تفسير سورة هل أتى - ج ١

السيد جعفر مرتضى العاملي

تفسير سورة هل أتى - ج ١

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٤
الجزء ١ الجزء ٢

وأما السؤال عن السبب في أنه يريد بيان هذه الأصالة لكلا الأمرين؟!.

فتتضح الإجابة عنه من خلال وضوح السبب في اختيار الكافور هنا ، والزنجبيل فيما يأتي ..

«كافورا» :

ويلاحظ أنه تعالى قد ذكر الكافور هنا ، دون الزنجبيل الذي ذكره في آية ستأتي ..

ولعل سبب ذلك هو : أن للكافور خصوصية تناسب حياة الأبرار في هذه الدنيا ، وللزنجبيل خصوصية تتناسب مع اعتباره جزاء للأبرار في الآخرة ..

إذ إن للطيب المسمى بالكافور خصوصيات ، ويرمز لأمور يحسن للأبرار اختيارها ، والتحلي بها ، لأنها تناسب حالة البر فيهم.

فالكافور طيب طيّب الرائحة ، يبعث في النفس نشوة وارتياحا ..

ومن خصوصياته : أن فيه صفة البياض والنقاء ..

وهو يرمز إلى الطهارة والصفاء.

ومن خصوصياته : أنه يطغى على كل ما عداه ، ويهيمن عليه ، فلا مجال لما هو كريه ، ومؤذ ، بل لا بد له من أن يتلاشى ويختفي ..

ومنها : أنه كافور ، أي قادر على أن يغطي ، ويطمس ، ويخفي كل ما لا يكون مناسبا ، وكل ما هو مكروه ومنفر ..

وهو يهيمن حتى على بعض الغرائز ، ويقهرها ، ويضعف من طغيانها ، حيث يقال : إن له بعض الأثر في الغريزة الجنسية ..

وفيه أيضا صفة البرودة ، التي قد يقال : إنها ترمز إلى حالة الهدوء

١٤١

والتأمل والتعقل ..

وكل ذلك يرمز إلى حالات نفسية ، وصفات ومزايا يرغب بها الأبرار ، ويسعون إليها ، بحسب المعاني المتكثرة التي تختزنها كلمة : «الأبرار» حسبما ألمحنا إليه فيما سبق.

ولكن ذلك كله في الحدود التي رسمها الله لعباده ، من دون ابتداع في الدين لما لم يكتبه الله على الناس ..

والأبرار هنا هم الذين يشربون ، أي يختارون الشرب من كأس مزاجها كافورا ، كما يختارون سواه ، مثل أنهم يوفون بالنذر ، ويطعمون الطعام ، ويخافون ، و.. الخ.

فكلمة «يشربون» كأنها تشير إلى معنى كنائي عن دخول الإيمان والإخلاص والتقوى ، والعمل في عمق وجودهم ، فهو كما يقال : شرب كأس الموت ، وشرب كأس العلم ، وما إلى ذلك ..

فهي عين لا تنضب ، بل تستغرق كل وجودهم ، وتفجر فيهم الطاقات الإنسانية ، تفجيرا ، كما سيأتي.

حذف متعلق الشرب :

وربما يمكن تأييد أن الحديث إنما هو عن فعل الأبرار في هذه الدنيا ، بأن المتعلق للشرب لم يذكر في الآية. فلم يقل : يشربون أي شيء!! فهل يشربون ماء ممزوجا بالكافور؟ أم يشربون لبنا ، أم عسلا ، أم ما ذا؟!

وربما يكون ذلك لإفساح المجال لفهم ذلك المعنى الكنائي المستوعب ، لكل ما تقتضيه صفة الأبرارية ، التي تتسع للعديد من المعاني ، وتكون معاني الأبرارية فيهم هي التي جعلتهم يفجرون تلك العين تفجيرا عظيما ..

