تفسير سورة هل أتى - ج ١

السيد جعفر مرتضى العاملي

تفسير سورة هل أتى - ج ١

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٤
الجزء ١ الجزء ٢

أصبح هذا الإطعام أعظم قيمة ، وأشد أهمية ، إذا لوحظت جميع الخصوصيات التي أشرنا إليها ..

٦ ـ الأسير .. والباذلون : في اليوم الثالث :

ويطوي الصائمون ليلتهم ، ولا يقدرون على شيء إلا على شرب الماء ، ويصومون يوما ثالثا هو الأشد ، والأقسى ، والأمض ، وقد أصبحت الأخطار الجسام تتهدد صفوة الخلق ، وصبية هم خيرة الله ، وحججه على عباده ، بصورة أعظم وأقوى ..

ويحين وقت الإفطار ، وهو ما يجعل النفوس أيضا تهفوا وتتطلع إلى الطعام ، فكيف إذا كان ذلك بعد ثلاثة أيام من الطوى. ثم يوضع الطعام أمامهم ، ولا يحول بينهم وبينه شيء ..

وقد بلغت خطورة الموقف حدا قاسيا ، يدعوهم ليس فقط إلى عدم بذل الطعام ، وإنما إلى بذل كل الجهد والتضحية في سبيل الاحتفاظ به ..

وإذا بسائل جديد يطرق الباب .. غير أن حالة هذا السائل كانت أخف الحالات وأهونها ، فإنها ليس فقط لا تثير شعورا قويا بالرغبة في مساعدته ، بل ربما تكون المثبطات والموانع عن إعطاء هذا السائل ، أكبر وأظهر ..

ولا نريد أن نتحدث عن الحالات ، ولا عن الخصوصيات التي كانت في جانب الباذلين ، فقد ظهر جانب منها في البيانات السابقة ، بل نريد فقط أن نلمح إلى ما كان منها في ناحية السائل .. فنقول :

إنه عدا عن جميع ما لاحظناه من خصوصيات في جانب اليتيم والمسكين .. فإن الأسير رجل مكتمل قوي البنية ، قادر على مواجهة الآخرين ، حتى بالقتال ، وله قدرة على تحمل الصعاب ، ومكابدة المشاق ..

٢٢١

والزهراء [عليها‌السلام] في هذا الجانب امرأة ، والحسنان [عليهما‌السلام] أيضا لم يكونا قد بلغا سن الأقوياء ، فيما يعرفه الناس من ذلك ..

ومشكلة الأسير تبقى محصورة في مدة أسره ، المانع له من بعض ضروب السعي .. وهي مشكلة لها أمد ، ولها مخرج. وسينتهي الأمر به إلى الخروج من هذه الحالة ، والعودة إلى أهله ، وأملاكه ، وإلى الذين لديهم أكثر من دافع لمد يد العون له .. بخلاف المسكين الذي ليس لديه ما ينعش به ، وبخلاف اليتيم الذي لن يجد مثل كفيله الذي فقده كفيلا ، وحاميا ، وراعيا ، وحبيبا ..

ثم إنه ليس في الأسير أية جهة أخرى ـ سوى ما يدّعيه من الحاجة ـ تدعو إلى العطف عليه ، كما كان الحال بالنسبة ليتم اليتيم ..

بل هناك ما يدعو إلى النفور منه ، وإلى حرمانه ، فإنه مجرد أسير ، والأسير في واقع الأمر محارب للإسلام وللمسلمين .. وربما لا يكون قد تخلى عن عدائه لهم ، ولا ذهب حقده عليهم .. بل ربما لا يكون قد تخلى عن كفره ، أو شركه ، أو انحرافه.

وإذا كان قد أسر في ساحة الحرب ، فلعله قد قتل بعض الأحبة ، والأصفياء ، أو شارك في قتلهم ..

ولعل اليتيم الذي جاءهم بالأمس قد فقد كافله ، وحاميه في الحرب التي شارك فيها هذا الأسير نفسه ، أو شارك هو في قتله ، أو في الأجواء التي تمكن القتلة من القيام بجريمتهم ..

أضف إلى جميع ذلك ، أن نهاية هذا الأسير ستكون هي الرجوع إلى قومه ، ولعله يعود معهم إلى حرب الإسلام والمسلمين من جديد ..

