تفسير كتاب الله العزيز - ج ٢

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٢

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٣

وقال بعضهم : هو ميثاق الله الذي أخذه على جميع المؤمنين إذ كلّفهم طاعته ، ف (وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) [البقرة : ٢٨٥]. وهذا الميثاق لكلّ من وجب عليه التكليف من البالغين الأصحّاء.

قوله : (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ). ذكروا عن ابن عبّاس أنّه قال : الذي أمر الله به أن يوصل هو أن يؤمن بالنبيّين كلّهم لا يفرّق بين أحد منهم. وقال بعضهم : ما أمر الله به أن يوصل من القرابة. قوله : (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) (٢١). ذكروا عن عائشة رضي الله عنها أنّها سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قول الله : (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) (٨) [الانشقاق : ٨] فقال : (ذلك العرض ، ولكن من نوقش الحساب عذّب) (١).

قال : (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ) : أي الصلوات الخمس ، وحافظوا على وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها. ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (من حافظ على الصلوات الخمس على وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها يراه حقّا لله عليه حرم على النار) (٢). قوله : (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) : يعني الزكاة المفروضة في تفسير الحسن. (سِرًّا وَعَلانِيَةً). يستحبّ أن تعطى الزكاة علانية والتطوّع سرّا. قال : (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) : يقول : يعفون عن السيّئة إذا أسيء إليهم ، ولا يكافئون صاحبها. فالعفو عنهم حسنة. (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) (٢٢) : أي دار الآخرة. والعقبى : الثواب ، وهو الجنّة. ذكروا أنّ رجلا قال : يا رسول الله ، إنّ لي جارا يسيء مجاورتي ، أفأفعل به كما يفعل بي؟ قال : (لا ، إنّ اليد العليا خير من اليد السفلى) (٣).

__________________

(١) حديث صحيح متّفق عليه ؛ أخرجه البخاريّ في كتاب الرقاق ، باب من نوقش الحساب عذّب. وأخرجه مسلم في كتاب الجنّة وصفة نعيمها وأهلها ، باب إثبات الحساب. (رقم ٢٨٧٦).

(٢) انظر ما سلف ، ج ١ ، تفسير الآية ٨٠ من سورة البقرة.

(٣) حديث صحيح أخرجه البخاريّ ومسلم وغيرهما بألفاظ مختلفة وزيادات ، عن ابن عمر ، وعن حكيم بن حزام ، وعن أبي هريرة. ولم أجد سبب ورود الحديث كما ذكر هنا في غير هذا التفسير. أخرجه البخاريّ في ـ

٣٠١

قوله : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) : وقد فسّرناه قبل هذا الموضع. (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ) : أي من آمن وعمل صالحا من آبائهم (وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ). وقال في آية أخرى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) [الطور : ٢١] أي : إنّ الله يرفع إلى المؤمن ولده في درجته في الجنّة وإن كانوا دونه في العمل لتقرّبهم عينه.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن المرأة يكون لها الزوجان في الدنيا. امرأة أيّهما تكون في الجنّة؟ قال : ((امرأة الآخر)) (١).

قال : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) : أي في الدنيا (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (٢٤). ذكروا عن ابن عبّاس أنّه قال : إذا أثاب الله أهل الجنّة بالجنّة انطلق بالرجل منهم إلى سرادق من لؤلؤ في خمسين ألف فرسخ ، فيه قبّة حمراء من ياقوتة ، ولها ألف باب ، وله فيها سبعمائة امرأة ، فيتّكئ على أحد شقّيه ، فينظر إليها كذا وكذا سنة ، ثمّ يتّكئ على الشقّ الآخر ، فينظر إليها مثل ذلك. ثمّ يدخل عليه من كلّ باب ألف ملك من ألف باب ، معهم الهديّة من ربّهم ، فيقولون له : السّلام عليك من ربّك ، فيوضع ذلك فيقول : ما أحسن هذا! فيقول الملك للشجر حوله : إن ربّكنّ يأمركنّ أن تقطعن له كلّ ما اشتهى عن مثل هذا. قال : وذلك كلّ جمعة ، وهو المزيد.

قوله : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) : أي : ينقضون الميثاق الذي وثقوه على أنفسهم لله ، إذا أقرّوا بالسمع والطاعة. قال : (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) : وقد فسّرناه قبل هذا (٢). (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (٢٥) : أي الدار الآخرة. وسوءها النار ، يعني منازلهم في النار.

__________________

ـ كتاب الزكاة ، باب لا صدقة إلّا عن ظهر غنى ، وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة ، باب بيان أنّ اليد العليا خير من اليد السفلى (رقم ١٠٣٣ ـ ١٠٣٤ ـ ١٠٣٥).

(١) أخرجه الطبرانيّ في الكبير عن أبي الدرداء ، ولفظه : أيّما امرأة توفّي عنها زوجها ، فتزوّجت بعده ، فهي لآخر أزواجها.

(٢) انظر ما سلف ، ج ١ في تفسير الآية : ٢٧ من سورة البقرة.

٣٠٢

قوله : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) : أي يوسّع عليه (وَيَقْدِرُ) : أي ويقتر عليه الرزق (١) (وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) : يعني المشركين (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) (٢٦) : أي ذاهب زائل يستمتع به ثمّ يذهب. وإنّ الآخرة باقية. ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله : ((الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر)) (٢).