١٤٢

المزاج متأصل في عمق الذات :

وإذا تابعنا المعنى في سياقه الكنائي هذا ، وتجاوزناه إلى كونه قادرا على الإلماح إلى المعاني التي يراد الإيحاء بها إلينا على سبيل التعلم والإرشاد لكونها ممكنة في حقنا ، وإن كانت غير متصورة في حق الأبرار ، وهم الأئمة الأطهار عليهم‌السلام ، فإذا تابعنا المعنى في هذا السياق فإنه يصبح بإمكاننا تصوره حقيقة كامنة في داخل وجود البشر وذواتهم .. فنتصور النفس الأمارة ، التي تسعى في العادة لإثارة روائح كريهة ، قد أصبحت أسيرة النفس اللوامة ، ويهيمن عليها العقل ، والشرع ، والفطرة الهادية ، وغير ذلك من وسائل الهداية ، التي أصبحت بمثابة الكافور الذي يهيمن على وجودهم كله بروائحه الطيبة والذكية ، والقاهرة والقوية ، ويبعث في النفس طمأنينة وسكونا ، وبردا ، وهدوءا ، يحجزها عن التوثب لما هو حرام ، وتحتفظ ـ من ثم ـ بحالة النقاء والصفاء ، والطهارة ، التي تتجلى للناس طيبا كافوريا ، رائعا وقويا ..

وتصبح النفس الأمارة مع الكافورية في عناق ، وفي انسجام ، وتمازج حقيقي ، وتصير أمارة بالصلاح وبالخير وبالتقوى ، بعد أن كان من المفروض أن تكون على ضد ذلك ، وتتحول بذلك هي والنفس اللوامة إلى بركان يفجر ويثير كل كوامن الخير والصلاح في تلك العين الغزيرة ، ويفجرها تفجيرا قويا بوسائل قادرة على هذا التفجير ..

وهذه الأصالة الحقيقية ، والتمازج الراسخ ، والنابع من عمق الذات ، يجعل كل قوى النفس : من غريزة ، وطموح ، وميزات وصفات ـ يجعلها ـ طافحة بالخير ، وتمثل طاقة وعنفوانا له ، وثورة فيه ، وتصبح كل هاتيك الغرائز والطموحات يهيمن عليها كافور النفس اللوامة ، مغمورة به ، يتعاونان على إنتاج المزيد من النقاء ، والطهر ، والخلوص ، والصفاء ..

١٤٣

الأبرار .. وعباد الله :

ثم إنه تعالى قد عبر أولا بالأبرار ، ثم ساق الحديث باتجاه عباد الله ، فقال : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) ..

وربما يكون ذلك ـ وحده ـ مبررا للاعتقاد بأن المراد بالأبرار في الآية ، موجودات عالية جدا ، تجلت بهم صفات البر بصورة حقيقية وتامة ، فاستحقوا هذا المقام المحمود .. وهم خصوص أهل البيت [عليهم‌السلام] الذين لا بد أن يكونوا الأسوة والقدوة للناس جميعا.

والحقيقة هي : أن أبرارية أولئك الأطهار صلوات الله وسلامه عليهم ، كانت هي الطريق الذي أوصلهم إلى درجة العبودية الحقيقية ، التي هي أسمى مقام ، وأشرف وسام .. كما أشرنا إليه أكثر من مرة ..

فالعبودية بالمعنى الأتم ، قد تجلت في النبي الأكرم [صلى‌الله‌عليه‌وآله] ، في أهل بيته الأبرار الأطهار عليهم الصلاة والسّلام ..

وهذا يعطينا : أن الآية لا تريد فقط أن تحدد الأسوة والقدوة للناس .. وإنما تريد أن تقول أيضا : إن الأبرارية قد أوصلت الأبرار إلى مقام العبودية ..

وأخيرا نقول :

إنه تعالى قد تحدث عن فعل الأبرار بصيغ تناسب الحياة الأخروية. فقال سبحانه : (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً* عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً ..) وذلك لكي يجسد لنا مدى فاعلية وتأثير تلك الصفات ، ومدى أهميتها ، وحسنها ، وخلوصها .. ليدفعنا إلى سلوك طريقهم ، والالتزام بنهجهم ، والاهتداء بهديهم ، والاقتداء بهم ..

