تفسير سورة هل أتى - ج ١

السيد جعفر مرتضى العاملي

تفسير سورة هل أتى - ج ١

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٤
الجزء ١ الجزء ٢

أي من الظروف والأحوال .. ولا يريد أن يقول إن الجزاء منحصر بها ، وأن الكافر لا يجازى ..

أضف إلى ذلك : أن هذه العقوبة ليست حالة استثنائية ، ولا تختص بهذا الفرد على سبيل التجني عليه ، وإنما هي قانون عام وشامل ، يؤخذ به الجميع.

وصفته القانونية هذه تأبى احتمالات التبدل في القرار ، وتجعل ذلك العاصي أكثر اقتناعا بحتمية هذا المصير ، حيث لا استثناء لأحد من القوانين والسنن العامة من دون مبرر ظاهر وحاسم .. مع أن المبرر لعدم الاستثناء موجود ، وهو شدة وكثرة كفره ، فهو كفور ، وليس مجرد كافر ..

وهذا يعطي أن قوله : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ ..) قد أريد به نفس الطبيعة التي قد تختلف منطبقاتها شدة وضعفا ، أو قلة وكثرة .. فيكون قوله أو كفورا بمثابة البيان للمراد من كلمة : «الكافرين» ..

الترتيب والاختيار :

ويلاحظ أنه تعالى قد اختار من وسائل العقاب ثلاث فقط ، هي :

١ ـ السلاسل.

٢ ـ الأغلال.

٣ ـ السعير.

فلنا هنا أسئلة ثلاثة ، هي :

١ ـ لما ذا اختار خصوص هذه الثلاث يا ترى؟!

٢ ـ ما الفرق بين السلاسل ، والأغلال؟!

٣ ـ لما ذا قدم السلاسل والأغلال ، على السعير؟!

١٢١

ويمكن أن يجاب على ذلك بما يلي :

سبب اختيار أنواع العذاب :

أولا : هناك نوعان من العقاب ، هما :

١ ـ العذاب الروحي.

٢ ـ العذاب الجسدي.

والسلاسل والأغلال ليستا وسيلة عقاب فاعلة ومؤثرة في الجسد ، وإن كانت توجب بعض الألم ، والحرج على صعيد الحركة ..

أما السعير ، فهي عذاب جسدي بالدرجة الأولى ، والأذى الروحي فيها ليس نابعا من ذاتها ، بل هو بسبب بعض العناوين الأخرى التي تصاحب العذاب الجسدي فيها ..

والأذى الروحي للمستكبر العاتي هو المطلوب الأول والأهم. أما الأغلال ، فهي وسيلة لأسر الحرية ، وهي من وسائل الإذلال ، والتحقير والمهانة ..

واختياره هذه العقوبة بالذات إنما هو لأن الاستكبار لذّة روحية له ، وهي لذّة محرمة .. فيصح مقابلتها بعقوبة روحية عادلة ، هي الإذلال والمهانة والتحقير ، فتتقابل اللذة الروحية بالمهانة الروحية.

ثم إنه إضافة إلى هذا الإذلال يلقى في السعير ، لينال الجسد ما نالته الروح ، فتذكو تلك النار ، وتسعّرها الأدران والخبائث التي نمت في كل كيانه ، بسبب استسلامه للغرائز والشهوات ، والنزوات والأهواء ، التي أوصلته إلى العناد والاستكبار ..

وكما أن للمعاصي لذات جسدية ، فقد ناسب أن يكون لها عقوبة بالسعير التي تنتج له أذى جسديا أيضا ..

١٢٢

الفرق بين السلاسل والأغلال :

وعن الفرق بين السلاسل والأغلال نقول :

إنه لا شك في أن تلك السلاسل والأغلال سيكون عذابها الجسدي عظيما وهائلا ، كما دلت عليه الآيات أيضا ، لكن الجانب المعنوي هو الأبرز في هذه الناحية ، فإن إذلال الكافرين هدف هام ومقصود بذاته.

