تفسير سورة هل أتى - ج ١

السيد جعفر مرتضى العاملي

تفسير سورة هل أتى - ج ١

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المركز الإسلامي للدّراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٤
الجزء ١ الجزء ٢

فيأتي هذا القيد هنا ليؤكد على : أن عملهم قد كان لوجه الله في كل مراتبه وحالاته ، وأن ذلك متحقق في جميع أفراده مئة بالمئة ، ولم يشذ عنه ولو مفردة واحدة ..

لما ذا قال : «لا نريد»؟ :

ثم إنه تعالى قد نفى هنا إرادة الجزاء ، وإرادة الشكر .. ولم ينف نفس الجزاء ، والشكر ، فلم يقل : إنما نطعمكم لوجه الله ، لا للجزاء ، ولا للشكر .. بل قال : (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) ..

ولعل سبب ذلك أنه لو قال : نطعمكم لا للجزاء ولا للشكر .. قد يفهم منه : وجود استحقاق للجزاء ومبرر للشكر ، لكنهم صرفوا النظر عنه.

ومن شأن هذا أن يحمّل السائل منّة جديدة لهم عليه ، وأن يزيد في إحراجه ..

ولكنه حين قال : لا نريد ، فإن ذلك قد يفهم منه : أنه بصدد الاستدلال لهم على انتفاء تلك الإرادة ، إذ إن كون العمل لوجه الله ، قد أسقط استحقاقهم للجزاء وللشكر من أساسه. فنفي الإرادة إنما هو بسبب انتفاء متعلقها ، وهو الاستحقاق.

ولو قال : إننا نفعل ذلك ، لكن ليس لأجل الجزاء ، فإن ذلك معناه أن الجزاء ثابت لنا ، ونحن نستحقه ، لكننا لا نقصده حين الإعطاء ، مع أن الهدف هو أن لا يلوّح للسائلين حتى بهذا الأمر .. حسبما أوضحناه.

«لا نريد» مرة أخرى :

وثمة إشارة أخرى هنا ، وهي أنهم يقولون : «لا نريد» ولا يقولون : «لا نطلب منكم جزاء».

ولعل سببه هو أنك إذا قلت : لا أطلب منك جزاء ولا شكورا.

٢٤١

فذلك يختزن احتمالين :

أحدهما : أنك تستحق الجزاء والشكر ، ولكنك لا تطلبهما منه. ولعله لو أعطاك الجزاء من عند نفسه ، فلا تكون منزعجا ، بل قد تكون مسرورا.

الثاني : أنك لا تريد ذلك ، بسبب عدم الاستحقاق ، فهو من قبيل القضية السالبة بانتفاء موضوعها. وحيث إن هذا النوع من القضايا مما لا ضرورة لإجراء الكلام على وفقه ، فينحصر الأمر في الاحتمال الأول ..

«لا نريد» مرة ثالثة :

وهنا أيضا سؤال آخر في الآية ، وهو أنه لماذا قال تعالى : (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً ..)

ولم يقل : لا تجازوني ولا تشكروني ، ألا يكون ذلك أوقع وأشد في رفض الجزاء والشكر ، وفي تطمين السائلين إلى سلامة النوايا؟! ..

ويمكن أن يجاب : بأن هذا التعبير «لا تجازوني ، ولا تشكروني» يستبطن تعليما سيئا ، وخطأ جسيما .. لأن المفروض بالإنسان هو أن يعيش المعاني الإنسانية في داخل ذاته ، وأن يشعر مع الآخرين ، ويشاركهم في قضاياهم ..

وقولك له : أريد منك أن تكون غير شكور وغير شاعر بالامتنان تجاه من يحسن إليك ، يماثل قولك له : أريد أن لا تكون إنسانا ، يشعر بقيمة الإحسان.

فكأنك تقول له : انقض أحكام عقلك ، وفطرتك ، وأخلاقك ، ولا تصغ لقوله تعالى :

(هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ)!!

فهل يعقل هذا؟! ..

