تفسير سورة هل أتى - ج ١

السيد جعفر مرتضى العاملي

تفسير سورة هل أتى - ج ١

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٤
الجزء ١ الجزء ٢

رفع الحاجة وسد الخلل بها ، من مصدر التفضّل والعطاء. فهو جار في سياق تعريف الإنسان بنفسه ، وبخالقه ، بهدف سوقه نحو الكمال.

فالامتنان إنما هو بداعي اللطف به ، ومن منطلق الحب ، والرعاية والهداية ، والتربية له ، والإحسان إليه ، فهو نعمة أخرى له عليه ، لا بدّ للإنسان من شكره عليها.

إنه بهذا الامتنان يذكره بعجزه ، ونقيصته ، وحاجته .. ليضعه على الطريق الصحيح ، حيث يشعر بعجزه أمام قدرته تعالى وبضعفه أمام قوته تعالى ، وبفقره أمام غناه ، وبجهله أمام علمه ، وبنقصه أمام كماله.

فيبعده بذلك عن حالة العجب ، والرياء والغرور ، ليكون بذلك أبعد عن الشرك ، الذي هو أخفى فيه من دبيب النمل ، كما جاء في الروايات الشريفة .. لأنّ هذه العاهات : العجب والرياء والغرور ، تجعله يشعر باستغنائه عن الله تعالى ، وتدفع به إلى الاعتقاد بأن ما لديه من خصائص ومزايا وكمالات ، إنما هو من الأمور الذاتية له ، تماما كما قال قارون : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) (١). فهو يشعر أنه ليس بحاجة إلى الله سبحانه ، لأن لديه القدرات التي تمكّنه من التأثير في الأشياء. فلماذا يخضع لله ، ويجهد نفسه في عبادته ، ويآخذ نفسه بتنفيذ أوامره ونواهيه؟!

ولا شك في أن هذه حالة من الشرك الكامن في عمق ذاته ، وهي من أهم أسباب رده إلى أسفل سافلين ، وأن يكون في خسر مستمر ..

فالامتنان من الله هداية وتفضّل يعيد الإنسان إلى الارتباط بمصدر الفيض الحقيقي .. فيصحو بعد غفلة ، ويعلمه بضعفه بعد جهل ، ويوحّد

__________________

(١) سورة القصص الآية ٧٨.

٤١

الله بعد شرك .. ويؤمن به بعد كفر. ويتجه نحو شكر الله سبحانه بعد كفران ، ونحو عبادته بما يستحقه سبحانه ، بعد تمرد وعصيان .. ويتوسل إليه بأحب الخلق إليه ، ولله الحجة البالغة في كل حين وزمان .. وصدق الله العلي العظيم حيث يقول : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ ..)

* * *

٤٢

الفصل الثاني :

(إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً)

٤٣
٤٤

قال تعالى :

(إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً).

في هذه الآية المباركة دلالات هامة ، وإشارات دقيقة ، لا بد من الوقوف على ما يتيسر الوقوف عليه منها ، فنقول :

«إِنَّا خَلَقْنَا» :

إن أول ما يواجهنا في هذه الآية المباركة ، هو أنه تعالى قد بدأها بالإشارة إلى نفسه بصيغة الجمع ، فقال : (إِنَّا خَلَقْنَا ..) ولم يقل : أنا خلقت ، أو لقد خلقت. فهل هناك من خصوصية اقتضت ذلك؟!

وما الفرق بين الموارد التي يذكر الله سبحانه فيها نفسه بصيغة الجمع ، والموارد التي يأتي فيها بصيغة المفرد؟!.

وللإجابة على ذلك نقول :

هناك آيات تكلّم الله سبحانه فيها عن نفسه بصيغة المفرد ، نذكر منها ما يلي :

(إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (١).

(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ) (٢).

__________________

(١) سورة طه الآية ١٤.

(٢) سورة طه الآية ٨٢.

٤٥

(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (١).

(إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا) (٢).

(إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٣).

(إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (٤).

(أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) (٥).

(قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (٦).

ومما ورد بصيغة الجمع ، نذكر منها :

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٧).

(وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) (٨).

(أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) (٩).

__________________

(١) سورة الذاريات الآية ٥٦.

(٢) سورة المؤمنون الآية ١١١.

(٣) سورة البقرة الآية ٣٠.

(٤) سورة البقرة الآية ٣٠.

(٥) سورة البقرة الآية ٣١.

(٦) سورة البقرة الآية ٣٣.

(٧) سورة الحجر الآية ٩.

(٨) سورة الحجر الآية ٢٢.

(٩) سورة عبس الآية ٢٥.

٤٦

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (١).

(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) (٢).

(فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا) (٣).

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) (٤).

(لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) (٥).

(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما) (٦).

(أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ) (٧).

(وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) (٨).

(مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى ..) (٩).

والآيات كثيرة ..

فنلاحظ : أنه تعالى حين ذكر العبادة ، أو تحدث عن إثبات مقام

__________________

(١) سورة المؤمنون الآية ١٢.

(٢) سورة المؤمنون الآية ١٨.

(٣) سورة المؤمنون الآية ٢٧.

(٤) سورة المؤمنون الآية ٣١.

(٥) سورة المؤمنون الآية ٤٩.

(٦) سورة المؤمنون الآية ٥٠.

(٧) سورة المؤمنون الآية ٥٥.

(٨) سورة المؤمنون الآية ٧٧.

(٩) سورة طه الآية ٥٥.

٤٧

الألوهية ونفي التأثير لغيره سبحانه ، وعن الوحدانية ، ونفي الشرك والشريك ، والصاحبة ، والولد ، نلاحظ : أنه في مثل هذه الموارد قد جاء بصيغة المفرد ، لأن المقام مقام تحديد ، فهو يقول : (لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً) (١).

ويقول : (ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٢).

ويقول : (وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٣).

ويقول : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (٤).

ويقول : (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (٥).

ولكنه حين يريد أن يثبت مقام القدرة والاختيار ، والعطاء ، والفيض الإلهي في موارد الرحمة ، والنعمة ، والرزق والتدبير ، وجميع الموارد التي يريد أن يخاطب الإنسان فيها من موقع الكبرياء ، والعظمة .. والعزة ، والقدرة ، والربوبية وشؤونها ، التي تتجلى في العناية والرعاية ، والتدبير ، فإنه تعالى في جميع تلك الموارد يتكلم عن نفسه بكلتا الصيغتين.

وذلك لأن الأمور التي تدخل في هذا السياق على قسمين :

أحدهما : ما لا بد من التدخل الإلهي المباشر فيه ، ولا مجال لتوسيط أية جهة في إنجازه ، وينحصر التأثير به تعالى ، كالمغفرة ، والجزاء الآتي

__________________

(١) سورة الحج الآية ٢٦.

(٢) سورة الذاريات الآية ٥٦.

(٣) سورة يس الآية ٦١.

(٤) سورة طه الآية ١٤.

(٥) سورة الأنبياء الآية ٩٢.

٤٨

على سبيل الكرامة الإلهية (١) ، وجعل الخليفة في الأرض ، والاختصاص بعلم الغيب ، ونحو ذلك ..

فجاءت الآيات في هذا القسم بصيغة المفرد ، فقد :

قال تعالى : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ) (٢).

وقال : (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا) (٣).

وقال : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (٤).

وقال : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ* فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) (٥).

وقال : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٦).

وقال : (عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) (٧).

__________________

(١) وقد قيدنا بذلك لنشير إلى أنه إذا كان المراد هو إعطاء الجزاء المقرر ، من دون الإشارة إلى خصوصية الكرامة الإلهية ، أو الإشارة إلى مشاركة الملائكة وغيرهم في إيصال الجزاء إليه ، فيدخل ذلك في القسم الآتي ، حيث لا مانع من الإتيان بصيغة الجمع ، كقوله تعالى : (سَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ..) وقوله : (كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ..)