وكل هذا الذي ذكرناه ، قد يكون معذرا مقبولا أمام الوجدان ،

٢٢٢

وتبريرا معقولا لرد طلبه عند العرف والعقلاء ..

ثم إنه لم يظهر من حال هذا الأسير ما يشي بصدقه فيما يدّعيه من الحاجة .. وحتى لو كان صادقا ، فإن حاجته ليست بمستوى حاجة من طوى ثلاثة أيام بدون طعام ، فكيف إذا كان هذا الطاوي هو طفلان صغيران. ثم كانا هما الحسن والحسين ، ومعهما الزهراء ، وعلي أمير المؤمنين عليهم‌السلام.

ثم إنه قد كان يمكنهم [عليهم‌السلام] أن يعطوه بعضا من ذلك الطعام ، ويحتفظوا لأنفسهم بالباقي ، أو يحتفظوا بطعام الحسنين عليهما‌السلام على الأقل ..

فكل هذه العوامل التي ذكرناها تدعو إلى الاحتفاظ بالطعام .. تضاف إليها العوامل المضادة والمانعة من العطاء ، ومن بينها ما هو قوي ، ومتناغم مع العواطف والمشاعر الإنسانية ، ومع كثير من النقاط التي سجلناها من ابتداء الحديث إلى هنا ..

وبعد هذا كله .. فقد جاءت المفاجأة وأعطى هؤلاء الصفوة ذلك الأسير كل ما لديهم ، وعرّضوا أنفسهم للأخطار الجسام. مع أنه قد كان يكفيه بعض ما أعطوه ، غير أنهم أرادوا له أن يجد لنفسه قوتا في أطول زمن يمكنهم أن يمدوه بالقوت فيه ..

والبذل في مثل هذه الحالات ، وبملاحظة كل تلكم الخصوصيات ، هو منتهى الكمال الإنساني ، والإيماني ، والروحي ، وهو الحد الذي لا يصل إليه بشر. إلا إذا كان ذلك البشر هو الرسول الأعظم [صلى‌الله‌عليه‌وآله] رغم أن عطاءهم في ظاهر الأمر ، كان بضعة أقراص من شعير .. لكن الحقيقة هي أن في هذه الأقراص ، كل حياتهم ، وكل وجودهم ، وكل الطهر ، والإيمان والإخلاص ..

٢٢٣

٧ ـ السائلون .. هل هم مسلمون؟! :

وقد يحاول البعض أن يدعي : أن المسكين ، واليتيم ، والأسير ، كانوا من المسلمين.

ونقول :

إنه لا مبرر لهذا التخصيص ، ولا دليل يثبته ، بل إن الأمور التي ركزت الآيات عليها ترجع إلى شعور إنساني فياض ، ونبيل ، لا يفرق بين مسلم وغيره ، فإن لكل كبد حرّى أجر ، ومن خلال هذا الشعور الإنساني يتحرك الإنسان في الاتجاه الصحيح ، يرفده بالدفقات الروحية وبالمشاعر الإنسانية حتى يبلغ به إلى الهدف الأقصى ، وهو أن يصبح عمله كله لله سبحانه ..

هذا كله فضلا عن أن بعض الروايات قد أشارت إلى أن الأسير الذي سأل هؤلاء الصفوة فأعطوه .. قد أسره المسلمون أنفسهم ، ولم نجد في تاريخ الإسلام أن أحد المسلمين قد أسره الرسول [صلى‌الله‌عليه‌وآله] مع المشركين حتى احتاج إلى زيارة بيوت الناس للاستجداء ..

٨ ـ الترتيب هنا عكسه في آيات أخرى :

وبعد .. فإن هذه الآية قد ذكرت المسكين أولا ، ثم اليتيم ، ثم الأسير .. ولكننا نجد أنه تعالى حين يعدد أصناف المستحقين للزكاة والخمس .. رتبهم بطريقة مختلفة ، فهو يقدم الفقراء ، أو اليتامى مثلا على المساكين .. فما هو السبب يا ترى؟!