وعلى كل حال نقول : إن الأغلال جمع غل. وهو في الأصل طوق يوضع في العنق. والسلاسل جمع سلسلة ، وهي عبارة عن حلقات منتظمة تأسر حركة وحرية المأسور ، ضمن دائرة معينة ، يحددها طول وقصر السلسلة ، وطريقة التفافها على أجزاء جسده ، ثم هو يسحب ويجر بواسطتها. قال تعالى : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ* فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) (١).

وقال سبحانه : (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) (٢).

وقال عز من قائل : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ* ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ* ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) (٣).

سبب تقديم السلاسل على الأغلال :

ثم إن تقديم السلاسل على الأغلال .. قد جاء على سبيل التدرج والترقي في مواجهة الكافر بالعذاب ، فإن الذل الذي يواجهه الإنسان حين يوضع الغل

__________________

(١) سورة غافر الآيتان ٧١ / ٧٢.

(٢) سورة الرعد الآية ٥.

(٣) سورة الحاقة الآيات ٣٠ / ٣٢.

١٢٣

في عنقه أعظم من الذل الذي يشعر به حين يربط بالسلاسل ..

«وَسَعِيراً» :

وقد عبر بكلمة «سعيرا» ، ولم يقل نارا مثلا ، ربما بهدف الإلماح إلى زيادة استعار تلك النار ، ليدل على التجدد المستمر من جهة ، وعلى الشدة والتأجج من جهة أخرى.

وفي ذلك تأكيد ظاهر على الردع الحازم ، من خلال القرار الجازم ..

والملاحظ هنا : أن التصعيد كان باتجاه الآلام الحسية ، لأنها هي التي يدركها الإنسان بصورة أعمق ، وأشد وأوضح ..

الأبرار والفجار .. إطناب واقتضاب :

وقبل أن ننهي الحديث عن هذه الآية المباركة نشير إلى ملاحظة هامة هي : أنه تعالى قد أجمل واختصر في حديثه عن عقاب الكافرين ..

ولكنه فصّل وبيّن أمورا كثيرة في حديثه عن جزاء الشاكرين الأبرار ، وأشار إلى كثير من خصوصياتهم ، وصفاتهم ومزاياهم ، وكمالاتهم الإنسانية ، والنعم التي تنتظرهم ..

ولعل سبب ذلك هو : بالإضافة إلى ما في إهمال أمر الكفار من التحقير ، والخزي والمهانة لهم ، في مقابل ما للأبرار من التعظيم ، والمجد والكرامة ، وفي ذلك أيضا إيلام روحي للكافرين ..

وبالإضافة إلى ما في إيكال الأمر إلى خيال الإنسان العاصي ، ليذهب كل مذهب في الحيرة والضياع ، والرهبة والخوف.

نعم بالإضافة إلى ذلك نقول :

أولا : إننا إذا رجعنا إلى ما ذكرناه في تفسير آيات هذه السورة

١٢٤

المباركة ، فسنجد أن النقطة الحساسة والمركزية ، التي تتمحور حولها الآيات الشريفة في هذه السورة ، هي النشأة الطبيعية للإنسان في مسيرته التكاملية نحو الله سبحانه ، وهي المسيرة المنسجمة مع هذا الخلق كله ، بما أودع الله فيه من استعدادات وطاقات ، محاطة بالرعاية الإلهية من البداية إلى النهاية : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً)؟! ..

فقد خلقه الله تعالى من نطفة أمشاج اقتضت ابتلاء ، ينتج رهافة في السمع ، وحدّة وقوّة في البصر ، ليكون إنسانا مدركا وواعيا ، بل في منتهى الإدراك والوعي (سَمِيعاً ، بَصِيراً) ..

وقد أحاطه تعالى بأنواع من الهدايات ، ليس فقط على سبيل الإشارة والدلالة ، بل أعطاه أيضا : الهداية التكوينية ، والإلهامية ، والفطرية ، والحسية ، والوجدانية ، والعقلية والشرعية ، لكي لا يضل عن الصراط المستقيم. وتفضي به إلى السبيل الواضح (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ)، فلا أصح ولا أصوب ، ولا أقرب إلى الهدف منه ، وبذلك أصبحت الحوافز كلها متوفرة لديه ، وتفرض عليه أن يلتزم بهذه الهدايات العظيمة.

