تفسير كتاب الله العزيز - ج ٢

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٢

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٣

وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) (١٣٦).

وقال بعضهم في قوله : (ولقد اخذناءال فرعون بالسّنين ونقص مّن الثّمرات) قال : جهدهم الله بالجوع عاما فعاما. وفي قوله : (فأرسلنا عليهم الطّوفان والجراد والقمّل والضّفادع والدّم ...) إلى آخر الآية : أمّا الطوفان فالماء أرسله الله عليهم حتّى قاموا فيه قياما. فدعوا موسى ، فدعا ربّه ، فكشفه عنهم ، ثمّ عادوا لسوء ما يخطر لهم ؛ فأرسل الله عليهم الجراد ، فأكل عامّة حروثهم. فدعا موسى ربّه ، فكشفه عنهم. ثمّ عادوا لسوء ما يخطر لهم. فأرسل الله عليهم القمّل ، وهو الدبى ، فأكل ما أبقى الجراد من حروثهم ولحسه. فدعوا موسى فدعا ربّه ، فكشفه عنهم. ثمّ عادوا لسوء ما يخطر لهم ، فأرسل عليهم الضفادع حتّى ملأت فرشهم وأفنيتهم ، فدعوا موسى ، فدعا ربّه ، فكشف عنهم ، ثمّ عادوا لسوء ما يخطر لهم ، فأرسل عليهم الدم فجعلوا لا يغترفون إلّا دما أحمر ، حتّى لقد ذكر لنا أنّ فرعون جمع رجلين أحدهما إسرائيليّ والآخر قبطيّ على إناء واحد ، فكان الذي يلي الإسرائيليّ ماء ، والذي يلي القبطيّ دما. فدعوا موسى فدعا ربّه فكشفه عنهم.

قال الله : (فاستكبروا) أي : عن عبادة الله ، (وكانوا قوما مّجرمين) وهذا جرم شرك ، وهو جرم فوق جرم وجرم دون جرم. قوله : (ولمّا وقع عليهم الرّجز) أي العذاب ، في تفسير مجاهد والعامّة. قوله : (فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليمّ بأنّهم كذّبوا باياتنا وكانوا عنها غافلين) : أي تاركين لها معرضين عنها.

قوله : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) : وهم بنو إسرائيل (مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها) : قال الحسن وغيره : أرض الشام. وقال الكلبيّ : مقدس فلسطين والأردن. وإنّما سكنها أبناء من كان مع موسى ، لم يبق منهم يومئذ إلّا يوشع بن نون معه ، دخل أبناؤهم.

قوله : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى) : يعني ظهور قوم موسى على فرعون (١) في

__________________

(١) أثبتّ هذا من مخطوطة ز ، ورقة ١٠٩ ، وهو الصواب. وفي المخطوطات الأربع الأخرى : «(وتمّت كلمة ـ

٤١

تفسير مجاهد (عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا) : أي على دين الله.

قوله : (وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) (١٣٧) قال بعضهم : وما كانوا يبنون. وقال مجاهد : وما كانوا يبنون [من البيوت والمساكن ما بلغت] (١) ، قال : وكان عنبهم غير معروش.

قوله : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٣٩) : قال بعضهم : إنّ هؤلاء مفسد ما هم فيه. قال بعضهم : بلغنا أنّها نزلت بالسريانيّة (٢).

قال الحسن : لمّا قطعوا البحر خرجوا إلى أرض بيضاء ليس معهم فيها طعام ولا شراب ولا بناء. فظلّل الله عليهم الغمام وأنزل الله عليهم المنّ والسلوى. وقال بعضهم : فعل ذلك بهم في تيههم.

قال الحسن : فبينما هم كذلك نجّاهم الله من البحر ومن آل فرعون ، وأغرق فرعون

__________________

ـ ربّك الحسنى) أي : وعد ربّك بالجنّة». وهذا غير مرتضى ، ولعلّه سهو من النسّاخ ، اللهمّ إلّا أن يكون التقدير ، وعد ربّك بالجنّة إذا اتّبعوا موسى وأطاعوه عند ما ينبّأ ويرسل إليهم ، وهذا تأويل ظاهر بعده وتكلّفه. والصحيح ما ذهب إليه جمهور المفسّرين من أنّ قوله : (وتمّت كلمة ربّك الحسنى) يعني وفاء الله بوعده لبني إسرائيل أن ينجيهم من قهر فرعون ويمكّن لهم في الأرض. وكلمة الله الحسنى هي قوله في سورة القصص : ٥ ـ ٦ : (ونريد أن نّمنّ على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم ، أيمّة ونجعلهم الوارثين ونمكّن لهم في الارض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم مّا كانوا يحذرون) [القصص : ٥ ـ ٦]. وانظر تفسير الطبري ، ج ١٣ ص ٧٧ ـ ٧٨.

(١) زيادة من تفسير مجاهد ، ص ٢٤٥.

(٢) كذا في المخطوطات : «بلغنا أنّها نزلت بالسريانيّة» ولم أفهم ما يعنيه المؤلّف بهذه الجملة ، فإن كان يعني أنّ هذا الحوار الذي جرى بين موسى وقومه كان بالسريانيّة فنعم ، لأنّ الله يقول : (وما أرسلنا من رّسول الّا بلسان قومه ليبيّن لهم). وإن كان يعني شيئا آخر قيل له : إنّ كلّ ما ورد في القران إنّما أنزل بلسان عربيّ مبين.

٤٢

وقومه ، وأنزل عليهم المنّ والسلوى وظلّل عليهم الغمام. وفيهم نبيّهم ، وحجرهم معهم ، فيه آية عظيمة ، إذا استسقوا ضربه موسى بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، لكلّ سبط عين ، قد علم كلّ أناس مشربهم ، لا يخالط بعضهم بعضا ، إذ أتوا على قوم عندهم أوثان يعكفون على أصنام لهم ، (قالوا يا موسى اجعل لّنا إلها كما لهم ، ءالهة) فارتدّوا كفّارا.