وقد يمكن الجواب عن هذا : بأن النظر في تلك الآيات المباركة يحتاج إلى إثبات أن هذا الصنف مستحق لهذا القسط من الخمس .. أو الزكاة ، أو الصدقات. وليس ثمة أي اختلاف في ناحية المقدار فيما بين جميع الأصناف. وقد جيء بالعناوين لمجرد أن تكون مشيرة إلى

٢٢٤

موضوعاتها ، ليتعلق الحكم بها.

ولكن الأمر هنا ليس كذلك ، إذ إن لنفس هذه العناوين دورا في إفهام الخصوصيات المطلوبة في المعنى الذي هو بصدد بيانه والتأكيد عليه ، وهو ذلك المعنى الإنساني الإلهي العظيم ، الذي ألمحنا إلى بعض جوانبه ..

٩ ـ الإكرام أم الإطعام؟ :

وقد ركزت هذه الآيات على إطعام اليتيم ، ولكنه تعالى في آيات أخرى قد تحدث عن إكرامه ..

ثم إنه تعالى حين تحدث عن إطعامه أخّره بالذكر عن المسكين.

ولكنه حين تحدث عن إكرامه قدمه بالذكر على المسكين ، فقال : (كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ* وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) (١).

وقال تعالى : (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ* وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) (٢).

فالدعّ هو الدفع .. وعدم التقبّل .. وهذا يعتبر عدوانا على من يفترض في الإنسان المتوازن أن يبادر إلى الترحيب به وإكرامه ..

وعدم الحض على طعام المسكين يأتي في المرتبة التالية .. لأن الحالة الظاهرة في المسكين هي حاجته لما يزيل حالة السكون الناشئة عن شدة حاجته ..

أما اليتيم فإنه بحاجة إلى المعالجة الروحية ، وإلى أن يخرج من

__________________

(١) سورة الفجر الآية ١٨.

(٢) سورة الماعون الآية ٢.

٢٢٥

دائرة الصدمة ، والخوف من المستقبل ، وأن يشعر بأنه ليس وحده في هذه الحياة ، بل الجميع معه ، وإلى جانبه ..

فلا بد من ذكره أولا ، لأن سلامة الحالة النفسية ، هي الأهم .. وبها يكون قوام وسلامة شخصيته .. فكيف إذا كان هناك دعّ له ، وممارسة درجة من العدوان عليه.

أما حين تكون القضية مجرد قضية الحاجة إلى المال .. فإن الأولوية إنما تكون لمن تشتد حاجته للمال .. والمسكين هو الحالة الأصعب بالنسبة لليتيم ، والأسير ..

١٠ ـ قصة الإطعام .. وهدف السورة :

هذه السورة تتحدث عن النشأة الإنسانية ، ومسيرتها إلى غاياتها في ظل الهداية الإلهية ، لتتجلى من ثم أنوار أشرف المخلوقات ، من سماء الكرامة والمجد ، لتضيء هذه الحياة بأنواع الهدايات إلى صراط الله العزيز الحميد ..

وقد ذكر الله سبحانه ذلك ، تارة بطريقة البيان لمنازل كرامتهم ، وتارة أخرى بأسلوب التجسيد الحي ، الذي تتجلى فيه كمالاتهم ، وإنسانيتهم ، موقفا وسلوكا ، وطريقة حياة ..

فجاءت قصة إطعامهم اليتيم والمسكين والأسير ، لتجسد أمام عين الإنسان تلك المضامين. لكي يحس بها ، ويتلمسها ، ويتمازج لديه المحسوس بالمعقول ، ليكون ذلك أوقع في النفس ، وأشد في الإقناع ، وأرسخ في اليقين ..

تبدل السياق :

ثم تبدل السياق ، من الحديث بصيغة الغائب : يوفون ، يخافون ،

٢٢٦

يطعمون .. إلى صيغة المخاطب : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ).

ولكن طريقة التغيير في السياق ، قد جاءت فريدة ومتميزة ، إذ إنه لم يذكر هنا أي نحو من الأنحاء التي يتم بها الانتقال من الغيبة إلى الخطاب!!

فهل يريد أن يقول : إن لسان حالهم هو هذا : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ)؟!.

أم أنه يريد أن يقول : إنهم كانوا يقولون للسائلين هذه الكلمات؟! ..