فالآية الشريفة قد ركزت على هذا السير الطبيعي للإنسان ، وأكدت على بيان حالاته ، وخصوصياته ، وأجوائه ، التي لا بدّ أن تغري بالاهتمام بذلك الهدف الأسمى والسعي إليه.

أما إذا اختار التنكر لما تفرضه عليه تلك الهدايات كلها .. وأصر على الخروج على مقتضيات الفطرة ، والتمرد على الوجدان ، وعلى العقل ، والدين ، وعلى الله ، فهذا هو النشاز والاستثناء ، الذي لا يستحق الالتفات إليه إلا بهذا المقدار من اللفتة العابرة ، ليكون دائما في موقع الخزي ، والمهانة ، والسقوط ، وليكون عبرة لأولي الألباب ، الذين يطمحون إلى

١٢٥

الكمال ، وينالون تلك النعم الباهرة ..

وهذا بالذات هو ما يبرر الاختصار هناك ، والتفصيل هنا ..

ثانيا : هناك أمر آخر يحسن الالتفات إليه ، وهو : أن الحديث عن الأبرار قد تضمّن أمورا تتناسب مع أنواع أفعالهم التي أنتجتها الهدايات الآنفة الذكر ، فاقرأ في السورة ما يشير إلى أفعالهم الجارية على مقتضيات الهداية الحسية ، أو التي ترضي الوجدان ، والتي يفرضها التشريع عليهم ، كالوفاء بالنذر ، بالإضافة إلى الهداية العقلية ، والوجدانية ، كما في إطعام الطعام على حبه ، وكلزوم الأمن والطمأنينة ، وما إلى ذلك ..

فإنك تجد في مقابلها نعيما يجانسها ، مثل النعيم الحسي ، كقوله : (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً) ، ونعيم الأمن ، كما في قوله تعالى : (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) ..

ومن يقرأ سائر آيات السورة يجد صحة ما قلناه ..

لما ذا تحدث عن العقوبة أولا :

لما ذا قدم الكلام عن عقاب الكافرين ، مع أن التقسيم الذي سبقه قدّم فيه الشاكر بالذكر على الكفور؟!

فقد كان النظم يقتضي أن يتحدث أولا عن الأبرار ، ثم عن الكافرين ، ليتوافق مع التقسيم الوارد في البداية ..

الجواب :

وفي مقام الإجابة على هذه الأسئلة ، نقول :

إن السورة مسوقة لبيان النشأة الإنسانية ، المحفوفة بالهدايات ، والألطاف الإلهية ، التي رسمها الله تعالى لهذا الوجود كله لكي يصل إلى غاياته القصوى ، وإلى كماله الأتم ، وذلك من خلال تجليات أنوار النبي

١٢٦

[صلى‌الله‌عليه‌وآله] وأهل بيته الأطهرين فيه ، الذين هم العلة الغائية لهذا الوجود ، وفقا لما أشار إليه الحديث القدسي : «لولاك لما خلقت الأفلاك» (١).

ثم هو تعالى يريد أن يهدينا بهم صلوات الله وسلامه عليهم ببيان ما أعده الله سبحانه لهم من كرامة ، ونعيم ، ليثير فينا الشوق للتأسي ، والارتباط القلبي بهم.

وكما يريد الله سبحانه أن يجعل معرفتهم [عليهم‌السلام] بعذاب الكافرين ، وإطلاعهم على حالهم من وسائل النعيم لهم ، فإنه يريد أن يكون ذلك من وسائل خزي الكافرين. مع التأكيد على أن شفاء صدور المؤمنين لم يكن لأمور شخصية بل هو في سياق التشفي ممن يتمرد على الله ويستكبر عليه سبحانه ..