قوله : (قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) (١٤٠) : يعني عالمي زمانهم ، ولكلّ زمان عالم.

قوله : (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) : قال الحسن : يذيقونكم سوء العذاب. (يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) : أي فلا يقتلونهنّ (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (١٤١) : أي نعمة عظيمة من ربّكم إذ نجّاكم منهم (١). قوله : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) : الثلاثون : ذو القعدة ، وعشر من ذي الحجّة.

قال الكلبيّ : إنّ موسى لمّا قطع البحر ببني إسرائيل ، وأغرق الله آل فرعون قالت بنو إسرائيل لموسى : يا موسى ، إيتنا بكتاب من عند ربّنا كما وعدتنا وزعمت أنّك تأتينا به إلى شهر. فاختار موسى من قومه سبعين رجلا لينطلقوا معه ، فلمّا تجهّزوا قال الله لموسى : أخبر قومك أنّك لن تأتيهم أربعين ليلة ، وذلك حين أتمّت بعشر. وقال الحسن : كانت أربعين من أوّل ؛ يقول : وواعدنا موسى ثلاثين ليلة ، وبعدها عشر ، مثل قوله : (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) [البقرة : ١٩٦].

قال الكلبيّ : فلمّا خرج موسى بالسبعين ، أمرهم أن ينتظروه في أسفل الجبل. وصعد موسى عليه‌السلام الجبل ؛ فكلّمه الله أربعين يوما وأربعين ليلة وكتب له فيها بالألواح. ثمّ إنّ بني إسرائيل عدّوا عشرين يوما وعشرين ليلة فقالوا : قد أخلفنا موسى الوعد. وجعل لهم السامريّ العجل ، فقال : (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى) [طه : ٨٨] فعبدوه. وقد فسّرنا

__________________

(١) انظر ما سلف من هذا التفسير ، ج ١ ، تفسير الآية ٤٩ من سورة البقرة.

٤٣

ذلك في سورة البقرة (١).

قوله : (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (١٤٢) : هذا حيث انطلق موسى للميعاد.

قوله : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) : قال الحسن : لمّا كلّمه ربّه دخل قلب موسى من السرور من كلام الله ما لم يصل إلى قلبه مثله قطّ. فدعت موسى نفسه إلى أن يسال ربّه أن يريه نفسه. ولو كان فيما عهد إليه قبل ذلك أنّه لا يرى لم يسأل ربّه ما يعلم أنّه لا يعطيه إيّاه.

(قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) : أي إنّ الجبل لا يستقرّ مكانه ، وكذلك لا تراني لأنّي لا تدركني الأبصار وأنا أدرك الأبصار.

(فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) : يعني أنّه أبدى بعض آياته للجبل فجعله دكّا ، وخرّ موسى صعقا. قوله : (جعله دكّا) قال بعضهم : جعل بعضه على بعض (٢). وبعضهم يقرأها : (دكّاء) ممدودة. وسمعت بعضهم يقول : إنّ الدكّاء الأرض المستوية.

قال : (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) : غشيته الصاعقة. (فَلَمَّا أَفاقَ) : قال بعضهم : فلمّا ردّ الله إليه نفسه (٣). وقال بعضهم : فلمّا أفاق من غشيته ، أي أنّه غشي عليه. وكانت صعقة موسى أن غشي عليه ، ولم تكن صعقة موت ، ألا تراه يقول : (فلمّا أفاق) ، أي من غشيته ، والإفاقة لا تكون من الموت. وكان دلّ على صعقته أنّها صعقة موت ؛ دلّ على ذلك قوله : (وإذ قلتم يا موسى لن نّومن لك حتّى نرى الله جهرة) قال : (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ

__________________

(١) انظر ما سلف من هذا التفسير ، ج ١ ، تفسير الآية ٥٤ من سورة البقرة.

(٢) كذا في المخطوطات ، وفي ز ورقة ١١٠ : «فعفر الجبل بعضه على بعض».

(٣) كذا في المخطوطات ، وفي ز : «فلمّا ردّ الله إليه حياته». ويبدو من ملاحظة محمّد ابن أبي زمنين أنّ المؤلّف ذهب إلى أنّ الصعق هنا هو الموت ، وفي التعليق التالي بيان ذلك.

٤٤

تَنْظُرُونَ) (٥٥) قال : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٥٦) (١) [البقرة : ٥٦].

قال : (فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ) : ينزه الله (تُبْتُ إِلَيْكَ) : أي ممّا تقدّمت بين يديك من المسألة (٢). (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (١٤٣) : قال مجاهد : وأنا أوّل قومي إيمانا. وقال بعضهم : وأنا أوّل المؤمنين بأنّك لا ترى ، وهو أيضا أوّل قومه إيمانا بهذا ، وقد آمن الناس قبله (٣). قوله : (قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ) : أي اخترتك (عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ) : أي ما أعطيتك (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (١٤٤) : أي لأنعمي عليك.

قوله : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) : قال الحسن : تفصيلا من الحلال والحرام والأحكام والهدى والضلالة. وقال مجاهد : ما أمروا به وما نهوا عنه ، وهو واحد.

قال : (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) : أي بجدّ. قال بعض العلماء : إنّ الله يحبّ أن يؤخذ أمره بقوّة ، والقوّة : الجدّ. (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) : وأحسنها أن يأخذوا بما أمرهم الله به وأن ينتهوا عمّا نهاهم الله عنه.

__________________

(١) كأنّ في عبارة المؤلّف شيئا من التكرار والتعقيد ، ولكنّ المعنى واضح كلّ الوضوح ؛ فهو يريد أن يبيّن أنّ من الصعق ما يكون موتا ، ومنه ما يكون غشية كالإغماء. فصعق موسى عند ما اندكّ الجبل صعق غشية ، وصعق قومه عند ما طلبوا رؤية الله جهرة صعق موت ، لأنّ الله ذكر عنهم أنّه بعثهم من بعد موتهم حين أخذتهم الصاعقة. وفي هذا من بديع الأسلوب القرآنيّ ودقّة تعبيره ما يدلّ على إعجازه ، فتأمّله فإنّه نفيس. وتأمّل كيف نسب الفعل في موسى إليه نفسه فقال الله : (فلمّا أفاق). أمّا قوم موسى فإنّ الله هو الذي بعثهم ونسب الفعل إلى ذاته العليّة فقال : (ثمّ بعثناكم مّن بعد موتكم). وتلك هي بلاغة النصّ القرآنيّ. وصدق من قال : ما فسّر القرآن مثل القرآن.

