تفسير كتاب الله العزيز - ج ٢

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٢

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٣

الآيات إلّا ربّ السماوات والأرض بصائر (١).

قوله : (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) (١٠٢) : أي مسحورا (٢) في تفسير مجاهد وغيره ؛ أي : يدعو بالحسرة والثبور في النار. والثبور : الدعاء بالويل والهلاك. وقال الكلبيّ : (مثبورا) أي : ملعونا (٣).

قوله : (فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ) : أي أن يخرجهم (مِنَ الْأَرْضِ) : أي أرض مصر.

وقال الحسن : يقتلهم ، يخرجهم منها بالقتل.

قال : (فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) : أي القيامة (جِئْنا بِكُمْ) : يعني بني إسرائيل وفرعون وقومه (لَفِيفاً) (١٠٤) : أي جميعا في تفسير مجاهد وغيره.

قوله : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) : أي القرآن (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً) : بالجنّة (وَنَذِيراً) (١٠٥) : تنذر الناس.

قوله : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) : أنزله الله في ثلاث وعشرين سنة. (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) (١٠٦). فمن قرأها بالتخفيف ، قال : (فرقناه) أي : فرق فيه بين الحقّ والباطل والحلال والحرام (٤). وكان الحسن يقرأها مثقّلة فيقول : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ) قال : فرّقه

__________________

(١) انظر في معاني الفرّاء ، ج ٢ ص ١٣٢ اختلاف القرّاء في فتح التاء أو ضمّها في قوله تعالى : (لَقَدْ عَلِمْتَ) قال الفرّاء : «والفتح أحبّ إليّ».

(٢) كذا وردت الكلمة في المخطوطات الأربع : «مسحورا» ، ولم أهتد لوجه صحيح لها ، وفي سع ورقة ١٩ و :«محسورا» ، ولعلّها تصحيف لكلمة : «محسّر» بمعنى مؤذى ، محتقر ، مطرود ، كما جاء في اللسان : (حسر) ، وفي ز ، ورقة ١٩٠ : «مهلكا» وهذه أصحّ ، وهي موافقة لما جاء في تفسير مجاهد ، ص ٣٧١.

(٣) وهنالك معنى آخر ذكره الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ١٣٢ حيث قال : «وقوله : (يا فرعون مثبورا) : ممنوعا من الخير. والعرب تقول : ما ثبرك عن ذا ، أي : ما منعك منه وصرفك عنه». وأرى أنّ المعنى الصحيح المناسب هو معنى الهلاك ؛ وبذلك فسّره أبو عبيدة وابن قتيبة فقد قالا : «(مثبورا) أي : مهلكا».

(٤) أمّا الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ١٣٣ فقال : «وأمّا (فرقناه) بالتخفيف فقد قرأه أصحاب عبد الله ، والمعنى : أحكمناه وفضّلناه ؛ كما قال : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [الدخان : ٤] أي : يفصّل».

٤٤١

الله ، فأنزله يوما بعد يوم ، وشهرا بعد شهر ، وعاما بعد عام ، حتّى بلغ به ما أراد.

وقال مجاهد : (على مكث) أي : على ترسّل في قريش.

وذكر الكلبيّ عن ابن عبّاس قال : نزل القرآن إلى السماء الدنيا جملة واحدة ليلة القدر ، ثمّ جعل ينزل نجوما : ثلاث آيات وأربع آيات ، أو أقلّ من ذلك أو أكثر. ثمّ تلا هذه الآية : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) (٧٥) [الواقعة : ٧٥].

قوله : (قُلْ آمِنُوا بِهِ) : يعني القرآن. يقول : قل للمشركين آمنوا به (أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) : أي من قبل هذا القرآن ، يعني المؤمنين من أهل الكتاب (إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ) : أي القرآن (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) : أي للوجوه (سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) (١٠٨) : أي لقد كان وعد ربّنا مفعولا. (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) : أي للوجوه (يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ) : أي القرآن (خُشُوعاً) (١٠٩). والخشوع : الخوف الثابت في القلب.

قوله : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) : وذلك أنّ المشركين قالوا : أمّا الله فنعرفه ، وأمّا الرحمن فلا نعرفه ، فقال الله : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) أي : إنّه هو الله وهو الرحمن.

(أَيًّا ما تَدْعُوا) : يقول : أيّ الاسمين دعوتموه به (فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) : وقال : (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي) [الرعد : ٣٠].

ذكروا عن الحسن أنّه قال : الله والرحمن اسمان ممنوعان لا يستطيع أحد من الخلق أن ينتحلهما.

قوله : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) (١١٠).

قال الكلبيّ : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو بمكّة ، كان يجتمع إليه أصحابه ، فإذا صلّى بهم ورفع صوته سمع المشركون صوته فآذوه. وإن خفض صوته لم يسمع من خلفه ؛ فأمره الله

٤٤٢

أن يبتغي بين ذلك سبيلا.

وقال مجاهد : حتّى لا يسمعك المشركون فيسبّوك.

وقال بعضهم : كان نبيّ الله ، وهو بمكّة ، إذا سمع المشركون صوته رموه بكلّ خبث ، فأمره الله أن يغضّ (١) من صوته وأن يقتصد في صلاته.

وكان يقال : ما أسمعت أذنيك فليس بتخافت (٢).

وذكر بعضهم قال : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) أي : في الدعاء والمسألة.

وذكروا عن ابن عبّاس أنّه قال : إنّ من الصلاة سرّا ، وإنّ منها جهرا ، فلا تجهر فيما تسرّ فيه ، ولا تسرّ فيما تجهر فيه ، وابتغ بين ذلك سبيلا.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمع أبا بكر وهو يصلّي من الليل وهو يخفي صوته ، وسمع عمر وهو يجهر بصوته ، وسمع بلالا وهو يقرأ من هذه السورة ومن هذه السورة ، فقال لأبي بكر : لم تخفي صوتك؟ قال : إنّ الذي أناجي ليس ببعيد. قال : صدقت. فقال لعمر : لم تجهر بصوتك؟ قال : أرضي الرحمن وأرغم الشيطان وأوقظ الوسنان. قال : صدقت. وقال لبلال : لم تقرأ من هذه السورة ومن هذه السورة؟ قال : أخلط طيّبا بطيّب. قال : صدقت.

