تفسير سورة هل أتى - ج ١

السيد جعفر مرتضى العاملي

تفسير سورة هل أتى - ج ١

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٤
الجزء ١ الجزء ٢

فيه ، ثم هو يظهر صدقية وانسجام البيان النبوي والإمامي لشؤون الدين ، وحقائق الإيمان من حيث إنها تخاطب الفطرة ، والوجدان ، والضمير ، والعقل ، وتفرض النظرة التأملية لحالات الواقع ومزاياه ، للانسجام معه في كل حركة تعنيه ، وفي كل اتجاه.

أما أبو جهل ، وأبو سفيان ، وكذلك فراعنة قريش الذين قتلهم بغيهم في بدر ، وأحد ، والأحزاب ، وغيرها .. فقد كانوا يرون المعجزات والكرامات في أتم تجلياتها .. ولكنهم اتخذوا سبيل الجحود والعناد ، ولم يسلم من أسلم منهم ، ولكنه استسلم للأمر الواقع ، وبقي يسبح في مستنقع آسن من الكيد والتآمر على الحق ، وأهل الحق ..

«السّبيل» .. وليس الطريق! :

وأما لما ذا قال تعالى : هديناه «السّبيل» ، ولم يقل : «الطريق».

فلعل سببه هو أن كلمة الطريق ، إنما تدل على مجرد وجود موضع ممتد يسلكه الناس ، وهو قد يكون واضحا ، وقد يكون خفيا ، وقد يكون واسعا ، وقد يكون ضيقا ، أما السبيل فهو الطريق وما وضح منه (١).

فخصوصية الوضوح إذن مأخوذة في السبيل ، ولا تفهم من كلمة «الطريق».

والهدايات الإلهية هي الأوضح والأظهر والأصوب ، وليس هداية الفطرة ، والإلهام ، والحس ، والمشاعر والوجدان ، والعقل ، والشرع ، إلا ضمانات يعضد بعضها بعضا ، ويشد بعضها أزر بعض .. فكلما عجزت وسيلة جاءت الأخرى الأقوى منها لتحل محلها .. وتنجز ما عجزت عنه ، فإن عجزت هداية الإلهام ،

__________________

(١) لسان العرب ج ٦ ص ١٦٢ ط دار إحياء التراث.

١٠١

جاء دور الحس ، فإن عجز الحس جاء العقل. فإن عجز العقل جاء الشرع ، فهداية الله تامة ، وحجته بالغة ، تحفظ الإنسان في جميع حالاته ، وتصونه من الخطل والزلل في مختلف تقلباته ..

هديناه السبيل .. أو إلى السبيل؟ :

وليست الدلالة على السبيل من قبيل الإشارة إليه من بعيد ، مع عدم وضوح معالمه ، ومن دون معرفة خصوصياته سعة وضيقا ، حزونة وسهولة .. وما إلى ذلك ..

بل الهدايات الإلهية يقينية وواقعية ، تجعل السبيل واضحا لا لبس فيه ، سوف يلمس المهتدي بها هذا السبيل ، ويجده حاضرا عنده ، وكأنه قد حلّ هو فيه ..

وبذلك يكون تعالى قد سدّ على هذا الإنسان منافذ الاعتذار والتعلل ، ولله الحجة البالغة في كل وقت وحين ..

(أل) عهدية أم جنسية؟ :

وقد يسأل سائل : هل المراد بالسبيل ، السبيل المعهود؟ فتكون «أل» عهدية .. أم المراد به جنس السبيل؟!.

ويجاب عن ذلك : بأنه قد يدعى أنها عهدية ، وذلك لأن الله حين خلق الكون والحياة قد رسم لهما غاية ، ولا بد من سلوك طريق موصل إليها ، ومن تعريف وهداية لذلك الطريق.

وقد بين الله تعالى البداية ، والسبيل والغاية ، بأوضح بيان ، وهدى إليه أتم هداية.

وواضح : أن أي اعوجاج وانحناء في ذلك السبيل سوف يفقده صلاحية الإيصال. وفي الانحراف والعودة هدر للوقت وتضييع للجهد ،

١٠٢

وعبثية غير مقبولة. قال تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (١) ..