قوله : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا) : أي هلّا (أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) (٢٧) : أي إلى الله فأخلص له. وقال بعضهم : أي : من تاب.

قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ) : أي تسكن قلوبهم (بِذِكْرِ اللهِ) : قال الحسن : بوعد الله الذي وعدهم من الجنّة (٣).

قال : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ) : أي بوعد الله (تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (٢٨) : كقوله : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي) (٣٠) [الفجر : ٢٧ ـ ٣٠]. وقال بعضهم : (وتطمئنّ قلوبهم بذكر الله) أي : هشّت قلوبهم إلى ذكر الله فاستأنست به.

قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ) : ذكروا عن ابن عبّاس أنّه قال : طوبى شجرة في الجنّة. وقال بعضهم : طوبى : الجنّة.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ((طوبى شجرة في الجنّة لو سار الراكب المجدّ في ظلّها

__________________

(١) قال الفرّاء في معاني القرآن ، ج ٢ ص ٦٢ : «وقيل : يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر له في ذلك ، أي : يخيّر له. قال ابن عبّاس : إنّ الله خلق الخلق وهو بهم عالم ، فجعل الغنى لبعضهم صلاحا ، والفقر لبعضهم صلاحا ، فذلك الخيار للفريقين».

(٢) انظر تخريجه فيما سلف ، ج ١ ، تفسير الآية ٣٢ من سورة الأنعام.

(٣) هذا وجه من وجوه التأويل اقتصر عليه المؤلّف هنا. وفي تفسير الذكر أقوال ، منها : ذكر الله في التسبيح والتهليل والتكبير وفي كلّ عبادة ، ومنها الذكر بمعنى القرآن لأنّه من أسمائه. وقد أورد ابن سلّام ستّة عشر وجها للذكر في كتابه التصاريف.

٣٠٣

مائة عام ما خرج من ظلّها)) (١).

[وقال بعضهم] (٢) : ولو أنّ غرابا طار من أصلها لم يبلغ فرعها حتّى يبيضّ شيبا. ولو أنّ أمّة من الأمم كانت تحت ورقة من ورقها لأظلّتهم.

ذكروا عن بعضهم قال : إنّ في الجنّة شجرة يقال لها : طوبى ، يسير في ظلّها الراكب مائة عام لا يقطعها ، زهرها رياط ، وورقها برود ، وبطحاؤها الياقوت ، وكثبانها عنبر ، وترابها كافور ، من أصلها تنبع أنهار الجنّة : الماء والخمر والعسل واللبن. وهي مجلس من مجالس أهل الجنّة ومحدّثهم (٣).

وقال بعضهم : طوبى شجرة في الجنّة ، أصلها في دار محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليس في الجنّة دار ولا غرفة إلّا وغصن منها في تلك الدار.

قوله : (وَحُسْنُ مَآبٍ) (٢٩) : أي وحسن مرجع. أي : صاروا إلى الجنّة ونعيمها ، مثل قوله : (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (١٤) [آل عمران : ١٤]. وقال مجاهد : (وحسن مئاب) أي : الجنّة.

قوله : (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ :) يقول : كذلك أرسلناك في أمّة كما أرسلنا في الأمم التي قد خلت من قبل هذه الأمم. قال الحسن : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : ((أنتم توافون سبعين أمّة أنتم خيرها وآخرها وأكرمها على الله)) (٤).

قوله : (لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ :) أي القرآن (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ)؛

__________________

(١) أخرجه أحمد في مسنده ، وأخرجه الطبريّ بسند يرفعه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حديث أبي سعيد الخدريّ في تفسيره ، ج ١٦ ص ٤٤٣ ولفظه : «طوبى شجرة في الجنّة مسيرة مائة عام ، ثياب أهل الجنّة تخرج من أكمامها».

(٢) زيادة لا بدّ منها ، لأنّ ما بعدها ليس تكملة للحديث السابق.

(٣) روى هذا الخبر ابن جرير الطبريّ في تفسيره ، ج ١٦ ص ٤٣٩ ـ ٤٤١ عن وهب بن منبّه ، ونقله عنه ابن كثير في تفسيره ، ج ٤ ، ص ٩١ ـ ٩٢ ووصف هذا الخبر بأنّه غريب عجيب.

(٤) انظر تخريجه فيما سلف ، ج ١ ، تفسير الآية ١١٠ من سورة آل عمران.

٣٠٤

كانوا يقولون : أمّا الله فنعرفه ، وأمّا الرحمن فلا نعرفه. قال الله : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الإسراء : ١١٠]. وقال : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا) [الفرقان : ٦٠]. هذا في تفسير الحسن.

وقال بعضهم : ذكر لنا أنّ نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زمان الحديبيّة حين صالح قريشا كتب : هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله. فقال مشركو العرب : إن كنت رسول الله ثمّ قاتلناك لقد ظلمناك ، ولكن اكتب : هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد الله. فقال أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله ، دعنا نقاتلهم. قال : ((لا ، ولكن اكتبوا ما يريدون. إنّي لمحمّد بن عبد الله)) [وإنّي لرسول الله] (١). فكتب الكاتب : (بسم الله الرحمن الرحيم) فقالت قريش : أمّا الرحمن فلا نعرفه. وكان أهل الجاهليّة يكتبون : باسمك اللهمّ ؛ فقال أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله ، دعنا نقاتلهم. قال : ((لا ، ولكن اكتبوا كما يريدون)) ، فأنزل الله (وهم يكفرون بالرّحمن) (٢). (قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ) (٣٠) : قال الحسن : يعني التوبة.

