تفسير كتاب الله العزيز - ج ٢

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٢

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٣

به. والدّخل هو الخيانة (١). (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) : أي أكثر من أمّة. يقول فتنقضوا عهد الله لقوم هم أكثر من قوم. وقال بعضهم : (أربى من امّة) أي : [أن يكون قوم] (٢) أعزّ من قوم.

وقال بعضهم : يقول : العهد بين الناس فيما وافق الحقّ (٣).

والمرأة التي ضربت مثلا في غزلها كانت حمقاء تغزل الشعر ، فإذا غزلته نقضته ، ثمّ عادت فغزلته.

وتفسير مجاهد قال : هذا في الحلفاء ؛ كانوا يحالفون الحلفاء ، ثمّ يجدون أكثر منهم وأعزّ ، فينقضون حلف هؤلاء ، ويحالفون الذين هم أعزّ ؛ فنهوا عن ذلك.

قوله : (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ) : أي بالكثرة ، يبتليكم ، يختبركم. (وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٩٢) : أي من الكفر والإيمان.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) : أي على الإيمان. وهو كقوله : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) [السجدة : ١٣]. وكقوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس : ٩٩] (وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) : أي بفعله (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٩٣).

__________________

(١) كذا في المخطوطات ق وج ود ، وجاء في سع ما يلي : «قال الحسن : كما صنع المنافقون ، فلا تصنعوا كما صنع المنافقون ، فتظهروا الإيمان وتسرّوا الشرك ، والدخل إظهار الإيمان وإسرار الشرك».

(٢) زيادة من سع ، ومن تفسير الطبريّ ، ج ١٤ ص ١٦٧ للإيضاح ، والقول لقتادة.

(٣) وردت في سع بعد هذا القول آثار حسنة رأيت من الفائدة إثباتها هنا : «عن مكحول قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله يوصيكم بأمّهاتكم فالأقرب الأقرب. الدّين مقضيّ والأمانة مؤدّاة ، وأحقّ ما وفى به العبد عهد الله ... عن ميمون بن مهران قال : قال ابن مسعود : ما نزلت بعبد شدّة إلّا قد عاهد الله عندها ، فإن لم يتكلّم بلسانه فقد أضمر ذلك في قلبه ، فاتّقوا الله وأوفوا بما عاهدتم له. الحسن بن دينار عن الحسن أنّ ابن مسعود قال : يا أهل المواثيق ، انظروا ما تعاهدون عليه ربّكم ، كم من مريض قال : إن الله شفاني فعلت كذا ، فعلت كذا ...».

٣٨١

قوله : (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) : أي فتخونوا الله ولا تكملوا فرائضه (١). (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) : أي تزلّ إلى الكفر والنفاق بعد ما كانت على الإيمان ، فتزلّ إلى النار (وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٩٤) : وإذا عظّم الله شيئا فهو عظيم. والسوء عذاب الدنيا ، وهو القتل بالسيف. يقول : إن أنتم نافقتم فباينتم بنفاقكم قتلتم في الدنيا (٢) ولكم في الآخرة عذاب عظيم.

قوله : (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) : أي من الدنيا. ذكروا أنّه قدم وفد من كندة وحضر موت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبايعوه على الإسلام ولم يهاجروا ، وأقرّوا بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. ثمّ إنّ رجلا من حضر موت قام فتعلّق برجل من كندة يقال له امرأ القيس (٣) ، فقال : يا رسول الله ، إنّ هذا جاورني في أرض لي ، فقطع طائفة منها فأدخلها في أرضه. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل لك بيّنة على ما تزعم؟ فقال : القوم كلّهم يعلمون أنّي صادق وأنّه كاذب ، ولكنّه أكرم عندهم منّي. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا امرأ القيس ، ما يقول هذا؟ قال : ما يقول إلّا الباطل. قال : فقم فاحلف بالله الذي لا إله إلّا هو ما له قبلك من شيء ممّا يقول ، وإنّه لكاذب فيما يقول. قال : نعم. قال الحضرميّ ، إنا لله ، أتجعلها يا رسول الله إليه ، إنّه رجل فاجر لا يبالي بما حلف عليه. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّه من اقتطع مال رجل مسلم بيمين كاذبة لقي الله وهو عليه ساخط. فقام امرؤ القيس ليحلف ، فنزلت هاتان الآيتان : (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أي : عرضا من الدنيا يسيرا (إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٩٥). قال : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩٦).

__________________

(١) كذا في المخطوطات الأربع ق وع ود وج ، وهذا ممّا غيّره الشيخ هود ولا شكّ ، وجاء في سع مكان هذه الجملة : «تفسير الحسن : أن تسرّوا الشرك فترتدّوا عن الإسلام».

(٢) كذا في المخطوطات الأربع ، وجاء في سع مكان هذا التفسير الذي هو للشيخ هود : «يقول إن ارتددتم عن الإسلام قتلتم في الدنيا».

(٣) هو امرؤ القيس بن عابس الشاعر ، انظر ترجمته مختصرة في الاستيعاب لابن عبد البر ، ج ١ ، وفيها إشارة إلى هذه القصّة. أمّا خصمه فهو ربيعة بن عبدان أو ابن عمران الحضرمي ، وقيل : ربيعة بن لهيعة أو لهاعة.

٣٨٢

فقام الأشعث بن قيس فأخذ بمنكبي امرئ القيس فقال : ويلك يا امرأ القيس إنّه قد نزلت آيتان فيك وفي صاحبك ، خيرتهما له ، والأخرى لك ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من اقتطع مال رجل مسلم بيمين كاذبة لقي الله وهو عليه ساخط. فأقبل امرؤ القيس فقال : يا رسول الله ، ما أنزل في؟ فتلا عليه الآيتين ، فقال امرؤ القيس : أمّا ما عندي فينفد ، وأمّا صاحبي فيجازى بأحسن ما كان يعمل ؛ اللهمّ إنّه صادق ، وإنّي أشهد الله أنّه صادق ، ولكن والله ما أدري ما بلغ ما يدّعي من أرضه في أرضي ، فقد أصبتها منذ زمان ، فله ما ادّعى في أرضي ومثلها معها. فنزلت هذه الآية (١).