(٢) سورة طه الآية ٨٢.

(٣) سورة المؤمنون الآية ١١١.

(٤) سورة البقرة الآية ٣٠.

(٥) سورة ص الآيتان ٧١ / ٧٢.

(٦) سورة البقرة الآية ٣٠.

(٧) سورة المؤمنون الآية ٩٢.

٤٩

الثاني : ما يمكن فيه توسيط وسائط من الملائكة أو غيرهم ، ممن أذن الله لهم في التصرف ، أو عن طريق تسبيب أسباب ، وإجزاء سنن إلهية .. وقد تحدث الله عن نفسه في هذا القسم بصيغة الجمع .. كما أنه قد تحدث بصيغة الجمع في مقامات إظهار العزة والهيبة والجبروت. وجاء أيضا بضمير الجمع حين كان الغرض الإشارة إلى مقام العزة والعظمة الإلهية ، أو أريد الإشارة إلى مشاركة الملائكة في كتابة الأعمال عن قرب ومعاينة ، فهو يقول : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (١) ..

قال تعالى : (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (٢).

وقال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٣).

وقال تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) (٤).

وقال تعالى : (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً) (٥).

وقال تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (٦).

وقال تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) (٧).

__________________

(١) سورة ق الآية ١٦.

(٢) سورة الواقعة الآية ٦٤.

(٣) سورة الحجر الآية ٩.

(٤) سورة الحجر الآية ٢٢.

(٥) سورة الأنبياء الآية ٦٩.

(٦) سورة المؤمنون الآية ١٢.

(٧) سورة المؤمنون الآية ١٣.

٥٠

وقال تعالى : (قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) (١).

وعن مريم قال تعالى : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا ..) (٢).

وقال تعالى : (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا) (٣).

ويلاحظ في هذه الآية الأخيرة : أنه تعالى قد جمع فيها كلا الأمرين : حيث لو حظت فيها تارة قدرة الله سبحانه على الخلق ..

ويلاحظ فيها تارة أخرى تهيئة وسائل إظهار هذه الآية للآخرين ، وجعلها وسيلة هداية لهم (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) (٤) حيث بينت أن الله تعالى قد يحيي الميت ، ولكن بتوسط إرادة النبي عيسى [عليه‌السلام] أو غيره ، بمعنى أن الله قد تعهد بالإحياء حين تتعلق إرادة النبي عيسى [عليه‌السلام] به ، فإرادة النبي عيسى واقعة في سلسلة العلل التي إذا وجدت جاء الفيض الإلهي وحصلت الحياة.

ونظائر هذا التوسيط كثيرة ، فإن إنزال الذكر ، يكون بوسائط منها جبرائيل [عليه‌السلام] ، كما أن إنزال الماء ، مما يتدخل فيه الملائكة ، بعد أن يحمله السحاب أيضا ، ويمر بمراحل معروفة.

والزراعة تتم بواسطة إنزال المطر على التراب ، ثم يتفاعل التراب مع البذور ، فيحصل النبات ، ويكون الحمل بعد مقاربة الرجل زوجته ..

ولكن المشيئة الإلهية تبقى هي الحاكمة ، ولأجل ذلك قد ينزل

__________________

(١) سورة مريم الآية ٩.

(٢) سورة مريم الآية ١٧.

(٣) سورة مريم الآية ٢١.

(٤) سورة مريم الآية ٢١.

٥١

المطر ولا ينبت شيء ، وقد تضرم النار ، ويمنعها الله من الإحراق ، وقد يقارب الإنسان زوجته ، ثم لا يحصل الحمل ، لأن الله تعالى لم يأذن في ذلك كله .. فناسب التعبير عن الذات الإلهية في مثل هذه الموارد بصيغة الجمع .. إظهارا للعزة الإلهية من جهة ، وإظهارا لما للأسباب التي جعلها الله سبحانه من دور في هذا النظام الكوني العتيد ، من جهة أخرى ..