قوله : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى).

وذلك أنّ رهطا من قريش قالوا : يا محمّد ، إن كنت كما تزعم فسيّر لنا هذه الجبال من مكّة ، فإنّها ضيّقة. قال : ((لا أطيق ذلك)). قالوا : فسخّر لنا الريح لنركبها إلى الشام فنقضي عليها ميرنا (٣) وحاجتنا حتّى نرجع من يومنا إن كنت رسول الله ، فإنّها قد سخّرت لسليمان بن داود ، ولست بأهون على الله من سليمان بن داود. قال : ((لا أستطيع)). قالوا : فابعث لنا بعض من قد مات منّا فنسألهم أحقّ ما تقول أم باطل ، فإنّ عيسى قد كان يحيي

__________________

(١) انظر كتب السيرة في فصل صلح الحديبيّة. وانظر صحيح البخاري ، كتاب الشروط ، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط ، من حديث المسور بن مخرمة ومروان وفيه : «وإنّي لرسول الله وإن كذّبتموني».

(٢) أخرجه ابن جرير الطبريّ في تفسيره ، ج ١٦ ص ٤٤٥ عن قتادة مرسلا.

(٣) انظر ما سلف قريبا في هذا الجزء تفسير الآية ٦٥ من سورة يوسف ، (التعليق).

٣٠٥

الموتى ـ كما زعمت ـ لقومه ، ولست بأهون على الله منه إن كنت رسوله. قال : ((لا أستطيع ذلك)) ، فأنزل الله : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) يقول : لو أنّا فعلنا ذلك بقرآن غير قرآنك فعلنا بالقرآن الذي أنزلناه إليك.

وقال الحسن : قالوا إنّ أرضنا أرض ضيّقة ، فادع لنا ربّك بقرآنك هذا حتّى تسير عنّا جبال تهامة حتّى نزرع فيها ، وتفجّر لنا أنهارا وعيونا فإنّا أصحاب آبار ، وأحي لنا أمواتنا حتّى يشهدوا أنّك رسول الله فنؤمن بك. وهو قوله : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ ...) إلى آخر الآيات. [الإسراء : ٩٠ ـ ٩٣] فقال الله : لو أنّ بلاغة قرآن بلغت عند الله ما يسيّر به الجبال أو يفجّر به الأنهار أو يحيي الموتى لبلغت بلاغة هذا القرآن بمنزلته وكرامته عند الله.

قال الله : (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً.

وقال مجاهد : سألت قريش النبيّ عليه‌السلام أن يفسح لهم جبال مكّة ، ويقطع لهم الأرض بينهم وبين الشام ، ويحيي لهم موتاهم ، فقال الله لمحمّد : لو فعلنا هذا بنبيّ قبلك فعلناه بك. وذكر بعضهم قال : ذكر لنا أنّ قريشا قالت لنبيّ الله : إن سرّك أن نتّبعك فسيّر لنا جبال تهامة ، وزد لنا في حرمنا حتّى نتّخذ قطائع نحترث فيها ، وأحي لنا فلانا وفلانا ، لأناس ماتوا في الجاهليّة ، فأنزل الله هذه الآية. يقول : لو فعلنا هذا بقرآن غير قرآنكم فعلناه بقرآنكم.

قوله : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً :) وهو على الاستفهام ، أي : قد تبيّن للذين آمنوا. وقال في آية أخرى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [سورة يونس : ٩٩]. قال بعضهم : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) يقول : ألم يعرف الذين آمنوا ويتبيّن لهم (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) (١).

__________________

(١) هذا المعنى أورده أبو عبيدة في مجاز القرآن ، ج ١ ص ٣٣٢ حيث قال : «(أفلم يايئس)؟ مجازه : ألم يعلم ويتبيّن. قال سحيم بن وئيل اليربوعي : ـ

٣٠٦

قوله : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ :) وهي السرايا ، سرايا رسول الله عليه‌السلام ، يصيبهم الله منها بعذاب ، يعني المشركين. (أَوْ تَحُلُ) أنت يا محمّد (١) (قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ) [يعني فتح مكّة في تفسير مجاهد وقتادة] (٢). (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٣١).

قوله : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا :) أي لم آخذهم عند استهزائهم بأنبيائهم ، ولكن أمليت لهم ، أي : أخّرتهم حتّى بلغ الوقت. (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) (٣٢) : على الاستفهام ، أي : كان شديدا. وكان الحسن إذا أتى على هذا قال : كان والله شديدا.

قوله : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ :) قال بعضهم : ذلكم الله. وهذا على الاستفهام. قال الحسن : هو الله القائم على كلّ نفس بما عملت حتّى يجزيها به.

قال : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) وقال في آية أخرى : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) [النجم : ٢٣] أي : من حجّة أنّها آلهة.

قال : (قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ :) على الاستفهام. يقول : قد نبّأتموه بما لا يعلم في الأرض ، أي : لا يعلم أنّ في الأرض آلهة معه ، أي : أنّه يعلم أنّه ليس معه إله في الأرض ولا في السماء. (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ :) قال مجاهد : أم بظنّ من القول. وقال بعضهم : الظاهر من القول الباطل. وقال الكلبيّ : (أم بظاهر مّن القول) أي : الزور من القول ، وهو واحد.