فإن كان سبحانه وتعالى ، قد قال ذلك على سبيل أن هذا هو لسان حالهم ، فنقول : إن ذلك يحتاج إلى أن يقترن بشاهد يبينه ، فإذا قال الراوي ، مثلا : إن لسان حال الإمام الحسين [عليه‌السلام] هو :

إن كان دين محمد لم يستقم

إلا بقتلي يا سيوف خذيني

فشاهد ذلك هو تضحيته عليه‌السلام ، بأخوته وبولده ، حتى الطفل الرضيع ، وصبره على آلام الجراح ..

وفي واقعة إطعام الطعام ـ تجد أن هناك ما يشهد للسان الحال هذا ، فإن حياتهم [عليهم‌السلام] كلها لله سبحانه ، وفي سبيله .. كما أن نفس المفردات والخصوصيات التي قررناها في شرحنا لحال الباذلين ، ولحال السائلين تشهد بذلك أيضا.

وإن كان المراد بالآيات هو أنهم [عليهم‌السلام] كانوا يقولون ـ فعلا ـ للسائلين هذه الكلمات : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) ، فقد يكون الوجه في ذلك هو أنهم [عليهم‌السلام] كانوا يريدون للسائلين أن يطمئنوا إلى أنهم سيعاملونهم بما يحفظ لهم ماء وجههم وكرامتهم ، إذ إنهم لا يريدون منهم جزاء ، بل هم لا يريدون منهم حتى الشكر ، ولو

٢٢٧

بأدنى حالاته ، وأقل مستوياته ..

ولكن .. أن يصدر هذا القول منهم ، لكل سائل أتاهم ، فذلك قد يكون غير مألوف.

والذي نراه هو : أن من الممكن أن يكونوا قد قالوا لهم ذلك ، حين رأوا علامات الدهشة والخجل ترتسم على وجوههم ، وهم يرون هذا الإيثار العظيم من هؤلاء الصفوة ، فتأتي هذه الكلمات لكي تطمئنهم إلى أنهم غير مطالبين برد هذا الجميل ، لأنهم إنما يطعمونهم لوجه الله تعالى ..

إن الإحسان حسن في حد ذاته ، ولكن شرط أن لا يشعر السائل بالمن والأذى .. لأن السائل شديد الحساسية تجاه من يعطيه ، حتى إنه قد يفسر احترامه له على أنه حركات تهدف إلى تذكيره بما أعطاه.

فإعلامه بأنه لا منة لأحد عليه ، إحسان آخر إليه ، فكيف إذا بلغ ذلك حدا جعله يشعر بأنه هو المتفضل على من أعطوه ، لأنه كان سببا في نيلهم الثواب والفضل عند الله تعالى ، فإن ذلك سوف يؤنسه ، ويدخل السرور والبهجة على قلبه ..

ولأجل ذلك كان يهتم الأئمة [عليهم‌السلام] بالتزام سرّية العطاء ، حتى إن الإمام السجاد [عليه‌السلام] كان يعول مئة أهل بيت ، يحمل لهم ليلا أجربة الدقيق على ظهره ، ولم يعرفوه حتى مات(١).

__________________

(١) راجع : سفينة البحار ج ٦ ص ٢٤٥ عن مناقب ابن شهر آشوب ج ٣ ص ٢٩٣ ، والكافي ج ١ ص ٤٦٨ ، والعلل ج ١ ص ٢٣٢ والخصال ص ٥١٧ والوسائل ج ٩ ص ٣٩٧ و ٤٠٢ وغيرها من المصادر.

٢٢٨

فالأئمة [عليهم‌السلام] يريدون بذلك أن يصونوا السائل عن أن يفكر بطريقة خاطئة.

أسئلة تحتاج إلى جواب :

هناك عدة أسئلة وجهها أخ كريم ، نذكرها ، ثم نجيب عليها ، والأسئلة هي التالية :

السؤال الأول :

إن مجتمع المسلمين آنئذ كان لا يزال صغيرا ومحدودا ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد آخى بين المسلمين على الحق ، والمواساة ..

ومن الواضح : أن من أجلى مظاهر ذلك هو المواساة بالمال ، حيث يبادر كل منهم لمعونة أخيه ، بمجرد رؤيته لعجزه ، أو لضعفه ، أو حاجته ..