١٤٤

اختلاف سياق الآيات :

والذي يقرأ آيات هذه السورة يجد أن السياق قد اختلف في بيان النعم الإلهية للأبرار ..

فهو حين ذكر صفات أفعال الأبرار ، لم يذكر أي نعمة ، إلا نعمة الشرب من عين كان مزاجها كافورا .. كما أنه قد اعتبر أن هذا الشرب هو فعل للأبرار ، يمارسونه باختيارهم وبإرادتهم .. وأنهم هم الذين يثيرون العين التي يشربون منها ، ويفجرون ماءها تفجيرا ..

وهذا السياق منسجم تماما مع السياق الذي بيّن به صفات أفعالهم في الدنيا ..

وكأنه يريد أن يقول لنا : إن هذا الشرب ، وإن كان أخرويا ، لكنه لم يأت على سبيل الجزاء ، وإنما جاء تجسيدا لفعلهم في الدنيا ، فهو شبيه بفعل المطاوعة الذي هو نتيجة الفعل من الفاعل ، كما في قولك : كسرته فانكسر ، أو لويته فالتوى ، ونحو ذلك ..

ولأجل ذلك ، نسب الشرب إليهم ، وأنه .. بفعلهم واختيارهم ، ثم ذكر أن ما يشربونه يكون مزاجه من جنس الكافور. أما الذي سوف يعطى لهم على سبيل الجزاء ، فهو من جنس آخر ، وهو الزنجبيل ، وسيأتي إن شاء الله الحديث عن الفرق بينهما ، وعن سبب اختيار «الزنجبيل» بالذات ..

للتوضيح والبيان :

ولكي تتضح الخصوصية التي أراد الله سبحانه أن يفهمنا إياها من خلال التبديل السياقي للآيات ، نقول : إنه تعالى حين أراد أن يصف حالهم وأعمالهم قال : (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً* عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً).

١٤٥

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ).

(وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ...)

(وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً* إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً* إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً).

وحين جاء دور الجزاء الإلهي لهم ، نجد السياق يتغير ، فهو تعالى يقول :

(فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ).

(وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً).

(وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً).

ويقول أيضا :

(لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً).

(وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها)

(وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً ...).

(وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ ...).

ويقول سبحانه :

(وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً* عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً).

فلم يقل : يشربون. بل قال : (يُسْقَوْنَ) ، فنسب الفعل لغيرهم.

ولم يقل : بكأس. ولم يقل : كافورا. كما أنه ، وإن كان قد وصفها بأنها عين ، ولكنه لم يذكر تفجيرها من قبل الأبرار ..

١٤٦

ثم إنه تعالى يتابع بيان ما يجزيهم به .. إلى أن يقول : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً).

وذلك كله يفيد : أن ثمة معان ، وخصوصيات معينة ، يريد الله سبحانه لنا أن نتوجه إليها ، لأنها ذات قيمة وأهمية تفرض علينا أن نثقف أنفسنا بها.

كل ما في القرآن مهم لنا :

وملاحظة أخرى نسجلها هنا هي : أن نفس اختيار الله سبحانه من الأواني ما هو من الفضة ، ومن الأكواب ما هو قوارير ، ومن العين ما يسمى بالسلسبيل .. يؤكد لنا على حقيقة : أن ثمة معان دقيقة يريد لنا أن نتلمسها ، ومقاصد هامة يريد لنا أن ننالها ، وغوامض يريد لنا سبر غورها ، وأن ثمة أسرارا لا بد من الوصول إليها.

وحيث إن الحديث قد بلغ بنا إلى هنا ، فإنني أحب لفت النظر إلى أمر هام ، هو :

أن البعض قد يدّعي : أن أمثال هذه الأمور التي نتوقف عندها ليست بذات أهمية .. ثم هو يحاول التشنيع علينا بالقول : إن الغربيين قد وصلوا إلى القمر ، وفقهاؤنا وعلماؤنا لا يزالون يبحثون في أحكام الحيض والاستحاضة ..