فأمر أبا بكر أن يرفع من صوته ، وأمر عمر أن يخفض من صوته ، وأمر بلالا إذا أخذ في سورة أن يفرغ منها. فأنزل الله : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) (٣).

__________________

(١) في المخطوطات الأربع : «يخفض من صوته». وأثبتّ ما في سع ، فهو أفصح لورود الكلمة في سورة لقمان آية : ١٩ ، ولموافقته لما جاء في تفسير الطبريّ ، ج ١٥ ص ١٨٦. والقول لقتادة.

(٢) في ج ود : «ما أسمعت أذنيك فلست بمخافت» ، وفي سع : «ما أسمعت أذنيك فليس تخافت» (كذا) والصحيح ما أثبتّه. وفي الطبريّ ، ج ١٥ ص ١٨٦ : «ما سمعته أذنك فليس بمخافتة» ، والعبارة من تمام قول قتادة.

(٣) أورده يحيى بن سلّام بسند مختصر هكذا : «عثمان عن زيد بن أسلم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ...» في سع ورقة ـ

٤٤٣

قوله : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) : يتكثّر به من القلّة. (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) : أي : خلق معه شيئا. (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) : أي يتعزّز به (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) (١١١) : أي وعظمه تعظيما.

ذكروا أنّ نبيّ الله عليه الصلاة والسّلام كان يعلّمها الصغير والكبير من أهله.

وذكروا عن كعب قال : فتحت التوراة ب (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (١) [الأنعام : ١] وختمت ب (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ، شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ، وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً).

[ذكروا عن عائشة قالت : كان رسول الله عليه‌السلام إذا صلّى ركعتي الفجر قال : اللهمّ إنّا نشهد أنّك لست بإله استحدثناه ، ولا بربّ يبيد ذكره ، ولا مليك معه شركاء يقضون معه ، ولا كان قبلك إله ندعوه ونتضرّع إليه ، ولا أعانك على خلقنا أحد فنشكّ فيك ، لا إله إلّا أنت ، اغفر لي ، إنّه لا يغفر الذنوب إلّا أنت] (١).

__________________

ـ ١٤ ظ. وأخرجه ابن جرير الطبريّ بسند إلى محمّد بن سيرين قال : «نبّئت أنّ أبا بكر كان إذا صلّى فقرأ خفض صوته ، وأنّ عمر كان يرفع صوته ، قال : فقيل لأبي بكر : لم تصنع هذا؟ فقال : أناجي ربّي ...» الخ. وانظر الواحدي ، أسباب النزول ، ص ٣٠٣ ـ ٣٠٥ ففيه مختلف الأقوال في سبب نزول الآية.

(١) زيادة من سع ورقة ١٤ ظ ، رأيت من الفائدة إثباتها ، وقد أورد ابن سلّام الحديث بسند مختصر هكذا : «الفرات بن سلمان قال : قالت عائشة ...» ولم أجده فيما بين يديّ من المصادر.

٤٤٤

تفسير سورة الكهف

وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) : حمد نفسه وهو أهل للحمد. (الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ) : أي محمّد عليه‌السلام (الْكِتابَ) : أي القرآن (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً) : فيها تقديم. يقول : أنزل على عبده الكتاب قيّما ولم يجعل له عوجا.

ذكروا أنّ مجاهدا قال : أنزله قيّما لا عوج فيه ولا اختلاف.

(لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً) : أي عذابا شديدا (مِنْ لَدُنْهُ) : أي من عنده ، من عند الله. (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) (٢) : أي عند الله في الجنّة. وقال في آية أخرى : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) [الأنعام : ١٣٢]. قوله : (ماكِثِينَ فِيهِ) : أي في ذلك الثواب ، وهو الجنّة. (أَبَداً) (٣).

(وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) أنّ لله ولدا (وَلا لِآبائِهِمْ) قبلهم الذين كانوا في الشرك.

(كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) : هي على قراءة النصب عمل في باب كان (١). وكان الحسن يقرأها بالرفع (كبرت كلمة) ، أي : كبرت تلك الكلمة أن قالوا : إنّ لله ولدا.

__________________

(١) كذا في المخطوطات الأربع وفي سع ورقة ١٤ ظ. «عمل في باب كان». فإذا كانت هذه العبارة تعني أنّ قوله تعالى : (كلمة) جاءت منصوبة على أنّها خبر كان ، فلست أرى وجها لإعرابها كذلك. والصحيح أنّ الذين قرأوها بالنصب إنّما اعتبروها تمييزا لا غير. قال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ١٣٤ : «فمن نصب أضمر في (كبرت) : كبرت تلك الكلمة كلمة. ومن رفع لم يضمر شيئا ، كما تقول : عظم قولك ، وكبر كلامك». وقال الزمخشريّ في الكشّاف ، ج ٢ ص ٣٠٧ : «قرئ (كلمة) و (كلمة) بالنصب على التمييز ، وبالرفع على الفاعليّة ، والنصب أقوى وأبلغ ، وفيه معنى التعجّب ، كأنّه قيل : ما أكبرها كلمة!». ومعنى التعجّب هذا هو ما بيّنه الشيخ الطاهر ابن عاشور في التحرير والتنوير ، ج ١٥ ص ٢٥٢ فقال : «ودلّ على قصد التعجيب منها انتصاب (كلمة) على التمييز ، إذ لا يحتمل التمييز هنا معنى غير أنّه تمييز نسبة التعجيب ...».