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩٧) : فقال امرؤ القيس : إليّ هذه الآية يا رسول الله؟ قال : نعم ، فكبّر امرؤ القيس ، وحمد الله وشكره.

ذكر بعضهم في قوله : (فلنحيينّه حياة طيّبة) قال : هي القناعة. وقال بعضهم : هي الجنّة.

قوله : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (٩٨) : والرجيم الملعون ، رجمه الله باللعنة. قال الحسن : نزلت في الصلاة ، ثمّ صارت سنّة في غير الصلاة إذا أراد أن يقرأ ، وليس بمفروض.

قوله : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٩٩) : وهو كقوله : (إِنَّ عِبادِي) يعني المؤمنين (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [الحجر : ٤٢] أي : لا تستطيع أن تضلّهم ؛ وكقوله : (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ) [الزمر : ٣٧].

__________________

(١) روى هذا الحديث وسبب وروده يحيى بن سلّام بدون سند ، على غير عادته. والحديث صحيح أخرجه أحمد في مسنده ، وأخرجه مسلم عن وائل بن حجر في كتاب الأيمان ، باب وعيد من اقتطع حقّ مسلم بيمين فاجرة بالنار ، ولفظ مسلم مختصر ، (رقم ١٣٩) وفيه : «فانطلق ليحلف ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا أدبر : «أما إنّه لو حلف على ماله ليأكله ظلما ليلقينّ الله تعالى وهو عنه معرض».

٣٨٣

قال : (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) : أي الشيطان ، أي : يعبدونه ويطيعونه ، قال الحسن من غير أن يستطيع أن يكرههم هو عليه. وهو مثل قوله : (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ) (١٦٢) أي : بمضلّين (إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) (١٦٣) [الصافّات : ١٦٢ ـ ١٦٣] أي : لا تضلّوا إلّا من هو صالي الجحيم. وكقوله : (وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١٧٨) [الأعراف : ١٧٨] أي : لا يضلّ إلّا خاسرا.

قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (١٠٠) : أي والذين هم بالله مشركون. فيها تقديم ؛ وتقديمها : فاستعذ بالله ، ثمّ قال : (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) ، أي : بالله ؛ رجع إلى الكلام الأوّل. قال الحسن : أشركوا الشيطان بعبادة الله.

قوله : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١٠١) : وهذا في الناسخ والمنسوخ في تفسير بعضهم.

قال الحسن : كانت الآية إذا نزلت فعمل بها وفيها شدّة ، ثمّ نزلت بعدها آية فيها لين قالوا : إنّما يأمر محمّد أصحابه بالأمر ، فإذا اشتدّ عليهم صرفهم إلى غيره ، ولو كان هذا الأمر من عند الله لكان أمرا واحدا وما اختلف ، ولكنّه من قبل محمّد.

قال الله : (قُلْ) : يا محمّد (نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) : والقدس الله ، وروحه جبريل ، فأخبر أنّه نزل به جبريل من عند الله ، وأنّ محمّدا لم يغيّر منه شيئا. قال : (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (١٠٢).

قوله : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) : يعنون عبدا لابن الحضرميّ (١) في قول الحسن وغيره. وبعضهم يقول : عدّاس ، غلام عتبة. وكان الكلبيّ يجمعهما جميعا ويقول : كان عدّاس يهوديّا فأسلم. وكانا يقرآن كتابهما بالعبرانيّة ، وكانا أعجميّي اللسان.

__________________

(١) قيل : كان يسمّى جبرا ، وقال آخرون : اسمه يعيش. وانظر تفسير الطبريّ ، ج ١٤ ، ص ١٧٧ ـ ١٧٩.

٣٨٤

قال : (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌ) : أي يميلون إليه ، في تفسير الكلبيّ. وقال الحسن : الذي يذهبون إليه أنّه يعلّم محمّدا أعجميّ ، أي : كيف يعلّم صاحب اللسان الأعجميّ صاحب اللسان العربيّ ، والعربيّ لا يفهم اللسان الأعجميّ ، ولا يعلم ما يقول ، ألّا تراه يقول : (وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (١٠٣) : أي بيّن. وفي قول الحسن : هو عبد لابن الحضرمي ، وكان كاهنا في الجاهليّة.

وقال مجاهد : هو عبد لابن الحضرميّ ، روميّ ، وصاحب كتاب. قال : يقول الله : (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ) أي : يتكلّم بالروميّة ، وهذا لسان عربيّ مبين. فكيف ينقل اللسان العجميّ [ذو] (١) اللسان العربيّ بما لا يفهمه عنه من لسانه.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ) : هؤلاء الذين لا يريد الله أن يهديهم يلقونه بكفرهم. وهو كقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) [المائدة : ٤١] أي : بكفرهم. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٠٤) : أي : موجع.

قوله : (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) : يعني المشركين (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) (١٠٥) (٢).

قوله : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) : نزلت في عمّار بن ياسر وأصحابه. أخذهم المشركون فوقفوهم على الكفر بالله وبرسوله ، فخافوا منهم ، فأعطوهم ذلك بأفواههم. ذكروا أنّ عمار بن ياسر قال : أخذني المشركون فلم يتركوني حتّى شتمت رسول الله وذكرت آلهتهم بخير. قال : [فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم] (٣) فقال لي : ما وراءك؟ قلت : شرّ يا رسول الله ، والله ما تركت حتّى نلت منك.

__________________

(١) في ق وع : «فكيف يلقن» ، وفي ج ود : «فكيف ينقل». وفي العبارة فساد ، أثبتّ ما بدا لي صوابا إن شاء الله بزيادة «ذو» حتّى يتّضح المعنى.

(٢) في ق وع وج ود اضطراب وخلط بين آخر الآيتين ، وأسقط النسّاخ هذه الآية الأخيرة ، فأثبتّ صحّتها من سع ، ومن ز ورقة ١٧٨.

(٣) زيادة لا بد منها يقتضيها سياق الكلام.