٢٤٢

«إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ» :

والناس حين يسخون ويبذلون أموالهم للمسكين ، أو اليتيم ، أو الأسير ، قد يفكرون ، أو يفكر بعضهم : أن يكون هذا المسكين ، أو ذلك اليتيم ، وحتى الأسير عونا وسندا ، وعضدا لهم في يوم مّا ، ولو بأن يؤيدهم في موقف ، أو يرد عنهم ، ولو بكلمة .. أو يحسّن صورتهم أمام الآخرين .. وقد يصبح الأسير أقل تحمسا للعودة إلى مناجزتهم الحرب في مستقبل الأيام. لا لأجل القناعة الفكرية بما هم عليه ، بل لأجل هذا الإحساس بالمديونية للباذلين ..

ولكن هذه الآيات الشريفة ، قد أظهرت أن هؤلاء الباذلين لا يريدون ممن يبذلون له ، ما هم أحوج إليه منه ، جزاء ، ولو بهذا المقدار ، بل حتى ولو في حد الشكر .. وسيأتي توضيح ذلك إن شاء الله تعالى ..

بل إن الأهم في هذا البيان القرآني ، والهدي الإلهي ، هو أنه تعالى يريد أن يبين لنا كيف يريد الإسلام أن يصنع قلب الإنسان ، فهو يريده رؤوفا ، رحيما ، عطوفا ، ودودا ، فياضا بالحب ، زاخرا بالمشاعر الإنسانية ، عامرا بالإيمان بالله ، مؤثرا له على كل شيء في هذا الوجود.

إن الإسلام يريد أن يغرس ذلك في كيان الإنسان ، وفي عمق وجوده ، ليصير هو العنصر الفاعل والحي في تكوينه الداخلي. إذ إن إنسانية الإنسان لا تفرض عليه قسرا ، كما أنها لا تأتيه مجانا .. وبلا طلب وسعي وجهد .. بل هي تحتاج في الحصول على كثير من ميزاتها وخصائصها إلى المبادرة والاختيار منه ، وإلى جهد ، وعمل ، وكد ، وتعب ، وبذل .. وعطاء ..

كما أن ما يكون كامنا في فطرة الإنسان ، وما يفيضه الله عليه ابتداء ،

٢٤٣

يحتاج أيضا إلى حراسة وحفظ ، وتهيئة الظروف الموضوعية لبقائه ، قويا وسالما ، وفاعلا ومتناميا.

فإذا قصر في ذلك كله ، فقد لا يحصل على شيء جديد .. وقد يخسر أيضا أو يشوّه ما أعطاه الله إياه ابتداء ، أو باقتضاء الفطرة ، وربما نجده يحاول أن يسقطها ، أو أن يبعدها عن دائرة التأثير في أكثر من موقع ، وفقا لما روي عن رسول الله [صلى‌الله‌عليه‌وآله] : كل مولود يولد على الفطرة إلا أن أبويه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه.

أما الحيوان فلا دور له في الحصول على خصائصه الحيوانية ، ولا في تنشئتها وترشيدها ، ولا في حفظها ، وحراستها ، أو خسرانها ، وتشويهها.

لا رياء ولا سمعة :

وعلى كل حال ، فإنه حين لا يسعى الإنسان للجزاء ولا للشكر ، فإن الرياء لن يجد طريقه إليه ، وسيكون عمله لله ، ولله فقط ، ولا مجال بعد لأن يتخذ من عطائه وبذله ذريعة لإظهار شخصيته ، واكتساب السمعة عن هذا الطريق. لأن هذا يدخل تحت عنوان الجزاء. كما أنه لا يسعى لأن يعترف المبذول له بالفضل ، وأن يلهج بالحمد والثناء عليه ، لأن ذلك يدخل في الشكر ، الذي لا يريده ذلك الباذل ..

وقد قلنا : إن قوله تعالى : (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) قيد توضيحي لقوله : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ..) لأن إرادة الجزاء والشكور تمنع من أن يكون الإطعام خالصا لوجه الله تعالى.