٤٤٥

قال : (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) (٥).

قوله : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) : أي قاتل نفسك في تفسير العامّة (عَلى آثارِهِمْ) : أي آسفا ، أي حزنا عليهم في تفسير مجاهد. (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ) : أي القرآن. (أَسَفاً) (٦) : قال بعضهم : غضبا. وهي مثل قوله : (فَلَمَّا آسَفُونا) [الزخرف : ٥٥] أي : أغضبونا. وقال مجاهد : (أسفا) أي : جزعا (١).

قوله : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها) : أي لأهلها (لِنَبْلُوَهُمْ) : أي لنختبرهم (أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (٧) : أي أيّهم أطوع لله. وقد علم ما هم فاعلون. قال : (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها) : أي ما على الأرض (صَعِيداً جُرُزاً) (٨) : والجرز ههنا الخراب. وقال بعضهم : التي ليس فيها شجر ولا نبات. وقال مجاهد : بلقعا. وقال في موضع آخر : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) أي : اليابسة التي ليس فيها نبات (فنخرج به زرعا) (فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً) [السجدة : ٢٧]. قوله : (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) (٩) : أي قد كان في آياتنا ما هو أعجب منهم.

وقال مجاهد : هم عجب. [قال بعضهم] يقول : ليس هم أعجب آياتنا (٢). والكهف كهف الجبل. والرقيم الوادي الذي فيه الكهف (٣).

قوله : (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا) : أي أعطنا (مِنْ لَدُنْكَ) : أي من عندك (رَحْمَةً) : أي رزقا (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) (١٠) : كانوا قوما قد آمنوا ففرّوا بدينهم من قومهم. وكان قومهم على الكفر ، وخشوا على أنفسهم القتل.

__________________

(١) وقال أبو عبيدة في المجاز : «(أسفا) أي : ندما وتلهّفا وأسى». انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة ، ج ١ ص ٣٩٣.

(٢) جاءت العبارة مضطربة في بعض المخطوطات ، فأثبتّ التصحيح من سع ، ورقة ١٤ ظ. والقول لقتادة.

(٣) هذا وجه من وجوه تفسير الرقيم. وقيل : هو اللوح المرقوم. جاء في صحيح البخاريّ في تفسير سورة الكهف : «الرقيم الكتاب ، مرقوم مكتوب ، من الرقم». وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ١٣٤ : «والرقيم لوح رصاص كتبت فيه أنسابهم ودينهم وممّ هربوا».

٤٤٦

قال : (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) (١٢) : أي المنتهى الذي بعثوا فيه ، أي : لم يكن لواحد من الفريقين علم ، لا لمؤمنهم ولا لكافرهم. وقال مجاهد : (أمدا) أي : عددا ، أي : لم يكن لهم علم بما لبثوا (١).

قوله : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ) : أي خبرهم بالحقّ (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) (١٣) : أي إيمانا.

(وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) : أي بالإيمان (إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) (١٤) : أي جورا وكذبا (٢).

قوله : (هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا) : أي هلّا (يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) : أي بحجّة بيّنة.

تفسير الحسن وابن عبّاس في هذا الحرف في القرآن كلّه : حجّة بيّنة. وقال بعضهم : هذا الحرف حيث كان في القرآن كلّه : عذر بيّن. وقال الحسن : بيّن بأنّ الله أمرهم بعبادتهم.

قال : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) (١٥) : أي لا أحد أظلم منه.

قوله : (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) : يقوله بعضهم لبعض. (وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) أي : وما يعبدون من دون الله ، أي : وما يعبدون سوى الله. وفي مصحف عبد الله بن مسعود : وما يعبدون من دون الله ، وهذا تفسيرها. (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) : [أي : فانتهوا إلى الكهف] (٣) (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) : أي من رزقه (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ

__________________

(١) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ١٣٦ : «وقوله (أيّ الحزبين) فيقال : إنّ طائفتين من المسلمين في دهر أصحاب الكهف اختلفوا في عددهم. ويقال : اختلف الكفّار والمسلمون. وأمّا (أحصى) فيقال : أصوب ، أي : أيّهم قال بالصواب».

(٢) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ١ ص ٣٩٤ : «أي : جورا وغلوّا». وهو أنسب وأدقّ معنى.

(٣) زيادة من سع ورقة ١٥ و ، وز ورقة ١٩٢.

٤٤٧

أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) (١٦).

قوله : (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ) : أي تعدل عن كهفهم. وقال بعضهم : تميل عن كهفهم (ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ) : أي غابت (تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ) : أي تتركهم ذات الشمال. وقال الحسن : لا تدخل الشمس كهفهم على كلّ حال.

(وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) : أي في فضاء من الكهف. وتلك آية. وقال بعضهم : (فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) أي : في عزلة منه.

(ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) (١٧).

قال : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) : أي مفتّحة أعينهم وهم موتى. (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) : قال بعضهم : وذلك في رقدتهم الأولى قبل أن يموتوا. وقال بعضهم : لهم في كلّ عام تقليبتان.

(وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) : أي بفناء الكهف (١). (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) (١٨) : أي لحالهم (٢).

(وَكَذلِكَ) : أي بهيئاتهم (بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ). وكانوا دخلوا الكهف في أوّل النهار. قال : فنظروا فإذا هو قد بقي من الشمس بقيّة ، فقالوا : (أو بعض يوم). ثمّ إنّهم شكّوا ، فردّوا علم ذلك إلى الله ف (قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) : يقوله بعضهم لبعض.

__________________

(١) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ١ ص ٣٩٧ : «(بالوصيد) على الباب وبفناء الباب جميعا. لأنّ الباب يوصد ، أي : يغلق ، والجميع وصائد ووصد».