٣٨٥

وذكرت آلهتهم بخير. قال : فقال لي رسول الله : كيف تجد قلبك؟ قلت : أجد قلبي مطمئنّا بالإيمان. قال : فإن عادوا فعد. فبلغنا أنّ هذه الآية نزلت عند ذلك : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) أي : راض بالإيمان (١). قال : (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) : قال بعضهم : يعني عبد الله بن أبي سرح ، (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١٠٦) : أي في الآخرة.

قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) : أي اختاروا الحياة الدنيا على الآخرة (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (١٠٧) : يقول : لا يكونون بالكفر مهتدين عند الله ، يعني الذين يلقون الله بكفرهم.

(أُولئِكَ) : أي الذين هذه صفتهم (الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) : أي بكفرهم (وَأُولئِكَ) : أهل هذه الصفة (هُمُ الْغافِلُونَ) (١٠٨).

(لا جَرَمَ) : وهي كلمة وعيد (أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١٠٩) : أي خسروا أنفسهم أن يغنموها فصاروا في النار ، وخسروا أهليهم من الحور العين ، فهو الخسران المبين. وتفسيره في سورة الزمر (٢). قوله : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) : أي من بعد ما عذّبوا (ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١١٠) : قال الحسن : إنّهم قوم كانوا بمكّة ، فعرضت لهم فتنة ، فارتدّوا عن الإسلام ، وشكّوا في نبيّ الله ، ثمّ إنّهم أسلموا وهاجروا إلى رسول الله بالمدينة ، ثمّ جاهدوا معه وصبروا ، فنزلت فيهم هذه الآية.

وقال بعضهم : ذكر لنا أنّه لمّا أنزل الله أنّ أهل مكّة لا يقبل منهم إسلام حتّى يهاجروا ،

__________________

(١) أورد ابن سلّام بعد هذه الرواية رواية أخرى أكثر تفصيلا لقصّة عمّار بن ياسر ، انظر : مخطوطة سع ورقة ٤. وانظر : الواحدي ، أسباب النزول ، ص ٢٨٨ ، وانظر : الدر المنثور للسيوطيّ ، ج ٤ ص ١٣٢ ـ ١٣٣.

(٢) يشير إلى قوله تعالى في سورة الزمر : ١٥ : (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ).

٣٨٦

كتب بذلك المؤمنون إلى أصحاب لهم بمكّة ، وخرجوا فأدركهم المشركون فردّوهم ، فأنزل الله : (الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (٢) [العنكبوت : ١ ـ ٢] ، والآية الأخرى التي بعدها. فكتب بها أهل المدينة إلى أهل مكّة. فلمّا جاءهم ذلك تبايعوا أن يخرجوا ، فإن لحق بهم المشركون أن يقاتلوهم ، حتّى يلحقوا بالله أو ينجوا ، فأنزل الله : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ...) إلى آخر الآية.

قوله : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) : قال الحسن : إنّ كلّ نفس توقف بين يدي الله للحساب ، ليس يسألها عن عملها إلّا الله.

قال : (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) : من خير أو شرّ (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١١١). أمّا الكافر فليس له من حسناته في الآخرة شيء ، قد استوفاها في الدنيا. وأمّا سيّئاته ، فيوفّاها في الآخرة ، يجازى بها النار. وأمّا المؤمن فهو الذي يوفّى الحسنات في الآخرة ، وأمّا سيّئاته فإنّ منهم من لم يخرج من الدنيا حتّى ذهبت سيّئاته بالبلايا والعقوبة ؛ كقوله : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (٣٠) [الشورى : ٣٠]. ومنهم من تبقى عليه من سيّئاته فيفعل الله فيه ما يشاء. وقد بلغنا (١) أنّ منهم من تبقى عليه عند الموت فيشدّد عليه في خروج نفسه. ومنهم من تبقى عليه فيشدّد عليه في القبر ، ومنهم من تبقى عليه فيشدّد عليه في الموقف. ومنهم من تبقى عليه منها فيشدّد عليه عند الصراط ، حتّى يلقى الله وقد غفر له ذنوبه كلّها (٢).

قوله : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ) (١١٣).

__________________

(١) هذه الكلمة يوحي ظاهرها أنّ الخبر بلغ الشيخ هودا ، والصحيح أنّها من يحيى بن سلّام. ففي سع ما يلي : «قال يحيى : وبلغني أنّ منهم ...».

(٢) هذه الجملة الأخيرة : «حتّى يلقى الله ...» من الشيخ الهوّاريّ بدلا ممّا جاء في مخطوطة سع : «ومنهم من يبقى عليه منها فيدخل النار فينتقم منه ثمّ يخرجه الله منها إلى الجنّة».

٣٨٧

فالقرية مكّة ، والرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كفروا بأنعم الله فكذّبوا رسوله ولم يشكروا وهم (الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) (٢٨) [إبراهيم : ٢٨]. وأمّا قوله : (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) فإنّه الجوع الذي عذّبوا به بمكّة قبل عذابهم يوم بدر ، ثمّ عذّبهم بالسيف يوم بدر. وأمّا الخوف فبعد ما خرج النبيّ عنهم.

قوله : (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) : يعني المؤمنين ؛ ما أحلّ الله لهم من الرزق ومن الغنيمة وغيرها. (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (١١٤). قال : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) : أي ذبائح المشركين ، ثمّ أحلّ ذبائح أهل الكتاب من المشركين.

قوله : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١١٥) : وقد فسّرنا ذلك في سورة البقرة وسورة الأنعام (١).

قوله : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) : نزلت هذه الآية في المشركين لما حرموا من الأنعام والحرث وما استحلّوا من أكل الميتة ، ثمّ صارت للناس عامّة. تقدّم إليهم ألّا يستحلّوا التقوّل على الله ، ولا يفتروا الكذب فيحلّوا ما حرّم الله ، ويحرّموا ما أحلّ الله بالادّعاء على الله والكذب عليه فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) : من المشركين فيما حرّموا من الأنعام والحرث وما استحلّوا من أكل الميتة ، وممّن (٢) ادّعى من أهل القبلة على الله الكذب ، ودان بالأباطيل ، واستحلّ وحرّم ما لم يحلّ الله ولم يحرّمه (لا يُفْلِحُونَ) (١١٦) جميعا. وهو كقوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ

__________________

(١) انظر ما سلف من هذا التفسير ، ج ١ ، تفسير الآية ١٧٣ من سورة البقرة ، والآية ١٤٥ من سورة الأنعام.

