تفسير سورة هل أتى - ج ١

السيد جعفر مرتضى العاملي

تفسير سورة هل أتى - ج ١

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٤
الجزء ١ الجزء ٢

قال تعالى :

(وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً).

وقد أجملت الآية السابقة حال الأبرار ، وأنهم يوفون بالنذر ، ثم جاءت هذه الآية لتذكر شاهدا تفصيليا ، ولتكون شاهدا حيا على ذلك الوفاء ، وعلى تأصل حالة البر والأبرارية فيهم. وهذا الشاهد هو قضية إطعام المسكين ، واليتيم ، والأسير ..

حادثة الإطعام :

وقد ذكرنا في أوائل هذا الكتاب أن هذه الآية بالذات قد ذكرت الحادثة التي كانت سبب نزول السورة بأكملها. وهي باختصار شديد :

أن الحسنين [عليهما‌السلام] مرضا ، فنذروا صيام ثلاثة أيام إذا شافاهما الله سبحانه .. وبعد شفائهما أرادوا الوفاء بالنذر ، فصام الجميع حتى الحسنان [عليهما‌السلام] .. ولم يكن عندهم طعام سوى أقراص شعير هيأتها الزهراء [عليها‌السلام] للإفطار ، فلما أرادوا الشروع جاءهم مسكين فأعطوه ما هيأوه ، وأفطروا على ماء ، وباتوا بدون طعام ، وأصبحوا صياما.

فلما حضر إفطار اليوم الثاني ، جاءهم يتيم فأعطوه أيضا ما هيأوه ، وطووا ليلتهم كسابقتها ، وأصبحوا صياما.

وفي اليوم الثالث جاءهم أسير ، فأعطوه طعامهم ، وباتوا بدون طعام ..

٢٠١

غدوا على رسول الله [صلى‌الله‌عليه‌وآله] ، وشاهد [صلى‌الله‌عليه‌وآله] حالهم ، فنزلت السورة في حقهم صلوات الله وسلامه عليهم ..

شرح مفردات الآية :

وقبل أن نتحدث عن الأجواء العامة لهذا الحدث الهام ، لا بد أن نستنطق مفردات الآية ، ونقف على بعض ما يمكن أن يستفاد منها ..

فنقول :

الإجمال ثم التفصيل :

بداية نشير إلى أن من يلاحظ آيات السورة المباركة ، سيجد قضية الصيام والإطعام قد ذكرت في السورة مرتين :

أولاهما : على سبيل الإجمال ، وذلك حين أشار إليها تعالى بقوله : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) ، وهذه القضية هي التي كانت وفاء بالنذر ، فهي من مصاديق تلك الآية ..

الثانية : حين ذكرها تعالى تفصيلا هنا بقوله : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ..)

وفي هذا تكريم لهم ، وتأكيد على هذه المزية العظيمة فيهم صلوات الله وسلامه عليهم.

«وَيُطْعِمُونَ» :

لقد بدأت الآية المباركة بكلمة : يطعمون. وقد يكون من المفيد تفصيل الكلام حول هذه الكلمة ضمن المطالب التالية :

ألف : لم يقل : يعطون الطعام :

قد يقال : إنه يظهر من الروايات ، أن ما حصل ، إنما هو إعطاء الطعام

٢٠٢

للسائلين ، وليس هو الإطعام .. ولكن التعبير القرآني قال : «يطعمون» ، فما هو السبب في ذلك؟! ..

والجواب : أن إعطاء الطعام لا ينافي أن يكون الآخذ قد أكل ذلك الطعام أمام أعينهم ، فالذي حصل فعلا وإن كان هو الإعطاء ، والمناولة .. لكنه انته بالإطعام.

فالتعبير ب «يطعمون» يتناول الإعطاء والمناولة .. والإطعام عن قصد وإرادة ، ونحن في مقام توضيح ذلك ، نقول :

إن الإنسان إذا تخلى عن طعامه ، لأي شخص ، وأعطاه إياه ، فإن فعله يكون حسنا وممدوحا .. فيأخذه ذلك الشخص ، ويتصرف فيه كيف يشاء ، ولكنه إذا تخلى عنه ليطعمه إياه ، فإن قيمة هذا العمل تكون أعلى من مجرد صرف نظره عنه ..

فإذا أطعمه إياه أمام عينيه ، فإن قيمته تصبح أعلى وأغلى ..

فإذا كان المعطي صائما ، وآثر به على نفسه ، فإن الدرجة ستكون أكثر علوا.

خصوصا إذا كان إعطاؤه للطعام في وقت الإفطار ، لا في وقت الصيام ..

وخصوصا إذا كان الصائم قد وضعه أمامه لكي يفطر عليه ..

وخصوصا إذا لم يكن عنده سواه ..

وخصوصا إذا كان سيحرم منه ولده الصغير ..

وخصوصا إذا كان في ولده مواصفات وميزات الحسن والحسين [عليهما‌السلام] ..