(٢) كذا في المخطوطات الأربع ، وفي ز ، ورقة ١١٠ : «أي من قولي : أنظر إليك».

(٣) جاء في مسند الربيع بن حبيب ، ج ٣ ص ٢٤٧ ، (رقم ٨٧٠) ما يلي في تفسير الآية (سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ) : أي من مسألتي أنّي أنظر إليك (وأنا أوّل المؤمنين) المصدّقين بأنّك لا يراك أحد. وقال مجاهد مثل ذلك. وقال الحسن : لن تراني ولا ينبغي لبشر أن يراني. قال الربيع بن حبيب : لن حرف من حروف الإيّاس عند النحويّين وأهل اللغة ، أي لن يراه أحد في الدنيا ولا في الآخرة».

٤٥

(سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) (١٤٥) : يعني دار فرعون وقومه ، يريد مصر ، يعني منازلهم في الدنيا في تفسير بعضهم (١). قال : فأراهم الله إيّاها. كقوله : (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) (٥٩) [الشعراء : ٥٩]. وقال مجاهد : (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) (١٤٥) أي مصيرهم في الآخرة.

قوله : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) : قال الحسن : سأصرفهم عنها بفعلهم حتّى لا يؤمنوا بها. قال : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) : يخبر بعلمه فيهم. (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) : أخبر أنّهم لا يؤمنون أبدا.

ثمّ أخبر لم ذلك وبم هو ، فقال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) (١٤٦) : أي معرضين جاحدين.

قوله : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) : أي حسناتهم في الآخرة ، أي استوفوها في الدنيا (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٤٧) : كقوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) (١٥) أي لا ينقصون (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٦) [هود : ١٥ ـ ١٦].

قوله : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ) : أي من بعد موسى حين ذهب للميعاد. (مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) : قال بعضهم : جعل يخور خوار البقرة. وقال مجاهد : خوار فيه الريح.

وقال الحسن : إنّ موسى عليه‌السلام لمّا مضى للميعاد عمد السامريّ فألقى ما كان معه من الحليّ ، وألقى بنو إسرائيل ما كان معهم من الحليّ أيضا. وكانت معهم تلك الحليّ

__________________

(١) هذا قول يحيى بن سلّام. وقد أشار الطبريّ إلى هذا القول ولكنّه لم يذكر قائله لوجود بياض في الأصل.

انظر : تفسير الطبري ، ج ١٣ ص ١١١. وانظر : علوم الحديث لابن الصلاح ، وتعليق المحقّق الدكتور نور الدين عتر ، ص ٢٥٤. ونسب ابن الجوزيّ في زاد المسير ، ج ٣ ص ٢٦٠ هنا القول إلى عطيّة العوفي.

٤٦

عواري استعاروها من آل فرعون ليوم الزينة ، يوم العيد الذي وعدهم موسى حيث يقول : (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) [طه : ٥٩]. وهو قول بني إسرائيل : (حُمِّلْنا أَوْزاراً) : أي : آثاما (مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ) (٨٧) [طه : ٨٧] أي ما معه كما ألقينا ما معنا. وكان الله أمر موسى أن يسير بهم ليلا ، فكره القوم أن يردّوا العواري على آل فرعون ، فيفطن بهم آل فرعون ، فساروا من الليل والعواري معهم. فعمد السامريّ فصاغ عجلا من ذلك الحليّ ؛ قال : وكان صائغا (١). قال : وقد كان أخذ ترابا من أثر فرس جبريل يوم قطعوا البحر فكان معه ، فقذف ذلك التراب في ذلك العجل ، فتحوّل لحما ودما له خوار للبلا (٢). (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) (٨٨) [طه : ٨٨] أي ولكن نسي موسى إلهه فأضلّه فذهب في طلبه ، وهو عندكم. قال الله : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ) : يعني العجل (وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) : أي طريقا. (اتَّخَذُوهُ) : إلها (وَكانُوا ظالِمِينَ) (١٤٨) : لأنفسهم باتّخاذهم إيّاه.

قوله : (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) : [أي ندموا] (٣) (وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا) : أي : لئن لم يفعل ذلك بنا (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (١٤٩) : وهي تقرأ على وجه آخر : (لئن لّم ترحمنا ربّنا) أي لئن لم ترحمنا يا ربّنا ، صراخ منسوب ، (لنكوننّ من الخاسرين). قالوا ذلك لمّا صنع موسى بالعجل ما صنع ، فطلبوا التوبة ، فأبى الله أن يقبل منهم إلّا أن يقتلوا أنفسهم ، فغلّظ عليهم في المتاب. وهو قوله : (وَإِذْ

__________________

(١) كذا في ق وع وج : «وكان صائغا» ، وفي د : «وما كان صائغا». ولم أجد فيما بين يديّ من المصادر من أشار إلى هذا حتّى أثبت كونه صائغا أو أنفيه.

(٢) كذا وردت هذه الكلمة : «للبلا» ، منقوطة أحيانا وغير منقوطة في المخطوطات ، ولم أهتد لمعناها.

(٣) زيادة من ز ، ورقة ١١٠. وقال الطبريّ في تفسيره ، ج ١٣ ص ١١٨ : «وكذلك تقول العرب لكلّ نادم على أمر فات منه أو سلف ، وعاجز عن شيء : «قد سقط في يديه» و «أسقط» لغتان فصيحتان. وأصله من الاستئسار. وذلك أن يضرب الرجل الرجل أو يصرعه. فيرمي به من يديه إلى الأرض ليأسره ، فيكتفه ، فالمرميّ به مسقوط في يدي الساقط به. فقيل لكلّ عاجز عن شيء ، وضارع لعجزه ، متندّم على ما قاله : «سقط في يديه» و «أسقط»».