(٢) في المخطوطات ق وج ود : «فيمن». والصواب ما أثبتّه «ممّن» عطف على «من المشركين» وهذه الجملة من زيادة الشيخ الهوّاريّ.

٣٨٨

(٥٩) [يونس : ٥٩].

قوله : (مَتاعٌ قَلِيلٌ) : أي إنّ الذي هم فيه من الدنيا متاع قليل ذاهب. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١١٧) في الآخرة.

قوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا) : يعني اليهود ؛ سمّوا أنفسهم اليهود وتركوا الإسلام (حَرَّمْنا) : عليهم بكفرهم (ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) : في سورة الأنعام وهي مكّيّة ، وهذا الموضع من هذه السورة مدنيّ ؛ يعني قوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا) والحوايا المبعر (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) [الأنعام : ١٤٦].

قال : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١١٨) : وإنّما حرّم ذلك عليهم بظلمهم. وقد بيّن ذلك في سورة النساء فقال : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ...) إلى آخر الآية [النساء : ١٦٠].

قوله : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) : أي من بعد تلك الجهالة (١) إذا تابوا منها (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١١٩). وكلّ ذنب عمله العبد فهو بجهالة ، وذلك منه جهل (٢).

قوله : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) : والأمّة السيّد (٣) في الخير ؛ يعلّم الخير ويفقّه الناس ويبصّرهم معالم دينهم وسبل رشادهم ، أي : إنّه كان في الخير إماما. (قانِتاً لِلَّهِ) : أي : مطيعا لله. كان إمام هدى يقتدى به ، ويؤخذ عنه.

__________________

(١) أعاد المؤلّف الضمير هنا إلى الجهالة ، وأصحّ منه أن يعود الضمير إلى التوبة كما ذكره الطبريّ في تفسيره ج ١٤ ، ص ١٩٠ ، قال : «يقول : إنّ ربّك يا محمّد من بعد توبتهم له (لغفور رّحيم)». وكما أورده الزمخشريّ في الكشّاف ، ج ٢ ص ٦٤١.

(٢) وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ١١٤ : «كلّ من عمل سوءا فهو جاهل إذا عمله».

(٣) في ق وج ود ، وفي سع «السنّة في الخير». وأثبتّ ما جاء في ز ورقة ١٧٩ : «السيّد في الخير» ، وهو أصحّ ، ولكلّ وجه.

٣٨٩

وقال مجاهد : (كان أمّة) أي : كان وحده مؤمنا والناس كفّارا. (قانتا) أي : مطيعا لله.

ذكروا عن عبد الله بن مسعود أنّه قال : إنّ معاذ بن جبل كان أمّة. وقال ابن مسعود : إنّ معاذا كان يعلّم الخير ؛ وكلّ من يعلّم الخير فهو أمّة ، وهو إمام ، وهو القائد (١) الذي يقتدى به. (حَنِيفاً) : أي مخلصا (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٢٠).

(شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ) : أي للنبوّة ، اختاره لها واصطفاه ، واجتبى واصطفى واختار واحد. (وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٢١) : أي إلى الجنّة.

قوله : (وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) : وهو كقوله : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) [العنكبوت : ٢٧]. ذكر بعضهم قال : ليس من أهل دين إلّا وهم يتولّونه ، أي : يرتضونه. قال : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) (١٠٨) [الصافّات : ١٠٨] أي : وأبقينا عليه الثناء الحسن في الآخرين. قال : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (١٢٢) : والصالحون أهل الجنّة ، وأفضلهم الأنبياء.

قوله : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) : يا محمّد (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) : قال بعضهم [استحلّه بعضهم وحرّمه بعضهم] (٢) (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١٢٤) : وحكمه فيهم أن يدخل المؤمنين منهم الجنّة ويدخل الكافرين النار.

وقال الكلبيّ : إنّ موسى أمر قومه أن يتفرّغوا إلى الله في كلّ سبعة أيّام يوما يعبدونه ولا يعملون فيه من صنعتهم شيئا ، والستّة أيام لصنعتهم ؛ فأمرهم بالجمعة فاختاروا هم

__________________

(١) في ق وع وج ود : «وهو القادة» (كذا) وهو خطأ. وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ١١٤ : «معلما للخير». وقال أبو عبيدة في المجاز ، ج ١ ص ٣٦٩ : «أي : إماما مطيعا لله». وقال : «(حنيفا) مسلما ؛ ومن كان في الجاهليّة يختتن ويحجّ البيت فهو حنيف».

(٢) زيادة من سع.

٣٩٠

السبت وأبوا إلّا السبت. فاختلافهم أنّهم أبوا الجمعة واختاروا السبت. ذكروا أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : نحن الآخرون ونحن السابقون ، ذلك بأنّهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم. وهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له ، فاليوم لنا [يعني الجمعة] (١) وغدا لليهود [يعني السبت] ، وبعد غد للنصارى [يعني الأحد] (٢).

قوله : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) : أي إلى الهدى وهو الطريق إلى الجنّة. (بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) : أي بالقرآن (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) : يأمرهم بما أمرهم الله به ، وينهاهم عمّا نهاهم الله عنه (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) : أي عن طريق الهدى (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (١٢٥) : أي أنّهم مشركون ضالّون وأنّ محمّدا وأصحابه مؤمنون مهتدون.

قوله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) (١٢٦). ذكر ابن عبّاس قال : مثّل المشركون بحمزة يوم أحد ، وقطعوا مذاكيره [فلمّا رآه النبيّ عليه‌السلام جزع جزعا شديدا فأمر به فغطّي ببردة كانت عليه ، فمدّها على وجهه ورأسه ، وجعل على رجليه إذخر] (٣) ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لأمثّلنّ بثلاثين من قريش (٤) ، فأنزل الله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ). قوله : (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) : فصبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يمثّل. ذكروا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه نهى عن المثلة (٥).