وهذا معناه : أن الهداية الإلهية إنما تكون إلى سبيل واحد ، وهو الصراط المستقيم المتصل بالهدف ، دون سواه .. والذي إذا اتضح وعرف ، فإن الطرق الموجبة للضلال عن الهدف تصبح واضحة أيضا ..

ويصح التعبير عنها بكلمة «سبيل» لأن ذلك هو ما يقتضيه انحصار الطريق الموصل إلى الهدف بواحد ..

وذلك كله يشير إلى أن كلمة «أل» عهدية ..

وذلك غير دقيق ، والصحيح هو أن كلمة «أل» جنسية ، وذلك لما يلي :

إنه تعالى لم يقل : «إنا هديناه السبيل ، إما مهتديا أو ضالا» ، مع أن قوله تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) قد يغري الأوهام القاصرة. بتوقع أن يقول : إما ضالا ، أو مهتديا ، لأن جعل الإنسان يتلمس السبيل بهذا المستوى من الوضوح ، والتعيّن والتبيّن ، لا يبقي مجالا للضلالة عنه ، أو تضييعه ، أو ادعاء الغفلة عن خصوصياته وحالاته ، فهو مهتد إليه بصورة حتمية ، فإذا حاد عنه ، فإنما هو عناد ، وكفر ، واستكبار ، وجحود.

فنسبة الوضوح في سبيل الهداية ، هو في مستوى نسبة الوضوح في سبيل الضلالة. قال تعالى : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (٢). فإذا كان قد هداه النجدين ، فكيف يمكن تصور ضلاله ، إلا على سبيل العناد والجحود؟

__________________

(١) سورة الأنعام الآية ١٥٣.

(٢) سورة البلد الآية ١٠.

١٠٣

وقد قال تعالى : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) (١).

وقال : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) (٢).

وبذلك يتضح : أن «أل» في كلمة «السّبيل» جنسية ، أي أنه تعالى قد بيّن سبيل الغي والضلال ، الذي لا يوصل ، بواسطة بيانه للسبيل المستقيم الموصل ، فأصبحت السبل واضحة ، وعليه هو أن يختار.

لماذا بدون فاء التفريع؟ :

ويبقى سؤال : لماذا لم يقل الله تعالى : (إِمَّا شاكِراً). مع فاء التفريع ، بل قال : (إِمَّا شاكِراً)؟! ..

ونقول : لعل السبب في ذلك : أنه تعالى يريد أن يبرز عنصر القصد والاختيار والإرادة ، فكأنه قال : قد دللتك ، ولك الخيار ، في أن تفعل ، وأن لا تفعل ، فأنت الذي تقرر وتختار ، وتبادر.

ولو أنه جاء بفاء التفريع فلربما يتخيل أن الشكر والكفر يأتي كنتيجة طبيعية وحتمية الحصول ، سواء أكان ذلك بسبب الغفلة عن الأمر ، فينساق بعفوية إليه وبدون التفات ، أم بسبب النسيان بعد الالتفات ، أم بسبب العمد إلى الشكر والكفر ، ثم يتكرر منه فعل الكفر ، حتى يصير كفورا ..

السميعية والبصيرية لا تغني عن الهداية :

وقد يقال : إذا كان الله قد جعل الإنسان سميعا بصيرا ، فإنه لا يحتاج بعد إلى الهداية ، وذلك لأن سميعيته الفائقة ، وكذا بصيريته سوف تجعلانه يلتفت لكل شيء ، ويدرك كل ما حوله .. فلما ذا عاد فقال : (إِنَّا

__________________

(١) سورة الأنعام الآية ١٤٩.

(٢) سورة النمل الآية ١٤.

١٠٤

هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)؟!

ويجاب عن ذلك :

إن سميعية وبصيرية الإنسان لا تعني إحاطته بالأمور ، ومعرفته بأسرار الخلق ، ولا وقوفه على الغيوب ، ولا على واقع تأثيرات الأشياء بعضها ببعض ، ولا على المصالح والمفاسد الواقعية ..