«منكم» :

وأما لماذا قال تعالى : (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً)؟! ، وقد كان يمكن أن

٢٤٤

يقول : لا نريد جزاء.

فجوابه : أنهم [عليهم‌السلام] يريدون الجزاء ، ولكن لا من السّائلين ، بل من الله سبحانه. وقد صرحوا بذلك حين قالوا : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ..)

فإرادة الجزاء والشكر من الناس غير محبذة ، بل هي نقص أحيانا ، ولكن طلبها من الله سبحانه عين الكمال ، لأنه إنما يطلب ـ في واقع الأمر ـ رضا الله سبحانه ، ويسعى للفوز بكرامته ، وألطافه ، وحبه ، ورعايته ، ورفعة شأنه لديه.

«جزاء» لماذا؟!

ونلاحظ هنا : أن كلمة «جزاء» تختزن الإشارة إلى عدة أمور ، هي :

١ ـ تنوين التنكير :

إن كلمة «جزاء» قد جاءت مع تنوين التنكير لتفيد : التعميم لكل أفراد أو أنواع الجزاء ، على سبيل البدل ، فجميع أفراد ومقادير وأنواع الجزاء غير مرادة ، فلا نطلب منه قليلا ولا كثيرا ، ولا عظيما ، ولا حقيرا ، ولا نوعا دون نوع ، ولا فردا منه دون آخر ..

٢ ـ الجزاء هو مقتضى العدل والحق ..

والجزاء أمر يحكم به العقل ، وتقضي به الفطرة ، كما ألمح إليه قوله تعالى : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) ، فطرح الآية لهذا السؤال ، كأن فيه إرجاعا إلى الوجدان وإلى الفطرة الإنسانية ، مما يعني أن هذا السؤال لو طرح على ملحد لأجاب بنفس ما يجيب به المؤمن الموحد ..

٣ ـ تقديم الجزاء لماذا؟!

وأما لماذا قدم ذكر الجزاء على الشكر ، فلعله لأجل أن الجزاء هو

٢٤٥

الإتيان بما يعادل الفعل الذي في مقابله .. فإذا أعطاك مئة ، فالجزاء لا بد أن يكون مئة.

وهذا هو أول ما يطلبه الباذل ، ويطالب به ، ويسعى إليه ، ولذا كان المناسب أن يبدأ به قبل أن يذكر الشكر.

أيهما أصعب!!

وقد يقال : لعل تقديم الجزاء ، لأجل أن إعطاء البديل والجزاء ، قد يكون أصعب من تقديم الشكر ، الذي هو خفيف المؤونة ..

ولكننا نقول :

إن ذلك غير دقيق .. فإن الشكر ليس مجرد تحريك اللسان بكلمات الثناء والعرفان بالجميل ، بل هو أمر قد يكون أصعب على بعض النفوس ، من إعطاء المقابل مهما كان عظيما .. لأن الشكر يمثل أحيانا اعترافا بالأخذ ، ويدعو إلى إظهار الشعور بالامتنان ، لمن قد لا يحب المبذول له أن يقوم به تجاه بعض الباذلين ..

وربما يبلغ الأمر حدا يجعل إعطاء الجزاء والخروج من حالة الشعور بالمديونية ، أيسر على النفس من إبقاء هذا الشعور.

الجزاء مرتبط بالشكر وعكسه :

والجزاء له صفة مادية ، وهو أمر يتطلبه العدل والحق. أما الشكر فطابعه معنوي أخلاقي ، تفرضه إنسانية الإنسان ، ويدعوه إليه خلقه ، ومشاعره ، وحالته النفسية ..

فإذا أعطى الجزاء والمقابل ، فذلك لا يعفيه من شكره ، من الناحية الأخلاقية ، ولا يزيل حالة الشعور بالامتنان ..

٢٤٦

ومعنى ذلك : أن نفي الجزاء بقوله : (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً ..) لا يعني أنه لا يطلب الشكر ، ولذا احتاج إلى التصريح بأنهم كما لا يريدون الجزاء ، كذلك هم لا يريدون الشكر أيضا.