__________________

 ـ أقول لهم بالشّعب إذ يأسرونني

ألم تيأسوا أنّي ابن فارس زهدم».

(١) هذا قول نسب إلى ابن عبّاس وإلى مجاهد وسعيد بن جبير وغيرهم ، حسبما رواه الطّبريّ في تفسيره ، ج ١٦ ص ٤٥٧ ـ ٤٥٨ ، وهنالك قول آخر نسب إلى الحسن يذهب إلى أنّ الضمير في (تحلّ) راجع إلى القارعة ، أي : أو تحلّ القارعة. ولكلّ وجه من التأويل صحيح. وقد روى السيوطيّ في الدر المنثور ، ج ٤ ص ٦٤ قولا يؤيّد به القول الأوّل ويفصّله ؛ روي عن مجاهد أنّه قال : (أو تحلّ قريبا مّن دارهم) قال : الحديبيّة.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ١٦٢ ومن كتب التفسير.

٣٠٧

(بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ :) أي شركهم. قال مجاهد : قولهم ، وهو الشرك. (وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ :) أي : سبيل الهدى. قال : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (٣٣) يهديه (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) يعني مشركي العرب ، بالسيف يوم بدر ، ولآخر كفّار هذه الأمّة بالساعة ، يعني النفخة الأولى. (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ :) من عذاب الدنيا (وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) (٣٤) : أي يقيهم عذابه.

قوله : (مَثَلُ الْجَنَّةِ :) أي صفة الجنّة (الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ).

ذكروا أنّ أنهار الجنّة تجري في غير خدود : الماء واللبن والعسل والخمر ، فهو أبيض كلّه ، فطينة النهر مسك ، ورضراضه الدرّ والياقوت ، وحافاته قباب اللؤلؤ المجوّف.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ((بينا أنا في الجنّة ، يعني ليلة أسري به ، إذا أنا بنهر ، حافّتاه قباب اللؤلؤ المجوّف ، فضربت بيدي إلى مجرى الماء ، فإذا مسك أذفر ، فقلت ما هذا يا جبريل؟ فقال : هذا الكوثر الذي أعطاك الله)) (١).

قوله : (أُكُلُها دائِمٌ :) أي ثمرها لا ينفد (وَظِلُّها :) أي دائم.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ((إنّ أهل الجنّة ليتناولون من قطوفها وهم متّكئون على فرشهم ؛ فما تصل إلى في أحدهم حتّى يبدّل الله مكانها أخرى)) (٢).

ذكروا عن ابن مسعود قال : نخل الجنّة نضيد ما بين أصلها إلى فرعها ، وتمرها كالقلال ، كلّما نزعت تمرة عادت تمرة. وأنهارها تجري في غير خدود ، العنقود منها اثنا عشر ذراعا ، منضود من أعلاه إلى أسفله ، ليس في شيء منه عجم ، أحلى من العسل ، وأشدّ بياضا

__________________

(١) حديث صحيح ، أخرجه البخاريّ في كتاب الرقاق ، باب في الحوض ؛ عن أنس بن مالك. والأذفر هنا : الريح الطيّبة الذكيّة. وقيل : الأذفر : هو الخالص الذي لا خلط له.

(٢) لم أجده بهذا اللفظ عينه فيما بين يديّ من المصادر ، وقد روي عن البراء بن عازب قال : إنّ أهل الجنّة يأكلون من ثمار الجنّة قياما وقعودا ومضطجعين. والحديث موقوف وإسناده حسن من رواية البيهقي.

٣٠٨

من الثلج واللبن ، وألين من الزبد. كلما نزع منه شيء أعاده الله كما كان.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حدّث عن ليلة أسري به فكان في حديثه : ... ثمّ أعطيت الكوثر ، فسلكته حتّى انفجر بي في الجنّة ، فإذا الرمّانة من رمّانها مثل جلد البعير المقتّب.

قوله : (تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا) يعني الجنّة (وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) (٣٥).

قوله : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ :) قال بعضهم : يعني من آمن منهم. وقال بعضهم : هؤلاء أصحاب النبيّ عليه‌السلام فرحوا بكتاب الله. (وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ :) الأحزاب ههنا اليهود والنصارى ينكرون بعض القرآن ، ويقرّون ببعضه ، أي : بما وافقهم.

(قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ) (٣٦) : أي وإليه مرجعي.

قوله : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا :) يعني القرآن (١). (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ:) أي أهواء المشركين حتّى لا تبلغ عن الله الرسالة (بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) قال : (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ :) أي يتولّى دفع العذاب عنك (وَلا واقٍ) (٣٧) : أي يقيك عذابه إن فعلت ، ولست فاعلا.

قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً). نزلت حين قال اليهود : لو كان محمّد رسولا لكان له همّ غير النساء والتماس الولد. قوله : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ :) أي إلّا بأمر الله. قال مجاهد : قالت قريش لمّا نزلت : يا محمّد ، ما نراك تملك من الأمر شيئا ، ولقد فرغ من الأمر ، فأنزل الله هذه الآية تخويفا ووعيدا لهم.

__________________

(١) قال أبو عبيدة في مجاز القرآن ، ج ١ ص ٣٣٤ : «(حكما عربيّا) أي : دينا عربيّا أنزل على رجل عربيّ». وقال الطبريّ في تفسيره ، ج ١٦ ص ٤٧٥ : «وجعل ذلك عربيّا ووصفه به ، لأنّه أنزل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو عربيّ ، فنسب الدين إليه ، إذ كان عليه أنزل».