__________________

(١) ما بين المعقوفين زيادة من سع ، ورقة : ٥.

(٢) حديث متّفق عليه ، أخرجه البخاريّ في كتاب الجمعة ، باب فرض الجمعة ، وأخرجه مسلم في كتاب الصلاة ، باب هداية هذه الأمّة ليوم الجمعة (رقم ٨٥٥). وأخرجه أحمد في مسنده والنسائيّ وغيرهم. كلّهم يرويه من حديث أبي هريرة.

(٣) زيادة من سع ، ورقة ٥.

(٤) انظر هذا الخبر في أسباب النزول للواحديّ ، ص ٢٩٠ فقد رواه عن ابن عبّاس بتفصيل أكثر.

(٥) أخرجه الحاكم في المستدرك عن عمران ، ورواه الطبرانيّ عن ابن عمر وعن المغيرة.

٣٩١

قوله : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) : أي على المشركين إن لم يؤمنوا (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (١٢٧) : أي لا يضيق صدرك بمكرهم وكذبهم عليك فإنّ الله معك. (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) : أي في العون والنصر والتأييد (وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (١٢٨).

٣٩٢

تفسير سورة بني إسرائيل (١)

وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ : قوله : (سُبْحانَ) : يعني نفسه وينزّهها (الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) : يعني محمّدا (لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) : يعني بيت المقدس (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) : يعني ما أراه الله ليلة أسري به.

ذكروا أنّ نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (٢) : بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان إذ سمعت قائلا يقول : أحد الثلاثة بين الرجلين. فأتيت ، فانطلق بي ، فأتيت بطست من ذهب ، فيها من ماء زمزم ، فشرح صدري إلى مكان كذا وكذا. [قال قتادة : فقلت للذي معي : ما يعني] (٣) قال : يعني إلى أسفل بطني. فاستخرج قلبي فغسل بماء زمزم ، ثمّ كنز ، أو قال حشي ، إيمانا وحكمة ، ثمّ أعيد مكانه. ثمّ أتيت بدابّة أبيض (٤) يقال له : البراق ، فوق الحمار ودون البغل ، يضع خطوه عند أقصى طرفه ، فحملت عليه.

ثمّ انطلقنا حتّى أتينا السماء الدنيا (٥). فاستفتح جبريل ؛ فقيل : من هذا؟ قال : جبريل.

__________________

(١) كذا في ق وع ود وج : «سورة بني إسرائيل». وفي سع ، وفي ز ورقة ١٧٩ : «تفسير سورة سبحان».

(٢) في سع ورقة ٥ ظ وردت هذه الرواية من طريق سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة. وقد أورد ابن كثير هذه الرواية في تفسيره ، ج ٤ ص ٢٤٨ عن الإمام أحمد.

(٣) زيادة من سع.

(٤) كذا في المخطوطات : «بدابّة أبيض» ، وهو صحيح ، لأنّ لفظ الدّابّة يطلق على المذكّر والمؤنّث ، انظر اللسان : (دبب).

(٥) لم تشر هذه الرواية إلى بيت المقدس حيث أسرى برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوّلا ، وهو أمر صحيح ثابت بنصّ القرآن. أمّا دخوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسجد الأقصى ، وصلاته به إماما بالأنبياء فمسألة خلافيّة أثبتها بعض الصحابة ونفاها آخرون. وممّن نفاها الصحابيّ الجليل حذيفة بن اليمان. انظر تفسير الطبريّ ، ج ١٥ ص ١٥. وانظر في تفسير ابن كثير ، ج ٤ ص ٢٥٤ ـ ٢٥٥ حوارا بين الصحابيّ حذيفة بن اليمان والتابعيّ زرّ بن حبيش ، ـ

٣٩٣

قيل : ومن معك؟ قال : محمّد عليه‌السلام. قيل : أو قد بعث إليه؟ قال : نعم. ففتح لنا ، فقالوا : مرحبا به ، ولنعم المجيء جاء. قال : فأتيت على آدم ، فقلت لجبريل : من هذا؟ قال أبوك آدم. فسلّمت عليه فقال : مرحبا بالابن الصالح والنبيّ الصالح. ثمّ انطلقنا حتّى أتينا السماء الثانية ، فاستفتح جبريل فقيل : من هذا؟ قال : جبريل ؛ قيل : ومن معك؟ قال : محمّد عليه‌السلام. قيل : أو قد بعث إليه؟ قال : نعم. ففتح لنا ، وقالوا : مرحبا به ، ولنعم المجيء جاء. فأتيت على يحيى وعيسى ، فقلت : يا جبريل ، من هذان؟ قال : هذان يحيى وعيسى ، وأحسب أنّه قال : ابنا الخالة. فسلّمت عليهما فقالا : مرحبا بالأخ الصالح والنبيّ الصالح. ثمّ انطلقنا حتّى أتينا السماء الثالثة ، فكان نحو هذا من كلام جبريل وكلامهم. فأتيت على يوسف ، فقلت : يا جبريل : من هذا؟ قال : هذا أخوك يوسف ، فسلّمت عليه ، فقال : مرحبا بالأخ الصالح والنبيّ الصالح. ثمّ انطلقنا حتّى أتينا السماء الرابعة. فأتينا على إدريس فقلت : من هذا يا جبريل ، فقال : هذا أخوك إدريس ، فسلّمت عليه ، فقال : مرحبا بالأخ الصالح والنبيّ الصالح.