ولكن لو طلب الباذل الشكر ، فذلك معناه أنه لا يريد الجزاء والمقابل ..

ولذلك نجد العقلاء لا يستسيغون من الباذل الذي يطلب الشكر ، أن يطلب الجزاء بعد ذلك .. بل هم يقبحون طلبه هذا .. ولكنهم لا يقبحون طلب الشكر بعد الحصول على الجزاء.

الشكور :

قلنا : إن الجزاء هو مقتضى الحق والعدل .. والعدل مرحلة لا بد من إنجازها ، ليتوصل من خلالها إلى ما هو أرقى ، وأسمى منها ..

غير أن العدل يمثل الخط الذي لا بد من الالتزام به ، ليتمكن الإنسان من الخروج من دائرة الخطر والهلاك.

لكن درجات الصعود على السلم للوصول إلى الغايات السامية ، تحتاج إلى جهد ، وعمل آخر يتمكن الإنسان من خلاله من الصعود عليها ، درجة إثر درجة ، ولهذا صح تشريع الجهاد ، وصح طلب الإيثار على النفس ، الذي مدحه الله سبحانه بقوله : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ ..)

وذلك لأن إعطاء الإنسان ماله لغيره ، يحتاج إلى دافع قوي ، حتى لو كان المعطي غير محتاج إلى ذلك المال ..

أما كان هو محتاجا له .. فإن إعطاءه للغير يحتاج إلى دافع أقوى وأشد ، ليقدم حاجة غيره ، على حاجة نفسه. وهذا هو الإيثار الذي

٢٤٧

أشارت إليه الآية المباركة ..

فاذا كانت حاجته إليه ماسة جدا ، فإن بذله للغير يصبح في غاية الصعوبة.

فإذا طلب منه أن يبذله لغيره ، حتى في هذه الحال ، فذلك يعطينا : أن الهدف ليس هو العدل ، بل ما هو أسمى من العدل. ألا وهو بناء إنسانية الإنسان ، وصياغة مشاعره لتكون مشاعر نبيلة وطاهرة. ثم السمو بفكره وبطموحاته ، وفتح الآفاق الرحبة أمامه ، بالإضافة إلى تربية وجدانه ، ورفع مستوى إحساسه النبيل ، وشحنه بالعاطفة الفياضة ، بالخير والعطاء.

لماذا «شكورا»؟! :

ولعلك تسأل لما ذا قال : (وَلا شُكُوراً). ولم يقل : «ولا شكرا» ..

وقد يجاب عن ذلك ، بأن الشكر مصدر يدل على أصل طبيعة الشكر ، التي قد تتجسد بأي فرد كان. أما الشكور فهو مصدر أيضا ، كالدخول والخروج ، فلا فرق بينه وبين الشكر في المعنى.

فنفيه بأي منهما إنما يكون نفيا للطبيعة. ونفي الطبيعة إنما يتحقق بانتفاء جميع أصنافها وأفرادها.

ولعل اختيار هذه الصيغة دون تلك ، من أجل تحقيق التناسب اللفظي بين الآيات ..

ونقول :

إن هذا ، إنما يفرض في صورة ما ، إذا قبلنا ما قاله المفسرون ، من أن كلمة شكور مصدر. وقد جاء على غير قياس ، مثل : قعود.

وأما إذا قلنا : إنها جمع شكر ، مثل : برد ، وبرود ، فهي جمع للمصدر ، الذي هو الشكر. فالمعنى : أننا لا نريد منكم أي نوع من أنواع الشكر ،

٢٤٨

فيصير نفي إرادة الشكور من الباذلين ، أشد من نفي إرادة الشكر ، لأن النفي يكون متوجها لجميع أنواع الشكر ..

وهذا أدل على المراد ، وأوفق بالمقصود ..

وهو المناسب لمقام الامتنان عليهم من موقع الفيض والعطاء ، والربوبية لهم ، والألوهية المستغنية بذاتها وبصفاتها ..