٤٧

قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ ، أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ) أي إلى خالقكم (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ...) إلى آخر الآية. [البقرة : ٥٤].

قوله : (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) : أي حزينا (١). وقال بعضهم : الأسف شدّة الغضب (قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (١٥٠) : قال مجاهد : مع أصحاب العجل.

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ) : يعي الجنّة (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (١٥١).

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) : يعني بالذلّة الجزية. (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) (١٥٢) : أي لعبادتهم العجل. افتروا على الله إذ زعموا أنّ العجل إلههم.

قوله : (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها) : أي من بعد تلك السيّئات (وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٥٣).

قوله : (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) : أي سكن (أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها) : يعني الكتاب الذي نسخت منه التوراة (هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) (١٥٤) : والرهب الخوف. وقال بعضهم : (وَفِي نُسْخَتِها هُدىً) قال : إنّ موسى لمّا أخذ الألواح قال : يا ربّ ، إنّي أجد في الألواح أمّة خير أمّة أخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف ،

__________________

(١) هذا قول ابن عبّاس والسدّيّ والحسن في تفسير أسفا. كما جاء في الطبريّ ، ج ١٣ ص ١٢١ ، وفيه عن ابن عبّاس : «وقال في الزخرف [آية : ٥٥] (فَلَمَّا آسَفُونا) يقول : أغضبونا. والأسف على وجهين : الغضب والحزن». وقال الطبري قبل ذلك في ص ١٢٠ : «والأسف شدّة الغضب». وروى بسند عن أبي الدرداء قال : «قول الله : (غَضْبانَ أَسِفاً) قال : «الأسف منزلة وراء الغضب».

٤٨

وينهون عن المنكر ، ويسارعون في طاعة الله ، ربّ فاجعلهم من أمّتي. قال : تلك أمّة أحمد. قال : ربّ أنّي أجد في الألواح أمّة هم الآخرون والسابقون يوم القيامة ، أي الآخرون والسابقون في دخول الجنّة ، فاجعلهم أمّتي. قال : تلك أمّة أحمد. قال : ربّ إنّي أجد في الألواح أمّة أناجيلهم في صدورهم يقرأونها ، وأجد قوما يقرأون كتابهم نظرا ، إذا رفعوه لم يحفظوا منه شيئا ولم يعوه ؛ فإنّ الله أعطى هذه الأمّة من الحفظ شيئا لم يعطه أحدا من الآدميّين ، قال : ربّ اجعلهم أمّتي. قال : تلك أمّة أحمد. قال : ربّ إنّي أجد في الألواح أمّة يؤمنون بالكتاب الأوّل وبالكتاب الآخر ، ويقتلون فضول الضلالة حتّى يقاتلوا الأعور الكذّاب ، ربّ فاجعلهم أمّتي ، قال : تلك أمّة أحمد. قال : ربّ إنّي أجد في الألواح أمّة يأكلون صدقاتهم في بطونهم ويؤجرون عليها ، وإنّ الله أخذ صدقاتكم من غنيّكم لفقيركم ، وكان من قبلكم إذا تصدق أحدهم بصدقة أنزلت عليها نار من السماء فأكلتها ، فاجعلها اللهمّ أمّتي. قال : تلك أمّة أحمد. [قال : ربّ إنّي أجد في الألواح أمّة إذا همّ أحدهم بحسنة ثمّ لم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشر أمثالها إلى سبعمائة ، ربّ اجعلهم أمّتي. قال : تلك أمّة أحمد] (١). قال : ربّ إنّي أجد في الألواح أمّة إذا همّ أحدهم بسيّئة لم تكتب عليه ، وإن عملها كتبت عليه سيّئة واحدة ، ربّ فاجعلهم أمّتي. قال : تلك أمّة أحمد.

وذكر لنا أنّه نبذ الألواح ، وقال : ربّ اجعلني من أمّة أحمد. فأعطى اثنتين لم يعطوهما. قال : (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) فرضي. ثمّ أعطي الثانية : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (١٥٩) [الأعراف : ١٥٩] فرضي موسى كلّ الرضى.

قوله : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) : أي بليّتك (تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) : أي تأمر وتنهى ، لا يكون

__________________

(١) زيادة من تفسير الطبري ، ج ١٣ ص ١٢٣ ، رأيت من المناسب إثباتها هنا ، وكأنّي بها سقطت من الناسخ الأوّل ، وقد جاءت هذه الرواية في تفسير الطبري أتمّ وأوفى مع بعض اختلاف في ألفاظها ، وجاءت فيه منسوبة إلى قتادة.

٤٩

أحد ضالّا ولا مهتديا إلّا بعد الأمر والنهي ، فمن فعل ما أمر به كان مهتديا ، ومن فعل ما نهي عنه كان ضالّا. (أَنْتَ وَلِيُّنا) : في المنّ والتوفيق والعصمة (فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) (١٥٥).

قال الكلبيّ : إنّ السبعين قالوا لموسى عليه‌السلام حين كلّمه ربّه : يا موسى ، إنّ لنا عليك حقّا ؛ كنّا أصحابك ، لم نختلف ولم نصنع الذي صنع قومنا ، فأرنا الله جهرة كما رأيته. فقال موسى : لا والله ما رأيته. [ولقد أردته على ذلك فأبى] (١) ، ولا يرى. ولقد أبدى الله بعض آياته للجبل فكان دكّا ، وهو أشدّ منّي ، وخررت صعقا ، فلمّا أفقت سألت الله تعالى واعترفت بالخطيئة التي كانت منّي إذ تقدّمت بين يدي الله. فقالوا : فإنّا لن نؤمن لك حتّى نرى الله جهرة. فأخذتهم الصاعقة فاحترقوا عن آخرهم. فظنّ موسى أنّهم إنّما احترقوا بخطيئة أصحاب العجل. فقال لربّه : (رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) ، يعني أصحاب العجل ، (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ ...) إلى آخر الآية. ثمّ بعثهم الله من بعد موتهم فقال : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٥٦) [البقرة : ٥٦]. وقد فسّرنا ذلك في سورة البقرة (٢).