وخصوصا إذا كان الآخذ سيأكل الطعام أمام أعينهم ، كما هو المحتمل جدا في الآية ..

٢٠٣

وهذا يعطي أن الذي أطعم الطعام ، يمتلك نفسا ، وقلبا ، وإنسانية ، لا نظير لها. ولا يمكن تحديد قيمتها.

ب : الإطعام وقت الإفطار :

وقد أشرنا قبل قليل إلى أن أولئك الصائمين ، قد أعطوا طعامهم الذي كان أمامهم وقت الإفطار .. ونحب أن نشير إلى أمر مفيد هنا ، هو :

أن المال حين يكون نقودا ، فإن التخلي عنه يكون أسهل مما لو تحول إلى سلعة ، مثل : قميص ، ساعة ، قلم ، بيت ، خاتم ، سبحة .. إذ إن تجسّد المال على هذا النحو يعمق العلاقة به. فالصدقة بثمن الخاتم أسهل من الصدقة بالخاتم نفسه.

وذلك لأن للمال مغريات توجب المزيد من التعلق به ، فللشكل جاذبيته ، وللألفة تأثيرها ، وللأنس به ، وللأحداث التي ترتبط به ، التي تتحول إلى ذكريات لذيذة ، دورها .. ثم لارتباطه بأمور عزيزة كالآباء والأجداد ، والأبناء .. وللقدم والغموض ، دوره .. والأثر الكبير في الارتباط والتعلق به ..

فإذا انضم إلى ذلك أو إلى بعضه الحاجة الغريزية الجسدية لهذه السلعة ، كما لو كان طعاما يحتاجه الإنسان لسدّ جوعه. وتدعوه إليه حاجته الطبيعية ..

وإذا انضم إلى ذلك أن له روائح ، وأن له شكلا أو طعما ، يشد الإنسان إليه ، ويداعب خياله ، فإن التعلق به سيزداد ، وفقا لتوافر المعاني ، والخصوصيات الكامنة فيه ، والاعتبارات التي يوحي بها ذلك المال المتجسد .. ولا بد أن نتصور مدى تعلق الباذلين بالطعام الحاضر ، خصوصا بعد أن مر عليهم ثلاثة أيام بلا طعام.

٢٠٤

أما النقود .. فإن مغرياتها تبقى محدودة في حدود قيمتها الكامنة فيها ، وفي مستوى القدرة الشرائية لها ، لا أزيد ..

وهذا الذي ذكرناه : يبين كيف أن إعطائهم الجامع لهذه الخصوصيات ، وفي هذا الوقت ، ولخصوص الطعام .. يجعلنا نتلمس حقيقة هؤلاء الصفوة من الخلق صلوات الله عليهم ..

ج : «يطعمون» .. بصيغة المضارع :

صحيح : أن كلمة «يطعمون» تفيد أن الجميع ـ حتى الحسنين عليهما‌السلام ، رغم صغر سنهما ـ قد مارس هذا الإطعام بكل شؤونه وحالاته ، ولكن التعبير بصيغة المضارع ، حيث قال : «يطعمون» ، لا بصيغة الماضي ، فلم يقل : «أطعموا» .. إنما جاء ليفهمنا : أن هذا الإطعام يستمر ، ويتجدد بإرادة ، والتفات ، واختيار ، ومبادرة منهم ..

وهذا الاستمرار الذي شهدت له الحادثة المشار إليها نفسها أيضا يعطي : أن هذا الإطعام ، هو سجية لهم ، وطبيعة فيهم ، وليست القضية مجرد حدث عابر قد انته وانقضى ، وقد يكون مجرد أريحية اهتزت ، أو مؤثرات توفرت ، فأنتجت هذا الحدث ، بهذه الميزات ، وبتلك المواصفات ، حيث صادف كونهم صائمين ، وصادف أيضا أنه حصل ثلاث ليال متوالية ، وبهذه الطريقة ..

إن هذا الاستعداد ، وهذه السجية المؤثرة. وهذا الاستمرار في العطاء ، في كل وقت وكل حين ، وتجدد العطاء بإرادات مؤثرة وفعلية ، وإمكانية المشاهدة له ـ إن كل ذلك ـ هو من خصوصياتهم الفريدة ، وخصالهم الحميدة.

٢٠٥

لام العهد! أم لام الجنس؟ :

وعن كلمة «أل» في كلمة «الطعام» نقول : إنه قد يكون المقصود بها العهد .. أي أنهم يطعمون طعامهم المعهود ، الذي ارتضوه لأنفسهم ، وواسوا به الفقراء ..

وقد يكون المقصود به الجنس ، أي أن كل طعام يكون لهم ، فإنهم يطعمونه للمسكين ، واليتيم ، والأسير ..