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يحث الناس باستمرار على التكافل والتعاون ، وقضاء حاجات بعضهم البعض ، ولم يكن صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ليرضى أن يكون في حضرته محتاج. أو ليسمح بنشوء حالة من هذا القبيل ..

لا سيما وأنه مظهر يوجب الشك والترديد في واقعية وصدقية التوجيهات الإسلامية ، مثل ما ورد عنهم عليهم السلام : لو مثل لي الفقر رجلا لقتلته .. (١).

وقوله : «ما آمن بالله واليوم الآخر ، من بات شبعانا وجاره جائع ..» (٢).

__________________

(١) شرح إحقاق الحق ج ٣٢ هامش ص ٢١٣ عن كتاب علي إمام المتقين ج ٢ ص ٢٣ النظام السياسي في الإسلام ص ٢٤٧.

(٢) بحار الأنوار ج ٧٤ ص ١٩١ ، وسائل الشيعة (الإسلامية) ج ١٢ ص ١٥٣.

٢٢٩

السؤال الثاني :

لو أن المسلمين لم يقوموا بواجبهم ، تجاه إخوانهم .. فإن المفروض : أن يتكفلهم النظام الإسلامي المتمثل برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فينفق عليهم من أموال الدولة .. تماما ، كما نقل عن الإمام علي عليه‌السلام ، حين رأى رجلا من أهل الكتاب يسأل الناس ، فقال : «ألم يكن في بيت مال المسلمين ما يكفي هذا وأمثاله؟!» ..

السؤال الثالث :

وسؤال يطرح نفسه أيضا : وهو أنه كيف يكون الذي جاءهم في المرة الثالثة أسيرا ، ويكون طليقا يدور على البيوت ، حتى بعد دخول الليل؟! ألا يحتمل أن يبادر إلى الفتك ببعض المسلمين؟! أو إلى الغدر بهم ، في بعض مجالات حياتهم ثم الهرب؟! ..

وقد سجل لنا التاريخ : أن العباس كان موثقا بعد أسره؟! ولم ينم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنه كان يسمع أنين العباس في وثاقه. فلما أرخوا من وثاقه ، وسكن أنينه ، نام صلى‌الله‌عليه‌وآله ..

السؤال الرابع :

أنه إذا كان أسيرا ، فلماذا يكون هو المسؤول عن تحصيل لقمة عيشه؟! أليس من المفترض أن يكون المسؤول عنه هو النظام الذي أسره؟! .. فيتولى هو إطعامه ، والإنفاق عليه ، وتأمين مختلف حاجاته ، ومنها الملبس ، والمسكن ، وغير ذلك؟! ..

السؤال الخامس :

لماذا أتاهم واحد من هؤلاء في كل ليلة؟! ثم لم يرجع إليهم أحد منهم في الليلة التالية ، والتي بعدها؟! ..

٢٣٠

جواب السؤال الأول :

نجيب بما يلي :

أولا : إن المسلمين في تلك الفترة كانوا قلة قليلة ، ولم يكن لديهم مصادر للتوسع في العيش ، ثم العود بالفضل على إخوانهم ، وليس فيهم أغنياء بالمستوى الذي يسمح باستئصال جذور الفقر والحاجة في مجتمعهم ..

وكانت مسؤولياتهم أكبر من قدراتهم ، وقد أضافت الحروب أعباء أخرى أثقلت كواهلهم ، بما كانت تحتاج إليه من نفقات ، مع ما توجبه من توقف عن العمل .. ثم ما تحمله لهم من مشكلات اجتماعية ، واختلال علاقات ، بالإضافة إلى فقد بعض العوائل للكافل والمعين ، وابتلاء بعض المقاتلين بإعاقات بدنية ، أو نقص بعض الأعضاء ، وما إلى ذلك ..

ثانيا : إن التاريخ يحدثنا عن فترات من القحط الشديد ، كان الناس يبتلون بها آنئذ ، وكان ذلك يضر بالحالة العامة ، ويزيد من صعوبة حصول الناس على ما يتبلغون به ، بل يذكرون أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه كان يشد الحجر على بطنه من شدة الجوع .. (١) ولعل قضية هؤلاء قد حصلت في هذه الفترة ..