قال بعضهم : ذكر لنا أنّ ابن عبّاس قال : إنّما تناولت الرجفة السبعين لأنّهم لم يزايلوا القوم حين نصبوا العجل ، وقد كرهوا أن يجامعوهم عليه. وذكر لنا أنّ أولئك السبعين كانوا يلبسون الثياب الطاهرة ثمّ يبرزون صبيحة (٣) شاتية إلى البرّيّة فيدعون الله فيها ، فو الله ما سأل القوم يومئذ شيئا إلّا أعطاه الله هذه الأمّة.

ذكر بعضهم في قول الله : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) [القصص : ٤٦] قال : نودي بأمّة محمّد : أجبتكم قبل أن تدعوني ، وأعطيتكم قبل أن تسألوني.

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ١١١.

(٢) انظر ما سلف ، ج ١ ، تفسير الآية ٥٤ من سورة البقرة.

(٣) كذا في المخطوطات ق وع ود : «ثمّ يبرزون صبيحة شاتية». لعل صوابها : «في الصبيحة الشاتية».

٥٠

قوله : (وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) : قال مجاهد : إنّا تبنا إليك. (قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) : يعنى النار.

قال : (وَرَحْمَتِي) : يعني الجنّة (وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) : يعني أهلها. وهذا الحرف من خفيّ القرآن.

قال بعضهم : لمّا نزلت هذه الآية تطاول لها إبليس والأبالسة وقالوا : إنّا من ذلك الشيء ، وطمع فيها أهل الكتابين والمنافقون ، فقال الله : (فَسَأَكْتُبُها) : أي فسأجعلها (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) : قال بعضهم : يتّقون الشرك. وقال بعضهم ... (١) (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) : قال بعضهم : الزكاة في هذا الموضع التوحيد ، كقوله : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [فصّلت : ٦ ـ ٧] أي لا يوحّدون الله ولا يقرّون به. (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) (١٥٦) : أي يصدّقون.

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) : يعني أهل الكتاب. (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) : أي ما يعرف العباد عدله (وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) : أي ما ينكر العباد عدله. (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ) : أي الحلال منه والشحوم وكلّ ذي ظفر (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) : أي الحرام (٢) (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) : وهي تقرأ على وجهين : (إصرهم) و (آصارهم) ؛ فمن قرأها (إصرهم) فيقول عهدهم ، ومن قرأها (آصارهم) فيعني عهودهم فيما كان حرّم عليهم ببغيهم ، أي بكفرهم. (وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) : يعني ما كان شدّد عليهم فيه ؛ فأمرهم الله أن يؤمنوا بمحمد عليه‌السلام ويتّبعوا ما جاء به.

وقال بعضهم في قوله : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) فقال إبليس : أنا من ذلك الشيء ،

__________________

(١) وردت هذه الجملة في ج ود ، وسقطت من ق وع ، وورد هذا البياض في ج ود بدون ذكر لما قاله بعضهم.

(٢) مثل الخنزير والربا ، كما ذكره بعض المفسّرين القدامى ، وحكم التحريم هذا يتناول كثيرا من أنواع الخبائث التي جدّت ، أفعالا كانت ، أو ماكل ومشارب ، ممّا تجرّه ويلات المدنيّة الفاجرة في هذا العصر.

٥١

فأنزل الله : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) ، ثمّ زاد في نعتهم ليبينهم الله ممّن سواهم فقال : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ...) إلى آخر الآية.

وقال : (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ) : [أي عظّموه] (١) (وَنَصَرُوهُ) : وهو كلام مثنى (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) : وهو القرآن ، فأحلّوا حلاله ، وحرّموا حرامه ، وعملوا بفرائضه ، وانتهوا عن زواجره (أُولئِكَ) : أي : الذين هذه صفتهم ، (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١٥٧) : أي : هم السعداء ؛ أولئك الذين جعلت رحمتي لهم ، فأيس منها إبليس وجميع جنوده ، وجميع الكفّار (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) (١٣) [الممتحنة : ١٣].

قوله : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) : ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بعثت إلى كلّ أحمر وأسود (٢). وفي تفسير عمرو عن الحسن قال : بعثت إلى الناس كافّة ، ولم يعط هذه المنزلة نبيّ قط ، قال : (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً).

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ) : وهي تقرأ على وجهين : (وكلماته) (وكلمته). وكان الحسن يقرأها : (وكلماته) قال : كلمات الله وحيه الذي أنزل على محمّد عليه‌السلام. ومن قرأها : (وكلمته) فهو يعني عيسى روح الله وكلمته. وقال بعضهم : (وكلماته) أي : وآياته. قال : (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٥٨) : أي لكي تهتدوا. ولعلّ من الله واجبة.

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة : ١١١.

(٢) أخرجه أحمد في مسنده عن ابن عبّاس مرفوعا بلفظ : «بعثت إلى الناس كافّة الأحمر والأسود». وأخرجه البخاريّ. وأخرجه مسلم في أوّل كتاب المساجد ومواضع الصلاة من حديث جابر بن عبد الله الأنصاريّ (٥٢١) وأوّله : «أعطيت خمسا لم يعطهنّ أحد قبلي ؛ كان كلّ نبيّ يبعث إلى قومه خاصّة ، وبعثت إلى كلّ أحمر وأسود».

٥٢

قوله : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ) : أي عصابة وجماعة. (يَهْدُونَ بِالْحَقِ) : أي يهتدون بالحقّ (وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (١٥٩) : به يحكمون. وقال بعضهم : يهدون بالحقّ أي : يدعون بالحقّ ، كقوله : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) [الأنبياء : ٧٣] أي يدعون بأمر الله. وقد فسّرناه في الآية الأولى. قال : فرضي موسى كلّ الرضا.