٣٠٩

قال : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) (٣٨). قوله : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ :) تفسير مجاهد : يمحو الله ما يشاء ويثبت في كلّ ليلة القدر إلّا الشقاء والسعادة. وذكر بعضهم فقال : هي مثل قوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) [البقرة : ١٠٦].

وتفسير الحسن أنّ آجال العباد عند الله ؛ في الكتاب أجل فلان كذا وكذا ، وأجل فلان كذا وكذا ، فيمحو الله من ذلك الكتاب ما يشاء ، أي : يمحو منه من انقضى أجله ، ويثبت من لم يجئ أجله ، فيدعه مثبتا في الكتاب حتّى ينقضي أجله ، فيمحي من ذلك الكتاب.

وبعضهم يقول : قال الله : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ). [سورة ق : ١٨] أي : يكتب ما يقول ، فإذا كان كلّ يوم اثنين وخميس محي منه ما لم يكن خيرا أو شرّا ، وأثبت ما سوى ذلك من خير أو شرّ.

ذكروا أنّ عمر بن الخطاب كان يطوف بالبيت ويقول : اللهمّ إن كنت كتبت عليّ ذنبا أو إثما أو ضغنا فامحه عنّي ، فإنّك قلت : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ).

قوله : (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٣٩) : ذكروا أنّ كعبا قال لعمر بن الخطّاب : لولا هذه الآية لحدّثتك بما هو كائن إلى يوم القيامة : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) ، وأمّ الكتاب : اللوح المحفوظ.

ذكروا عن كعب أنّه قال : إنّ أقرب الملائكة إلى الله إسرافيل ، وله أربعة أجنحة : جناح بالمشرق ، وجناح بالمغرب ، وقد تسرول بالثالث ، والرابع بينه وبين اللوح المحفوظ. فإذا أراد الله أمرا أن يوحيه جاء الله حتّى يصفق جبهة إسرافيل فيرفع رأسه فينظر ، فإذا الأمر مكتوب ؛ فينادي جبريل فيلبّيه فيقول : أمرت بكذا ، أمرت بكذا. فلا يهبط جبريل من سماء إلى سماء إلّا فزع أهلها مخافة الساعة ، حتّى يقول جبريل : الحقّ من عند الحقّ ، فيهبط على النبيّ ، فيوحي إليه. [وتفسير أمّ الكتاب جملة الكتاب وأصله] (١).

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ١٦٣.

٣١٠

قوله : (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) : في تفسير الحسن أنّ الله أخبر محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ له في أمّته نقمة ، ولم يخبره أفي حياته تكون أم بعد موته. قال : (وإن مّا نرينّك بعض الذي نعدهم ، أو نتوفّينّك) وفيها إضمار. وإضمارها : (فإنّا منهم مّنتقمون). وهي مثل الآية الأخرى : (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) (٤٢) [الزخرف : ٤١ ـ ٤٢].

ذكروا عن الحسن في تفسير هذه الآية أنّه قال : كانت نقمته شديدة ؛ أكرم الله نبيّه أن يريه ما كان في أمّته من النقمة بعده.

قوله : (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) : أي إنّما عليك أن تبلّغهم ، (لست عليهم بمصيطر) ، أي : أن تكرههم على الإيمان ، كقوله : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٩٩) [يونس : ٩٩].

قوله : (وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) : (٤٠) : أي يوم القيامة. ثمّ أمر بقتالهم على الإيمان ، ولا يستطيع أن يكرههم على الإيمان ، إنّما يقاتلهم عليه ، وإنّما يؤمن من شاء الله أن يؤمن.

قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) : ذكروا عن عكرمة أنّه قال : ينقصها من أطرافها بالموت. وقال بعضهم : موت الناس. وقال مجاهد : موت أهلها ؛ وهو واحد.

وذكر ابن عبّاس قال : موت فقهائها وعلمائها (١).

وقال الحسن : (ننقصها من اطرافها) بالفتوح على النبيّ عليه‌السلام ؛ ألا تراه يقول في الآية الأخرى : (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) (٤٤) [الأنبياء : ٤٤] أي : إنّهم ليسوا بالغالبين ، ولكنّ رسول الله وأصحابه هم الغالبون.

__________________

(١) وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن ، ج ١ ص ٣٣٤ : «مجازه : ننقص من في الأرض ومن في نواحيها من العلماء والعباد».

٣١١

وتفسير الكلبيّ : (ننقصها من اطرافها) بالقتل والسبي ، موافقا لقول الحسن.

وذكر الحسن أنّ الله يبعث نارا قبل يوم القيامة تطرد الناس إلى الشام ، تنزل معهم إذا نزلوا ، وترتحل معهم إذا ارتحلوا ، تطردهم إلى الشام ، ثمّ تقوم عليهم الساعة بالشام.

ذكر بعضهم قال : ما ينقص من الأرضين يزداد في الشام ، وما ينقص من الشام يزداد في فلسطين.

قوله : (وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) : أي لا رادّ لحكمه (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٤١) : إذا أراد الله أن يعذّب قوما كان عذابه إيّاهم أسرع من الطرف ، يعني الذين كذّبوا رسله. يخوّف بذلك المشركين.

قوله : (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : أي من قبل مشركي هذه الأمّة ، فكان مكرهم في تباب ، أي : في خسار.