فلماذا ندقق في المراد من الأرائك ، ولماذا نبحث عن السلسبيل ، وعن القطوف الدانية ، وعن الأكواب من فضة ، وعن عرش بلقيس ، وعن الطوفان ، وعن صنع السفينة ، وعن قصة الهدهد ، وعن آية تحريم ما حرمه النبي [صلى‌الله‌عليه‌وآله] على نفسه يبتغي مرضاة أزواجه ، وعن الحيض ، وعن شكوك الصلاة ، وعن الاستئذان قبل صلاة الفجر ، وعن آية

١٤٧

الدين التي هي أطول آية في القرآن .. إنه يقول : إن البحث عن ذلك وعن نظائره : لا يجدي ، ولا يفيد شيئا.

وأن اللازم هو البحث عن الإسلام السياسي ، وعن النظرية الاقتصادية الإسلامية ، وعن دور المرأة في السياسة ، وعن ديمقراطية الإسلام ، وعن العولمة ، وعن حركة الأرض ، أو حركة الشمس ، وعن .. وعن ..

ونقول :

إن هذا كلام باطل جزما ، ولا يحق لأحد أن يطلق مثل هذه الدعاوى ، التي تستبطن الاعتراض على الله سبحانه .. فإنه إذا كان الله سبحانه يريد أن يفهمنا هذه الأمور ، وإذا كان الرسول هو الذي ذكر لنا ذلك كله ، وغيره حتى أحكام الحيض وغيرها ، فإن الله ورسوله أعلم بما يصلحنا ، وإن البشر أذل وأحقر من أن يعترضوا على مقام العزة ، والجلال ، والعظمة الإلهية ، وعلى ساحة قدس الرسول الأعظم [صلى‌الله‌عليه‌وآله] ..

على أن من البديهي : أن أحدا ممن يسعى لكشف الحقائق القرآنية وغيرها ، لم ينكر لزوم ممارسة جميع العلوم النافعة الأخرى أيضا .. ولكن بشرط واحد ، وهو حفظ التوازن ومعرفة الناس لأحجامهم ، ولحدودهم ، فلا ينصبون أنفسهم آلهة ، ويحكمون بدون روية ، ومن دون علم ، في أمور يقول خالق الكون والحياة ، والحكيم العليم ، والبصير الخبير ، إنها ضرورية ، وهامة ، وحساسة ، ولا بد منها ، ولا غنى عنها ..

علما أنه حتى الثقافة الدينية أيضا ، لا بد أن تكون متوازنة وشاملة للأخلاق ، والعبادات ، والتفسير ، والحديث ، والأحكام ، الخ .. فإنه لا يغني شيء عن شيء ، فكل شيء لا بد منه في موقعه ، إذ إن الإخلال به ، فيه

١٤٨

إدخال للنقص على موقع يفترض أن يكون على غير تلك الصفة ، ولربما يكون الإخلال به إخلالا بالمسيرة الحياتية ، وبسعادة الإنسان ، فإنه لا يمكن أن يسد الصعود إلى القمر ، الفراغ الذي يحدثه الجهل بأحكام الحيض ، أو بأحكام الشكوك في الصلاة ، أو بأحكام البيع ، أو ما إلى ذلك. ولا تسدّ أحكام الحج الفراغ في أحكام الصوم ، وفي النواحي الأخلاقية ، أو في فهم معاني القرآن ومراميه .. الخ ..

كما أن ما هو ضروري في الحياة لا ينحصر في الأمور المادية ، ولا في اختراع الآلات المتطورة. فقد يستغني الإنسان عن هذه الاختراعات ، ويستغني عن الصعود إلى القمر ، ولكنه لا يستغني عن الصلاة ، ولا عن أحكام الحيض والجنابة مثلا ..

وقد عاشت البشرية المئات والآلاف من السنين ، بدون كل تلك الاختراعات ، ولكنها لم تستغن عن الصدق ، وعن الوفاء بالوعد ، وعن .. وعن ..