وعندها قال : [قتادة] (١) قال الله : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) (٥٧) [مريم : ٥٧]. فانطلقنا حتّى أتينا السماء الخامسة ، فأتينا على هارون ، فقلت : من هذا يا جبريل؟ قال : هذا أخوك هارون. فسلّمت عليه ، فقال : مرحبا بالأخ الصالح والنبيّ الصالح. ثمّ انطلقنا حتّى أتينا السماء السادسة ، فأتيت على موسى فقلت : من هذا يا جبريل؟ قال : هذا أخوك موسى ، فسلّمت عليه فقال : مرحبا بالأخ الصالح والنبيّ الصالح. فلمّا جاوزته بكى ؛ فقيل له : وما يبكيك؟ قال : ربّ ، هذا غلام بعثته بعدي يدخل الجنّة من أمّته أكثر ممّا يدخل من أمّتي. ثمّ انطلقنا حتّى أتينا السماء السابعة فأتينا على إبراهيم ، فقلت : يا جبريل من هذا؟ قال : هذا أبوك إبراهيم. فسلّمت عليه فقال : مرحبا بالابن الصالح والنبيّ الصالح. ثمّ رفع لنا البيت

__________________

ـ وتعليق ابن كثير في آخر الرواية.

(١) زيادة من سع ، ورقة ٥ ظ لا بدّ من إثباتها ليستقيم التعبير.

٣٩٤

المعمور بحيال الكعبة فقلت : يا جبريل ما هذا؟ قال : هذا البيت المعمور يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لا يعودون فيه أخر ما عليهم (١). ثمّ رفعت لنا سدرة المنتهى ؛ فحدّث نبيّ الله أنّ ورقها مثل آذان الفيلة ، وأنّ نبقها مثل قلال هجر (٢).

وحدّث نبيّ الله أنّه رأى أربعة أنهار يخرجن من تحتها : نهران باطنان ونهران ظاهران. فقلت يا جبريل ما هذه الأنهار؟ فقال : أمّا النهران الباطنان فنهران بالجنّة ، وأمّا الظاهران فالنيل والفرات. وأتيت بإناءين أحدهما لبن والآخر خمر ، فعرضا عليّ فأخذت اللبن ؛ فقيل لي : أصبت ، أصاب الله بك أمّتك على الفطرة. وفرضت عليّ خمسون صلاة ، أو قال : أمرت بخمسين صلاة كلّ يوم. فجئت بهنّ ، حتّى أتيت على موسى فقال لي : بم أمرت؟ فقلت : بخمسين صلاة كلّ يوم.

فقال : إنّ أمّتك لا يطيقون ذلك ؛ إنّي قد بلوت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشدّ المعالجة ، ارجع إلى ربّك وسله التخفيف لأمّتك. فما زلت أسأل ربّي ويقول لي موسى مثل مقالته هذه حتّى رجعت بخمس صلوات كلّ يوم. فلمّا أتيت عليه قال لي : بم أمرت. قال : فقلت بخمس صلوات كلّ يوم. فقال : إنّ أمّتك لا يطيقون ذلك. إنّي قد بلوت الناس من قبلك ، وعالجت بني إسرائيل أشدّ المعالجة ، راجع ربّك واسأله التخفيف لأمّتك. فقلت : لقد راجعت ربّي حتّى لقد استحييت ، ولكنّي أرضى وأسلّم. قال : فنوديت ، أو نادى مناد : إنّي قد أمضيت فريضتي وخفّفت عن عبادي وجعلت الحسنة بعشر أمثالها. فانتهى هذا الحديث إلى هاهنا (٣).

__________________

(١) كذا في سع ، وفي المخطوطات الأربع : لم يعودوا إليه.

(٢) هي قرية قرب المدينة ، كانت تعمل بها القلال الكبيرة. قال أحمد بن حنبل : قدر كلّ قلّة قربتان. انظر اللسان (قلل). وانظر معجم البلدان لياقوت الحموي ، (هجر).

(٣) حديث الإسراء والمعراج هذا أخرجه البخاريّ في كتاب بدء الخلق ، باب المعراج ، بعد باب حديث الإسراء عن هدبة بن خالد عن همام بن يحيى عن قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة. وهذا أصحّ أحاديث الباب ، وله طرق أخرى عن أنس. وقد أخرج حديث الإسراء والمعراج أئمّة الحديث عن ـ

٣٩٥

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أتي بالبراق ليركبه استصعب ، فقال له جبريل : اسكن ، فو الذي نفس محمّد بيده ما ركبك مخلوق أكرم على الله منه. قال : فارفضّ عرقا وقرّ.

وذكروا أنّ رسول الله قال : مررت ليلة أسري بي على رجال تقرض شفاههم بمقاريض من نار ، فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ فقال : هؤلاء خطباء من أمّتك يأمرون الناس بالخير والبرّ وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : بينما أنا في الجنّة إذ أنا بنهر حافاته قباب اللؤلؤ المجوّف ، فضربت بيدي إلى مجرى الماء فإذا مسك أذفر. فقلت : ما هذا يا جبريل؟ فقال : هذا الكوثر الذي أعطاك الله (١).

وذكر بعض أصحاب النبيّ عن النبيّ عليه‌السلام هذا الحديث غير أنّه أغزر منه وأطول ، فيه ما ليس في الحديث الأوّل (٢).

قال : بينما أنا في البيت إذ أتيت ، فشقّ النحر ، فاستخرج القلب ، فغسل بماء زمزم ، ثمّ أعيد مكانه. ثمّ أتيت بدابّة أبيض (٣) يقال له البراق ، فوق الحمار ودون البغل ، مضطرب الأذنين ، يقع خطوه عند منتهى طرفه. فحملت عليه فسار بي نحو بيت المقدس ؛ فإذا مناد ينادي عن يمين الطريق : يا محمّد ، على رسلك أسألك ، يا محمّد على رسلك أسألك ، يا محمّد على رسلك أسألك. فمضيت ولم أعرج عليه. ثمّ إذا أنا بمناد ينادي عن يسار الطريق : يا محمّد ، على رسلك أسألك ، يا محمّد على رسلك أسألك ، يا محمّد على رسلك

__________________

ـ جمع من الصحابة ، منهم من رواه مطوّلا ، ومنهم من روى طرفا منه ، فارجع إليه في مظانّه ، وانظره في كتب التفسير مثل تفسير الطبريّ ، ج ١٥ ص ٢ ـ ١٧ ، وتفسير ابن كثير ، ج ٤ ص ٢٣٩ ـ ٢٨٠. والدر المنثور ، ج ٤ ص ١٣٦ ـ ١٥٨.