فيحتاج إلى الهداية التشريعية الإلهية ، ليضمن عدم الوقوع في الخطأ الكبير والمهلك .. لأن غاية ما يحصل عليه الإنسان هو هداية التكوين ، والفطرة ، والعقل. وهداية التكوين محكومة بعللها وأسبابها .. وهداية الفطرة محدودة في نطاق الدعوة إلى عناوين ومبادىء ، وأهداف عامة وعالية ، تكتنفها دواع غريزية ، تحتاج إلى ما يضبط حركتها في مسارها إلى تلك الأهداف والمبادىء ، حتى لا تتجاوز الخط أو الهدف الذي حددته الفطرة لها.

وهداية العقل تبقى أيضا مفتقرة إلى توفير المخزون الذي يستطيع العقل من خلاله أن يعطي حكمه الإرشادي من خلال التصرف فيه ..

ويبقى الإنسان بعد هذا وذاك في موقع المحتاج إلى الدلالة والهداية الإلهية .. فبعث الله له الأنبياء مبشرين ومنذرين .. وعرّفوه السبيل : (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ..)

ويكون هذا المستوى من السميعية والبصيرية بمثابة التأهيل لتلقي الهداية الإلهية .. ثم التفاعل معها من موقع المختار المريد .. لا من موقع الجبر التكويني ، والتحريك القسري ، كما هو الحال بالنسبة لبعض الكائنات ، كالنباتات ، ولا من موقع التحرك التكويني ، والفطري ، والغريزي ، وحسب ، كما هو الحال بالنسبة للحيوانات ..

١٠٥

وَإِمَّا كَفُوراً :

ولا بد أن يلتفت قارىء هذه الآية إلى أن الله سبحانه بالنسبة للشكر قد عبّر بصيغة اسم الفاعل .. لكنّه بالنسبة لغير الشاكر جاء بصيغة المبالغة فقال : (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ..) أي كثير الكفر وشديده ..

وهذا التعبير هو الصحيح والأولى ، لأن الإنسان شديد الكفر ، من حيث إن الحقائق التي يحاول طمسها وتجاهلها ، هي من الظهور والوضوح إلى الحد الذي تحتاج إلى جهد كبير وشدّة ، ليتمكن من طمسها وحجبها. وهو أيضا كثير الكفر ، وذلك لكثرة الحقائق التي يعمل على إبعادها ، وإسدال الحجاب عليها. سواء أكانت هذه الحقائق مما تدعوه إليها فطرته ، أم مما يرشده إليها عقله ، أم مما أوضحها له التشريع والبيان الإلهي ..

قوة الوضوح في البيان القرآني :

وإن أعظم ما يواجه الإنسان في قضايا الإيمان والكفر هو الشأن العقيدي ، لأنه يرتبط بأمور الغيب ، ويحتاج إلى إدراك عقلي ، ورؤية قلبية ، وتلمس وجداني ، يصل إلى حد صيرورة ذلك واضحا وبديهيا .. وهذا ما أشير إليه في قوله تعالى : (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١) .. وعنهم [عليه‌السلام] : «عميت عين لا تراك» ..

وقد قلنا : إن القرآن في بياناته لأمور العقيدة ، يدفع بها لتصبح شأنا حياتيا ، وواقعا عمليا ، يتلمسه الإنسان في كل موقع وكل اتجاه .. ولا يتحدث له عنها بطريقة تجريدية ، فلسفية ، فراجع الآيات التي تتحدث

__________________

(١) سورة إبراهيم الآية ١٠.

١٠٦

عن وجود الله ، وعن توحيده ، وعن صفاته ، وعن النبوة وعن الإمامة ، وعن اليوم الآخر .. كقوله تعالى مثلا : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (١) ، فإنه تعالى قد تحدث عن فساد الكون والحياة ؛ بالشرك ، وأن الإنسان سوف يفقد القدرة على العيش ، وعلى إعمار الكون ، وسيفتقد السعادة ، ويعجز عن الوصول إلى كمالاته التي ينشدها ..