ما المراد ب «الطعام» :

ولعل بعضهم يريد أن يقول : إن المقصود بكلمة : «الطّعام» هو القمح والشعير ، وأن هذا هو معناها في أصل اللغة ، ثم توسع الناس في إطلاقها ، على غيرهما ، فيكون على عكس كلمة دابة التي هي اسم لكل ما يدب على الأرض ، لكنها حين الاستعمال يراد منها الفرس ، لأنها هي التي كانت محل الحاجة ، وألف الناس إطلاق هذا اللفظ عليها ..

ولكن لا مجال لتأكيد هذا الأمر ، ولا يصح المصير إليه ، فإنه مجرد اجتهاد في اللغة ، فالظاهر : ما جرى لكلمة طعام ، هو نفس ما جرى لكلمة «دابة» وأن المقصود بكلمة «الطعام» هو كل ما يطعم .. فيكون القمح والشعير ، وسواهما من مصاديقه ..

ومما يؤكد ذلك ، قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) (١). فأطلق الطعام على ما يستخرج من البحر للطعام .. ولا يستخرج منه قمح ولا شعير ..

__________________

(١) سورة المائدة الآية ٩٦.

٢٠٦

«على» :

وتواجهنا كلمة «على» ، حيث دلت على أن إطعامهم هذا الطعام قد كان برغم وجود المانع والرادع عنه. وهو الحب لذلك الطعام .. وهذا يزيد في أهمية ما فعلوه ، لأن القضية لم تقتصر على العطاء بصورة طبيعية ومجردة ، بل تجاوزتها إلى التغلب على الموانع والروادع. التي أضيفت إليها .. وهي هذا الحب الجديد للطعام .. الذي أضيف إلى الاشتهاء الطبيعي ، وإلى سائر الخصوصيات الآتية في الفقرة التالية.

«على حبّه» جملة اعتراضية :

ومن يتأمل الآية يجد : أن عبارة «على حبّه» جملة اعتراضية ، قد جاءت لبيان المزيد من الصعوبة التي يواجهها الباذلون في بذلهم ذاك .. أي أنهم يطعمون الطعام ، على الرغم من حبه.

وهذه الجملة الاعتراضية لا بد منها لإفادة معنى الإيثار ، الذي يمارسه أناس هم بأمس الحاجة إلى هذا الطعام ، وهم يطوون ثلاثة أيام بدونه.

وهناك فرق بين من يطعم الطعام ، وهو في غنى عنه ، بل هو يملك الخزائن الملأى ، وبين أناس لو فقدوا طعامهم ، فسوف لا يجدون سواه ، وسوف يتسبب ذلك بمشكلة وإحراج شديد لهم.

كما أنه ليس كل من يعطي الطعام يكون دافعه هو الشعور والإحساس الإنساني بحاجة الآخرين ، فإن لبذل الطعام دوافع مختلفة غير ذلك أيضا ، ولا حاجة إلى البيان ..

حب الطعام المذموم :

وقد يقال : إن ثمة إشكالا ، لا بد من الإجابة عليه وهو : أن الباذلين كان لديهم ميل للطعام ، بهدف سد الجوع .. ثم يزول الاشتهاء بتناوله ،

٢٠٧

وحصول الشبع بذلك ..

ولكن الأمر لم يقتصر على الاشتهاء ، بل تحدثت الآية عن حب الطعام .. وهذا الحب يحتاج إلى مكونات أخرى تزيد على ما يتطلّبه الاشتهاء.

والمعروف أن حب الطعام مذموم ، وقد كانت فدك في يد السيدة الزهراء [عليها‌السلام] ، ولم تدخر طعاما منها ، تواجه به هذه الحالة وأمثالها ، بل كانت تتصدق بغلاتها على أهل الحاجة ..

والإمام علي [عليه‌السلام] قد أعلن أكثر من مرة : أنه لا يفكر بهذه الطريقة ..

فقد أرسل إلى واليه على البصرة ، عثمان بن حنيف ، يقول : «بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة ، فأسرعت إليها ، تستطاب لك الألوان ، وتنقل إليك الجفان ..».

إلى أن قال :

«ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ، ومن طعمه بقرصيه» ..

إلى أن قال :

«لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ، ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القز ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة ، ولعل بالحجاز أو اليمامة ، من لا طمع له بالقرص ، ولا عهد له بالشبع .. أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى؟! وأكباد حرى؟!».

إلى أن قال :

«فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات ، كالبهيمة المربوطة همها علفها ،

٢٠٨

أو المرسلة شغلها تقممها ، تكترش من أعلافها ، وتلهو عما يراد بها».

والإمام علي [عليه‌السلام] والسيدة فاطمة [عليه‌السلام] هما على رأس الذين نزلت فيهم آية : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ ..) وذلك يدل على أن حبهم لهذا الطعام ليس مذموما .. لأن لهذا الطعام خصوصية جعلتهم يحبونه ـ لا أنهم يشتهونه ـ.

فما هو هذا الحب للطعام ، الذي ليس بمذموم يا ترى؟!