ثم هو يريد أن يكون من وسائل الترهيب الموجب للانضباط لدى الذين قد يضعفون أمام شهواتهم وميولهم ، وإغراءات الحياة الدنيا ، وكما أنه تعالى يريد أن يجعل الحديث عما أعده للأبرار ، وهم أهل البيت عليهم‌السلام ، من أسباب إثارة الرغبة بالتأسي والارتباط بهم ، فإنه أيضا يريد أن يكون ذلك من أسباب إكرامهم ورفعة شأنهم.

ولأجل ذلك كان الحديث أولا عن مصير أولئك الكافرين والجاحدين ، ثم عقبه ببيان أنواع الكرامات لهم ، والنعم عليهم [عليهم‌السلام].

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١٦ ص ٤٠٦ ، ومستدرك سفينة البحار ج ٢ ص ١٦٦.

١٢٧
١٢٨

الفصل الخامس :

(إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً)

١٢٩
١٣٠

قوله تعالى :

(إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً.)

إِنَّ الْأَبْرارَ :

وبعد أن بين سبحانه ما أعده للكافرين من سلاسل ، وأغلال ، وسعير ..

واستبدل الحديث عن الشاكرين ، بالحديث عن الأبرار. وهنا سؤالان :

الأول : ما المقصود بالأبرار؟!

الثاني : لم استبدل الشاكرين بالأبرار؟! ..

الجواب :

إننا بالنسبة لهذين السؤالين نقول :

إن كلمة الأبرار جمع «برّ» و «بار». وهي تستعمل في المعاني التالية : الصادق ، المطيع ، المحسن ، الواسع ، الصالح ، القاهر.

وليس بالضرورة إرجاع هذه المعاني إلى معنى واحد ، فإن وضع العرب اللفظ الواحد للمعاني المتضادة ، أمر شائع ، مثل كلمة : «جون» التي تقال : للأسود والأبيض ، وكلمة : «قرء» التي تقال : للطهر وللحيض في المرأة وغير ذلك.

وفي جميع الأحوال نقول :

إنه لكي يصدق على البار أنه بارّ ، لا بد أن يصدر عنه فعل البر بقصد واختيار ، بأي معنى استعملت كلمة البر ..

١٣١

وبهذا القيد الأخير يعرف الفرق بين البر ، وبين الخير. فإن الإنسان قد يفعل الخير ، ولكن من دون قصد إليه ، بل يتخيل أنه شر ، أو أنه ليس متصفا بالخيرية ، ولأجل ذلك تجده تعالى يقول : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) (١).

وإذ قد اتضح لنا المراد بالبر ، فإنه يتضح لنا الجواب على السؤال عن سبب استبدال كلمة الشاكرين ، بكلمة الأبرار.

فإن كلمة شاكر خاصة بمعنى من ظهر منه العرفان بالجميل ، كردة فعل طبيعية تجاه المنعم ، فيبادر إلى فعل ما يظهر حالة الشكر هذه ..

لكن كلمة الأبرار تستبطن كل هاتيك المعاني الواسعة في دلالتها ، وفي إيحاءاتها ..

وبذلك يتضح أيضا : لماذا لم يعبر بكلمة «المؤمنين» بدلا من كلمة «الأبرار» ، إذ قد لا يفهم من هذه الكلمة سوى حالة واحدة ، هي الإشارة إلى الحصول على حالة الأمن في ظل اعتقاد بعينه ، وهو معنى قد حشر في زاوية صغيرة ومحدودة .. وبذلك ينحسر المعنى عن الآفاق الرحبة التي تتولى كلمة الأبرار الكشف عنها ، والدفع إليها ..

انسجام المعاني .. مع الآيات :

فاتضح : أن كلمة الأبرار تستبطن معان واسعة لها أهميتها البالغة ، ولها ارتباط وثيق بمعان وصفات ومزايا تريد الآيات التالية أن تؤكد عليها.

وهي كما قلنا ستة معان ، مشروطة أيضا بالقصد والاختيار ، فهي تشير إلى معنى القاهرية ، الذي يلمح إلى قهر الإنسان للشيطان ، ولجم

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢١٦.