إن كل ما يريد الله أن يعلمنا إياه مهم جدا لنا أما الذي لا يهتم الله تعالى ورسوله [صلى‌الله‌عليه‌وآله] به ، فإن بإمكاننا تأجيله ، أو حتى الاستغناء عنه ..

إن الله سبحانه يريد أن يبني الشخصية الإنسانية (على المستوى الشخصي ، والاجتماعي ، والسياسي ، وغير ذلك) بناء متوازنا .. لأن أي خلل يحدث في أي جهة من جهات وجود الإنسان ، وحياته ، فإنه سيؤثر سلبا على الجهات الأخرى ، حتى في حياته الاقتصادية والاجتماعية ، وغير ذلك.

كما أنه حين يستجمع الإيمان بالغيب كل عناصره ، فسيكون أثره الإيجابي في حياة الإنسان أكثر بروزا مما لو كان في بعض جوانب هذا الإيمان خلل أو نقص ، فإن ذلك سيؤثر على درجة الالتزام ، وعلى

١٤٩

التفاعل مع العبادة ، وعلى الطاعة ، وعلى درجة الإخلاص في العمل ، والخلوص في النوايا ..

بل نحن بحاجة إلى جميع ما حكاه الله عن الماضين ، وعن أحوال الدنيا .. كقصة الطوفان ، وعرش بلقيس ، وما جرى للهدهد. وتهديدات سليمان له .. ثم اكتشافه عرش بلقيس .. وحمله إليها رسالة النبي سليمان [عليه‌السلام]. وإلى المعرفة بصناعة النبي نوح [عليه‌السلام] للفلك ، وما إلى ذلك ، لأن القرآن قد حكى ذلك كله لنا ، ليثقفنا به ، وليبني به شخصيتنا ومفاهيمنا ، ومشاعرنا والخ .. وما ذلك إلا لأن الإسلام كل متكامل ، يريد أن يبني عقل الإنسان ، وفكره ، وعقيدته ، وثقافته ، وعاطفته ، ومشاعره ، ومفاهيمه ، ومزاياه ، وخصائصه الأخلاقية ، وغرائزه ، وحتى بنيته الجسدية أيضا ..

ويريد أن يبني المجتمع الإنساني وفق ضوابط وقواعد ، وقيم. وإن أي خلل يحدث في أي موقع وأية جهة ، فسوف يؤثر سلبا على الجهات الأخرى ، وليس بالضرورة أن نكتشف نحن ذلك الفساد وكيفياته ، وحالاته ، وتأثيراته ..

فليس لأحد أن يصنف قضايا الدين والإيمان ، ومعارف القرآن ، فيقول : هذا مهم ، وهذا ليس بمهم. فإن إثارة شعور من هذا القبيل فينا سيؤثر على طاعتنا لله ، وعلى معرفتنا به ، وقربنا منه ، وعلى حميمية مشاعرنا تجاهه.

فإذا كان هناك ما ليس بمهم ، فالله تعالى هو الذي يحدده ، ويشير إليه. وأما ما اهتم الله ورسوله به ، فسجله الله في كتابه الكريم ، وكلّف جبرئيل بتنزيله ، وأوكل إلى النبي [صلى‌الله‌عليه‌وآله] تبليغه ، وكتاب الوحي بتدوينه ، والألسن بتلاوته ، والملائكة بتسجيل الثواب عليه؟! ..

١٥٠

فلا بد أن يكون مهما لنا ، تجدر بنا معرفته ، والاستفادة منه ، والاهتمام به ..

وألا تعتبر هذه النظرة إلى ما جاء به الرسول الأكرم [صلى‌الله‌عليه‌وآله] عن الله سبحانه ، نوعا من الاستهتار والاستخفاف بالله وبرسوله ،. وألا تدل على خلل في البنية الإيمانية ، ونقص في الثقافة القرآنية؟! ..

إن عدم إدراكنا لأهمية بعض الأمور ، وعدم إحساسنا المباشر بفائدتها ، لا يعني أنها عديمة الفائدة ، أو قليلة الأهمية ـ أليس نعلم أن الله يقبل الصلاة بقراءة سورة الكوثر ، ولا يقبلها بقراءة سورة البقرة ، إذا نقصت منها آية واحدة؟!.