وللجواب عن ذلك نقول :

إن حب الشيء تارة يكون لأجل ذاته .. وتارة يكون لأجل أنه موصل إلى أمر محبوب. فالمذموم هو الأول ، أما الثاني فهو ممدوح. والذي أريد بهذه الآية الشريفة هو الثاني ..

فهم [عليهم‌السلام] لا يحبون الطعام لأنه شهي ولذيذ. أو لأية خصوصية تزيد الرغبة فيه ، كاللون ، والرائحة ، أو الشكل ، فإن طعامهم إنما كان أقراصا من شعير .. وهو لم يكن شهيا ، ولا مثيرا. بل هو أحد مفردات الطعام العادية ، التي يتبلّغ بها الفقراء ، ليحفظوا بها خط حياتهم ، الذي فرض الله عليهم أن يحفظوه. وكان هذا هو طعام أهل البيت [عليهم‌السلام] المفضل ..

فحبهم للطعام ، إنما هو بهذا المعنى ، فليس هو حب التلذذ والاشتهاء ، ليكون مذموما ..

بل هو طعام محبوب لهم ، لأنه يحفظ لهم القدرة على إنجاز الواجب والتكليف الإلهي .. ويعطيهم القوة على نيل رضا الله سبحانه ..

ولو كان الحب هو لنفس الطعام من حيث هو لذيذ ، أو نحو ذلك ، فقد كان بإمكانهم الاستفادة من فدك وغيرها للحصول على لذائذ

٢٠٩

الأطعمة ، وفاخر الألبسة ، وفخيم المساكن ..

ولأجل ذلك قال تعالى : (عَلى حُبِّهِ) ، ولم يقل : على اشتهائه ، أو على حاجته. أو نحو ذلك ..

وهذا بالذات السبب في أنه تعالى : قد أورد ذلك مورد المدح ، مقرونا بقوله : يوفون بالنذر ، ويخافون يوما كان شره مستطيرا ..

ثم أعلن بمكافأتهم عليه كأعظم ما تكون المكافأة.

الضمير في كلمة : «حبّه» :

وقد ظهر مما تقدم : أن الضمير في كلمة : «حبّه» راجع إلى الطعام ، ويبعد رجوعه إلى لفظ الجلالة ، إذ لم يتقدم للفظ الجلالة ذكر في الكلام ، مع لزوم نوع من التكرار في قوله : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ..)

إلا أن يقال : إن حب الله شيء ، ووجه الله شيء آخر ، فالأول يرتبط بالدافع الطبيعي ، والثاني يرتبط بالغاية والهدف الذي يكون الإطعام من أجله ..

ولكننا نقول : حتى لو قبلنا بذلك ، فإنه لا معنى للتعدية بكلمة : «على» ، وذلك ظاهر.

كما أن البعض قد قال : إن مرجع الضمير في كلمة «حبه» هو المصدر المفهوم من قوله : «يطعمون» ، وهو «الإطعام» ، تماما كما هو الحال في قوله تعالى : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) (١) فإن كلمة «هو» ترجع إلى العدل المستفاد من كلمة اعدلوا ..

ولكن لا مجال لقبول هذا الكلام إن كان منشأ حب الإطعام هو

__________________

(١) سورة المائدة الآية ٨.

٢١٠

ذات الإطعام .. لأن كلمة «على» إن كانت بمعنى مع ، أي مع وجود حب الإطعام ، فان هذا وإن كان يستبطن بعض المدح ، من حيث إن هذه الحاجة الشديدة لم تؤثر على حبهم للإطعام .. ولكنه يستبطن أيضا شيئا من الانتقاص من حقهم ، لأنهم إنما يطعمون ، انسجاما مع دواعي حب ذات الإطعام .. فليس في ذلك فضيلة متميزة لهم ، ولا يوجد جهد في هذا البذل ..

كما أنه إذا كان الإطعام مصاحبا لحبه ، فليس فيه خلوص ، وإخلاص يستحق هذا الثناء ، فلا يصح الحصر بكلمة «إنما» في قوله : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) لأن الإطعام ليس لوجه الله فقط ، بل هو لأجل وجود دوافع أخرى لديهم ، تدعوهم إليه.

وإن كانت كلمة «على» داخلة على محذوف ، ليصير المعنى : على رغم الحب الموجود للإطعام ..

فضعفه أوضح وأبين ، إذ لا معنى لقولك : أنا أطعم رغم أني أحب أن أطعم .. بل المناسب القول : أنا أطعم رغم أني لا أحب أن أطعم.

هذا كله إذا كان المقصود أن الحب ذات الإطعام هو الداعي ، وأما إن كان حب الإطعام لا لذاته ، وإنما لأجل تحصيل رضا الله به ، أي أنه رغم جوعه ، فإنه يحب إطعام هذا الطعام لليتيم ، لأنه يرى أن ذلك يرضي الله تعالى ، فهذا يكون غاية في المدح لهم ، والثناء عليهم .. ولكن بشرط أن تكون كلمة «على» بمعنى مع الدالة على الترقي من الأدنى إلى الأعلى ..