١٣٢

نفسه الأمارة بالسوء ، والسيطرة عليها ، وكبح جماح الشهوات ، والغرائز والرغبات ، وذلك معناه : أن هذا الإنسان يملك قوة ، وعزيمة ، وإرادة ، وحرية اختيار ، ومبادرة عملية.

وصفة الصالح التي تذكر في جملة معاني البر ، تشير هي الأخرى هنا إلى صلاح الفاعل ، وأنه متوازن في نفسه ، منسجم مع ما يؤمن به من معان وقيم ، ولا يدخل مداخل السوء ، بل هو يصلح الخلل في كل مورد يدخل فيه ، تربويا كان أو اجتماعيا ، أو سياسيا ، أو غير ذلك ، لأن دخوله هذا يكون في موقعه ..

واللافت هنا : أن من الأمور التي تظهرها الآيات القرآنية ، هو : أن الصلاح هو المرتكز والأساس الثاني بعد مرتكز الإيمان ..

وهذا ما يفسر لنا السبب في أن الله سبحانه يقرن بين الإيمان وبين العمل الصالح في مختلف الموارد. والعمل الصالح هو ذلك الذي يأتي في محله وفي موقعه المناسب ، بحيث يوجب فقدانه منه خللا فيه ..

أما صفة الواسع ، التي هي معنى آخر لكلمة «البر» ، فهي تعني هنا رحابة الأفق ، والوعي الشامل ، وسعة الصدر ، وفتح القلب للغير ، والقدرة على استيعاب الآخرين ، وعلى التعامل معهم ، فلا انغلاق ولا انطواء ، وليس ثمة من قيود أو حدود لميزاته وصفاته : في روحه ، وفي عقله ، وفي أخلاقه ، وفي كل خصائصه الإنسانية.

والمطيع أيضا يحمل هنا معنى العبودية لله سبحانه ، والطاعة له ، والانسجام معه ، على أساس ما يملكه من معرفة عميقة بكماله المطلق سبحانه ، وبالحاجة الحقيقية إليه تعالى ..

أما الشاكرية فهي تعني الشعور الحقيقي بالنعم ، والألطاف ، والعنايات

١٣٣

الربانية. وهذا يحتاج إلى التحمل ، والصبر والمكابدة ، ثم هو تعبير صادق عن الإيمان الحقيقي ، والوفاء ، والرجاء ، والخوف من يوم كان شره مستطيرا ..

والإطعام الذي ظهر منهم هو من مظاهر الشكر من جهة ، ومن مظاهر البر بجميع معانيه من جهة ثانية ، وبذلك يكون تعالى قد أشار إلى جميع المعاني والجهات المفترضة والمطلوبة ..

والمحسن ، وكذلك سائر الصفات التي ذكرت لكلمة «البر» تحمل في طياتها معاني السماحة والكرم ، والإيثار والشعور بآلام الآخرين ، والزهد.

وأخيرا ، فإنه قد ذكر في جملة تلك المعاني كلمة الصادق ، وهو معنى هام جدا ، وله دلالاته المختلفة في تأكيد صحة ما سيخبر به الأبرار في قصة إطعامهم للطعام ..

وتلك المعاني كلها تجدها ، أو تجد ما يعبر عنها ، أو ينطلق منها ، أو ينتهي إليها في آيات السور المباركة التي تتحدث عن الأبرار ، وما قاموا به ، وما أعده الله سبحانه وتعالى لهم ..

فكلمة الأبرار تعني القاهرية. والأبرار من خلال قاهريتهم ، ومن موقع اختيارهم وإرادتهم يفجرون عيون الخير تفجيرا ، وهم أيضا يفعلون ذلك من خلال عبوديتهم له تعالى (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) لا لأجل دنيا ، ولا لأجل الانقياد لغريزة أو غيرها ..