وفيما يرتبط بالآية المباركة التي هي موضع البحث نقول :

إنه قد لوحظ فيها طريقة نشوء الإنسان ، وأنه من نطفة أمشاج ، في إشارة إلى أنه جار وفق سنة طبيعية ، ودور إعدادي ، وتهيئته بصورة تجعله قابلا للفيوضات الإلهية في مراحل تكونه الإنساني الذي يؤهله للاختبار ، الذي ينشأ عنه صيرورته سميعا بصيرا.

«خلقنا» :

ونصل إلى قوله تعالى (خَلَقْنَا) ، فنقول : إن الخلق قد يستعمل ويراد به إبداع الشيء من العدم .. ولعل قوله تعالى : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) (١) وكذا قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) (٢) قد جاء بهذا المعنى ..

ولكن الفرق بين الخلق والإبداع ، الوارد في قوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٣) .. هو أن الإبداع يلحظ فيه مجرد خروج الشيء من العدم ، أما الخلق فيلاحظ خروجه من العدم بما له من مادة وهيئة.

__________________

(١) سورة مريم الآية ٩ ، وراجع نفس السورة الآية ٦٧.

(٢) سورة الأعراف الآية ١١.

(٣) سورة البقرة الآية ١١٧.

٥٢

فالخصوصية الوجودية ملحوظة في الخلق.

وقد يستعمل الخلق ويراد به التصوير ، وإعطاء الهيئات ، والأشكال. وفي هذا السياق هناك آيات كثيرة تحدثت عن مراحل الخلق التكوينية وتطوراته ، والتشكلات التي مرت بذلك المخلوق ..

وهذه الآية التي هي مورد البحث ، من هذا القبيل ، حيث ذكرت بداية خلق الإنسان حين يكون نطفة ، ثم تتلاقح مع البويضة. وقد تعدّت كلمة : «خلقنا» بواسطة كلمة : «من» التي يقال لها «من» النشوية ، أي التي تشير إلى المنشأ والمبدأ فقال : (مِنْ نُطْفَةٍ ..) وهي من قبيل كلمة «من» في قوله تعالى عن النبي عيسى [عليه‌السلام] : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) (١) وهي نفسها الواردة في قوله تعالى : (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (٢) فالمراد : أن المبدأ والمنشأ ، هو السلالة ، والنطفة ، والطين ..

ففي الآية المباركة التي تحدثت عن خلق الطير ، يقول النبي عيسى [عليه‌السلام] : إنه يجعل ويخلق لهذا الطين الذي هو موجود ، صورة تشبه الطير ، ثم ينفخ في هذا المجعول فيصير طيرا ..

فالنبي عيسى [عليه‌السلام] لم يقل : أجعل لكم من الطين مثل الطير ، لأن جعل الهيئة للطير لا تعني وجود الطير نفسه ، ليصح أن يقال : إن هذا الذي عملته هو مثل الطير ..

كما أنه [عليه‌السلام] لم يقل : أنا أنفخ الطيرية وأوجدها في تلك

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ٤٩.

(٢) سورة المؤمنون الآية ١٢.

٥٣

الهيئة ، بل قال : إنه بعد نفخه فيه توجد حقيقة الطير بإذن الله.

فإرادة الله سبحانه ، هي سبب وجود حقيقة الطير ، ونفخة النبي عيسى [عليه‌السلام] لها أثر في تحريك السبب لإيجاد المسبب.

فالذي تعلق به الخلق والتصوير هو الهيئة المماثلة لهيئة الطير ..

وفي قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) (١).

تحدثت الآيات الشريفة عن انتقال وتطور من حالة إلى حالة ، ومن كيفية وصورة إلى أخرى أرقى منها وأكمل .. أي أنه يبين لنا طريقة الخلق ، لا الإبداع والخروج من العدم ، الذي يقابله البقاء في العدم.

وفي خلاصة توضيحية نقول :

إنه حينما يأتي بكلمة «خلق» فتارة يريد بها الإبداع للشيء من العدم ـ ولكن على هيئة خاصة ـ مثل قوله : (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) (٢).