جواب السؤال الثاني :

نجيب بما يلي :

بأن تكفل النظام الإسلامي للمحتاجين ، والاستشهاد بقول أمير

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١٢ ص ٢٨ وج ١٦ ص ٢٢٧ مناقب أمير المؤمنين ج ١ ص ٥٨.

٢٣١

المؤمنين عليه‌السلام ، يدل على ما نقول ، إذ إن فعل أمير المؤمنين عليه‌السلام قد أظهر : أن بيت مال المسلمين ، كان هو الذي يتكفل بمعالجة مثل هذه الحالات ..

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، هو سيد المسلمين ، وهو أولى الناس بالعمل بهذا المفهوم الإسلامي الرصين ، فلما رأيناه لم يفعل ذلك علمنا : أن بيت مال المسلمين كان في تلك الفترة عاجزا حتى عن معالجة مثل هذه الحالة ، بسبب عدم وجود المال فيه .. حسبما أشرنا إليه ..

جواب السؤال الثالث :

نجيب بما يلي :

أن الأسير إذا كان قادرا على العمل ، وعلى السعي بنفسه ، فما الذي يمنع من أن يفسح له آسره المجال لطلب لقمة عيشه بنفسه ، فيخفف من درجة أسره من أجل ذلك ..

فإذا أعطاه قسطا من الحرية ، فإن ذلك يفرض عليه أن يعطي في مقابل ما حصل عليه من حرية محدودة ، امتيازا للطرف الآخر على شكل مال يقدمه له ، أو عمل يقوم به ، أو أي شيء آخر ..

ويكون إيكال أمر معيشته إليه في هذه الحالة هو أدنى ما يمكن أن يقوم به لنفسه ، ولكن لا يصح أن يعد ذلك في جملة ما يتوجب عليه تقديمه ، مقابل ذلك القسط من الحرية. وإلا فقد كان يمكن لآسره أن يحتفظ به في غياهب السجون ، وليس لأحد أن يلومه في ذلك ..

جواب السؤال الرابع :

نجيب بما يلي :

إنه ليس من العدل أن يقاتل الأسير أهل الحق ، ويعتدي على

٢٣٢

كرامتهم ، وأرواحهم ، ويسعى في إبطال دين الله ، وإلى أن يسلبهم الحق الذي جعله الله تعالى لهم ، في العيش بكرامة ، في ظل رعاية الله ، ورفض حكم الطاغوت ، والتحرر من هيمنة الباطل وأهله ..

نعم .. ليس من العدل أن يفعل هو ذلك ، ثم يكلّف هؤلاء المظلومون ، المعتدى عليهم ، بالإنفاق عليه ، وبذل أموالهم في سبيله ، لمجرد أنهم استطاعوا أن يبطلوا كيده ، وأن يمنعوه من مواصلة العدوان .. خصوصا ، إذا كان لا يوجد ما يضمن عدم معاودته الكرة عليهم ، بمجرد امتلاكه عناصر القدرة على ذلك ، وارتفاع الموانع ..

ومع غض النظر عن هذا وذاك ، نقول : إن الواجب هو الإنفاق على الأسير ، حيث تتوفر القدرة على ذلك .. أما مع العجز ، فإن إعطاء بعض الحرية ، ليتولى هو بنفسه شؤون نفسه ، لا بد أن يعتبر من أعظم الإحسان إليه ، ومن مظاهر التفضل عليه ..

إن الحديث عن مسؤولية النظام الذي أسره عنه ، غير دقيق ، وذلك لما يلي :

أ : إنه لم يكن هناك أي مبرر لنشوء بيت مال للمسلمين ، في تلك الظروف الصعبة التي ألمحنا إليها ..

ب : إن الإسلام يرى : أن للآسر حقا في الأسير ، وفي فدائه ، ما دام أنه هو الذي تمكن من أسره .. خصوصا في ذلك الزمان الذي كان قتل الأعداء وأسرهم مستندا إلى فعل الأشخاص مباشرة ، وهو نتيجة جهدهم ، وتضحياتهم ، وبطولاتهم ..