ولم يقل : إن تعدد الآلهة يستتبع الالتزام بفقدان أحدها ، في المكان الذي يوجد فيه الآخر ، ولم يشر إلى أن ذلك يستلزم حاجة الآلهة إلى المحل ، أو لزوم تقدم المكان على المكين ، ولا إلى لزوم وجود ما يميز هذا عن ذاك ، ولا إلى غير ذلك من أمور تبقى في دائرة التأمل الفكري .. بل ترك البيانات الفكرية ، التي تحصن هي الأخرى الإنسان من شبهات أهل الضلال ، ترك بيانها للأئمة الطاهرين ، ولذلك نجد الإمام عليا [عليه‌السلام] يتصدى لها ، فيقول : أيّن الأين فلا يقال له أين ، وكيّف الكيف فلا يقال له كيف (٢) ..

وقال [عليه‌السلام] أيضا : مع كل شيء لا بمقارنة ، وغير كل شيء لا بمباينة (٣) .. وغير ذلك.

وقد بيّن [عليه‌السلام] ذلك ، بعد أن بيّن لنا أيضا أنه تعالى لا يمكن دخوله في تصوراتنا وأوهامنا ، فقال : «كلما ميزتموه بأوهامكم في أدق

__________________

(١) سورة الأنبياء الآية ٢٢.

(٢) بحار الأنوار ج ٣٦ ص ٢٨٣.

(٣) نهج البلاغة ج ١ ص ١٦ ، واثنا عشرة رسالة للداماد ج ٢ ص ٤٣ وبحار الأنوار ج ٤ ص ٢٤٧ وج ٥٤ ص ١٧٧ وج ٧٤ ص ٣٠٠ وتفسير نور الثقلين ج ٥ ص ٢٦٠.

١٠٧

معانيه ، مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم» (١).

فالله إذن يريد لنا أولا أن نشعر به بقلوبنا ، ونحس بآثاره في حياتنا ، ليصبح واقعا حياتيا فاعلا وقويا. وهكذا فعل في سائر الأمور العقائدية ، كالقيامة والنبوة وغيرهما ، وكذا المفاهيم الإيمانية ، والدينية ، بصورة عامة ..

ولذلك تجد الإنسان يعيش الشعور بالله سبحانه وبقدرته ، ومحبته ، وسائر المعاني الإيمانية في حالات الخوف والرجاء ، وفي حالات الصحة والمرض ، فيتوجه إليه بالدعاء ، ويشعر بالفرح وبالامتنان حين يستجيب له.

فالمطلوب إذن هو الإحساس بالله سبحانه ، وليس المطلوب هو تصوره سبحانه ، لأن ذلك مستحيل. كما أن المطلوب هو امتلاك القدرة على دفع شبهات المضلين ، والتحصن من ضلالاتهم.

هذا : وقد جاءت هذه الآية التي نحن بصدد الحديث عنها ، في نفس هذا السياق ، كما يظهر من ملاحظة المعاني التي أشارت إليها ، في مفرداتها ، وفي سياقها العام.

لماذا قال : شاكرا؟!

والسؤال هو : لماذا قال : «شاكرا» ، مع أن الحديث هو عن الهداية والضلال؟! .. ولما ذا أيضا جاء بها بصيغة اسم الفاعل؟! ..

والجواب :

١ ـ إن اختيار الشكر في هذا المورد ، إنما هو لأنه من قبيل إطلاق الدعوى مع دليلها ، لأن التعبير بالشكر يوجب أن يكون هناك ما يفرض الشكر ، وهو النعم. فإذا أثبتت الشاكرية ، فإن ثبوتها يوجب ثبوت قبح

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٦٦ ص ٢٩٣.

١٠٨

الكفر بصورة أوضح وأتم ، لأن وجود النعم أوجب حتمية الشاكرية .. وحتمية الشاكرية وقيمتها يجعل الكفر من أقبح الأشياء ، فإن الكفر للنعمة ، وانجرار ذلك إلى الكفر بالمنعم وصفاته ، وكل ما يصدر عنه ، يصبح جريمة كبرى .. فكيف إذا كان الإنسان كفورا ، أي شديد الكفر وكثيره؟ فإن الأمر يصير أعظم قبحا ، وأسوأ صنعا ..

وفي هذا الأسلوب من التنفير من الكفر ، والحث على الطاعة ما يغني عن أي بيان.