ثم إن كلمة الأبرار تستبطن السيطرة على النفس ، إلى درجة عدم الاستجابة لرغبتها الشخصية ، وتقديم مصلحة الغير على مصلحتها ، لأنهم : (يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) ..

كما إن من معاني البر «المحسن» ، فالآية إذن تستبطن الإيثار ، والكرم ، والإحسان ، لأنهم يطعمونه ، لا طمعا بمكافأة ، بل انقيادا لله ، وطاعة له.

١٣٤

وهم يفعلون ذلك بوعي ، وعن قصد واختيار ، كما تفيده كلمة الأبرار ـ كما أسلفنا ..

وهم يخافون يوما عبوسا قمطريرا ، أو كان شره مستطيرا ..

وهم مسيطرون على شهواتهم ، وقاهرون لأنفسهم ، وللشيطان .. في ميلها وحبها للطعام ، بسبب حاجتها له ، وهو أيضا من وسائل قربهم إلى الله تعالى ، فهم لا يأكلون استجابة لشهواتهم ، بل لحفظ أنفسهم ، وهو واجب عليهم ، وللتقوّي على الطاعات ، وهو محبوب لله أيضا ..

وهم يوفون بالنذر ، وهذا ما تستبطنه كلمة الأبرار ، لأنهم صادقون ..

إذن فكلمة البر تستبطن جهات عديدة :

منها ما هو إنساني ..

ومنها ما هو اجتماعي في مجالات التكافل ، والشعور مع الآخرين.

ومنها ما هو إيماني .. كالخوف من اليوم الآخر ..

ومنها ما هو داخل في التكوين النفسي ، وقوة الشخصية وسيطرة الإنسان على نفسه وعلى شهواته ..

ومنها ما يتعرض للحالة الأخلاقية ..

وكل ما ذكرناه يدلنا على أنه لا مجال لاستبدال كلمة الأبرار بأية كلمة أخرى أبدا ، وذلك لما تحمله من إشارات ، ودلالات ، وإيحاءات ، لا توجد في أي كلمة سواها ..

استعمال المشترك في أكثر من معنى :

ولعلك تقول : إن هذا الكلام في بيان سبب اختيار كلمة «الأبرار» يبتني على إمكانية استعمال المشترك في أكثر من معنى ، وقد نفى ذلك

١٣٥

صاحب كتاب كفاية الأصول ، وغيره ، على اعتبار أن الاستعمال هو لحاظ اللفظ فانيا في المعنى ، وبعد أن فني في المعنى الأول ، فيستحيل لحاظه فانيا في غيره في آن واحد ، وفي استعمال واحد.

ونقول في الجواب ..

أولا : إن تفسير الاستعمال بذلك غير ثابت ، بل ربما يكون خلافه هو الأصح ، أو أنه ـ على الأقل ـ هو الأرجح ..

ثانيا : إن الوقوع أدل دليل على الإمكان ، ونحن نرى : أن العرب يستعملون التورية في محاوراتهم. والتورية هي القصد إلى معنى ، مع إرادة إفهام السامع معنى آخر منه ، وقد يكون المراد إفهام كل فريق معنى ، يختلف عما يراد إفهامه لفريق آخر.

فمن الثاني : ما ذكروه من أن بعضهم أجاب على سؤال : من كان الخليفة بعد الرسول [صلى‌الله‌عليه‌وآله] ، بقوله : من كانت ابنته تحته (١) ..

فالسني فهم أن الخليفة هو أبو بكر ، لأن ابنته كانت تحت رسول الله [صلى‌الله‌عليه‌وآله]. والشيعي فهم أنه الإمام علي [عليه‌السلام] لأن ابنة الرسول [عليها‌السلام] كانت زوجة للإمام علي [عليه‌السلام].

ومن الأول : ما روي عن الإمام الصادق [عليه‌السلام] ، حين سئل عن الهلال ، فقال [عليه‌السلام] : ذاك إلى الإمام ، إن صام صمنا ، وإن أفطر أفطرنا ..