(١) أخرجه البخاريّ من حديث أنس في كتاب التفسير ، تفسير (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ).

(٢) هذا الحديث ساقط من د وج ، وهو موجود في ق وع ، وفي سع. وهو الذي رواه ابن سلّام مرفوعا عن أبي سعيد الخدريّ. ورواه الطبريّ في تفسيره ، والسيوطيّ في الدرّ المنثور.

(٣) كذا في ج ود ، وفي ق وع : «بدابّة بيضاء» ، وكلاهما صحيح.

٣٩٦

أسألك ، ولم أعرج عليه.

ثمّ إذا بامرأة على قارعة الطريق ، أحسبه قال : حسناء جملاء (١) ، عليها من كلّ الحليّ والزينة ، ناشرة شعرها ، رافعة يديها تقول : يا محمّد ، على رسلك أسألك ، يا محمّد على رسلك أسألك ، يا محمّد على رسلك أسألك. فمضيت ولم أعرج عليها حتّى انتهيت إلى بيت المقدس ، فأوثقت الدابّة بالحلقة التي يوثق بها الأنبياء. ثمّ دخلت المسجد فصلّيت فيه ركعتين ثمّ خرجت.

فأتاني جبريل بإناءين : إناء من لبن وإناء من خمر. فتناولت اللبن فقال : أصبت الفطرة.

ثمّ قال لي جبريل : يا محمّد ، ما رأيت في وجهتك (٢) هذه؟ قلت : سمعت مناديا ينادي عن يمين الطريق : يا محمّد على رسلك أسألك ، يا محمّد على رسلك أسألك ، يا محمّد على رسلك أسألك. قال : فما صنعت؟ قلت : مضيت ولم أعرّج عليه. قال : ذلك داعية اليهود. أما إنّك لو عرّجت عليه لتهوّدت أمّتك. قلت : ثمّ ماذا؟ قلت : ثمّ إذا أنا بمناد ينادي عن يسار الطريق : يا محمّد على رسلك أسألك ، يا محمّد على رسلك أسألك ، يا محمّد على رسلك أسألك ، قال : فما صنعت؟ قلت : مضيت ولم أعرّج عليه. قال : ذلك داعية النصارى. أما إنّك لو عرّجت عليه لتنصّرت أمّتك. قلت : ثمّ إذا أنا بامرأة على قارعة الطريق ، أحسبه قال : حسناء جملاء عليها من كلّ الحليّ والزينة ، ناشرة شعرها ، رافعة يديها ، تقول : يا محمّد على رسلك أسألك ، يا محمّد على رسلك أسألك ، يا محمّد على رسلك أسألك. قال : فما صنعت؟ قلت : مضيت ولم أعرّج عليها. قال : تلك الدنيا ؛ أما إنّك لو عرّجت عليها لملت إلى الدنيا.

ثمّ أتينا بالمعراج فإذا أحسن ما خلق الله ، ألم تر إلى الميّت حيث يشقّ بصره ، فإنّما يتبعه المعراج عجبا به. ثمّ تلا هذه الآية : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ

__________________

(١) امرأة جملاء ، أي جميلة مليحة ، ولا يوجد «أفعل» لهذه الصفة من فعلها. انظر اللسان (جمل).

(٢) في سع ٦ ب : «ما رأيت في وجهك هذا؟» وهو صحيح ، والمعنى واحد.

٣٩٧

خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (٤) [المعارج : ٤] فقعدنا فيه ، فعرج بنا حتّى انتهينا إلى باب السماء الدنيا (١) ، وعليها ملك يقال له : إسماعيل ، جنده سبعون ألف ملك ، جند كلّ ملك سبعون ألف ملك ، وتلا هذه الآية : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدّثّر : ٣١] فاستفتح جبريل فقيل : من هذا؟ قال : جبريل ؛ قيل : ومن معك؟ قال محمّد. قيل : أو قد بعث إليه؟ قال : نعم. قالوا : مرحبا به ، ولنعم المجيء جاء. ففتح لنا. فأتيت على آدم ، فقلت : يا جبريل من هذا؟ قال : هذا أبوك آدم. فرحّب بي ودعا لي بخير. قال : وإذا الأرواح تعرض عليه. فإذا مرّ به روح مؤمن ، قال : روح طيّب ورائحة طيّبة ، وإذا مرّ به روح كافر قال : روح خبيث ورائحة خبيثة. قال : ثمّ مضيت فإذا أنا بأخاوين (٢) عليها لحوم منتنة وأخاوين عليها لحوم طيّبة وإذا رجال ينهسون (٣) اللحوم المنتنة ويدعون اللحوم الطيّبة ، فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء الزناة يدعون الحلال ويبتغون الحرام.

قال : ثمّ مضيت فإذا أنا برجال تفكّ ألحيهم (٤) وآخرين يجيئون بالصخور من النار فيقذفونها في أفواههم فتخرج من أدبارهم. قال : قلت : يا جبريل من هؤلاء؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما. ثمّ تلا هذه الآية : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (١٠) [النساء : ١٠].

قال : ثمّ مضيت فإذا أنا بقوم يقطع من لحومهم بدمائهم فيضفزونها (٥) ولهم جؤار ؛ فقلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء الهمّازون اللّمّازون ، ثمّ تلا هذه الآية : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) [الحجرات : ١٢] قال : وإذا أنا بنسوة

__________________

(١) كذا في سع ورقة ٦ ب ، وفي ز ، ورقة ١٨٠ ، وفي ق وع : «حتّى انتهينا إلى باب الحفظة».

(٢) أخاوين ، جمع خوان : المائدة إذا كان عليها طعام ، وتجمع أيضا على أخونة وخون ، والكلمة معرّبة. انظر : الجواليقي : المعرّب ، ص ١٧٧ ، واللسان (خون).