(٢) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ١٣٧ : «وهذا خوطب به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

٤٤٨

قال : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ) : أي بدراهمكم هذه (إِلَى الْمَدِينَةِ) : وكانت معهم دراهم (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً) : قال بعضهم : أحلّ طعاما ، وقد كان من طعام قومهم ما لا يستحلّون أكله قطّ (١). وقال بعضهم : (أزكى) أي : أطيب (فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَ) : أي لا يعلمنّ (بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) : أي يطّلعوا عليكم (يَرْجُمُوكُمْ) : أي يقتلوكم بالحجارة (أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) : أي في الكفر (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) (٢٠) : أي إن فعلتم ذلك.

قال : (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) : أي أطلعنا عليهم ، أي : على أصحاب الكهف ، أي : أطلعنا أهل ذلك الزمان الذي أحياهم الله فيه ، وليس بحياة النشور. قال : (لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ).

وكانت تلك الأمّة الذين هربوا منهم قد بادت ، وخلفت من بعدهم أمّة أخرى ، وكانوا على الإسلام. ثمّ إنّهم اختلفوا في البعث ؛ فقال بعضهم : يبعث الناس في أجسادهم ، وهؤلاء المؤمنون ، وكان الملك منهم ، وقال بعضهم : تبعث الأرواح بغير أجساد ، فكفروا. وهذا قول أهل الكتاب اليوم ؛ فاختلفوا. فبعث الله أصحاب الكهف آية ليعلمهم أنّ الناس يبعثون في أجسادهم ، وقال في آية أخرى : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) [النبأ : ٣٨] أي : روح كلّ شيء في جسده ، وهو قوله : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٦) [المطفّفين : ٦].

فلمّا بعث أصحاب الكهف صاحبهم بالدراهم ليشتري بها طعاما ، وهم يرون أنّها تلك الأمّة المشركة الذين فرّوا منهم ، أمروا صاحبهم أن يتلطّف ولا يشعرن بهم أحدا.

فلمّا دخل المدينة ، وهي مدينة بالروم يقال لها فسوس (٢) ، وكان ملكهم يقال له :

__________________

(١) وقال الفرّاء : «يقال : أحلّ ذبيحة ، لأنّهم كانوا مجوسا».

(٢) كذا في المخطوطات : «فسوس» ، وفي سع ورقة ١٦ ظ. وقيل هي : «أبسس» بفتح الهمزة وسكون الموحّدة وضمّ السين بعدها سين أخرى مهملة ، وكان بلدا من ثغور طرسوس بين حلب وبلاد أرمينية وأنطاكية. انظر : ابن عاشور ، التحرير والتنوير ، ج ١٥ ص ٢٦١. أمّا ياقوت الحمويّ فإنّه لم يجزم في الأمر ، فقد أورد في ج ١ ص ٢٣١ من معجم البلدان كلمة «أفسوس» قال : «بضمّ الهمزة وسكون الفاء والسينان مهملتان ، ـ

٤٤٩

دقيانوس ، فأخرج الدراهم ليشتري بها الطعام استنكرت الدراهم ، فأخذ وذهب به إلى ملك المدينة ، فإذا الدراهم دراهم الملك الذي فرّوا منه ، فقالوا : هذا رجل وجد كنزا. فلمّا خاف على نفسه أن يعذّب أطلع على أصحابه. فقال لهم الملك : إنّ الله قد بيّن لكم ما اختلفتم فيه ، فأعلمكم أنّ الناس يبعثون في أجسادهم.

فركب الملك والناس معه حتّى انتهوا إلى الكهف. وتقدّمهم الرجل. حتّى إذا دخل على أصحابه فرآهم ورأوه ماتوا ، لأنّهم قد كانت أتت عليهم آجالهم.

فقال القوم : كيف نصنع بهؤلاء ف (فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) : وهم رؤساؤهم وأشرافهم ، وقال بعضهم : مؤمنوهم (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) (٢١).

ذكر عكرمة أنّهم كانوا بني الأكفاء والرقباء ملوك الروم (١) ، رزقهم الله الإسلام ففرّوا بدينهم ، واعتزلوا قومهم حتّى انتهوا إلى الكهف ، فضرب الله على أصمختهم (٢) ، فلبثوا دهرا طويلا حتّى هلكت أمّتهم ، وجاءت أمّة مسلمة. وكان ملكهم مسلما ، فاختلفوا في الروح والجسد ؛ فقال قائلون : يبعث الروح والجسد معا. وقال قائلون : تبعث الأرواح ، أمّا الأجساد فتأكلها الأرض فلا تكون شيئا.

فشقّ على ملكهم اختلافهم ؛ فانطلق فلبس المسوح ، وقعد على الرماد. ثمّ دعا الله فقال : إنّك ترى اختلاف هؤلاء ، فابعث لهم آية تبيّن لهم بها. فبعث الله لهم أصحاب الكهف. فبعثوا أحدهم ليشتري لهم من الطعام ، فجعل ينكر الوجوه ويعرف الطرق ،

__________________

ـ والواو ساكنة : بلد بثغور طرسوس. يقال إنّه بلد أصحاب الكهف».

(١) كذا في المخطوطات وفي سع ورقة ١٦ ط : «بني الأكفاء والرقباء ملوك الروم». وفي الدرّ المنثور ، ج ٤ ص ٢١٤ : «أبناء الملوك». وفيه عن مجاهد : «كان أصحاب الكهف أبناء عظماء أهل مدينتهم وأهل شرفهم».

(٢) كذا في ق وع : «أصمختهم» ومفرده صماخ ، وهو الخرق الباطن المفضي إلى الدماغ. وفي سع : «أسمختهم» وهو لغة في «أصمختهم». وفي ج ود : «أسماعهم».

٤٥٠

ورأى الإيمان في المدينة ظاهرا. فانطلق ، وهو مستخف ، حتّى انتهى إلى رجل ليشتري من طعامه. فلمّا أبصر صاحب الطعام الورق أنكرها. قال له الفتى (١) أليس ملككم فلانا؟ قال الرجل : بل ملكنا فلان. فلم يزل ذلك بينهما حتّى رفعه إلى الملك.