إن هذه التصنيفات المرتجلة ، والتي تفوح منها روائح كريهة لنزعات الهوى ، وتأثيرات إبليسية ، ووسوسات شيطانية ، لم تستند إلى أي دليل شرعي أو عقلي قطعي ، وهي تحدث قطعا أضرارا بالغة في مختلف الحالات ، وعلى جميع المستويات.

إن القرآن هدى للمتقين بكل كلماته وحروفه ، وإشاراته ودلالاته ، وفي مختلف قضاياه ، وقصصه وإخباراته ، وفي كل المجالات التي تحتاج إلى الهداية : ومنها الأخلاق ، والعقائد ، والأحكام .. و..

إن مشكلتنا هي نقص الثقافة القرآنية والحديثية عن الرسول الأكرم [صلى‌الله‌عليه‌وآله] والأئمة الطاهرين [عليه‌السلام] ثم في التخمة القاتلة بالأفكار المسمومة التي تلقاها هؤلاء الناس عن أهل الضلال والانحراف ، والانبهار غير الواعي بما يلقونه إليهم من زخرف القول غرورا ، مع أنهم لو رجعوا إلى أنفسهم لوجدوا أنه ليس في كلام الله تعالى ورسوله [صلى‌الله‌عليه‌وآله] والأئمة [عليه‌السلام] لغو ولا هذر ، بل كله يأتي وفق الحكمة ، والمصلحة ، غير أن هؤلاء يقولون : نؤمن

١٥١

ببعض الكتاب ، ونكفر ببعض.

إن الإسلام يريد لنا ثقافة واحدة ، منسجمة ، ومتوازنة ، وعميقة ، وصحيحة ، وواقعية ، لها طابع واحد ، هو الواقعية التي لا يمكن إدراكها بدون الهداية الإلهية .. وبدون ذلك فسيكون الخلل العظيم ، والخطر الجسيم في الوعي ، وفي الالتزام ، وفي التفكير ، وفي المشاعر ، وفي الصفات والمزايا ، وفي الصفاء الروحي ، وفي العلاقات ، وفي المواقف ، وفي السلوك ، وفي كل شيء .. لأن للثقافة التأثير القوي والعميق في ذلك كله ..

وآخر كلمة نقولها هي :

إن الجهل بالعقيدة ينعكس جهلا بالله ، وبالدين ، وبالأحكام ، وبالعبادات ، وبالمعاملات ، التي يكون لها بدورها انعكاساتها وآثارها السلبية على الفرد ، وعلى المجتمع ..

والخلل في البنية الإيمانية ينعكس خللا في الأخلاق والسلوك والتعامل مع الآخرين ، التي بدورها لها انعكاساتها وآثارها السلبية على العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

والخلل في البنية الثقافية القرآنية يحدث تفاوتا في الفهم ، وتباينا وانقساما في الآراء والمواقف ، ويخلق حالة من عدم الانسجام ، وعدم التوازن في المجتمع ، لا يعود ينفع معها الحديث عن أولويات اقتصادية ، أو سياسية ، أو اجتماعية ، أو غيرها ..

والله تعالى يريد أن يبني الإنسان بما هو إنسان من الداخل ، كما يريد أن يبنيه من الخارج في وقت واحد ، ويريد أن يبنيه في كل شؤونه الروحية ، والنفسية ، والعقلية ، والفكرية ، والمفاهيمية ، والثقافية ، والعقائدية ، والأخلاقية ، والمشاعرية ، والعاطفية ، الخ ..

١٥٢

كيف يتحدث القرآن عن الغيب؟

ومهما يكن من أمر ، فإن الله تعالى حين يخبرنا في كتابه الكريم عن الأمور الغيبية ، التي لا ينالها العقل والحس ، فإنه يصوغ الفكرة بقوالب لفظية ، كنائية ، أو مجازية ، أو غيرها ، لتتمكن عقولنا من أن تنالها ، ثم يحول هذا المعقول إلى شأن حسي ، مشاعري ، حياتي ، وحيوي للإنسان ..