وحتى في هذه الأيام ، فإن المفروض هو إيجاد صيغة تسمح لكل من شارك في الحروب المشروعة بأن يستفيد من غنائمها ، على أن

٢٣٣

تتناسب تلك الصيغة مع المستجدات في سياسات الحروب .. ولهذا البحث مجال آخر ..

جواب السؤال الخامس :

وأما بالنسبة للسؤال الخامس ، فإننا نقول :

قد يكون السبب في عدم عودتهم لطلب المعونة من أهل البيت الظاهر في اليوم التالي ، هو اكتفاؤهم بما أعطوهم إياه لأكثر من يوم .. أو يكون السبب هو وقوفهم على الواقع الصعب الذي كان يعيشه أولئك الصفوة .. وقد يكون السبب غير ذلك ..

* * *

٢٣٤

الفصل التاسع :

(إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً)

٢٣٥
٢٣٦

قال تعالى :

(إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً.)

«إنّما» :

ثم إنه تعالى قد بين أن الغاية التي كان يتوخاها أولئك الأبرار من إطعام الطعام محصورة في أنها وجه الله سبحانه .. وذلك من خلال كلمة «إنّما» الدالة على الحصر.

«نطعمكم» :

وقد جاء التعبير ب «نطعمكم» ، ولم يقل : «نعطيكم» ، لأن اللذة الحقيقية للباذلين وأنسهم ، إنما يكون في أن يأكل السائلون هذا الطعام دونهم .. وليست لذتهم في مجرد البذل والأخذ ، لأنهم أرادوا أن يكون أكل السائل لذلك الطعام بديلا عن أكلهم هم له.

«لِوَجْهِ اللهِ» :

وقد قال تعالى : (لِوَجْهِ اللهِ) ، ولم يقل : «نطعمكم لله» لأنه يريد أن يفهمنا : أن المقصود هو جعل الشيء باتجاه الله ، بمعنى إحداث صلة له به تعالى ، ليكون مقربا إليه. وبإحداث هذه الصلة .. يصبح ذلك الفعل متصلا بالمطلق واللامتناهي. وبالباقي غير الزائل ، فيكتسب منه صفة الإطلاق والبقاء. ولعل هذا هو المقصود من قوله تعالى : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ).

٢٣٧

ولو قال : «نطعمكم لله» ، فإن هذا المعنى الدقيق ، سوف يضيع ، إذ ليس المراد أننا نطعمكم لأجله سبحانه ، وإكراما له ، ومحبة به ..

بل المراد : أن نجعل الطعام متصلا به ، مكتسبا منه صفة البقاء واللاانتهاء ، واللامحدودية ..

وثمة فهم آخر لقوله تعالى : (لِوَجْهِ اللهِ) ، وهو أن يكون المراد : أن الإطعام قد كان لأجل الحصول على إقبال الله تعالى عليهم بوجهه الكريم الرحيم ، وبكل أسمائه وصفاته.

بمعنى أن الله سبحانه يقبل بوجهه ، أي بألطافه ورحماته ، ونعمه ، وخيراته ، ورعايته ، وعنايته على المطعم ، والعامل .. ولذلك قال سبحانه : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ..) أي ستجدونه تعالى مقبلا عليكم بألطافه التي تعرفكم إياه ، بنحو من أنحاء التعريف ، فإن وجه الشيء ، هو ما يعرف الشيء به ، ويستدل به عليه ، قال تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ..) لأن عمل الخير متصل به تعالى .. باق ببقائه .. لأن الهالك هو ما ليس فيه جهة إلهية تمنحه البقاء.

لما ذا الحصر ب «إنّما»؟! :

وقد سأل سائل عن سبب اختيار كلمة «إنّما» لإفادة الحصر ، دون الحصر بما وإلا .. فلم يقل : ما نطعمكم إلا لوجه الله تعالى ..

ونقول في الجواب :

هناك إجابتان على هذا السؤال ، هما :

الأولى : أن الحصر ب «إنّما» هو الراجح ، بل المتعين هنا ، وقد يمكن تقريب رجحانه ، بالقول : إن كلمة «إنّما» صريحة في إثبات حصر الإطعام بوجه الله ، من بداية الكلام إلى نهايته.