ومثله ما جاء لبيان مراحل النشوء والتشكلات في نطاق الإبداع الكيفي والإبداع من العدم أيضا ، كآية : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً) (٣) وأمثالها ..

__________________

(١) سورة المؤمنون الآيات ١٢ / ١٦.

(٢) سورة لقمان الآية ٩.

(٣) سورة المؤمنون الآية ١٢.

٥٤

وتارة يتعلق الخلق بالهيئة فقط ، كما في قوله : (أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ..) (١) وكذا الآيات التي أشارت إلى تطورات الخلق في مراحله كقوله تعالى : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) (٢) ونحوها. حيث تظهر أن الخلق قد أتى بصورة تدريجية ، وفقا لما تفرضه الحكمة في التطوير المناسب لحاله ، واستعدادته التي تتنامى ، فتحتاج إلى الصور التي تناسبها في كل حال من تلك الأحوال ..

وقد ألمحت آية أخرى إلى أن التخليق هو إيجاد هذه الأشكال والهيئات ، وذلك في قوله تعالى : (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ) (٣).

ثم اعتبر تعالى نفخ الروح في الإنسان إنشاء لخلق آخر فقال في آية أخرى : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) (٤).

وحين يتعلق الخلق بالهيئات ، فإن ذلك لا ينحصر بالله سبحانه ، ولأجل ذلك نسب الله الخلق للنبي عيسى [عليه‌السلام] في سورة آل عمران ، كما أنه تعالى في سورة المؤمنين بعد ذكر مراحل نشوء الإنسان ، قال : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (٥). في إشارة إلى أن الله هو أحسن المصورين ، الذين يتصدون لإعطاء الهيئات.

وفي هذا إشارة إلى أن الخلق بمعنى التصوير يصح إطلاقه على الله

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ٤٩.

(٢) سورة السجدة الآية ٧.

(٣) سورة الحج الآية ٥.

(٤) سورة المؤمنون الآية ١٤.

(٥) سورة المؤمنون الآية ١٤.

٥٥

تعالى وعلى غيره ..

غير أن الله تعالى يتصرف في الكيفية من خلال اقتضاء التصرف في المادة له. فخالقية الله أعمق من خالقية غيره ، لأنه تعالى يتصرف في الذات والحقيقة بنحو يقتضي التبدل في الكيفيات ، وأما غيره فلا قدرة له إلا على التصرف في الهيئات.

«الإنسان» :

وقد اتضح مما تقدم ، السبب في أنه تعالى لم يقل : إنا خلقناه ليكون بذلك قد أشار إلى الإنسان الذي تقدم ذكره بضميره العائد إليه ، بل عاد فصرح بكلمة : «الإنسان» فإن ذلك إنما هو لاختلاف الجهة التي يريد التركيز عليها في الموردين.

حيث إنه مرة يتحدث عن الإنسان بالحمل الأولي ، الذاتي ، أي عن حقيقته وذاته ، فيثبت أن هذا الإنسان ما زال في رعاية الله في كل آن وحين ، بغض النظر عن خصوصيات أفراده ، وعن كيفية النشوء والتدرج في الخلق لهم ..

ومرة يتحدث عن الإنسان بالحمل الشائع ، أي بما هو حاك عن أفراده ، بما لهم من نشوء وتكوين مادي ، وبما هم لحم ، ودم ، وعظام ، وشكل وروح ونفس ، ومشاعر ، وأحاسيس ، وقوى ، وملكات ، وهذا المعنى هو الذي أريد الحديث عنه في هذه الآية الثانية ..

ولكنه حديث عن خصوص التنشئة الإلهية التي تسبق اختيار الإنسان ، وتحلّيه بصفات الشعور الإنساني ، ووصوله إلى مرتبة الشاكر والكفور ..

٥٦

دور الإنسان في صنع خصائصه :

ولتوضيح ما نرمي إليه نقول :

إن من الضروري أن نجيب في البداية على سؤال يراود ذهن الكثيرين ، وهو :

ما ذنب ذوي العاهات؟ :

ما ذنب ذوي العاهات؟ وهل خلقهم مشوهين ينسجم مع عدل الله ، ورحمته ، ورأفته؟! ..