وبذلك يعلم أنه لا مجال لتخيل : أن نفي الجمع لا يستلزم نفي الفرد ، وأن قوله : «لا نريد شكورا» .. يجامع قوله : «نريد شكرا واحدا ، أو شكرين» ..

وبتوضيح آخر نقول : إنه يمكن التعدد في أصناف الشكر كمّا وكيفا ، فهناك شكر قلبي ، وعرفان بالجميل ، وشعور بالإمتنان ، وهناك شكر لساني ، وهناك أيضا شكر عملي ..

أما الجزاء فهو نوع واحد ، يؤخذ فيه المكافأة بالمثل ، وبنفس المقدار ..

واختلاف أشكال وكيفيات المقابلة بالمثل ، إنما هو بتراض من الطرفين. أما الزائد من الجزاء ، فهو تفضل وتكرم. والناقص بخس للحق.

والجزاء تارة يلاحظ فيه الأخذ بالمقابل. ففي مثله يلاحظ مقدار ما يعطى ، ومقدار ما يؤخذ. وأخرى يلاحظ فيه الجزاء المقرر ، ففي مثله قد يقرر جاعل الجزاء أن يكون الجزاء أكثر من المماثل والمساوي ، فيجعل الحسنة بعشرة ، أو بسبع مئة ، بل يضاعف ذلك لمن يشاء ..

ففي مثل هذا المورد ، يكون التفضل في أصل الجعل ، وبعد الجعل يصبح حقا وجزاء لمن جعل له ، يطالب به ، ويسأل ويسأل عنه. قال تعالى : (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).

٢٤٩

ولكنه حق نشأ عن التفضل ، لا عن العدل. أما بعد الجعل فيصير موضوعا للعدل أيضا.

وقد يكون السبب في جعل الزائد هو الإغراء بعمل الخير ، وصرف الهمم إليه ، أو غير ذلك ..

والحاصل : أنه إذا كان هناك عطاء تفضلي ، فمرة تطلب المجازاة عليه ، بأن يعطي لفاعله ما يماثله ، ومرة يطلب الشكر عليه.

والشكر قد يختلف ويتفاوت ، كما ، وكيفا في مراتبه وحالاته ..

فإذا أريد نفيه ، فلا بد من نفيه بجميع مراتبه وحالاته تلك ، سواء في ذلك الأفراد الظاهرة ، أم الأفراد الخفية التي قد لا تخطر على بال ، فقد تنفي الشكر اللساني ، لكن لا تنفي الشكر القلبي ، الذي يراه الناس غير قابل للنفي ، إما لخفائه ، وعدم الالتفات إليه ، أو لأنهم يرونه غير قابل للنفي من حيث إنه من مقتضيات خلق وطبع الإنسان ، أو لأنه لا يجوز رفضه ورده.

فإذا قال : لا أريد أن تشكرني على الإحسان ، فإنما يرون أنه يقصد الشكر اللساني عادة ، أو الشكر بواسطة الفعل ، ولا يقصد نفي الشعور بالامتنان والتفضل. لأنه غير قابل للإزالة ..

أو لأنه ليس من حقه رفضه وردّه ، إذ لا بد أن يكون الإنسان شكورا ، لأن ذلك من مكونات شخصيته الإنسانية ، التي لا بد من تأكيد وجودها في شخصيته المتوازنة في مزاياها ، فلا يصح أن تطلب من الإنسان أن لا يكون شكورا ، لأن ذلك يستبطن الطلب منه أن لا تكون لديه مشاعر إنسانية نبيلة ، وهو نهي عن التحلي بالفضائل الأخلاقية.

والنهي عن مثل هذا وإزالته من نفس الطرف الآخر معناه إحداث

٢٥٠

خلل إنساني وأخلاقي لديه ..

فاتضح : أنه إنما يصح أن يقال : لا نريد بعض أصناف أو أفراد الشكور ، أي لا نريد الأصناف والأفراد القابلة للنفي ، والتي لا يستلزم نفيها إساءة للأخلاق وللإنسانية.