٢ ـ إن أرقى حالات العبادة والطاعة هي تلك التي تكون نابعة من صميم الذات الإنسانية. فالالتزام بالسبيل الواضح ، هو ما يدعو إليه الخلق الإنساني ، وتقتضيه الفطرة الصافية ، حيث لا بد أن يختار طريقة الشكر باقتضاء من داخل ذاته ، ومن دون حاجة إلى إلزام بأمر من الخارج. فإذا جاء الأمر التّكريمي من قبل الله سبحانه ، فإن اندفاعه إلى امتثاله سيكون أيضا من مقتضيات طبعه ، وخلقه الإنساني الرفيع .. لا طمعا بنوال ، ولا خوفا من عقوبة ، ولا لأجل الخروج من حالة الإحراج والإلزام حيث لا مناص.

وقد روي عن أمير المؤمنين [عليه‌السلام] أنه قال : «إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار ، وإن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد ، وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار» (١).

فحالة الشاكرية حالة إرادية اختيارية ، أخلاقية ، وإنسانية. وهي تعبير

__________________

(١) راجع : نهج البلاغة ج ٣ قسم الحكم ، الحكمة رقم ٢٣٧ والبحار ج ٤١ ص ١٤ عنه وج ٧٥ ص ٦٩ عن المناقب لابن الجوزي وعن تحف العقول. وراجع ج ٦٧ ص ١٨ و ١٩٧ و ٢٥٥ وج ٨ ص ٢٠٠ عن الكافي ، وعن عقائد الصدوق وعن علل الشرائع ج ١ ص ١٢.

١٠٩

فطري صادق ، ينبع من داخل الذات ، بما لها من أصالة ، وما للمزايا والكمالات الإنسانية والأخلاقية من تجذر وعمق.

أما لما ذا عبر باسم الفاعل ، فقال : «شاكرا» ولم يقل شكورا ، ليتجانس مع كلمة «كفورا» .. فلعله ليفيد أمرين :

أحدهما : أن الإنسان لا يمكن أن يكون شكورا ، أي كثير الشكر ، على نحو الحقيقة ، بل هو لا يستطيع إنجاز شكر واحد لله تعالى .. لأن كل شكر يحتاج إلى وسائل لإنجازه ، وهذه الوسائل هي نعم جديدة ، يحتاج أيضا إلى أداء شكر كل واحدة منها ، وما أكثرها.

ثانيهما : أن اسم الفاعل «شاكرا» يشبه الفعل المضارع «يشكر» في إفادة فعلية التلبس بالشكر ..

كما أنه لكونه اسما مجردا عن إفادة التجدد ، فهو يدل على الثبات والدوام ، لهذا الشكر ، وليس فيه دلالة على التصرّم والانقضاء.

كما أنه لم يقل : إما أن يشكر أو يكفر ، لأن ذلك يدل على مجرد صدور الفعل منه ، ولو مرة واحدة ، ولا يفيد أية خصوصية أخرى مع أن المقصود هو بيان ذلك بلحاظ خصوصيته الأخلاقية ، وغيرها مما ألمحنا إليه ..

لما ذا : وَإِمَّا كَفُوراً؟!

وأما السبب في أنه تعالى قد جاء بصيغة المبالغة في قوله : (وَإِمَّا كَفُوراً) فلعله :

أولا : فيما يرتبط بالنعم ، فإن كثرة النعم تتطلب من الكفور كثرة المحاولات لإخفائها ، وكل نعمة لها سترها الخاص بها ..

وفيما يرتبط بالحقائق والاعتقادات ، وسواها ، فإنه أيضا يحتاج إلى كثرة الستر للحقائق .. وتعدد الإنكار للأمور العقائدية وغيرها ..

١١٠

فكلمة كفور تشمل كفر النعمة ، وكفر المنعم ، والكفر بالنبي الذي يخبر عنه ، وبالأئمة الذين يسعون إلى إقامة دينه ، ثم الكفر بيوم الجزاء ، ليتخلص ويتملص من المسؤولية ..

فالقول بأن المقابلة بين الشاكر والكفور تجعل المعنى الأول ، وهو كفر النعمة ، أنسب بالمعنى ..