٢٣٨

وأما الحصر بما وإلا ، فهو يبدأ بالنفي للإطعام. ثم يعود إلى حصره ، وإثباته في دائرة وجه الله سبحانه ..

ومن الواضح : أن السائل متلهف لسماع كلمة الإيجاب ، فلا يحسن استقباله بالنفي لأحب شيء إلى قلبه ، وهو الإطعام. فإن ذلك سوف يثير رعشة خوف في القلب ولو للحظة .. ولا يريدون [عليهم‌السلام] لهذه الرعشة أن تكون. لمزيد من الرأفة منهم ، والرحمة بالسائل ..

والحفاظ على مشاعر السائلين ، ولو بهذا المقدار ، يعتبر إحسانا آخر بالقول إليهم ، يضاف إلى الإحسان بالفعل .. وسيزيد ذلك في سرورهم ، خصوصا إذا كان هذا قد قيل للسائلين فعلا ، وليس هو مجرد لسان حال يحكيه الله سبحانه لنا عنهم.

الثانية : إن الحصر بواسطة «إنّما» يأتي نصا في المطلوب .. أما الحصر بواسطة ما وإلا ، فإنه لا يحسم الاحتمالات التي تثير مخاوف السائل حتى بعد إكمال عناصر الحصر ..

فإنك إذا قلت له : لا أطعمك إلا في هذه الحالة .. فقد يفهم السامع من ذلك : أنه سيحرم من الطعام ، ويمنع منه في سائر الحالات ..

ولكن إذا قلت : سوف أطعمك على كل حال ، لكن نيتي وهدفي هو كذا وكذا ، فالهدف من الإطعام هو مورد الحصر .. وليس نفس الإطعام.

القيد التوضيحي :

وهنا سؤال هو : هل إن قولهم : (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) قيد توضيحي أو احترازي؟! ، قد يقال : إنه توضيحي لأنه إذا كان الإطعام سينتج للمعطين اتصالا بمصدر النعم والألطاف ، وسيوجب لهم نيل أعظم المكافآت ، وهي مكافآت باقية ، نامية ، زاكية ، لأنها متصلة بالمنعم الباقي ،

٢٣٩

وبالمطلق ، واللامتناهي ، وإذا كان ما ينفقه الناس من خير يوف إليهم ، فلا يبقى مورد للجزاء من قبل السائل الآخذ ، لأن الجزاء قد حصل ، وهو جزاء واف «يوف إليكم» ، فالمطالبة بجزاء آخر ، تكون مطالبة جزافية ، بل وظالمة أيضا.

وكأنك قلت : «إنما نطعمكم لا نريد الجزاء» ، ثم قدمت الدليل القاطع على ذلك ، وهذا الدليل هو أن معرفتك بالله راسخة وعميقة ، وقد أصبحت أعمالك خالصة له .. ومن كان كذلك ، فلا يعقل أن يريد جزاء أو شكورا من غيره تعالى ..

وهذا المستوى من إزالة الشوائب ، ودفع الأوهام ، يجعل العمل أكثر صفاء ، ويجعل العطاء طيبا ..

بل إن الأمر بالنسبة إلى الشكور أبين وأظهر ، إلى حد أنه قد يقال : إن الذي ينبغي أن يقدم الشكر هو المعطي ، لأن السائل قد هيأ له فرصة لنيل أعظم الكرامات ، وأسنى العطايا الإلهية ، وأفضلها .. فينبغي عليه أن يكافئه ، وأن يشكره ..

وقد ظهر بذلك : أنه ليس هناك موضوع للشكر ولا للجزاء ، لتتعلق به الإرادة. إلا على سبيل الطموح والطلب لأمر لا مبرر للطموح إليه ، ولا معنى لطلبه والسعي إليه ، لانتفاء الاستحقاق للجزاء ، وعدم وجود مورد للشكر ..

ومن جهة أخرى ، فإنه قد يدخل في وهم الناس : أن الناس في إطلاقهم للتعميمات لا يلتزمون جانب الدقة ، ولا يراعون الحدود ، بل يكتفون بالصدق العرفي ، ولا يلتفتون إلى الأفراد القليلة التي تخرج عن طريقة الأعم الأغلب ، بل يلحقونها بالعدم ، ويعتبرون أنها غير موجودة.

٢٤٠