هل يحب أهل البيت عليهم‌السلام الطعام؟!

وعلى تقدير رجوع الضمير إلى الطعام ، لا إلى الإطعام ، قد يقول قائل : إنه لا معنى لنسبة حب الطعام إلى أهل البيت [عليهم‌السلام] ، فإن

٢١١

نسبة ذلك إليهم لا تنسجم مع ما يقال من زهدهم .. وتعلقهم بالله وحده ..

ولكنه كلام غير دقيق ، فإن المقصود بالحب هنا ليس هو حب الطعام الذي يعني التعلق بزينة الدنيا ، وملذاتها .. بل هو حب فرضه الجهد في العبادة والنشاط في طلب رضا الله في النهار ، على قلة في الطعام ، وجشوبة في العيش ، وهو حب لا ينشأ من الرغبة بالتلذذ بل منشؤه الحاجة إليه لحفظ الحياة ، الذي هو تكليف إلهي شرعي ، لا بد لهم من امتثاله. فحبهم للطعام لا لذات الطعام ، وإنما لغيره .. على طريقة :

وما حب الديار شغفن قلبي

ولكن حب من سكن الديارا

حبب إلي من دنياكم ثلاث :

وبذلك يعلم المراد من الرواية عن رسول الله [صلى‌الله‌عليه‌وآله] : «حبب إلي من دنياكم الثلاث : النساء ، والطيب ، وجعلت قرة عيني في الصلاة» (١).

فإنه [صلى‌الله‌عليه‌وآله] لم يكن ليحب النساء ، والطيب ، لو لا أن الله سبحانه قد حبب ذلك إليه .. مما يعني أن ثمة تصرفا إلهيا في الشخصية النبوية ، وهو تصرّف تكويني ـ ربما من خلال اقتضاء الغريزة والفطرة ـ لا بد أن وراءه مصلحة كبرى ، لبناء حياة البشر ، وفق ما يحبه الله تعالى ويريد ..

فهذا التحبيب إذن ، لا يعني أن له [صلى‌الله‌عليه‌وآله] تعلقا بتلك الأمور ، من حيث زينتها ، أو من أجل أنها تحقق له لذة دنيوية ، بل هي

__________________

(١) الحدائق الناضرة ج ١ ص ٢٦٤ و ٢٦٥ ، وراجع : المهذب البارع ج ٣ ص ١٧٣ ، ورسائل المحقق الكركي ج ٣ ص ٢٢٥.

٢١٢

بمعنى لزوم تلبية الحاجة التكوينية التي فرضتها طبيعة الحياة. وامتثالا للتكليف الإلهي ، واستجابة لما يوجبه حفظ الحياة واستمرارها.

ولعل من مصلحة ذلك أيضا : أن لا يفهم بعض الناس من عزوف الأنبياء عن النساء معنى الرهبانية ، الذي لا ينسجم مع ما يريد الله سبحانه أن تكون عليه حياة الناس في بناء الأسرة وتكافلها ، واطراد الحياة الإنسانية ، مفعمة بالعاطفة ، تنعم بالدفء ، وبالحيوية ، والسّلام ، والسلامة النفسية والأخلاقية ..

كما أن من ثمرات هذا التصرف الإلهي التمهيد لولادة الزهراء الكبرى ، سيدة نساء العالمين صلوات الله وسلامه عليها وعلى أبنائها الأئمة الميامين الطاهرين ..

وإذا كان هذا التصرف الإلهي لن يخرج في مجال فعليته عن حدود الشرع ، وهو لا يعدو كونه أمرا يرتبط بالشخص .. ولا يؤثر على حياته العامة ، ولا على موقعه كقائد ، ومرب ، ومعلم ، ومرشد ، وهاد ، ولا يؤثر على مقامه ، ولا على سلوكه الإنساني ، والإيماني ، والشرعي ، بل هو يبقى في القمة في ذلك كله ..

إذا كان كذلك .. فإن هذا في حد نفسه يكون مثلا يحتذى ، وقدوة تتبع ، وأسوة لبني البشر جميعا .. وهو قاطع للعذر ، وملزم بالحجة ، لكل من يريد أن يتعدى حدود الله ، وينتهك حرمة شرائعه .. بحجة أنه واقع تحت تأثير الغريزة والشهوة ، أو ما إلى ذلك ..

ويبقى قوله [صلى‌الله‌عليه‌وآله] : وجعلت قرة عيني الصلاة ، تجسيدا لطموحه [صلى‌الله‌عليه‌وآله] الأعظم والأهم ، الذي يجد فيه غنى الروح ، وطمأنينة القلب ، ورضا وراحة الوجدان ..