قول غير دقيق .. بل التعميم هو الأنسب ، خصوصا وأن شكر النعمة هو الآخر يستبطن الاعتراف بكل الاعتقادات الآنفة الذكر ، ومنها صفات الله تعالى ، لأن النعم تثبت تلك الصفات ، لأنها من مظاهرها وتجلياتها ، غير أن الشكر لا يتعرض لتلك النعم ، وإن كان يستلزم الاعتراف بها من قبل الشاكر ، كما أن جحود صفات الله لا يمكن أن يتحقق معه الشكر ..

وبذلك يتضح : لماذا لم يقل : مؤمنا أو كافرا ، إذ إن ذلك يوجب اختصاص الكفر بالكفر العقائدي. فهذه الآية تستبطن تحويل الشأن العقيدي إلى أمر حياتي.

فجاء بصيغة المبالغة ، لأجل بيان هذه الكثرة الحقيقية لكفره ..

ثانيا : إن كثرة صدور الطمس والإخفاء للنعم يكشف عن خلل حقيقي في أخلاقيات ذلك الشخص وفي إنسانيته ، ويدل على خبث باطنه ، وشدة طغيانه ، وحرصه على طمس نعم الله سبحانه ، والتنكر لها ، مع أن الله تعالى يقول لنبيه [صلى‌الله‌عليه‌وآله] : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (١) ، لأن إظهارها يزيد في معرفة الناس بالله ، وفي توجههم إليه بحوائجهم. ولأجل ذلك قلنا : إن التعبير بالشاكر والكفور ، هو الأصح من

__________________

(١) سورة الضحى الآية ١١.

١١١

التعبير بقوله : إما ضال أو مهتد ..

وأخيرا .. فإننا بالنسبة لقوله : (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) نلاحظ : أنه تعالى لم ينظر إلى جهة صدور الفعل ، وحركته الخارجية ، وخصوصياته ، بل نظر إلى طبيعة الشكر ، والكفران ، من حيث كونهما صفتين أخلاقيتين داخلتين في تكوينه النفسي الداخلي ..

فالشكرية حالة إنسانية أخلاقية ، والكفورية حالة لا أخلاقية ولا إنسانية.

الأخلاق أساس الدين :

ونحن نعلم : أن الأخلاق هي أساس الدين ، لأن الهدايات كلها : ومنها الفطرية ، والإلهامية ، والعقلية ، والتشريعية قد تتوفر للإنسان ، ولكنه ـ مع ذلك ـ لا يهتدي بهداها ، وذلك بسبب خلل أخلاقي ، ونقص في المزايا الإنسانية في داخل نفسه .. ففرعون مثلا ، وكذلك إبليس ، قد توفرت لهما جميع أنواع الهدايات ، لكن الخلل الأخلاقي المتمثل باستكبارهما وعلوهما قد أوصلهما إلى الإبليسية ، وإلى ادعاء الربوبية والفرعونية ، رغم أنهما يملكان أقوى الأدلة المثبتة للقضايا العقائدية. ومنها رؤية المعجزات القاهرة ، ومعاينة الكرامات الباهرة ، والبراهين العقلية ، والفطرية كلها ، ولكن ذلك كله لم يؤثر في هدايته ، واختار الجحود الذي تحدث الله عنه حين قال : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ).

وذلك كله يعطينا : أن الكفر حالة عناد واستكبار ، وخلل أخلاقي بالدرجة الأولى ..

فرق آخر بين الكفر والشكر :

وهناك فرق آخر بين الكفر والشكر ، وهو أن من لا يعترف

١١٢

بالشهادتين ، فهو ينكر جميع الحقائق المترتبة على التوحيد. بنفس إنكاره للتوحيد ، وينكر ما يترتب على النبوة بنفس إنكارها أيضا ..

وأما إذا أقر بالتوحيد ، فهو يحتاج إلى ممارسة كل مفردات الشكر ، ليكون شاكرا بالفعل .. إذ إن اعترافه بالتوحيد إنما يكفي عن التوحيد دون سواه. أما العبادات مثلا ، كالصلاة ، والزكاة ، والصدق .. و.. و.. فلا يغني عنها شيء ، حتى التوحيد ..

