..

ونظير ذلك كلمة : (تُخْسِرُوا) ، في قوله تعالى : (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) (٢). المأخوذة من أخسر ، لا من خسر ..

وهذا يعطينا : أن ثمة قصدا إلى بيان معنى الوفاء والتمامية الحقيقية الفعلية بأجلى وأقصى مراتبها.

والنذر كما هو معلوم هو أن يجعل الإنسان على عهدته أمرا لشخص آخر أو لجهة أخرى ، بحيث يصبح هذا الشيء ملكا لذلك الآخر ، لا بد من إيصاله إليه في الموقع المحدد ..

وقد يكون سبب الإقدام على هذا التعهد هو دعوة الطرف الآخر إلى إنجاز أمر مّا ، بحيث يكون هذا المنذور في مقابل إنجاز ذلك الأمر.

__________________

(١) سورة يوسف الآية ٥٩.

(٢) سورة الرحمن الآية ٩.

١٧٨

وهذا بالذات هو ما جرى في مناسبة نزول سورة «هل أتى» ..

إذ إن الحسنين [عليهما‌السلام] مرضا ، فنذروا : لئن شافاهما الله تعالى ، أن يصوموا لله ثلاثة أيام ، فلما شافاهما الله. صامت السيدة الزهراء [عليها‌السلام] ، وصام معها علي ، والحسنان [عليهم‌السلام].

فلما حان وقت الإفطار ، ووضعوا الطعام أتاهم مسكين ، فتصدقوا عليه به. وباتوا بلا طعام.

وحصل لهم في اليوم الثاني مع اليتيم مثل ذلك ..

وهكذا جرى لهم في اليوم الثالث مع الأسير أيضا ..

فصاموا ثلاثة أيام بلياليها ، لا يجدون طعاما سوى الماء ..

فشفاء الحسنين [عليهما‌السلام] قد جاء استجابة لنذرهم [عليهم‌السلام] فأصبح في عهدتهم له تعالى صوم ثلاثة أيام ، ولا بد لهم من الوفاء بالنذر.

ولأجل هذه المعادلة الواقعية التي نشأت بين الشفاء ، وبين الصوم ..

ولا يصح إحداث أي خلل في هذه المعادلة .. بعد أن أصبح هذا في مقابل ذاك ، وتعادلا ككفتي ميزان في عالم الواقعيات والحقائق ..

وهذه المعادلة الواقعية تحتم الإيفاء لا الوفاء. لأن المهم هو إعطاء ما لزم في الذمة ، إلى حد ، يفي بذلك الشفاء الذي حصل ، حبة في مقابل حبة ومن دون أية نقيصة ، وبخس في الميزان ، لأنهم أخذوا شيئا وتعهدوا بإعطاء مقابله ، فلا بد أن يأتي هذا الصوم الذي هو المقابل وافيا وتاما ، في أعلى درجات الخلوص والإخلاص والسلامة ، والتوجه القربي في كل آناته وجميع حالاته ، وذلك ليوازي في آثاره وفي أهميته شفاء مثل الحسنين [عليهما‌السلام].

١٧٩

وهذا لا يتأتى إلا من أبرار قد بلغوا أعلى الدرجات ، في الارتباط بالله ، والمعرفة به سبحانه ..

فقوله تعالى عنهم : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) أي يأتون به وافيا ، وفق المطلوب ، يعتبر غاية في مدح هؤلاء الصفوة ، والثناء عليهم. وبدون هذا الوفاء التام .. فإن ثمة خللا سيحدث في المعادلة .. ولا يعرف كيفيات وحجم هذا الخلل ، إلا الله .. فلعله خلل ونقص في البركات ، أو في الألطاف ، أو في التوفيقات للتقوى ، أو في المشاعر ، أو في الإيمان ، أو في العلاقات الاجتماعية ، أو في الحالة الاقتصادية ، أو في الزرع ، أو في الماشية ، أو غير ذلك. إن ذلك كله لا نعرفه نحن ، ولا يمكن تحديده ، ولا التكهن به.

النذر أيضا سنة إلهية :

ولا بد لنا هنا من تسجيل حقيقة هي : أن الدعاء ، والعهد ، والنذر ، والتوسل بالأنبياء والأولياء ، وغير ذلك .. ـ إن كل ذلك ـ هو من السنن الإلهية التي تؤثر حتى في النواميس الطبيعية ، وفي الماديات .. فمثلا قد تقتضي السنن الطبيعية أن لا يولد للشخص الفلاني ولد ، أو أن لا يكون له مال .. أو أن يمرض ، أو يموت ، ولعل ذلك كان هو الأصلح له ، ولمن يحيط به. والأصلح لنسله ..

ولكنه إذا سعى ، وبذل جهده ، وطلب من الله سبحانه ، أن يتدخل ويبطل تأثير ذلك القانون الطبيعي ، فإن الله يغير في الأمور بحيث يصير الأصلح هو عكس هذا الواقع القائم بالفعل ..

وقد تكون وسيلته التي يقدمها هي نذر بديل أو عديل ، أو توسل بنبي أو وصي .. أو التجاء إلى الانقطاع إلى الله بالدعاء ، أو نحو ذلك ـ

١٨٠