فأخبره صاحب الكهف بحديثه وأمره. فبعث الملك في الناس فجمعهم فقال : إنّكم اختلفتم في الروح والجسد ، وإنّ الله قد بعث لكم آية وبيّن لكم الذي اختلفتم فيه ؛ فهذا رجل من قوم فلان ، يعني ملكهم الذي مضى. فقال صاحب الكهف : انطلقوا إلى أصحابي. فركب الملك وركب الناس حتّى انتهوا إلى الكهف. فقال الرجل : دعوني حتّى أدخل إلى أصحابي ، فلمّا أبصرهم وأبصروه ضرب الله على أصمختهم. [فلمّا استبطأوه] (٢) دخل الملك ودخل الناس معه ، فإذا أجساد لا ينكرون منها شيئا ، غير أنّه لا أرواح فيها. فقال الملك : هذه آية بعثها الله لكم. (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) ، وهم ملوكهم وأشرافهم (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً).

قال الله : (سَيَقُولُونَ) : أي : سيقول أهل الكتاب (ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ) : أي قذفا بالغيب (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) : أي إلّا قليل من الناس. ذكروا أنّ ابن عبّاس كان يقول : أنا من أولئك القليل الذين استثنى الله ؛ كانوا سبعة وثامنهم كلبهم.

قال : (فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً) : يقول الله للنبيّ عليه‌السلام : لا تمار ، أي : لا تجادل أهل الكتاب في أصحاب الكهف (إلّا مراء ظاهرا) أي : إلّا بما أخبرتك. وحسبك ما قصصت عليك من أمرهم. (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ) : أي في أصحاب الكهف (مِنْهُمْ أَحَداً) (٢٢) : أي من أهل اليهود. يقول : لا تسأل عنهم من اليهود أحدا ، وهم الذين سألوه

__________________

(١) في المخطوطات الأربع : «قال له الرجل : أليس ملككم فلانا؟ قال : بلى ملكنا فلان» وفيه خطأ. وفي سع ورقة ١٦ ظ : «قال له الرجل : أليس ملككم فلان؟ قال : لا ، بل ملكنا فلان». وهو صحيح. وأولى بالصحّة والصواب والإيضاح ما أثبتّه من الدر المنثور ، ج ٤ ص ٢١٤.

(٢) زيادة من الدرّ المنثور يقتضيها سياق الكلام.

٤٥١

عنهم ليعنّتوه بذلك (١).

قال : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) : يقول : إلّا أن تستثني. بلغنا أنّ اليهود لمّا سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أصحاب الكهف قال لهم رسول الله : أخبركم عنهم غدا ، ولم يستثن ، فأنزل الله هذه الآية.

قال : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) : [أي : إذا نسيت الاستثناء] (٢) (وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) (٢٤). ومتى ما ذكر الذي حلف فليقل : إن شاء الله ، لأنّ الله أمره أن يقول : إن شاء الله.

ومن حلف على يمين فاستثنى قبل أن يتكلّم بين اليمين وبين الاستثناء بشيء فله ثنياه ، ولا كفّارة عليه. وإن كان استثنى بعدما تكلّم بعد اليمين قبل الاستثناء ، أو متى ما استثنى فالكفّارة لازمة له ، وسقط عنه المأثم حيث استثنى ، لأنّه كان قد ركب ما نهى عنه من تركه ما أمر به من الاستثناء. أي : لا يقول : إنّي أفعل حتّى يقول : إن شاء الله ، ولا يقول : لا أفعل حتّى يقول : إن شاء الله.

ذكر ابن عمر أنّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا استثنى فله ثنياه (٣).

وقال بعضهم : ليس الاستثناء بشيء حتّى يجهر به كما يجهر باليمين. أي : إنّ الاستثناء

__________________

(١) في ج ود : «ليفتنوه بذلك» وفيه تصحيف ، صوابه ما أثبتّه من ق وع : «ليعنّتوه». يقال : «أعنته وتعنّته تعنّتا أي : سأله عن شيء أراد اللبس عليه والمشقّة». انظر اللسان (عنت).

(٢) زيادة من سع ورقة ١٦ ظ ، لا بدّ من إثباتها. وهذا على مذهب من رأى أنّ الذكر هنا خاصّ ، أي : إذا نسيت الاستثناء فاستثن. وهذا ما ذهب إليه جلّة من العلماء ، منهم ابن عبّاس. ذكر ذلك الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ١٣٧ فقال : «قال ابن عبّاس : إذا حلفت فنسيت أن تستثني فاستثن متى ذكرت ما لم تحنث». ومنهم من قال : إنّ الذكر هنا عامّ ؛ والمعنى : اذكر ربّك إذا نسيت ذكره ، وهو ما اختاره الطبريّ في تفسيره ، ج ١٥ ص ٢٢٩. وانظر وجوها أخرى في تأويل الآية أوردها القرطبيّ في تفسيره ، ج ١٠ ص ٣٨٥ ـ ٣٨٦.

(٣) أخرجه أبو داود في كتاب الأيمان والنذور ، باب الاستثناء في اليمين (رقم ٣٢٦١) عن ابن عمر ، ولفظه : من حلف على يمين فقال : إن شاء الله فقد استثنى. وانظر ما سلف ، ج ١ ، تفسير الآية ٨٩ من سورة المائدة.

٤٥٢

في قلبه ليس بشيء حتّى يتكلّم به لسانه.

ذكروا عن الحسن أنّه قال : من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ، وليكفّر عن يمينه ، إلّا طلاق أو عتاق.

قوله : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ) : ثمّ أخبر ما تلك الثلاثمائة فقال : (سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) (٢٥) : أي تسع سنين.