قال الله : (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) : فمكر بهم ؛ أهلكهم أحسن ما كانوا في دنياهم حالا وأعزّه. وقال في آية أخرى : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) أي : مكان الشدّة الرخاء (حَتَّى عَفَوْا) أي : حتّى كثروا (وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) أي : قد أتى على آبائنا مثل هذا فلم يكن شيء. قال الله : (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) أي : فجأة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٩٥) [الأعراف : ٩٤ ـ ٩٥].

قوله : (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) : أي ما تعمل كلّ نفس (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) (٤٢) : أي : لمن الجنّة.

قوله : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) : أي يقولون لمحمّد (لَسْتَ مُرْسَلاً) : أي لست برسول الله. (قُلْ) : يا محمّد (كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (٤٣) : أي إنّي مرسل.

٣١٢

وهو كقوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [سورة البقرة : ١٤٦] أي : يعرفون أنّ محمّدا رسول الله ؛ بل معرفتهم لمحمّد أنّه رسول الله ، لما جاءتهم به أنبياؤهم وما يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، أثبت ؛ وإنّ أبناءهم لا يدرون ما أحدثت نساؤهم فيهم ؛ ومحمّد لا يشكّون أنّه رسول الله ، بما جاءتهم به أنبياؤهم من عند الله ، وبما وجدوا في كتبهم التي أنزلها الله عليهم.

ذكروا عن عبد الله بن سلام قال : فيّ نزلت هذه الآية : (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ).

قال الحسن : هو الله. وقال بعضهم : (علم الكتاب) أي : أصل الكتاب وجماعه.

وبعضهم يقرأ هذا الحرف : (ومن عنده علم الكتاب) يقول : من عند الله علم الكتاب (١).

وقال بعضهم : (ويقول الذين كفروا لست مرسلا) يعني مشركي العرب.

(قل) يا محمّد (كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) قال : قد كان من أهل الكتاب قوم يهدون بالحقّ ويعرفونه ؛ منهم عبد الله بن سلام ، وسلمان الفارسيّ ، وكعب.

__________________

(١) انظر معاني الفرّاء ، ج ٢ ص ٦٨. وهي قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلق ، كما جاء في التعليق.

٣١٣

تفسير سورة إبراهيم عليه‌السلام

وهي مكّيّة كلّها (١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قوله : (الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ) : يعني من أراد الله أن يهديه (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) : أي من الضلالة إلى الهدى. (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) : أي بأمر ربّهم (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ) : أي إلى طريق العزيز (الْحَمِيدِ) (١) : وهو الإسلام ، طريق إلى الجنّة.

وتفسير العزيز ، أي : العزيز في نقمته. والحميد المستحمد إلى خلقه ؛ استوجب عليهم أن يحمدوه. بلغنا أنّ عبد الله بن مسعود أو ابن عمر قال : ترك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم طرف الصراط عندنا وطرفه في الجنّة.

(اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) (٢) : أي في الآخرة. (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ) : أي يختارون (الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) : أي لا يقرّون بالآخرة (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً) : أي يبغون السبيل ، أي : الطريق ، (عوجا) أي : الشرك (٢) (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) (٣).

قوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) : [قال بعضهم : بلغة قومه] (٣). (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) : أي بعد البيان (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٤) : أي العزيز في نقمته ، الحكيم في أمره.

__________________

(١) في نسختي ج ود زيادة هي هذه : «وهي مكّيّة كلّها إلّا آيتين : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً ...) إلى آخر الآيتين».

(٢) في المخطوطات : «ويبغون السبيل الطريق الأعوج ، أي : الشرك». وأثبتّ ما جاء في ز ، ورقة ١٦٣. لأنّه أدقّ تعبيرا وأقرب إلى سياق الآية.

(٣) زيادة من ز ، ورقة ١٦٣. والقول لقتادة.

٣١٤

قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) : قال الحسن : بديننا. وقال مجاهد : بالبيان (١). (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) : أي من الضلالة إلى الهدى (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) : أي بنعم الله في تفسير الحسن ومجاهد. قال الحسن : التي أنعم الله عليهم بها إذ نجاهم من آل فرعون ، وأنزل عليهم المنّ والسلوى ، وما أنعم عليهم به.

وقال الكلبيّ : (وذكّرهم بأيّام الله) : النعيم والبلاء ؛ يذكّرهم ما أنعم الله عليهم ، ويذكّرهم البلاء ، كيف أهلك قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم شعيب. يقول : ذكّرهم هذا وهذا. وقد قال في آية أخرى : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) [الجاثية : ١٤] أي : أيّام الآخرة ، وهم المشركون ، ثمّ أمر بقتالهم بعد. قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (٥) : والشكور هو المؤمن.

قوله : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ). ثمّ أخبر بتلك النعمة فقال : (إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) : أي يذيقونكم شدّة العذاب (وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) : أي فلا يقتلونهنّ (وَفِي ذلِكُمْ) : أي فيما نجّاكم منهم (بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (٦) : أي نعمة من ربّكم عظيمة (٢). وقال في آية أخرى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) أي : بغى في الأرض (وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) [القصص : ٤] أي : فرقا ؛ يقتل طائفة ، ويستحيي طائفة ، ويستعبد طائفة ، فهو الذي كان يسومهم سوء العذاب.