قوله : (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً) : يعني بني إسرائيل. (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) : قال بعضهم : كان موسى احتمل معه من الجبل ، جبل الطور ، حجرا ؛ فإذا نزلوا ضربه موسى فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، لكلّ سبط عين مستعذب ماؤها (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) : وذلك في تيههم.

قوله : (وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) : قال بعضهم : كان المنّ ينزل عليهم من السماء في محلّتهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، وكان أشدّ بياضا من الثلج وأحلى من العسل ، والسلوى السّمّان. وهو هذا الطائر الذي يقال له السّمان ، كانت تحشرها عليهم الجنوب. وقد فسّرنا أمرهم في سورة البقرة (١). وقال الحسن : السلوى السمّان.

قوله : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) : يعني المنّ والسلوى. وقال الحسن : هذا حين خرجوا من البحر ، أعطاهم الله ذلك لأنّهم خرجوا إلى أرض بيضاء ليس فيها نبات ولا بناء ، وليس معهم طعام ولا شراب. قال : (وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١٦٠).

قوله : (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) : قال بعضهم : بيت المقدس (وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ

__________________

(١) انظر ما سلف ، ج ١ ، تفسير الآية ٥٧ من سورة البقرة.

٥٣

الْمُحْسِنِينَ) (١٦١) : قد فسّرناه في سورة البقرة (١).

قال : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ) (١٦٢) : وقد فسّرناه في سورة البقرة (٢).

قوله : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) : ذكر بعضهم قال : ذكر لنا أنّها كانت قرية على ساحل البحر يقال لها أيلة (٣). فكان إذا كان السبت أقبلت الحيتان فتنبطح على سواحلهم وأفنيتهم لما بلغها من أمن (٤) الله في الماء. فإذا كان غير يوم السبت بعدت في الماء حتّى يطلبها طالبهم. فخدعهم الشيطان فقال : إنّما نهيتم عن أكله ولم تنهوا عن صيده. فاصطادوها يوم السبت ، ثمّ أكلوها بعد ذلك.

وقال الكلبيّ : هي أيلة ، وهو مكان من البحر تجتمع فيه الحيتان في شهر من السنة كهيئة العيد ، تأتيهم منها [حتّى لا يروا الماء ، وتأتيهم في غير ذلك الشهر كلّ يوم سبت] (٥) كما تأتيهم في ذلك الشهر. قال : وذلك بلاء من الله ليعلم من يطيعه ممّن يعصيه. وذلك في زمان داود عليه‌السلام.

وقال الكلبيّ : فإذا جاء السبت لم يمسّوا منها شيئا. فعمد رجال من سفهاء تلك المدينة فأخذوا الحيتان ليلة السبت ويوم السبت ، فأكثروا منها ، وملّحوا وباعوا ؛ ولم تنزل بهم عقوبة فاستبشروا وقالوا : إنّا نرى السبت قد حلّ وذهبت حرمته ؛ إنما كان يعاقب به آباؤنا في زمن موسى. ثمّ استنّ الأبناء سنّة الآباء ، وكانوا يخافون العقوبة ، ولو كانوا فعلوا لم

__________________

(١) انظر ما سلف ، ج ١ ، تفسير الآية ٥٨ من سورة البقرة.

(٢) انظر ما سلف ، ج ١ ، تفسير الآية ٥٩ من سورة البقرة.

(٣) هي مدينة مشهورة على ساحل بحر القلزم (البحر الأحمر) ، لا تزال موجودة إلى يومنا هذا ، قيل : «هي آخر الحجاز وأوّل الشام». اقرأ وصف موقعها وشيئا من تاريخها في معجم البلدان للحموي ، ج ١ ، ص ٢٩٢.

(٤) كذا في المخطوطات الأربع. وفي د وتفسير الطبري ، ج ١٣ ص ١٩٠ : «من أمر الله» ، وهو الصحيح ، والقول لقتادة.

(٥) زيادة من ز ، ورقة ١١١ ، وقد سقطت من المخطوطات الأربع ، وسياق الكلام يقتضيها.

٥٤

يضرّهم شيء. فعملوا بذلك سنين ، حتّى أثروا منه ، وتزوّجوا النساء ، واتخذوا الأموال.

فمشى إليهم طوائف من صالحيهم فقالوا : يا قوم ، إنّكم قد انتهتكم حرمة سبتكم ، وعصيتم ربّكم ، وخالفتم سنّة نبيّكم ، فانتهوا عن هذا العمل الرديء قبل أن ينزل بكم العذاب ، فإنّا قد علمنا أنّ الله منزل بكم عذابه عاجلا ونقمته. قالوا : فلم تعظوننا إذ علمتم أنّ الله مهلكنا ، والله لقد عملنا هذا العمل منذ سنين ، فما زادنا الله به إلّا خيرا ؛ وإن أطعتمونا لتفعلنّ مثل الذي فعلنا ؛ فإنّما حرّم هذا على من قبلنا ، وهم الذين نهوا عنه. قالوا : ويلكم لا تغترّوا ولا تأمنوا بأس الله ، فإنّه كأن قد نزل بكم. قالوا : ف (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ ، أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) ؛ إمّا أن تنتهوا فيكون لنا أجر ، أو تهلكوا فننجو من معصيتكم. فأنزل الله : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ.) فأصبح الذين استحلّوا السبت قردة خاسئين. وقال بعضهم : إنّهم صاروا ثلاث فرق : فرقة اجترأت على المعصية ، وفرقة نهت ، وفرقة كفّت فلم تصنع ما صنعوا ولم تنههم ؛ فقالوا للذين نهوا : (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ ، أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

قوله : (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) : أي يعتدون في السبت ، وهو من الاعتداء (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً) : قال الحسن : إنّ الله حرّم عليهم أخذ الحيتان يوم السبت بخطيئة كانت منهم ، وأحلّ لهم الأيّام كلّها إلّا يوم السبت. فإذا كان يوم السبت أتتهم على أبوابهم فتنبطح وتشرع (١). (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ) : أي في غير يوم السبت (لا تَأْتِيهِمْ). قال الله : (كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ) : أي نبتليهم (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (١٦٣) : أي بما تعدّوا وأخذوا في السبت.

(وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (١٦٤).

__________________

(١) أي تظهر على الماء ، قيل : رافعة رؤوسها ، وقيل : خافضة لها للشرب. انظر : اللسان (شرع).

٥٥

قوله : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) : أي ما وعظوا به ، أي ما نهاهم عنه المؤمنون الذين نهوهم عمّا يصنعون ، أي ذكّروهم الله (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) : قال الحسن : نجت فرقتان وهلكت فرقة ، وهم الذين أخذوا الحيتان. (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ) : قال مجاهد : بعذاب أليم شديد (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (١٦٥).

قوله : (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (١٦٦) : قال مجاهد : إلّا طائفة منهم لم يفعلوا. قال الحسن : (خاسِئِينَ) : صاغرين (١). قال : وهي كقوله : (اخْسَؤُا فِيها) أي اصغروا فيها ، أي في النار (وَلا تُكَلِّمُونِ) (١٠٨) [المؤمنون : ١٠٨]. قال بعضهم : فصاروا قردة تعاوى لها أذناب بعد أن كانوا رجالا ونساء.

ذكروا أنّه دخل على ابن عبّاس ، وبين يديه المصحف ، وهو يبكي ، وقد أتى على هذه الآية : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) فقال : قد علمت أنّ الله أهلك الذين أخذوا الحيتان ، ونجّى الذين نهوهم ، ولا أدري ما صنع بالذين لم ينهوا ولم يواقعوا المعصية (٢).

وقال الحسن : وأيّ نهي أشدّ من أنّهم أثبتوا لهم الوعيد ، وخوّفوهم العذاب فقالوا : (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ ، أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً).

قوله : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ) : قال مجاهد : وإذ قال ربّك. وقال الحسن : أعلم ربّك (٣) (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) : أي يذيقهم (٤) سوء

__________________

(١) كذا في المخطوطات الأربع ، وفي ز ، ورقة ١١٢ : «أي مبعدين». وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن ، ج ١ ص ٢٣١ : «أي قاصين مبعدين. يقال : خسأته عنّي وخسأ هو عنّي».

(٢) اقرأ هذا الخبر الذي رواه عكرمة عن ابن عبّاس بتفصيل أكثر في تفسير الطبري ، ج ١٣ ص ١٨٨ ـ ١٩٠. وفي الدر المنثور ، ج ٣ ص ١٣٧ ـ ١٣٨.

(٣) في المخطوطات الأربع : «شعر» ، وصوابها : «أشعر» ، وأثبتّ ما جاء في ز ، ورقة ١١٢ : «اعلم» ، ومعناهما واحد.

(٤) كذا في المخطوطات : «يذيقهم». وفي ز ورقة ١١٢ : «يولونهم».

٥٦

العذاب ، أي شدّته.

وقال بعضهم : بعث الله عليهم هذا الحيّ من العرب فهم منهم في عذاب إلى يوم القيامة ، يعني : بالجزية والذلّ ، يعني أهل الكتاب (١).

(إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ) : قال الحسن : إذا أراد الله أن يعذّب قوما كان عذابه إيّاهم أسرع من الطرف. (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٦٧) : أي لمن تاب وآمن وعمل صالحا.

قوله : (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ) : [أي فرّقناهم] (٢) (أُمَماً) : مختلفين. قال الحسن : بني إسرائيل. وقال مجاهد : يعني اليهود. (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ) : يعني المؤمنين (وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) : يعني المنافقين ، ومنهم مشركون (٣). (وَبَلَوْناهُمْ) : أي ابتليناهم ، أي اختبرناهم (بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) : أي بالشدّة والرخاء. (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (١٦٨) : أي لكي يرجعوا إلى الإيمان.

قال : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ) : أي من بعد الماضين (خَلْفٌ) : والخلف هو الخلف السوء ، والخلف الصالح (٤). قال بعضهم : الخلف اليهود. وقال مجاهد : النصارى بعد اليهود. وقال بعضهم : الخلف من كلّ ، وهو الخلف السوء من جميع الخلق.

قال : (وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ

__________________

(١) ذلك يوم كان المسلمون مؤمنين حقّا. ويوم كان الإسلام في عزّ ومنعة من أهله. أمّا اليوم فقد تغيّرت الأوضاع ، وأصبح بعض العرب في ذلّ من اليهود ، يسامون سوء الهوان ، ويخرجون من ديارهم بغير حقّ. وسيبقون كذلك إلى أن يعودوا إلى دينهم الحقّ ، وينبذوا ما بينهم من عداوة وبغضاء ، ويجتمعون كلّهم حول كلمة «لا إله إلّا الله محمّد رسول الله». (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد : ١١].

(٢) زيادة من ز ، ورقة ١١٢.

(٣) كذا في ق : «يعني المنافقين ومنهم مشركون». وفي ع : «يعني المنافقين وهم المشركون» ، وفي ج ود : «يعني المنافقين وهم مشركون». وفي ز ، ورقة ١١٢ : «يعني كفّارا». وهذا نموذج من الخلط أو الزيادة التي تأتي من قبل النسّاخ غالبا عن قصد أو غير قصد.

(٤) انظر : الخطابي ، غريب الحديث ، ج ١ ص ٥٤.

٥٧

عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) : [قال مجاهد : يعني ما أشرف لهم في اليوم من حلال أو حرام أخذوه ويتمنّون المغفرة ، وإن يجدوا الغد غيره يأخذوه] (١). وقال الحسن : لو عرضت لهم الدنيا ومثلها معها لاصطلموها (٢) ولتمنّوا المغفرة بعد ذلك.

قوله : (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ) : أي وقرأوا ما فيه ، أي ما في هذا الكتاب بخلاف ما يقولون وما يعملون. (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ) : يعني الجنّة (خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) : والتقوى اسم جامع لخصال الإيمان (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٦٩) : يقول : أفلا تعقلون ما تدرسون؟ ينبّههم لكي ينتبهوا.