٢١٣

«مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً» :

وفي هذه الكلمات مباحث ، وخصوصيات عديدة ، نأمل أن نتمكن من أن نبين بعضا منها ، بحسب ما تصل إليه أفهامنا ، وتتسع له صدور ووقت الإخوة الأكارم.

فنقول :

١ ـ تنوين التنكير لماذا؟! :

إن أول ما يواجهنا هنا : أنه تعالى .. قد أورد هذه الكلمات : (مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) ، منونة بتنوين التنكير ، ولم يوردها محلاة بالألف واللام ..

وربما يكون السبب في ذلك هو أنه إذا قال : «المسكين ، واليتيم ، والأسير» فقد يوهم ذلك : إرادة خصوص المعهودين لديهم ، والمعروفين عندهم ، فيكون إطعامهم لهم ناشئا عن عدة دواع متمازجة ، ومتعاضدة في التأثير ، وفي الاندفاع إلى الإطعام .. لأن المعرفة بالشخص قد تدعو لإجابة طلبه ، وكذا لو كان ذا قرابة مثلا ، أو من قومه ، أو من بلده ، أو مرتبطا بذي قرابة ، أو بصديق ، أو جارا ، أو ما إلى ذلك ..

أما تنوين التنكير فهو صريح في أنهم يطعمون أي مسكين ، وأي يتيم ، وأي أسير كان ، ممن لا لون له ، ولا طعم ، ولا رائحة.

وذلك يدل على أن اليتم والمسكنة والأسيرية هي المحرك الإنساني ، وعلى أن الغاية هي وجه الله. وليس ثمة أية شائبة في هذا الخلوص ، وذلك الإخلاص .. فليس في نفوسهم أية آثار لمؤثرات دنيوية أرضية غير إلهية ، أو غير إنسانية.

فالدافع إنساني مرتبط بالمشاعر ، والهدف إلهي ، وقد تناغم هذا الهدف مع ذلك الداعي ، فكان هذا الإيثار العظيم ..

٢١٤

٢ ـ توافق الترتيب البياني مع الواقع الخارجي :

وقد حدثتنا الروايات : عن أن الواقعة التاريخية ، قد حدثت وفق الترتيب الذي أورده القرآن ، فقد جاء المسكين أولا ، ثم اليتيم ، ثم الأسير .. وذلك هو التوفيق والتسديد الإلهي الظاهر .. لكي لا يبقى أي مجال للتفكير في أن ما هو افتراضي ، قد لا يكون منسجما مع حركة الواقع الخارجي ، خصوصا حينما تتوافر الدواعي في الاتجاه المعاكس كما سنبينه ..

كما لا يبقى أيضا مجال للقول : بأن الحديث هنا جار في ما هو مثالي .. وقد لا يتوافق المثالي مع مقتضيات الواقع وشروطه.

بل نقول :

إنه حتى لو لم يكن الترتيب في الآية مطابقا لما حصل بالفعل ، فإن نفس أن يأتي سياقها القرآني على هذا النحو ، ستكون له أهدافه وأغراضه التكريمية ، أو البيانية لمعان يريد الله لنا أن نتلمسها ونعرفها فيهم [عليهم‌السلام] .. وقد تكون هذه المعاني الغيبية التي يكشفها الله لنا ، رحمة بنا ، وامتنانا منه تعالى علينا ..

وحيث يأتي البيان على سبيل الإخبار عن طبيعة وسجية وديدن هؤلاء الصفوة ، فإنه لا بد أن يزيد ارتباطنا بهم ، وتعريفنا بحقيقتهم ، ليكونوا لنا الأسوة والقدوة والمثل الأعلى .. فكيف ، وقد تطابق الواقع الخارجي ، مع السجية والطبيعة ، فجاء المسكين ، ثم اليتيم ، ثم الأسير .. ليكون ذلك أدعى في الإقناع ، وأوثق في الدلالة ..

٣ ـ حالتان تصاعديتان تتعاكسان :

وحين نريد أن نبحث الموضوع بعمق ، فسنجد أن هناك حالة

٢١٥

تصاعدية في جهة السائلين ، تقابلها حالة تصاعدية في ناحية الباذلين ..

بمعنى أن الانتقال كان في ناحية السائلين من الأعلى إلى الوسط ، ثم إلى الأدنى.

ولكن الانتقال في ناحية الباذلين كان من الأدنى .. وانته بالأعلى ..

وهذا هو سر عظمة هذا الحدث ، وهو أقوى تعبير عن حقيقة هولاء الصفوة الأطهار ، حيث إنه يؤسس بصورة حية لفهم سرّ كل هذه الكرامة التي اختصهم الله بها ، وهذا التشريف العظيم الذي حباهم سبحانه به ..

وتوضيح ذلك يكون على النحو التالي :

٤ ـ المسكين .. والباذلون في اليوم الأول :

إننا إذا أردنا أن نوضح ذلك ، برسم صورة تطبيقية ، فسنجد :

أن الذي أتى للصائمين في وقت إفطارهم ، في اليوم الأول ، هو «مسكين» ، فمن هو هذا المسكين ، وما هي حالته؟!