فظهر أن كفره بالتوحيد يسقط كل ما عداه عن الصلاحية ، وهو بمثابة تعدد صدور الكفر منه بالنسبة لكل واحدة ، واحدة .. لكن إيمانه به لا يغني عن شيء مما عداه ، فلا بد من الإتيان به على حدّه الذي قرره الله عزوجل ..

المجبرة ، وآية الهداية :

وأخيرا .. نشير إلى أن المجبرة قد ادّعوا : أن الله سبحانه لم يهد الكافر .. لكن هذه الآية قد جاءت صريحة في تكذيب هذه الدعوى ، حيث قررت أن الهداية الإلهية تشمل الكافر والمؤمن بلا فرق ..

* * *

١١٣
١١٤

الفصل الرابع :

(إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً)

١١٥
١١٦

قال تعالى :

(إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً.)

في هذه الآية المباركة حديث عما يواجه الكافر من عقاب ، فكيف ، بالكفور ، ونحن نجمل الحديث فيها على النحو التالي :

«إنّا» :

قد تكرر استعمال كلمة «إنّ» التي هي حرف تأكيد ، مع إدخالها على «نا» التي هي ضمير جمع المتكلمين ، لا على ضمير المفرد ، وقد قال هنا : «إنّا» ، ولم يقل : «إني».

كما أنه اختار التأكيد ب «إن» ولم يقل : «قد» أو «لقد أعددنا».

فأما بالنسبة للملاحظة الأولى ، فقد ذكرنا ، أكثر من مرة : أن المناسب في مثل هذا المقام الذي يراد به الردع والزجر ، أن يكون في الخطاب إظهار للعزة والعظمة الإلهية ..

وأما بالنسبة للملاحظة الثانية ، فإن التعبير بكلمة قد ، ولقد ، وإن كان يفيد التأكيد ، إلّا أنه يفقد الإشارة إلى مقام العزة الإلهية ..

وقد قلنا : إن التأكيد عليه ، وتركيزه في ذهن السامع ، بتكرار الحديث عنه ، بهذه الطريقة التعظيمية مطلوب في تحقيق الردع والزجر ..

«أعتدنا» :

وأما لماذا قال : «أعتدنا» ، ولم يقل : «أعددنا» ..

١١٧

فلعله لأجل أن كلمة أعددنا تتحدث عن مجرد الإعداد ، من دون تعرّض لما يكون موردا ومحلا له .. أما كلمة «أعتدنا» ، فإنها تحمل معنى الإعداد ، وتشير أيضا إلى العتاد الذي يتم تهيئته ، وأنه أمر حسي موجود فعلا ، وليس مجرد تهديد ووعيد بأمر قد يكون مفترض الوجود ..

الإعداد لا ينافي القدرة :

وقد يقال : إن الله تعالى هو القادر والقاهر فوق عباده ، فلا يحتاج إلى إعداد عدة ، ولا إلى تهيئة مقدمات لشيء .. فإن العاجز هو الذي يحتاج إلى إعداد وتهيئة الأمور التي قد يفقدها حين العمل .. فكيف قال تعالى : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ) و.. الخ؟!

وجواب ذلك هو : أن المقصود من الإعداد هنا ، ليس هو رفع النقص عن المعدّ ، بل المقصود هو تحقيق الردع للعاصي ، والتأثير عليه لتصحيح مساره ، وذلك هو الأسلوب التربوي الصحيح الذي يقتضيه موقع الربوبية ، وسوق الإنسان نحو كماله ، وإبعاده عن مواقع الخطر بالحكمة الهادية ، وبالأسلوب الصحيح.

الوعيد بغير المحسوس ، يلغي الفرق :

وقد يقال : بما أن السلاسل ، والأغلال ، والسعير ، ليست حاضرة أمام الإنسان ، بل هو سوف يواجهها يوم القيامة ، فالحاضر الآن ليس إلا التهديد بها ، والتهديد بالشيء لا يفرق فيه بين أن يقول : «أعددنا» و «أعتدنا» .. وذلك لأن وقت التنفيذ غير حاصل بالفعل.