ونجيب :

إننا باختصار شديد ، نقول :

إن الله حين خلق الكون والحياة ، قد أوجده خاضعا لنواميس ، وتهيمن عليه نظم وقوانين ، لولاها لم يمكن بناء الحياة ، ولم يكن لدى الإنسان أي طموح ، أو تخطيط ، أو سعي لتطوير الحياة ، بالاعتماد على ضمانات تجعل ذلك السعي وسيلة إلى تحقيق مفردات ذلك الطموح ..

ولا شك في أن للأشياء بالنسبة إلى ما سواها تأثيرا وتأثرا بها. وقد تكون هذه التأثيرات على درجة عالية من الخفاء بالنسبة لنا. وكمثال على ذلك نذكر أنه لو كان هناك اثنان يجلسان في غرفة واحدة ، فإن نفس وقوع نظر أحدهما على ألوان وأشكال تختلف ـ ولو جزئيا ـ عما يقع عليه نظر الآخر ـ سيترك آثارا على نفس وروح أحدهما تختلف عن الآثار التي سوف تكون لدى الآخر. كما أن ما يفكر به الإنسان وما يأكله ، ويشربه ، ويلبسه ، والكلمات التي يسمعها ، والأصوات التي تمر على سمعه ، وكذلك الروائح والملموسات وغير ذلك ، إن لكل ذلك وسواه تأثيراته الإيجابية ، أو السلبية ، على روح ، وعقل ، ومشاعر ، وانفعالات الناس ..

٥٧

ولأجل ذلك كثر تعرض أهل بيت العصمة [عليهم‌السلام] لإرشاد الناس إلى المنافع والمضار. ورسم الشارع المقدس للناس مفردات تعاملهم مع كل ما يحيط بهم بصورة تفصيلية. وكان فيها ما ألزمهم بمراعاته ، وفيها ما ندبهم إليه ، وما حرمه عليهم ، وما كرهه لهم .. وتلك هي أقوال النبي الأكرم والأئمة الطاهرين خير شاهد على ذلك ، فإنهم لا يقولون شيئا من عند أنفسهم ، بل كل ذلك بوحي إلهي ، وبيان ، وتوفيق وتسديد رباني ..

وقد خلق الله تعالى النبي آدم [عليه‌السلام] ، وهو أول إنسان على هذه الأرض ليكون النموذج الأكمل والأتم ، الذي استحق أن يعطى خمسة وعشرين حرفا من الاسم الأعظم ، كما ورد في الروايات ، وأعطاه جميع الهدايات التي يحتاجها البشر ليوصلوا الكون إلى كماله الأتم. فكانت الهداية التكوينية ، والإلهامية ، والغريزية ، والفطرية ، والحسية ، والعقلية ، والشرعية ، فأعطاه أيضا الاختيار والإرادة ، لأن ذلك من موجبات كماله ، ولما امتد النسل في ذريته عليه‌السلام ، بدأت تظهر منهم المخالفات المؤثرة في تشويه خلقه وخلقه ، ولو أنه استفاد هدايات الله تعالى ، ولم يبادر إلى اختيار المخالفة ، والتعدي ، فإنه سوف لن يوجد مشوه ولا مجرم ، بل لم يوجد من الجمادات والحيوانات والنباتات إلا ما هو تام الخلقة وصحيحها .. ولكنه لما اختار التعدي وشرع في الفساد ، والإفساد .. بدأت التشوهات الخلقية ، والخلقية تظهر في روحه ومشاعره ، وجسده ، وأخلاقه ، ونفسه ، وفي الموجودات المحيطة به ، من نبات ، وحيوان ، وجماد. فإنه حتى الأنفاس لها تأثيرها الإيجابي في الحيوان والنبات وكل شيء. وقد قال تعالى : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ..) وقتل قابيل هابيل ، وبدأت وراثة العاهات

٥٨

والتشوهات ، ولا تزال ..