قال بعضهم : هذا من قول أهل الكتاب. أي : إنّه رجع إلى أوّل الكلام : (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) ، ويقولون : (لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً). فردّ الله على نبيّه فقال :

(قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) :

يقول : ما أبصره وما أسمعه ، كقول الرجل للرجل : أفقه به ، وأشباه ذلك. فلا أحد أبصر من الله ، ولا أسمع من الله (١).

(ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍ) : أي يمنعهم من عذاب الله (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) (٢٦) : وهي تقرأ بالياء والتاء. فمن قرأها بالتاء فهو يقول : ولا تشرك يا محمّد في حكمه أحدا ، أي : لا تجعل معه شريكا في حكمه وقضائه وأموره. ومن قرأها بالياء فهو يقول : ولا يشرك الله في حكمه أحدا.

قوله : (وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) : أي لا يحكم في الآخرة بخلاف ما قال في الدنيا. وهو كقوله : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) [سورة ق : ٢٩].

__________________

(١) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ١٣٩ : «يريد الله سبحانه وتعالى كقولك في الكلام : أكرم بعبد الله ، ومعناه : ما أكرم عبد الله ، وكذلك قوله : (أسمع بهم وأبصر) : ما أسمعهم ، ما أبصرهم. وكلّ ما كان فيه معنى من المدح أو الذمّ فإنّك تقول فيه : أظرف به وأكرم به ، ومن الياء والواو : أطيب به طعاما ، وأجود به ثوبا».

٤٥٣

قوله : (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) (٢٧) : أي وليّا ولا موئلا (١). قوله : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) وهما الصلاتان : صلاة الصبح وصلاة العصر. وإنّما فرضت الصلوات الخمس قبل خروج النبيّ عليه الصلاة والسّلام من مكّة إلى المدينة بسنة. ثمّ نزلت هذه الآية في سلمان الفارسيّ ، وبلال ، وصهيب ، وخبّاب بن الأرتّ ، وسالم ، مولى أبي حذيفة. قال المشركون للنبيّ : إن أردت أن نجالسك فاطرد عنّا هؤلاء القوم ، فأنزل الله : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) [الأنعام : ٥٢].

قال : (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ) محقرة لهم إلى غيرهم (٢) (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) [قال بعضهم : ذكروا عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لذكر الله بالغداة والعشيّ أفضل من حطم السيوف في سبيل الله ومن إعطاء المال سحّا] (٣).

قوله : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (٢٨) : أي ضياعا. وهو مثل قوله : (يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها) [الأنعام : ٣١] أي : على ما ضيّعنا فيها.

قال : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) : يعني القرآن (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) : وهذا وعيد هوله شديد ، أي : من آمن دخل الجنّة ، ومن كفر دخل النار. قال : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ) : أي للمشركين والمنافقين (ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) : أي سورها ، ولها عمد. فإذا مدّت تلك العمد أطبقت على أهلها ، وذلك حين يقول : (اخْسَؤُا

__________________

(١) كذا في ق وع ود : «وليّا ولا موئلا». وفي تفسير الطبريّ ، ج ١٥ ص ٢٣٣ عن قتادة : «ملجأ ولا موئلا». وقال أبو عبيدة في المجاز ، ج ١ ص ٣٩٨ : «أي : معدلا ، واللحد منه والإلحاد».

(٢) «أي : لا تنصرف عيناك عنهم» ، كما ذكره الفراء.

(٣) زيادة من ز ، ورقة ١٩٤ ، ومن سع ورقة ١٧ ، وحيث ورد الحديث بالسند التالي : «يحيى عن أشعث عن يعلى بن عطاء عن عمرو بن عاصم عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ...» وقد أورد ابن سلّام أحاديث في فضل الذكر ومجالسته الذاكرين الله. وانظر الدر المنثور ، ج ٤ ، ص ٢١٩ ـ ٢٢٠.

٤٥٤

فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) (١٠٨) [المؤمنون : ١٠٨]. فإذا قال ذلك أطبقت عليهم ؛ وهو قوله : (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) (٨) أي : مطبقة (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) (٩) [الهمزة : ٨ ـ ٩].

قوله : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ).

ذكروا عن عبد الله بن مسعود أنّه أهديت له سقاية ذهب وفضّة. فأمر بخدود فخدّت في الأرض. ثمّ قذف فيها من جزل الحطب. ثمّ قذف فيها تلك السقاية ، حتّى إذا أزبدت وماعت قال لغلامه : ادع من بحضرتنا من أهل الكوفة. فدعا رهطا. فلمّا دخلوا عليه قال : أترون هذا؟ قالوا : نعم. قال : ما رأينا في الدنيا شبها للمهل أدنى من هذا الذهب وهذه الفضّة حين أزبد وماع.

وقال بعضهم : المهل كعكر الزيت. وقال مجاهد : المهل : القيح والدم.

قوله : (يَشْوِي الْوُجُوهَ) : أي يحرق الوجوه إذا أهوى ليشربه. (بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) (٢٩) : أي منزلا ومأوى. وقال مجاهد : (وساءت مرتفقا) أي : مجتمعا. وقوله : (وساءت) أي : بئس المنزل والمأوى هي جهنّم. وهذا وعيد هوله شديد لمن كفر.

ثمّ أخبر بوعده لمن آمن فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) : قد فسّرناه في غير هذا الموضع (١).

قوله : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) : ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إنّ الرجل من أهل الجنّة لو بدا سواره لغلب على ضوء الشمس (٢).

__________________

(١) انظر ما مضى في الجز الأوّل ، تفسير الآية ٢٥ من سورة البقرة.