ويجاب : بأن الوعيد على نحوين ، أحدهما أضعف تأثيرا من الآخر. فالوعيد المجرد عن الإعداد ، يبقى مجرد محاولة لإيجاد تصور للعقاب ، ولكيفياته ، وحالاته ، ومستواه ، تدفعه للعزم على المضي فيه. فقد يتصوره

١١٨

في مستوى أقل مما هو عليه ، مع احتمالات حصول عفو أو بداء ، أو أي شيء يصرف عن المضي في ذلك العزم.

وأما الوعيد الذي يصاحبه إعداد وتهيئة وسائل .. فإن هذا الإعداد ، يستبطن إفهام العاصي بأن الأمور غير قابلة لأي احتمال ، فقد حددت مستويات العقاب ، وحالاته ، وكيفياته. وجسّده بدرجة مّا ، من خلال ما تهيأ من وسائل .. مع تضاؤل احتمالات الانصراف عن العقوبة ، لوجود الوسائل المذكّرة بها ، والمحرّضة عليها بدرجة من التحريض ماثلة للعيان.

كما أن إحضار الوسائل يعطي للعاصي بصيرة في درجة التصميم والإصرار والجدية في هذا الوعيد ، حيث يرى : أن مراحل تنفيذه قد بدأت ، وأن الخطوات الأولى قد أنجزت.

فإذا كان واقع الأمر يفرض هذا الفرق بين الحالتين ، فالإخبار بهما أو بإحديهما ، لا بد أن تختلف تأثيراته على النفس الإنسانية تبعا لذلك ..

الإعداد والعفو :

ويبقى سؤال يقول : هل هذا الإعداد يمنع من العفو؟!

ويجاب : بأنه لا مانع من حصول العفو ، لكن المهم هو أن هذا الأسلوب التربوي من شأنه أن يجعل الناس أكثر جدية في التزام أوامر الله تعالى .. لأن عنفوان الكفر يتضاءل ، وتضعف شوكته ، وضعفها هذا ، وحرص الإنسان على أن لا يعرض نفسه لغضب الله ، يجعله أهلا للعفو فيما لو اجتمعت شرائطه وموجباته.

«أعتدنا» صيغة الماضي!

وأما لماذا عبّر بصيغة الماضي ، لا بصيغة المضارع ، فقال : «أعتدنا» .. فلعله لأجل أن يفهم العصاة : أنه تعالى قد أعد العدة ، وانته الأمر ، فهو

١١٩

يخبر عن أمر قد حصل في الماضي ، ولا يريد أن يسجل تهديدا مجردا ، إذ لو قال : سوف نعد للكافرين كذا وكذا ، لا نفتح باب الأمل على مصراعيه بتغير الأمور ، ولذهب العصاة باتجاه الاستخفاف والاستهتار بالأمر وبالآمر ..

فقوله تعالى : «أعتدنا» أصلح في التربية ، وأوكد في الزجر ، وأشد في الردع.

«للكافرين» :

وقد كان الحديث في بداية الأمر عن الكفور .. ولكنه حين أراد أن يتحدث عن العقوبة الرادعة عبر بلفظ الكافرين ..

وهو يختلف عن الكفور من جهتين.

الأولى : أن الكفور من صيغ المبالغة ، الدالة على الشدة وعلى الكثرة ..

الثانية : أن الكفور صفة للمفرد. أما الكافرون فهي صفة للجمع ..

وربما يكون الداعي للعدول إلى هذا النحو من البيان هو إظهار : أنه إذا كان هذا هو عقاب الكافر ، فكيف يا ترى سيكون عقاب الكفور الذي هو أشد كفرا ، والذي كثر صدور الكفر منه ، إلى أن صار كفورا .. فكشف ذلك عن شدة طغيانه ، لا بالقول وإظهار الجحود وحسب ، وإنما بالفعل والممارسة أيضا؟! ..

ويؤكد ذلك قوله تعالى : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) (١) .. حيث دل على أن عقاب الكفور مفروغ عنه ، ولا مجال للعفو أو للتخفيف عنه ، في

__________________

(١) سورة سبأ الآية ١٧.

١٢٠