قوله : (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (١٧٠) : قال الحسن : هؤلاء أهل الإيمان منهم. وقال مجاهد : من آمن من اليهود والنصارى.

قوله : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) : أي بجدّ. (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٧١) : أي واحفظوا ما فيه ، أي : من الأمر والنهي فاعملوا به. قال بعضهم : اقتلع الجبل من أصله ، فأشرف به عليهم فقال : لتأخذنّ أمري أو لأرمينّكم به (٣).

قوله : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا) : ذكروا عن عطاء بن السايب عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال : أهبط الله آدم بالهند بأرض يقال لها بجنا (٤) ، ثمّ مسح على ظهره فأخرج منه

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ١١٢ ، ومن تفسير مجاهد ، ص ٢٤٩.

(٢) وردت هذه الكلمة في ق وع بلفظ : «لاصطلحوها» ، وفي ج ود : «لاصطلموها» ولست مطمئنّا للكلمتين معا اللهمّ إلّا أن تكون الكلمة الثانية : «لاصطلموها» هي الصحيحة ، بمعنى لقضوا عليها عن آخرها ، لأنّ معنى اصطلم ، قطعه واستأصله. ويبدو أنّ في الكلمة تصحيفا لم أهتد إليه ، ولم أجد من روى هذا الخبر عن الحسن فيما بين يديّ من المصادر.

(٣) انظر ما سلف ، ج ١ ، تفسير الآيتين ٥٤ و ٦٣ من سورة البقرة.

(٤) كذا وردت هذه الكلمة «بجنا» في ق وع ، وفي د وج «لحما» هكذا بدون نقط. وانظر تحقيقا مفصّلا لهذا ـ

٥٨

كلّ نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة ، ثمّ قال : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا). ثمّ أعادهم في صلب آدم.

وقال الكلبيّ : مسح ظهر آدم فأخرج منه كلّ خلق هو خالقه إلى يوم القيامة ثمّ قال : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) ، فقال للملائكة : اشهدوا ، فقالوا : شهدنا.

قوله : (أَنْ تَقُولُوا) : أي لئلّا تقولوا : (يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) (١٧٢).

قال : (أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) : [وجدناهم على ملّة فاتّبعناهم] (١) (أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) (١٧٣).

قال الله : (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) : أي هكذا نبيّن الآيات (وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (١٧٤) : أي إلى الإيمان.

قوله : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) : أي كفر (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) (١٧٥) : أي الضالّين.

ذكروا عن مجاهد قال : هو بلعام بن بعران (٢). وقال بعضهم هو بلعم آتاه الله علما فتركه وكفر. وبعضهم يقول : هو أمية بن أبي الصلت. ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في أميّة بن أبي الصلت : آمن شعره وكفر قلبه (٣).

__________________

ـ العلم في تفسير الطبري ، ج ١٣ ، ص ٢٢٥ ـ ٢٢٦ حيث يرجّح المحقّق أنّها «دجنا» ، وهي تعريب ل : «دهنج» التي في أرض الهند ، والله أعلم.

(١) زيادة من ز ، ورقة ١١٢.

(٢) كذا في المخطوطات الأربع ، وفي تفسير الطبري ، ج ١٣ ص ٢٥٣ : «بلعم بن أبر» ، و «بلعم بن باعر». وفي تفسير مجاهد ، ص ٢٥٠ : «بلعام بن باعر».

(٣) أورد هذا الخبر بعض المفسّرين في سبب نزول الآية ، مثل الطبريّ والقرطبيّ. ورواه مسلم في كتاب الشعر عن الشريد بن سويد الثقفي (رقم ٢٢٥٥) وفي بعض ألفاظه : «فلقد كاد يسلم في شعره». ورواه ابن ـ

٥٩

قوله : (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) : أي باياتنا (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) : أي اختار الدنيا (١). وقال مجاهد : سكن ، أي اطمأنّ إلى الدنيا. وقد قال في آية أخرى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها) [يونس : ٧] قال : (وَاتَّبَعَ هَواهُ) : قال بعضهم : أبى أن يصحب الهدى. فضرب الله مثلا فقال :

(فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) : قال : (فمثله) في العلم الذي آتاه الله فتركه (كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) ، فهو على كلّ حال يلهث ، أي فلم ينتفع بالعلم الذي علم.

وقال مجاهد : (إن تحمل عليه) أي : إن تطرده بدابّتك (٢) أو برجلك ، وهو مثل الكافر بالكتاب. وقال بعضهم : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) وأذلّ ما يكون الكلب إذا لهث ، يقول : فكذلك مثل هذا الذي يعلم ولا يعمل بما يعلم هو كالكلب الذليل. ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أشدّ الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه (٣).

وقال الكلبيّ : (إن تحمل عليه يلهث او تتركه يلهث) يقول : هو ضالّ على كلّ حال ، وعظته أو تركته.

(ذلِكَ) : يقول هذا المثل (مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ) : أي الحقّ يا محمّد (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (١٧٦) : أي لكي يتفكّروا فيما يقصّ عليهم.

__________________

ـ الأنباريّ وابن عساكر في تاريخيهما عن ابن عبّاس. وانظر الشعر والشعراء لابن قتيبة ، ج ١ ص ٤٥٩.

(١) كذا في المخطوطات الأربع ، وفي ز ورقة ١١٢ : «ركن إلى الدنيا».

(٢) في ع بياض قدر كلمة ، وفي ق : «بداية» (كذا). وسقطت الجملة من د. والتصحيح من القرطبيّ في تفسيره ، ج ٧ ص ٣٢٣.

(٣) أخرجه البيهقيّ من حديث ابن عبّاس جاء فيه : «إنّ أشدّ الناس عذابا يوم القيامة من قتل نبيّا او قتله نبيّ ، أو قتل أحد والديه ، وعالم لم ينتفع بعلمه». انظر الدر المنثور ، ج ١٤ ص ١٧٤.

٦٠