إن المسكين هو إنسان بلغ به الفقر أقصى مداه. إلى درجة أنه أسكنه ، وجعله عاجزا.

وقد روى أبو بصير رحمه‌الله عن الإمام الصادق [عليه‌السلام] أنه قال : «الفقير الذي لا يسأل ، والمسكين أجهد منه ، والبائس أجهد منهما» (١).

وصيغة «مسكين» ، تفيد التكثير .. أي يكثر سكونه ، لأنه كلما أراد أن يتحرك للحصول على شيء أحسن بعجزه ، فيسكن ..

ومعنى ذلك : أنه قد جرب حظه في الحياة أكثر من مرة ، وبذل أكثر

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٩٣ ص ٥٧ وتفسير نور الثقلين ج ٣ ص ٤٩١.

٢١٦

من محاولة للخروج من المأزق ، فلم يفلح.

وواضح : أن الإنسان إذا بلغ هذا الحد ، فإن أمله يتضاءل ويذوي .. كما أنه يفقد شيئا من عنفوانه ، ومن قوة شخصيته.

إذن ، فحالة هذا الشخص تثير العطف الشديد ، وتوجد اندفاعا قويا لمساعدته ، ممن يرى ذله ، وعجزه ، وحاجته ، وانكساره ..

وفي المقابل كان الباذلون للطعام ، الذي تتحدث عنه الآية الشريفة ، قد صاموا يوما كاملا ، واحتاجوا إلى الطعام بصورة حقيقية وفعلية ، وضعفت أجسادهم ، ولا سيما أجساد الأطفال الذين في جملتهم ، وكانوا صائمين أيضا ..

وهؤلاء الأطفال لا كسائر الأطفال ، بل هم خيرة الله سبحانه من خلقه ، وصفوته من عباده ..

وقد كان من الطبيعي أن يتنازع أولئك الباذلين عاملان .. أحدهما يدفعهم للبذل ، وهو حالة المسكين الصعبة للغاية .. وحالة حاجتهم الذاتية للطعام .. وثانيهما الحاجة العاطفية للاحتفاظ به لأجل طفلين هما الغاية في الكمال ، والنبل ، والفضل ، والصفاء .. ولا شك في أن أحدا على وجه الأرض ، لا يملك مواصفاتهما ، وميزاتهما.

فإمكانية الاستجابة للعامل الأول تبقى موجودة ، وفيها شيء من القوة .. فإذا استجابوا له ، فإنهم ـ ولا شك ـ يكونون قد قاموا بعمل عظيم ، ولكنه ليس مستحيلا ، بسبب قوة التحريك للعطاء ، من خلال الانسجام العاطفي والإنساني ، مع حالة المسكين.

ومن جهة أخرى ، فقد كان بالإمكان أن يعطوا المسكين بعضا من طعامهم على سبيل المشاركة ، والتسوية بالنفس .. ولكنهم لم يفعلوا ذلك ،

٢١٧

بل اندفعوا بالإيثار إلى أقصى مداه ، فأعطوه جميع ما أعدوه لإفطارهم. لأنهم أرادوا له أن يجد الفرصة لمراجعة حساباته ، واستئناف تحركاته في سبيل عمل يخرجه مما هو فيه ..

أضف إلى ذلك ، أن هذا العطاء كان بالنسبة للباذلين ، في ساعة حرجة جدا. وبالذات في ساعة الإفطار ، حيث تلح النفس بالمطالبة بالطعام ، وتدعو للاحتفاظ به ، إذ لو طلب منهم بذل الطعام ، قبل حلول ساعة الإفطار ، فإن التخلي عن الطعام يكون أيسر ، لعدم وجود هذا الإلحاح على الاحتفاظ به ، بفعل قوة الحاجز ، مع الإفساح في الأمل بإمكانية الحصول على البديل فيما تبقى من الوقت ..

ولكن الطلب قد جاء في الساعة الحرجة والصعبة ، وحيث يشتد تعلق النفس بالطعام ، فكيف إذا مازج ذلك عامل الحضور والمشاهدة والعيش بالأجواء ، حتى لتكاد الأيدي تمتد إليه ، فإن التعلق به سيكون ـ بلا شك ـ أقوى ، والتخلي عنه أصعب ..

ولكن حالة المسكين وضعفه ، وشدة حاجته ، فيها أيضا شيء من قوة الدعوة للبذل ، ودرجة من التأثير المعاكس في أحوال كهذه ..