(٢) هذا حديث رواه ابن سلّام عن ابن لهيعة ، وهو ممّن لا يحتجّ بهم ، فقد ضعّفه كثيرون ، وإن وثّقه بعضهم. ورواه السيوطيّ في الدر المنثور ، ج ٤ ص ٢٢١ بدون سند عن ابن مردويه عن سعد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولفظه : «لو أنّ رجلا من أهل الجنّة أطلع فبدت أساوره لطمس ضوءه ضوء الشمس كما يطمس ضوء النجوم. وأصحّ منه ما رواه الشيخان عن أبي هريرة قال : «سمعت خليلي يقول : تبلغ الحلية من المؤمن ـ

٤٥٥

ذكروا أنّه ليس من أهل الجنّة أحد إلّا وفي يده ثلاثة أسورة : سوار من ذهب ، وسوار من فضّة ، وسوار من لؤلؤ. وهو قوله : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) [الحج : ٢٣] ، وقوله : (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) [الإنسان : ٢١].

قوله : (وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) : قال بعضهم : أمّا السندس فالخزّ الذي يقال له : الرقيم. وأمّا الإستبرق فالديباج الغليظ. وبعض الكوفيّين يقول : هي بالفارسيّة : استبره.

قوله : (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) : أي على السرر [في الحجال] (١). ذكر ابن عبّاس في قوله : (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) (١٥) [الواقعة : ١٥] قال : مرمولة بالذهب (٢). وقال الحسن : مرمولة بالدرّ والياقوت.

وقال بعضهم : يعانق الرجل زوجته قدر عمر الدنيا ، لا تملّه ولا يملها.

ذكروا عن معاذ بن جبل أنّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ الرجل من أهل الجنّة ليتنعّم في تكأة واحدة سبعين عاما (٣).

ذكر ابن عبّاس قال : إنّ الرجل من أهل الجنّة ليتّكئ على أحد شقّيه فينظر إلى زوجته كذا وكذا سنة. ثمّ يتّكئ على الشقّ الآخر ، فينظر إليها مثل ذلك في قبّة حمراء ، من ياقوتة حمراء ، ولها ألف باب ، وله فيها سبعمائة امرأة.

قوله : (نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) (٣١) : أي منزلا ومأوى ، يعني الجنّة.

__________________

ـ حيث يبلغ الوضوء». واللفظ لمسلم ، أخرجه في كتاب الطهارة. باب تبلغ الحلية حيث يبلغ الوضوء (رقم ٢٥٠).

(١) زيادة من سع ورقة ١٧ ظ.

(٢) مرمولة : أي نسجت نسجا رقيقا.

(٣) رواه يحيى بن سلّام عن أبان بن أبي عياش عن شهر بن حوشب عن معاذ بلفظ : «بلغني ...» وذكر الحديث.

٤٥٦

قوله : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها) : أي أطعمت ثمرتها (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) : أي ولم تنقص منه شيئا (وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) (٣٣) : أي بينهما (وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ) : وهي تقرأ على وجهين : (ثمر) ، وهو الأصل ، قال بعضهم : من كلّ المال. و (ثمر) ، وهي الثمرة (١). وقال مجاهد : يعني ذهبا وفضّة.

(فَقالَ لِصاحِبِهِ) : بلغنا أنّهما كانا أخوين من بني إسرائيل ، ورثا عن أبيهما مالا فاقتسماه ، فأخذ كلّ واحد منهما أربعة آلاف دينار. فأمّا أحدهما ، فكان مؤمنا ، فأنفقه في طاعة الله ، وقدّمه لنفسه. وأمّا الآخر ، فكان كافرا ، فاتّخذ بها الأرضين والجنان والدور والرقيق وتزوّج.

واحتاج المؤمن فلم يبق في يده شيء ، فجاء إلى أخيه يزوره ويتعرّض لمعروفه. فقال له أخوه : فأين ما ورثت يا أخي؟ فقال له : أقرضته ربّي وقدّمته لنفسي. فقال له أخوه : لكنّني اتّخذت به لنفسي ولولدي ما قد رأيت.

قال الله : (فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ) : أي : يراجعه الكلام (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) (٣٤) : أي أكثر رجالا وناصرا.

قال الله : (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) : يعني بشركه (قالَ ما أَظُنُ) : أي ما أوقن (أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً) (٣٥) : أي أن تفنى هذه أبدا ، أي : إنّها لا تفنى فتذهب. ولكن ظنّ أن يعيش فيها حتّى يأكلها حياته. كقوله : (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) (٣) [الهمزة : ٣] أي : يحسب أنّه يخلد في ماله حتّى يأكله.

(وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) : أي وما أوقن أنّ الساعة قائمة. أي : يجحد البعث.

__________________

(١) قال الفرّاء في المعاني ج ٢ ص ١٤٤ : «... عن مجاهد قال : ما كان في القرآن من ثمر ، بالضم ، فهو مال ، وما كان من ثمر ، مفتوح ، فهو من الثمار». وانظر ابن خالويه ، الحجّة ، ص ١٢٢ وص ١٩٨. وانظر اللسان : (ثمر).

٤٥٧

(وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها) : أي من جنّتي (مُنْقَلَباً) (٣٦) : أي في الآخرة إن كانت آخرة. كقوله : (رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) [فصّلت : ٥٠] أي : الجنّة إن كانت جنّة ، أي : ولكن ليس جنّة ولا مردّ.

وهي تقرأ على وجه آخر : (لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهما مُنْقَلَباً) يعني الجنّتين ؛ هي في موضع جنّة ، وفي موضع جنّتان. قال : (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ) وقال : (جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ) كانت جنّة فيها نهر ، فصارت جنّتين ، فهي جنّة وهي جنّتان.

(قالَ لَهُ صاحِبُهُ) المؤمن (وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ) : يعني أوّل خلق الإنسان ، يعني آدم. (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) (٣٨).