فالقوالب اللفظية تقرب الغيب إلى العقل ، ثم يحولها إلى الحس ، لتنساب في المشاعر ، ولتصبح جزءا من الكيان والذات.

وهكذا الحال في مختلف شؤون الدين ، والإيمان ، والتشريع ، وغيرها مما حملته لنا الآيات الشريفة ، والروايات الكريمة.

وقد جاءت بيانات هذه السورة المباركة وفق هذه القاعدة ، فلنتابع البحث عن معاني آياتها ، من خلال وعي مفرداتها ..

* * *

١٥٣
١٥٤

الفصل السادس :

(عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً)

١٥٥
١٥٦

قال تعالى :

(عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً).

ولنبدأ بالحديث عن مفرداتها فنقول :

«عينا» :

١ ـ هل هذه الكلمة «عينا» بدل من كلمة «كأس»؟! .. أم هي بدل من كلمة «كافور»؟! أم هي منصوبة على المدح ، أم بنزع الخافض؟! ..

بحث لا نريد الخوض فيه ، وإن كنا نرى أن بدليتها من كلمة كأس أكثر انسجاما مع المعنى الذي يراد التركيز عليه ، كما سيتضح ..

٢ ـ على أننا قد أشرنا فيما سبق : إلى أنه تعالى يريد أن لا يتوهم أحد : أن الكأس إذا شرب منه أو أريق بعض شرابه ، سوف ينقص ، أو سوف ينضب ، الأمر الذي يجعل الطالب محتاجا إلى البحث عن بديل لما فقده ..

فلذلك أخبر : أن هذه الكأس هي عين تفجر تفجيرا ـ لكي يفيدنا أربعة أمور ، هي من الصفات الملازمة للعين .. وهذه الأمور هي التالية :

الأول : أن العين نابعة ، دائمة العطاء ..

الثاني : أنها لا تنقص أبدا .. لأنها دائمة التفجر ..

الثالث : أن المدد لها لا يأتي من الخارج ، بل هو ذاتي فيها .. فلا خوف من الانقطاع ، ولا من عدم الوصول ..

الرابع : إفادة حالة التجدد والاستمرار.

١٥٧

«يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ» :

ثم إنه تعالى ، بعد أن أخبر عن فعل يصدر من الأبرار ، جاء بهذه الآية لتفيد من خلال كيفية تركيبها ، ومن خلال التعبير بالفعل المضارع «يشرب» الدال على التجدد ، والتوالي : أن هذا الشرب متيسر للأبرار باستمرار ، فهو ليس أمرا عارضا ، بل هو طريقة حياة ، وقاعدة مطردة .. فلا خوف من الحرمان ، والانقطاع ، ولن يكون ثمة أي إحساس بالفقدان ، ولذلك فلن يكون ثمة تشوق منهم لأمر غير حاضر ولا حاصل ..

وقد أكد ذلك قوله «عينا» ، حسبما تقدم ، فانسجم الظهور السياقي ، مع سائر الظهورات ، ومع إيحاء الكلمات ..

العبادية .. والشرب من العين :

ثم قدم سبحانه الدليل والتعليل ، فذكر أن الأبرار إنما يشربون بتلك العين لكونهم عبادا لله تعالى .. فعباديتهم تقتضي أن يكون شربهم من عين لها تلك الميزات والصفات ..

«بها» :

وقد قال سبحانه : (يَشْرَبُ بِها) ، ولم يقل : «يشرب منها» .. مع العلم بأن اختلاف حروف التعدية يشير إلى اختلاف الخصوصية ، فشربه ، وشرب منه ، وشرب به ، وشرب فيه ، كلها تشير إلى خصوصيات تختلف وتتفاوت ، باختلاف حروف التعدية المستخدمة في المورد ..

فلا مجال إذن لقبول قول بعضهم : إن شرب بها ، وشرب منها ، وشربها بمعنى واحد ..