وحين طلب معاوية من عقيل أو من غيره : أن يلعن عليا على المنبر ، قال : ألا إن معاوية قد أمرني بلعن علي بن أبي طالب ، ألا فالعنوه. وأمثال ذلك كثير ..

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١٠٤ ص ١٧ ، وشجرة طوبى ج ١ ص ٢٦٧.

١٣٦

ثالثا : إن دلالة كلمة الأبرار على معانيها ، لا يجب أن تكون بنحو استعمال المشترك في المعاني المتباينة ، بل قد تكون الدلالة من خلال وجود حالات وخصوصيات للفظ تمكنه من تحمل المعاني المختلفة ..

كما أن من الممكن إرجاع العديد من المعاني إلى معنى أوسع ، يصلح للانطباق عليها جميعا ، كل في موقعه ، وهو ما يعبر عنه بالقدر المشترك ، الذي تتعاقب عليه ، أو حتى تلتقي فيه الخصوصيات المختلفة ، بل المتباينة ..

«يشربون» :

واللافت هنا : أن الله سبحانه حين ذكر جزاء الأبرار بدأ بالشراب ، لا بالقصور ، ولا بالأشجار والأنهار ، ولا بغير ذلك من أنواع الفاكهة ، والمطعومات ، ولا غير ذلك من النعم المختلفة.

ولعل سبب ذلك هو ما ثبت من طرق السنة والشيعة ، من أن أول علامات النجاة في يوم القيامة ، هي الشرب من حوض الكوثر ، من يد إمام الأبرار ، وقسيم الجنة والنار ، الإمام علي أمير المؤمنين عليه الصلاة والسّلام ، وذلك هو المنقذ في يوم العطش الأكبر (١) ..

وبالمناسبة ، فإن البشارة التي بشّر بها علي الأكبر أباه ، حين استشهاده هي قوله : «هذا جدي رسول الله [صلى‌الله‌عليه‌وآله] قد سقاني بكأسه شربة لا أظمأ بعدها» (٢) ، أو بقوله : «إن لك كأسا مذخورة» (٣).

__________________

(١) راجع كتاب المزار ص ٣٣٥.

(٢) بحار الأنوار ج ٤٥ ص ٤٤ ، والعوالم ص ٢٨٧.

(٣) راجع : مقتل الحسين للخوارزمي ج ٢ ص ٣١ والعوالم (مقتل الحسين عليه‌السلام) ص ٩٥ ومقتل الحسين للسيد عبد الرزاق المقرم ص ٣٢٤.

١٣٧

ومن جهة أخرى : فإن بعض الروايات تذكر : أن آخر ما يحاول فيه إبليس أن يضل به الإنسان هو : أنه حين يحضره الأجل يعطش عطشا شديدا ، فيعرض عليه إبليس قدحا من ماء ، ويقول له :

«إن سجدت لي أسقيك منها ، فإذا سجد له ، لم يسقه أيضا منها ، ويموت كافرا» ..

«من كاس» :

ثم إنه قد جاء التعبير في الآية بكلمة «كأس» دون كلمة قدح ، أو كوب. ثم إنه قال : (مِنْ كَأْسٍ) ، ولم يقل بكأس .. فلما ذا يا ترى كان ذلك؟

وللإجابة على ذلك نقول :

يقول أهل اللغة : إن القدح قد يكون مملوءا ، وقد يكون فارغا. وكذلك الكوب. أما الكأس ، فلا تكون إلا مملوءة ، فلا يقال : أعطني كأسا فارغة مثلا ..

وذلك يوضح لنا : أن اختيار كلمة «كأس» إنما هو لأجل بيان حالة الوجدان المستمر والدائم لما يشربونه ، فهي دائمة الاتصاف بكونها كأسا ..

وبذلك يكون تعالى قد جعل الأبرار يعيشون :

١ ـ لذة الشرب ..

٢ ـ لذة الطمأنينة إلى وجدان مشروبهم ..

٣ ـ لذة استمرار وجدانهم له.