قوله : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) : قال بعضهم : وإذ قال ربّكم. وقال الحسن : (تأذّن

__________________

(١) كذا في المخطوطات : «بالبيان». وفي تفسير مجاهد ، ص ٣٣٣ : «بالبيّنات». وفي تفسير الطبريّ ، ج ١٦ ص ٥١٨ : «عن مجاهد : التسع الآيات : الطوفان وما معه».

(٢) هذا وجه من وجهي التأويل ، وقد أورد الفرّاء في معاني القرآن ، ج ٢ ص ٦٩ الوجهين معا ؛ فقال موضحا وموجزا : «يقول : فيما كان يصنع بكم فرعون من أصناف العذاب بلاء عظيم ، من البلية. ويقال : في ذلكم نعم من ربّكم عظيمة إذ أنجاكم منها. والبلاء قد يكون نعما وعذابا ، ألا ترى أنّك تقول : إنّ فلانا لحسن البلاء عندك ، تريد الإنعام عليك».

٣١٥

ربّكم) يقول : أعلمكم ربّكم (لَئِنْ شَكَرْتُمْ) : أي آمنتم (لَأَزِيدَنَّكُمْ) : أي : في النعم (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) (٧) : أي الآخرة.

وهو كقوله : (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) [سورة هود : ٥٢]. وكقوله : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي : إذا لأعطتهم السماء مطرها والأرض نباتها (وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٩٦) [الأعراف : ٩٦] أي يعملون ، يخوّفهم ما أهلك به الأمم السالفة.

قوله : [(وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) (٨) (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) : أي خبر الذين من قبلكم (قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) : أي : كيف أهلكهم. وقوله : (والذين من بعدهم) كقوله : (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً) (٣٩) [الفرقان : ٣٨ ـ ٣٩] أي : دمّرنا تدميرا.

قوله : (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) : أي أيديهم في أفواههم ، أي : في أفواه الأنبياء ، تكذيبا لهم بما جاءوا به من عند الله. وقال بعضهم : (فردّوا أيديهم في أفواههم) أي : بأفواههم [أي : بألسنتهم] (١) فكذبوهم. وقال بعضهم : (فردّوا أيديهم في أفواههم) أي : عضّوا أناملهم ، أي : غيظا عليهم ؛ مثل قوله في المنافقين : (وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) [آل عمران : ١١٩].

(وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) (٩).

قوله : (قالَتْ رُسُلُهُمْ) : أي قالت لهم رسلهم (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي خالق السماوات والأرض أنّه لا إله غيره. وهو على الاستفهام. أي : إنّه

__________________

(١) زيادة من معاني الفرّاء للإيضاح. وانظر مختلف وجوه تأويل هذه العبارة في معاني القرآن للفرّاء ، ج ٢ ص ٦٩ ـ ٧٠ فقد بيّنها بتفصيل.

٣١٦

ليس فيه شكّ أنّه خالق السماوات والأرض ، وأنّه لا إله غيره. فأنتم تقرّون أنّه خالق السماوات والأرض فكيف تعبدون غيره؟.

قوله : (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) : أي إن آمنتم. (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) : أي إلى آجالهم بغير عذاب إن آمنوا ، فلا يكون موتهم بالعذاب. (قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) : أي : لا يوحى إليكم (تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) : يعنون الأوثان (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (١٠) : أي بحجّة بيّنة.

(قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) : أي بالنبوّة فيوحي إليه. (وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ) : أي بحجّة (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) : أي إلّا بأمر الله (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١١).

(وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) : أي سبل الهدى (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) : يعنون قولهم للأنبياء : إنّكم سحرة ، وإنّكم كاذبون.

قال الله : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (١٢).

قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ) : أي الذين أرسلوا إليهم (لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) (١٣) : وهذا حيث أذن الله للرسل فدعوا عليهم فاستجاب لهم.

(وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) : أي من بعد إهلاكهم. قال [بعضهم] (١) : وعدهم النصر في الدنيا ، والجنّة في الآخرة.

(ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ) (١٤) : والمقام في تفسير الحسن : المقام بين يدي الله للحساب. وفي تفسير مجاهد : من خاف الله أنّه قائم عليه بعمله. قال : مثل قوله : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الرعد : ٣٣].

__________________

(١) زيادة يقتضيها سياق الكلام.

٣١٧

قوله : (وَاسْتَفْتَحُوا) : يعني الرسل كلّهم في تفسير مجاهد ؛ دعوا على قومهم فاستجاب لهم.

وفي تفسير الكلبيّ : لمّا دعا عليهم الرسل قال قومهم : اللهمّ إن كان رسلنا صادقين فيما يقولون فأهلكنا ، وإن كانوا كاذبين فأهلكهم.

قال بعضهم : استنصرت الرسل على قومها حين استيقنوا أنّهم لا يؤمنون.

قال الله : (وَخابَ) : أي وخسر (كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) (١٥) : وهو المشرك. قال مجاهد : معاند للحقّ مجتنبه.

قوله : (مِنْ وَرائِهِ) : أي من بعد هذا العذاب الذي كان في الدنيا (١). (جَهَنَّمُ) : أي عذاب جهنّم (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) (١٦) : والصديد : غسالة أهل النار ، أي : ما يسيل من جلودهم من القيح والدم. وقال بعضهم : هو ما يسيل من بين جلده ولحمه.

(يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) : أي من كراهيّته له ؛ وهو يسيغه ، لا بدّ له منه ، فتنقطع أمعاؤه. (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) : وهي النار ، لشدّة ما هم فيه ، ولكنّ الله عزوجل قضى عليهم ألّا يموتوا. هذا تفسير الحسن. وبعضهم يقول : حيّات وعقارب تنهشه من كلّ ناحية. (وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) (١٧) : كقوله : (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) (٣٠) [النبأ : ٣٠].

ذكروا أنّ رجلا من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لمّا ذكر الله النار قلت : ابن آدم ضعيف ، فإنّما تكفيه لذعة من النار حتّى يقضي (٢). ثمّ أنزل الله : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً

__________________

(١) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ١ ص ٣٣٧ : «(من وّرائه جهنّم) مجازه : قدّامه وأمامه ، يقال : إنّ الموت من ورائك ، أي : قدّامك. وقال :

أتوعدني وراء بني رياح

كذبت لتقصرنّ يداك دوني

أي : قدّام بني رياح وأمامهم.

(٢) في المخطوطات : «تكفيه لديغة من النار حتّى تطفي» وهو خطأ ، وفيه تصحيف صوابه ما أثبتّ : «لذعة ... ـ

٣١٨

غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) [سورة النساء : ٥٦] و (لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) (٧٤) [سورة طه : ٧٤] فقلت : الآن حين أخذ الله نقمته من أعدائه.

ذكروا عن عبد الله بن مسعود قال : غلظ جلد الكافر سبعون ذراعا ، وضرسه مثل أحد ، وفخذه مسيرة يومين ، وزاد فيه بعضهم عن ابن مسعود : وإنّي لأظنّه يشغل من جهنّم مثلما بيني وبين المدينة. وبلغنا عن بعضهم قال : أهل النار يعظمون لها ولو لا ذلك لألهبتهم كما تلهب الذبّان.

قوله : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) : يعني شدّة الريح (لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ) : أي : ممّا عملوا من خير على شيء في الآخرة ، أي : قد جوزوا به في الدنيا ، مثل الرماد الذي اشتدّت به الرياح في يوم عاصف فأطارته ، فلم يقدر منه على شيء ، فكذلك أعمال الكفّار. قال : (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) (١٨) : أي من الهدى.

قوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) : أي يصير الأمر إلى البعث والحساب والجنّة والنار. كقوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : ألّا بعث ولا حساب ، ولا جنّة ولا نار (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) [سورة ص : ٢٧]. قوله : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) : أي يهلككم بعذاب فيستأصلكم (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) (١٩) : أي آخرين (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) (٢٠) : [أي : لا يشقّ عليه] (١).

قوله : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ) : وهم السفلة والأتباع (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) : وهم الرؤساء والكبار والدعاة إلى الكفر (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) : أي بدعائكم إيّانا إلى الشرك (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) (٢١) : أي من

__________________

حتّى يقضي» أي : حتّى يهلك ويموت.

(١) زيادة من ز ، ورقة ١٦٤.

٣١٩

مهرب ولا من معدل من عذاب الله.

وقال بعضهم : إنّهم يقولون إذا اشتدّ عليهم العذاب وجزعوا : تعالوا نصبر ، فيصبرون فلا ينفعهم شيئا ، فيقولون : (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) أي : من منجاة.

(وَقالَ الشَّيْطانُ) : يعني إبليس (لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) : أي لمّا حكم وفصل بين العباد ، وقضي بينهم بالقسط ، فأبان الله أهل الجنّة من أهل النار ، قام إبليس خطيبا بإذن الله ، وبئس الخطيب ، يريد الله بذلك توبيخ أهل النار ، فيسمع الخلق كلّهم فقال : (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) : أي وعدكم الجنّة على التمسّك بدينه ، والحفظ لحدوده (وَوَعَدْتُكُمْ) : أنا (فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) : أستكرهكم به (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) : أي بالوسوسة (فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ) : أي ما أنا بمغيثكم من عذاب الله (وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ) : أي بمغيثي من عذاب الله (١) (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) : أي في الدنيا ، أي : عصيت الله قبلكم.

وقال بعضهم : (بما أشركتمون) أي : مع الله في الطاعة لي في الشرك به.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ((إذا جمع الله الأوّلين والآخرين فقضى بينهم وفرغ من القضاء قال المؤمنون : قد قضى بيننا ربّنا ، فمن يشفع لنا إلى ربّنا. قالوا : فانطلقوا إلى آدم عليه‌السلام ، فإنّه أبونا ، وخلقه الله بيده وكلّمه. فيأتونه ويكلّمونه أن يشفع لهم ، فيقول آدم : عليكم بنوح. فيأتون نوحا ، فيدلّهم على إبراهيم عليه‌السلام. ثمّ يأتون إبراهيم فيدلّهم على موسى عليه‌السلام ، ثمّ يأتون موسى فيدلّهم على عيسى عليه‌السلام ، ثمّ يأتون عيسى فيقول : أدلّكم على النبيّ الأمّيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى جميع الأنبياء والرسل ، فيأذن الله لي أن أقوم. فأثني عليه ، وأقوم فيفور من مجلسي أطيب ريح شمّها أحد ، حتّى أقوم

__________________

(١) جاء في مجاز أبي عبيدة ، ج ١ ، ص ٣٣٩ ما يلي : «(مّا أنا بمصرخكم) أي بمغيثكم ، ويقال : استصرخني فأصرخته ، أي : استعانني فأعنته ، واستغاثني فأغثته».

٣٢٠