٥ ـ اليتيم والباذلون في اليوم الثاني :

وفي اليوم الثاني .. حيث لم يذق الصائمون طعاما طيلة يومين كاملين. بل اكتفوا بشرب الماء في الليلة السابقة. قد أصبح واضحا : أن الحاجة إلى الطعام قد اشتدت ، ودواعي الاحتفاظ به قد ازدادت ، والحرص عليه قد تنامى وعظم ، لا سيما مع وجود صبيين معهم ، هما الحسنان بالذات .. وهما سيدا شباب أهل الجنة ، وريحانتا رسول الله [صلى‌الله‌عليه‌وآله].

٢١٨

وكان وقت الإفطار قد حضر أيضا ، وطبيعي أن يزداد التطلع للطعام ، والبحث عنه ، وبعد حضوره يزيد التعلق بما حضر منه .. فكيف إذا وضع أمامهم ، وتكاد الأيدي تتحرك باتجاهه ، وتمتد إليه.

وإذا بسائل جديد ، هو في هذه المرة «يتيم» ، وليتمه تأثيره على النفوس. ولكن الاندفاع إلى مساعدته يكون في العادة أضعف من الاندفاع لمساعدة المسكين ، لأن احتمالات الحاجة فيه أقل وأضعف. إذ إن يتمه لا يدل على حاجته المادية ..

فإن نفس الحالة الظاهرة للمسكين هي حالة حاجة وفقر ، وعجز عن إيجاد ما يتبلّغ به ، وهي فورية ، وحادة ، وهي بنفس ظهورها فيه تمثل دعوة لمساعدته بلسان الحال ، وهي شاهد صدقه في ما يدعيه ، بلسان المقال ..

أما اليتيم ، فإن هناك شفقة عليه ، لأجل يتمه ، وحاجته للعاطفة والطمأنينة ، لا لأجل حاجة ظاهرة له ، تستبطن دعوة بلسان الحال لمساعدته .. إذ لعله كاذب في دعواه الفقر ..

وحتى لو كان صادقا ، فإن الفقر الذي يخبر عنه لا يصل في حدته إلى درجة ظهور ذلك في حالته. كما كان الحال بالنسبة إلى المسكين ..

بل هو لا يزال في مقتبل العمر ، والفرص أمامه ، ولم يمارس بعد إمكاناته ، وقدراته ، بل هو لم يكتشفها بعد. ولعل مشكلته ناشئة من فقد التوجه الصحيح له ، بعد أن فقد كافله .. ففرص النجاح أمامه متوفرة ، وأمله كبير ، وطموحه عارم.

وتحرك العاطفة لأجل فقر اليتيم ، ليس بدرجة تحركها لأجل ذل ومسكنة المسكين .. ويتمه ، لا يحرك الإنسان ليتخلى له عن طعامه ، حتى

٢١٩

في الحالات العادية. فكيف بعد طي يومين من الصيام المتواصل ، واشتداد الحاجة للطعام؟! ..

وحتى لو أراد أن يتخلى ذلك الصائم له عن شيء ، فإنه سيقنع نفسه بأنه لا حاجة لأن يتخلى له عن جميع ما هيأه .. فضلا عن أن يعطيه إياه ساعة الإفطار ، وبعد أن وضع أمامه ، وبعد مضي يومين على الصيام.

وإذا أعطاه شيئا ، فإنما يعطيه طعام نفسه ، ولا يعطيه طعام غيره كزوجته ، وولده .. فكيف إذا كانت السيدة الزهراء [عليها‌السلام] هي الزوجة ، وكان الولدان الوحيدان له طفلين صغيرين ، ثم كانا هما الحسنان بالذات ، في ميزاتهما ، وفي موقعهما من الدين ، ومن الإسلام كله ، وليس لهما على وجه الأرض مثيل ، لا من الأيتام ، ولا من غيرهم. وهما اللذان تتجلى فيهما ميزات الإمامة وخصائصها ، بأجلى وأبه مظاهرها ..

وأبواهما كانا أعرف من كل أحد بهما ، وبقيمة مزاياهما ، وبكرامتهما على الله سبحانه ، فهل يمكن أن يخاطرا بحياتهما ، لمجرد احتمال حاجة يدّعيها يتيم ، ليس هو مثل الحسنين قطعا ، وهي حاجة ـ حتى لو كانت واقعية ـ فليس ثمة ما يدل على أنها تبلغ درجة الإحراج والعسر ..

إذن .. فقد ازدادت المثبطات ، وتوافرت الموانع عن الإعطاء ، سواء فيما يرتبط بالاعتبارات التي تزداد قوة وتنوعا ، في ناحية الباذلين ، أم فيما يرتبط بضعف المشجعات في جانب السائلين ، حيث تضاءلت وانحسرت وضعفت تلك الخصوصيات التي تثير وتحرك.

ولكن وبرغم ذلك كله ، فإن العطاء والبذل ، قد بلغ أيضا أقصى مداه ، حيث أعطوا [عليهم‌السلام] في اليوم الثاني أيضا جميع ما يملكون ، وآثروا اليتيم به على أنفسهم مع شدة الحاجة والخصاصة. وبذلك فقد

٢٢٠