فما دامت الكأس موجودة ، فلن يواجههم عطش بعد الآن ، فتتوافق اللذة القلبية الشعورية مع لذة الحس بالمشروب ، وموافقته للمطلوب ..

وبهذا يتضح أيضا سبب التعدية ب «من» لا ب «الباء» ..

١٣٨

فأولا : إن الباء في مثل هذه المواضع يفهم منها أن في مدخولها معنى الآلة والوسيلة لإيصال الشارب إلى مشروبه ، وذلك معناه : أن الوسيلة والآلة شيء ، وما يراد التوسل بها إليه ليس موجودا فيها بالفعل ، بل هي فاقدة له ، مع أن كلمة «كأس» تشير إلى حصول الامتلاء لها ، وأن ما يريده الشارب موجود فيها فعلا. فالإتيان بالباء لا يصلح هنا ، إذ قد يتوهم من الباء ، ما يتنافى مع إرادة التطمين بوجود المقصود كما أشرنا ..

وثانيا : إن كلمة «من» تفيد التبعيض ، ففيها إيحاء ، بأن المشروب لن ينفد من ذلك الكأس ، بسبب الشرب منه ، مهما تعدد هذا الشرب ، أو تواصل .. فهي دائمة الاتصاف بكونها كأسا .. ودائمة الاحتواء على ما يشرب ، ما دام أن ما يشرب هو بعض ما فيها ، حسبما أفادته كلمة «من» التبعيضية ..

«كان مزاجها» :

أما لماذا جاء بكلمة «كان» في قوله (كَأْساً كانَ مِزاجُها) ، مع أنه كان يمكن أن يقول : «كأسا مزاجها».

فقد يقال : إن السبب فيه هو أن تصير كلمة «كافورا» منصوبة ، مراعاة للناحية الجمالية ، الناشئة عن التناسق الظاهر من رعاية القافية في الآيات السابقة واللاحقة ..

غير أننا نقول :

إننا لا نمانع في أن تكون الناحية الجمالية مقصودة أيضا ، لما لذلك من تأثير في الراحة النفسية للقارئ والسامع ، ولغير ذلك ..

ولكن ليس ذلك هو كل السبب ، إذ لعل السبب الأولى والأهم هو

١٣٩

أن كلمة «كان» تدل على الكينونة والتحقق. ولا شك أن إفهام هذه الكينونة للأبرار ، ومن يريد الله تعالى أن يهديهم سبيل الأبرار مطلوب ومحبوب ، أي أنه يريد أن يقول لهم : إن هذا المزاج ليس أمرا عارضا ، يمكن أن يزول ويتخلف ، بل هو أمر داخل في كينونة تلك العين ، وفي عمق حقيقة ما يحويه ذلك الكأس ..

ولأجل ذلك جاءت كلمة «عينا» .. لتؤكد على أن هذه الكأس لا تقبل النضوب ، بل هي عين تتفجر ، والمزاج الكافوري داخل في حقيقة تلك العين ، وتلك الكأس ، وفي كينونتها ووجودها ..

وكلمة «كان» هنا .. هي نظير كلمة «كان» الواردة في قوله تعالى : (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) ، حيث تفيد ثبوت ذلك وتحققه بصورة لا تقبل التغير والتبدل.

«مزاجها كافورا» :

ويبقى سؤال : لماذا قال : «مزاجها كافورا» ، ولم يقل : «مزجت بكافور»؟.

ويمكن أن يكون الجواب : هو إرادة بيان هذه الكينونة ، والأصالة ، والثبات للمادتين الممتزجتين ، وأن المزاجية أيضا قد جاءت في أصل التكوين والنشأة ..

ولو أنه قال : مزجت ، لكان المزج عارضا على أمرين كانا منفصلين بالأصالة ، وليس للتمازج أصالة في نفسه. مع أن المقصود هو بيان أن التمازج أصيل في نشأة هذه الحقيقة القائمة فيما يشربونه من هذا الكأس.

والخلاصة : أن المراد هو إفهامنا : أن الأصالة للمزاج وللممزوج ، وليست للممزوج وحده ..

١٤٠