(٣) في ق وع : «ينتهشون» وأصحّ منه وأفصح ما جاء في سع ورقة ٦ ب : «ينهسون». والنهس القبض على اللحم بالأسنان والأضراس ونتفه.

(٤) جمع لحي ؛ واللّحيان : العظمان اللذان عليهما الأسنان من داخل الفم ، ومنبت اللحية من الإنسان.

(٥) يضفزونها ، أي : يلقمونها على كره منهم. ومن معاني الضفز : الدفع.

٣٩٨

معلّقات بثديّهن ، وأحسبه قال : وإذا حيّات وعقارب ينهشنهنّ ؛ فقلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء الظؤورة (١) اللاتي يقتلن أولادهنّ (٢).

قال : ثمّ أتيت على سابلة آل فرعون حيث ينطلق بهم إلى النار يعرضون عليها غدوّا وعشيّا ؛ فإذا رأوها قالوا : ربّنا لا تقومنّ الساعة ، لما يرون من عذاب الله. وإذا أنا برجال بطونهم كالبيوت يقومون فيقعون لظهورهم ولبطونهم فيأتي عليهم آل فرعون فيثردونهم بأرجلهم ثردا. فقلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء أكلة الربا. ثمّ تلا هذه الآية : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) [البقرة : ٢٧٥].

ثمّ عرج بنا حتّى انتهينا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل فقيل : من هذا؟ قال : جبريل. قيل : ومن معك؟ قال : محمّد. قيل : أو قد بعث إليه؟ قال : نعم. قالوا : مرحبا به ، ولنعم المجيء جاء. ففتح لنا فإذا أنا بابني الخالة يحيى وعيسى. فرحّبا بي ، ودعوا لي بخير. ثمّ عرج بنا حتّى انتهينا إلى السماء الثالثة ، فاستفتح جبريل فقيل : من هذا؟ قال : جبريل. قيل : ومن معك؟ قال : محمّد. قيل : أو قد بعث إليه؟ قال : نعم. قالوا : مرحبا به ولنعم المجيء جاء. ففتح لنا فإذا أنا بيوسف ، وإذا هو قد أعطي نصف الحسن (٣) ، قال : فرحّب بي ودعا لي بخير. ثمّ عرج بنا حتّى انتهينا إلى السماء الرابعة ، فاستفتح جبريل. فقيل : من هذا؟ قال : جبريل. قيل : ومن معك؟ قال : محمّد. قيل : أو قد بعث إليه؟ قال : نعم. قالوا : مرحبا به ولنعم المجيء جاء. ففتح لنا فإذا أنا بإدريس. فرحّب بي ودعا لي بخير. ثمّ عرج بنا إلى السماء الخامسة ، فاستفتح جبريل فقيل : من هذا؟ قال : جبريل. قيل : ومن معك؟ قال : محمّد. قيل : أو قد بعث إليه؟ قال : نعم. قالوا : مرحبا به ولنعم المجيء جاء. ففتح لنا. فإذا أنا

__________________

(١) الظؤورة ، والظؤرة والأظؤر جموع لظئر ، وهي المرضعة غير ولدها والمعطوفة عليه من النساء والنوق.

(٢) كذا في ق وع وسع ، وفي تفسير ابن كثير من رواية أبي سعيد الخدريّ : «هنّ اللاتي يزنين ويقتلن أولادهنّ». وهو أصحّ.

(٣) كذا في ق وع. وفي ز ورقة ١٨١ وفي سع ٦ ب : «شطر الحسن».

٣٩٩

بهارون. وإذا لحيته شطران : شطر أبيض وشطر أسود. فقلت : من هذا يا جبريل؟ قال : هذا المحبّب في قومه وأكثر من رأيت تبعا. فرحّب بي ودعا لي بخير. ثمّ عرج بنا حتّى انتهينا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل. فقيل : من؟ قال : جبريل. قيل : ومن معك؟ قال : محمّد. قيل : أو قد بعث إليه؟ قال : نعم. قالوا : مرحبا به ولنعم المجيء جاء. ففتح لنا فإذا أنا بموسى ، وإذا هو رجل أشعر ، لو لبس قميصين لنفذهما الشعر. فقلت : من هذا يا جبريل؟ قال : هذا أخوك موسى. فرحّب بي ودعا لي بخير.

قال : فمضيت ، ثمّ سمعت موسى يقول : يزعم بنو إسرائيل أنّي أكرم الخلق على الله (١) ، وهذا أكرم على الله منّي. ولو كان النبيّ وحده لهان عليّ ، ولكن النبيّ ومن تبعه من أمّته. ثمّ عرج بنا حتّى انتهينا إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل ، فقيل له : من هذا؟ قال : جبريل. قيل : ومن معك؟ قال : محمّد. قيل : أو قد بعث إليه؟ قال : نعم. قالوا : مرحبا به ولنعم المجيء جاء. ففتح لنا.

فأتيت على إبراهيم فإذا هو مستند إلى البيت المعمور ، يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة. فقلت : من هذا يا جبريل؟ قال : هذا أبوك إبراهيم. فسلّمت عليه ، فرحّب بي ودعا لي بخير. فإذا أمّتي عنده شطران : شطر عليهم ثياب بيض ، وشطر عليهم ثياب رمد ؛ فدخل أصحاب الثياب البيض واحتبس الآخرون.

فقلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيّئا. وكلّ إلى خير. ثمّ قيل لي : هذه منزلتك ومنزلة أمّتك. ثمّ تلا هذه الآية : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (٦٨) [آل عمران : ٦٨].

قال : ثمّ انتهينا إلى سدرة المنتهى فإذا أحسن ما خلق الله ، وإذا الورقة من ورقها لو غطّيت بها هذه الأمة لغطّتها. ثمّ انفجر من تحتها السلسبيل ، ثمّ انفجر من السلسبيل نهران :

__________________

(١) كذا في ز ، وسع ورقة ٦ ظ وفي ق وع : «يزعم بنو إسرائيل أنّ أكرم الخلق على الله أنا». والعبارة التي أثبتّها أنسب وأفصح.

٤٠٠