(وَلَوْ لا) : أي فهلّا (إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ). ثمّ قال : (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ) : في الآخرة (خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ) : أي نارا من السماء ، يقول : عذابا من السماء ، وهي النار (فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) (٤٠) : أي لا نبات فيها. والصعيد الزلق : التراب اليابس الذي لا نبات فيه (١). وقال بعضهم : قد حصد ما فيها فلم يترك فيها شيء. (أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً) : أي ذاهبا قد غار في الأرض (٢) (فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً) (٤١). وقال الكلبيّ : الغور : الذي لا تناله الدلاء.

قال الله : (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) : أي من الليل (فَأَصْبَحَ) : من الغد قائما عليها (يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) : أي يصفّق كفّيه. قال الحسن : يضرب إحداهما على الأخرى ندامة. (عَلى ما أَنْفَقَ

__________________

(١) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ١ ص ٤٠٣ : «الصعيد وجه الأرض ، والزلق الذي لا يثبت فيها القدم».

(٢) وقال أبو عبيدة : «(أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً) أي : غائرا ، والعرب قد تصف الفاعل بمصدره ، وكذلك الاثنين والجميع على لفظ المصدر. قال عمرو بن كلثوم :

تظلّ جياده نوحا عليه

مقلّدة أعنّتها صفونا

أي : نائحات».

٤٥٨

فِيها) : وقال بعضهم : تلهّفا على ما فاته منها. (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) : قال الحسن : عروشها : التراب ، قد ذهب ما فيها من النبات (١). [وبعضهم يقول : مقلوبة على رؤوسها] (٢). (وَيَقُولُ) : أي في الآخرة (يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي) : أي في الدنيا (أَحَداً) (٤٢).

قال الله : (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ) : أي عشيرة (يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً) (٤٣) : أي ممتنعا في تفسير بعضهم.

قوله : (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ) : أي في الآخرة. هنالك يتولّى الله كلّ عبد. أي : لا يبقى أحد يومئذ إلّا تولّى الله. ولا يقبل ذلك من المشرك.

وهي تقرأ على وجهين : أحدهما برفع (الحقّ) والآخر بجرّه. فمن قرأها بالرفع يقول : هنالك الولاية الحقّ ، فيها تقديم ؛ أي : هنالك الولاية الحقّ لله. ومن قرأها بالجرّ فهو يقول : هنالك الولاية لله الحقّ ، والحقّ اسم من أسماء الله.

(هُوَ خَيْرٌ ثَواباً) : أي خير من أثاب ، وهو خير ثوابا للمؤمنين من الأوثان لمن عبدها. (وَخَيْرٌ عُقْباً) (٤٤) : أي خير عاقبة.

قوله : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) : وقد فسّرناه في غير هذا الموضع (٣) (فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ) : أي هشمته الرياح فأذهبته. فأخبر أنّ الدنيا ذاهبة زائلة كما ذهب ذلك النبات بعد بهجته وحسنه. (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) (٤٥).

قوله : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ

__________________

(١) كذا في المخطوطات وسع. وأصحّ من ذلك ما قاله أبو عبيدة : «خالية على بيوتها». «أو خراب على سقوفها».

(٢) ما بين المعقوفين زيادة من سع ، ورقة ١٨ و.

(٣) انظر ما سلف في هذا الجزء ، تفسير الآية ٢٤ من سورة يونس.

٤٥٩

ثَواباً) : قال الحسن : الفرائض.

ذكروا عن عليّ أنّه قال : الباقيات الصالحات هنّ سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر. وكان ابن عبّاس يجمعهما جميعا فيقول : الصلوات الخمس وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً) ، أي : عاقبة. (وَخَيْرٌ أَمَلاً) (٤٦) : أي وخير ما يأمل العباد في الدنيا أن يثابوه (١) في الآخرة.

قوله : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) : أي : مستوية ليس عليها بناء ولا شجر. [وقال مجاهد : ليس عليها خمر ولا غياية] (٢). (وَحَشَرْناهُمْ) : أي وجمعناهم (فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) (٤٧) : أي أحضروا فلم يغب منهم أحد. (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا) : أي صفوفا.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأصحابه ذات يوم : أيسرّكم أن تكونوا ثلث أهل الجنّة؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : أيسرّكم أن تكونوا شطر أهل الجنّة؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : الناس يوم القيامة عشرون ومائة صفّ ، وأنتم منهم ثمانون صفّا (٣).

ذكروا عن عائشة أنّها سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله تعالى : (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) (٨) [الانشقاق : ٨] قال : ذلكم العرض ولكن من نوقش الحساب عذّب (٤).

__________________

(١) كذا في ج ود ، وفي سع ورقة ١٨ و : «أن يثابوه». وفي ق وع : «أن ينالوه».

(٢) زيادة من سع ورقة ١٨ و ، ومن تفسير مجاهد ص ٣٧٧. والخمر ، بالتحريك ، ما واراك من الشجر والجبال أو غيرهما. والغياية ، بياءين ، لا بياء وباء كما جاءت خطأ في سع وفي تفسير الطبريّ ، هي كلّ ما أظلّك من سحاب أو غبرة أو ظلّ. ومنه الحديث : «تجيء البقرة وآل عمران يوم القيامة كأنّهما غمامتان أو غيايتان».

(٣) أخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد. باب صفة أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من حديث أطول عن عبد الله (رقم ٤٢٨٣) وأخرجه آخر الحديث من حديث آخر في الباب عن سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (رقم ٤٢٨٩) بلفظ : «أهل الجنّة عشرون ومائة صفّ ، ثمانون من هذه الأمّة ، وأربعون من سائر الأمم».

(٤) حديث متّفق عليه ، أخرجه البخاريّ في كتاب التفسير ، سورة الانشقاق ، وأخرجه مسلم في كتاب الجنّة وصفة نعيمها وأهلها ، باب إثبات الحساب ، (رقم ٢٨٧٦) كلاهما يرويه من حديث عائشة. وفي بعض ألفاظه : «من نوقش الحساب هلك».

٤٦٠