إذ إن شربها يفيد : أنه يشرب ما فيها كله ، أو بعضه ..

ويشرب منها ، معناه : أنه يشرب من مائها ..

١٥٨

ويكون المقصود من هاتين الجملتين هو بيان حالة العين والكأس المشروبة ..

أما لو قال يشرب بها .. فالمقصود بيان حالة الشرب نفسه ، على سبيل إشراب اللفظ لمعنى آخر غير معناه ، ثم يتعدى هذا اللفظ بواسطة حرف جر يناسب هذا المعنى الجديد ..

بيان ذلك :

إنك إذا أشربت كلمة «شرب» معنى الارتواء مثلا ، فيصح تعدية كلمة «شرب» بالباء ، فيقال : شرب بها ، لتصبح دالة على أنه قد وصل إلى حد الارتواء بها .. وأن هذا الارتواء إنما كان بواسطة الشرب ، لا بشيء آخر ..

إذ إن : الشرب قد يتحقق ، ولكن لا يحصل الارتواء ، كما أن الارتواء قد يحصل بغير الشرب.

ويكون المعنى في الآية : عينا يرتوي بها عباد الله.

ويكون المقصود بالباء معنى السببية ، أي يرتوي عباد الله بسبب العين ـ ارتواء ناشئا عن الشرب منها ..

فتضمين وإشراب كلمة «شرب» معنى الارتواء هو الذي أعطانا هذه الخصوصيات.

ولو أنه قال : يرتوي بها .. فقد يتخيل : أن الارتواء قد حصل بغير الشرب.

فقولك : يشرب بها ـ قد مكنك من الاحتفاظ بالمعنيين ، والاستفادة منهما معا ، وهما معنى الشرب ومعنى الارتواء ، في آن واحد ..

وقد اتضح بما ذكرناه : أنه لا يصح أن يقول : يشرب منها ، لأنه لو قال ذلك لدلت كلمة «من» على التبعيض ، مع أن المقصود هو السببية.

١٥٩

ولمعنى التبعيض إيحاء مرغوب عنه في هذا المقام بالذات ، وهو الإيحاء بدخول النقص على الشراب الذي في الكأس ، بواسطة الشرب ، مع أن الآية بصدد إبعاد هذا الوهم كما قلنا ..

عباد الله ، أم عبيد الله :

وجاء التعبير بكلمة «عباد» لا بكلمة «عبيد» ، لأن العبيد إنما يرتبطون بأسيادهم من موقع مالكية الأسياد لهم ، وسلطتهم ، وسيطرتهم ، وحكومتهم عليهم ، وقد تكون هذه الحكومة غير مرضية من قبل المحكوم ، حيث يشعر بالقهر ، ويرغب من التخلص من ربقة هذه العبودية ، ربما لأنه لا ينسجم مع سيده أو لأنه لا يحبه ، ولا يرضاه في باطنه ، وإن كان ربما يتظاهر بذلك لسبب أو لآخر ..

أما العباد ، فالرابطة بينهم وبين سيدهم هي الطاعة ، والانقياد ، والرغبة ، والمحبة ، والأنس والوله والانسجام ، والاندفاع إلى التقرب من السيد .. عن اختيار ورغبة من العبد ..

فلا فرق بين العباد والعبيد ، من حيث لزوم الالتزام بالطاعة للسيد ، والانقياد له ، ولا في الإقرار بمالكيته وسلطانه.

لكن الفرق هو في جهات أخرى ، تدخل في نطاق دواعي ودوافع هذه الطاعة ، وفي طبيعة العلاقة التي بين العبد وسيده.

ولأجل ذلك نلاحظ : جاء القرآن بكلمة «العبيد» في خمس آيات فقط ، وذلك في سياق كلامه عن الجزاء الذي لا بد أن يأتي من موقع السلطة ، والقاهرية ، والمالكية ..

وأن ذلك الجزاء إنما هو بما قدمت أيديهم ، فهو يقول : (ذلِكَ بِما

١٦٠