وهذا معناه : أن الله تعالى ليس مسؤولا عن هذه العاهات ، بل المسؤول هم الآخرون.

غير أنه سبحانه قد وضع عقوبات صارمة على من خالف. كما أنه لم يحمّل صاحب العاهة مسؤوليات المعافى .. وعوضه في الدنيا ما يمكن تعويضه .. وإن كان من أهل الإيمان ، والعمل الصالح ، فإنه لا يحرمه في الآخرة من فضله ، ولا بد أن تشمله رحماته الغامرة ، والتي أهّل نفسه للاستفادة منها ، ومكّنه من طلبها واستنزالها ..

وإذا أردنا أن نقترب قليلا من مورد الكلام في الآية المباركة ، فإننا نقول :

الفطرة .. والإنسان :

إن الله سبحانه حين يزود الإنسان بالفطرة ، فإنه يعطيه إياها صافية من الشوائب ، بريئة من العيوب ، فيستقبلها كيانه ، الذي قد تكون فيه تشوهات تمنع من استقباله للفطرة بصورة سليمة وقويمة ..

ولعل هذه التشوهات نشأت من خلل عارض على آلية تكوين النطفة ، كأن تكون قد تكونت من حرام ، أو في ظروف نفسية غير مواتية ، أو في حالات وبأساليب حذّر الشارع منها .. أو من خلال وراثة خصائص غير سليمة ، من خلال عدوان الآخرين على نواميس الخلق والفطرة ، وفقا للمروي عنهم [عليهم‌السلام] : اختاروا لنطفكم ، فإن الخال أحد الضجيعين ..

أو لغير ذلك من أسباب ..

وعلى كل حال ، فإن الكيان الذي تنشأ فيه الفطرة ، إنما هو بمثابة

٥٩

المرآة التي تستقبل الصورة ، فإنها قد لا تكون على درجة مرضية من الصفاء ، وقد تعاني من بعض التلوثات ، أو الندوب والتعرجات التي تمنع من استقبالها بصورة سليمة ..

غير أن هذه الفطرة ، تستمر في الكمون .. إلى أن يملك الإنسان قراره واختياره ، بعد أن زوده الله بالهدايات ، ومنها : العقل ، ليكون مرشدا وهاديا له .. ثم يوجه إليه الخطاب الإلهي ، ويصبح مكلفا بإصلاح نفسه ، وتصفيتها لتتمكن الفطرة من ممارسة دورها ، حتى لا تعيقها تلك التشوهات ، ولا تعمي عليها طريقها هاتيك التلوثات. فإنه بجلاء هذه المرآة تصبح الفطرة قادرة على التألق ، وعلى التعبير عن نفسها بصورة أتم وأبهى ..

وحيث يكون الله سبحانه قد هيأ لهذا الإنسان القدرة على التصرف في كل اتجاه ، وأعطاه الاختيار والإرادة ، فقد يبادر هذا الإنسان باختياره إلى الاعتداء على فطرته وتشويهها ، وإلحاق الأضرار الفادحة بها ، بل والقضاء على منجزاتها ، وإبطال كل جهودها ومصادرة دورها ، ومنعها من التأثير في صنع خصائصه ، وإفساح المجال لتأثير ما عداها بها ، وإخضاعها لإرادات الآخرين .. وقد ورد عن النبي [صلى‌الله‌عليه‌وآله] : كل مولود يولد على الفطرة إنما أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه ، أو يمجّسانه (١).

وبذلك يكون قد تسبب في حجب الفيض الإلهي عنه ، حيث يوكل إلى نفسه ، وتحل به الكارثة ..

__________________

(١) منتهى المطلب ج ٢ ص ٩٣٢ ، والحدائق الناضرة ج ١ ص ٤٢٥ ، وراجع : المجموع للنووي ج ٩ ص ٣٢٦ والمبسوط للسرخسي ج ١٠ ص ٦٢ والمغني لابن قدامة ج ١٠ ص ٤٧٣.

٦٠