ولا يصح نفي إرادة طبيعة الشكر فيه ، من حيث هي إرادة للطبيعة ، لأن نفيها يستلزم نفي بعض الأفراد والأصناف التي يكون التعرض لها بالنفي مباشرة أو بالواسطة يمثل اساءة للأخلاق وللإنسانية ، لأنها تختزن في داخلها قيمة لا بد من حفظها.

* * *

٢٥١
٢٥٢

الفصل العاشر :

(إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً)

٢٥٣
٢٥٤

قال تعالى :

(إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً.)

«إِنَّا نَخافُ» :

وتأتي كلمة «إنّا» لتوكيد وجود الخوف لدى هؤلاء الصفوة من يوم بعينه. وقد زادوا في تأكيد ذلك حين ذكروا مبررات هذا الخوف ، وهو أنه يوم عبوس قمطرير ، كما سيأتي ..

وقد يقال : إنه لا مبرر للخوف من ذلك اليوم .. فقد قال تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١) ..

ويمكن أن يجاب :

أولا : بأن خوفهم هذا في الدنيا هو الذي جعلهم يأمنون في الآخرة.

ثانيا : إن المراد بالخوف ، الاحتياط والحذر ، وإعداد العدة لمواجهة أخطار ذلك اليوم بما يناسبها.

ومن مفردات وسائل الوقاية : إطعام اليتيم ، والأسير ، والمسكين .. إذ فرق بين خوف إنسان من الغرق حين يلقى في البحر ، وهو لا يعرف السباحة ، ولا يملك ما يعينه على التخلص .. وبين خوف إنسان يعرف السباحة ، وقد أعد العدة لمواجهة أي احتمال. فيقال : إنه قد أعد العدة ،

__________________

(١) سورة يونس الآية ٦٢.

٢٥٥

لأنه يخاف من البحر ..

«نخاف يوما .. و.. نخاف من ربنا» :

ويلاحظ هنا : أنه قد قال في سياق الآيات السابقة : (يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ..)

لكنه قال في هذه الآية : (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً ..)

فكان الخوف هناك من نفس اليوم .. والخوف هنا من الرب ، فما الفرق؟!

ولماذا قال : (مِنْ رَبِّنا). ولم يقل : من «إلهنا». أو من «الله»؟.

ولماذا قال : (نَخافُ مِنْ رَبِّنا). ولم يقل : «نخاف ربنا»؟.

ويمكن أن يقال في الجواب عن هذه الأسئلة :

ألف : بالنسبة إلى قوله : (يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ..)

نقول : إن الله سبحانه حين كان يتحدث عن الأبرار ، قال : «يخافون» ، أما هنا فإنهم هم الذين يخبرون عن أنفسهم ، ويقولون : (نَخافُ مِنْ رَبِّنا). فهم يشيرون إلى ربوبيته تعالى لهم ، تعبيرا عن وعيهم للحقائق ، وعميق معرفتهم بها. وعن المحبة له تعالى ، وصدق الإيمان به ، وطلب رعايته وألطافه ، ليتكاملوا بها ..

كما أن جهرهم بذلك سوف يعرف الناس بدرجة اليقين التي وصلوا إليها ، حتى كأنهم يرون ذلك اليوم وكأن العبوس فيه ظاهر لهم ، يرونه كما يرى الإنسان وجه جليسه .. كما قال الإمام علي [عليه‌السلام] : «لو

٢٥٦

كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا» (١).

لقد كان لا بد لهم أن يلهجوا بذكر الله ، وأن يدلّوا عليه ، وعلى رعايته ، وحبه ، وحكمته ، وتدبيره ، وعنايته ، وإشرافه ، ومراقبته ، وتوجيهه ، وتسديده لهم على صراط تكاملهم في إنسانيتهم وأخلاقهم.

إن الله ليس هو منشأ خوفهم من حيث هو ربّ ، بل منشأ الخوف هو نفس اليوم المرتبط بالله سبحانه ، من جهة أنه سبحانه هو الجاعل لذلك اليوم ، والمعد له. والمقرر والحاكم بالعذاب والثواب فيه ..

وإنما جعل الله سبحانه ذلك اليوم ، بهذه المواصفات من حيث هو ربّ ، حافظ ، ومدبر ، وعطوف ، ورؤف ، ورحيم ، وحكيم ، وعادل ، وفق ما تقتضيه حكمة الخلق ، والتكليف ، والأمر ، والنهي .. فحكمة الله ورحمته ، وعدله ، وعلمه ، وتدبيره ، قد اقتضت وجود هذا اليوم ، وذلك رحمة بالبشر ، وحفظا للحياة ، وضبطا لحركتها ، وإذكاء للطموح فيها ..

ب : ونجيب على السؤال الثاني ، فنقول :

قد اتضح أن هذا اليوم هو من قبل ربنا ، لكن لا من حيث إنه يريد الانتقام منا ، وإنما هو من موقع ربوبيته لنا ، وحبه ، وتدبيره ، واهتمامه بحفظنا ، ولأنه يريد لنا أن ننمو ونتكامل ، وأن ننال الخيرات كلها ، ونصل إلى منازل الكرامة ، وأن يبعد عنا الشرور والأسواء ، ويمنع من فساد الحياة. وذلك كله يوضح لنا السبب في أنه اختار كلمة «ربّنا» دون كلمة : «إلهنا».

__________________

(١) منتهى المطلب للعلامة الحلي (الطبعة الجديدة ، مجمع البحوث الإسلامية ـ ايران ـ مشهد) ج ٣ ص ٤٤ ومناقب ابن شهرآشوب ج ١ ص ٣١٧ ومستدرك سفينة البحار ج ٥ ص ١٦٣.

٢٥٧

فالربّ إذن قد جعل نظام الحياة بحيث ينشأ عن الأعمال في الدنيا عقوبة ومثوبة ، يجدهما الإنسان في مستقبل حياته ، ولا يمكنه أن يتجاوز تلك العقوبة ، أو أن يتخلص منها إلا بتصحيح مساره بالتوبة ، وبالعمل الصالح. لأن المحاسب والمراقب هو علام الغيوب ، وأقرب إليه من حبل الوريد. وهذا من أهم أسباب ضبط حركة الإنسان ، وسوقه نحو تصحيح سلوكه ..

ج : ونجيب على السؤال الثالث : أنه تعالى قال : (نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً ..) ولم يقتصر على قوله : (نَخافُ مِنْ رَبِّنا) ، ليشير إلى أن هذا النظام الذي جعله الله لنا لنتكامل به ومعه ، ولينقلنا من حسن إلى أحسن ، وليحمينا من الانحراف ـ إن هذا النظام هو الذي يختزن في داخله هذا اليوم العبوس ، لأن ذلك هو الذي يجعل النظام فاعلا ومؤثرا ، ومربيا فعلا.

والخلاصة :

إنه لم يقل : «من إلهنا» ، لأنه يريد أن يشير إلى الربوبية ، فهم لا يخافون من الله من حيث كونه إلها ، فردا ، صمدا .. إلخ .. وإنما يخافون الألوهية من جهة ما تقتضيه من أفعال ربوبية ، فيها تدبير وحكمة ، وجعل نظام ، فيه مثوبة وعقوبة.

فاليوم الآتي من جهة الربوبية ـ بحسب ما تقتضيه من تدبير لأمرهم وإصلاح لشأنهم ـ هو الذي يخافونه ..

«إِنَّا نَخافُ ..» هل هي تعليل؟!

قد يقال : إن قوله تعالى : (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً) تعليل لقوله تعالى : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) ، كأنه قال : لما ذا جعلتم غاية الإطعام هي وجه الله؟! فجاء الجواب : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ إِنَّا نَخافُ ..) إلخ ..

٢٥٨

وقد يقال : هي تعليل لقوله : (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً ..) أي أن السبب في أننا لا نريد جزاء ، هو أنا نخاف ذلك اليوم العبوس.

وقد يقال : إنها جملة مستقلة ، ليس فيها تعليل ، لا لهذه الفقرة ، ولا لتلك. بل هي تقول : هناك أمران :

أحدهما : الداعي ، والمحرك ..

والآخر : الهدف.

ونوضح ذلك بأن نقول : إن لدينا شعورا إنسانيا .. هو الإحساس بحاجة اليتيم .. وقد دفعنا هذا الشعور إلى الإطعام ، وقد جعلنا له هدفا هو الحصول على رضا الله سبحانه .. لأن الصفات الإنسانية ، كالكرم والشجاعة وغيرها .. إنما تكون فضيلة بملاحظة هذين الأمرين .. وهما الداعي والهدف .. فإذا فقدتهما ، فإن وجد ضدهما ، أصبحت رذيلة .. وإن لم يوجد ذلك الضد ، فإنها لا تكون فضيلة ولا رذيلة ..

فإذا كان الداعي والمحرك لإعطاء المال مثلا ، هو الشعور بحاجة الآخرين ، والتألم لهم .. ثم يجعل هدفه وهمه وجهده ، هو رضا الله ، والوصول إليه سبحانه ، وتكون وسيلته إليه هو هذا الإطعام مثلا ـ فإن ذلك يكون فضيلة بلا ريب ، حيث قد اجتمع فيه نبل الداعي مع جلال الغاية ..

وأما إن كان المحرك للإعطاء هو الحقد والاستدراج ، وكان الهدف مثلا هو إذلال الآخرين أو استعبادهم ، أو إيقاعهم في فخ منصوب لهم. فالفعل يكون رذيلة ، وأي رذيلة ..

وثمة صورة أخرى ، هي أن يعطي الإنسان طعامه ، لأنه قد صرف النظر عنه لعدم حاجته إليه .. أو يكون هدفه هو التخلص من ثقله ، أو من نفقة حمله. أو يبدله لمجرد الحصول على ثمنه ، فلا يكون الإطعام في

٢٥٩

مثل هذا الحال ، فضيلة ولا رذيلة.

وأما إن كان المحرك للإعطاء ، هو الحس الإنساني ، كالشعور بآلام الآخرين ، من دون أن يربط ذلك بالله سبحانه ، فإنه يستحق المدح الدنيوي ، بمعنى مدح كماله في صفاته البشرية ، ويكون عمله استجابة لهذا الكمال ، ولكنه لا يستحق ثوابا في الآخرة ، لأنه قد بقي بلا هدف ، وبدون امتداد ، فلا يوجد في ذلك العمل أية خصوصية من شأنها أن تصله بالباقي ، والدائم تبارك وتعالى ..

وفي جميع الأحوال نقول :

إن الإسلام قد اهتم بتوجيه الإنسان نحو الأسمى ، والأنمى ، والأبقى ، والأزكى ، في مسيرة التكافل الإنساني. ولكنه جعل لصلة الرحم وجهة عبادية وإلهية ، ومنطلقا إنسانيا ، واعتمدها كوسيلة بناء ، بدلا من أن تكون منطلقة من العصبية العمياء ، وجعل للعطاء والإطعام ، وجهة عبادية ، ووجهة إصلاحية ، ودوافع إنسانية ، تجعله أكثر ملاءمة ، وتأثيرا إيجابيا في المسيرة السليمة لحياة الإنسان ، بدلا من أن يكون البذل بهدف التسلط ، والإذلال ، والإفساد.

وهذا الخوف من الله ، إشفاقا من ذلك اليوم ، وحذرا منه ، هو بمثابة صمام أمان ، يجعل الإنسان مهتما بضبط حركته ، ومراقبتها ، للاطمئنان إلى أنها في الصراط المستقيم ، فهو يراقب الله ، من موقع إدراكه لربوبيته التي هي تعني الإدراك لحكمته ، ومحبته ، ورعايته ، وعلمه ، ورحمته ، ولطفه.

والأبرار إنما يريدون أن يتكاملوا في ظل هذه الرعاية الإلهية ، والتربية الربانية.

كما أن قول الأبرار : «لوجه الله» قد جاء ليضبط حركة الإطعام ،

٢٦٠