تفسير كتاب الله العزيز - ج ٢

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٢

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٣

المقام المحمود الذي وعدني ربّي أن أقومه ، وأسال ربّي الشفاعة للمؤمنين فيشفّعني ، ويجعل لي نورا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي ، ثمّ يقول الكافرون عند هذا : قد وجد المؤمنون من يشفع لهم ، فقم أنت فاشفع لنا ، فإنّك أنت أضللتنا. فيقوم فيفور من مجلسه أنتن ريح شمّها أحد ، ثمّ يعظهم بجهنّم (١) ، ويقول عند ذلك (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ ...) إلى آخر الآية)) (٢).

قوله : (إِنَّ الظَّالِمِينَ) : أي المشركين والمنافقين (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢٢) : أي موجع.

قوله : (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) : أي بأمر ربّهم (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) (٢٣) : أي تحيّيهم الملائكة عن الله بالسلام ، فتستأذن عليهم حتّى تدخل عليهم بالتحيّة من عند الله والكرامة والهديّة ، وبأنّ الله عنهم راض ، ويسلّم أهل الجنّة بعضهم على بعض بالسلام ، وهو تحيّة أهل الجنّة.

وذكر بعضهم أنّ طوبى شجرة في الجنّة ، وقد وصفناها قبل هذا الموضع (٣). وهي مجلس من مجالس أهل الجنّة ومتحدّثهم فيما بينهم. فبينما هم في ظلّها ذات يوم يتحدّثون إذ أتتهم الملائكة بنوق بخت (٤) ، مزمومة (٥) بسلاسل الذهب ، كأنّما وجوهها المصابيح من

__________________

(١) في ج ود ، وفي ز ورقة ١٦٥ ، وفي تفسير الطبري ، ج ١٦ ص ٥٦٣ : «يعظم لجهنّم». وفي مخطوطتي ق وع : «يعظهم بجهنّم» ، ولكلّ من اللفظين وجه في التأويل. ويظنّ الأستاذ الشيخ محمود محمّد شاكر «أنّها يقطّم لجهنّم» من قولهم : قطم الشارب إذا ذاق الشراب فكرهه». وأنا أميل إلى ما ورد في ق وع وأقول : بئس الواعظ هو ، وبئس ما يعظهم به ، ولات ساعة موعظة!.

(٢) أخرج الطبريّ هذا الحديث في تفسيره ، ج ١٦ ص ٥٦٢ مرفوعا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم برواية عقبة بن عامر وأخرجه السيوطيّ في الدرّ المنثور ، ج ٤ ص ٧٤٠ ، ونسبه إلى ابن المبارك وابن أبي حاتم والطبرانيّ وغيرهم. ولكنّه حديث ضعيف واهي السند. ونقله ابن كثير في تفسيره ، ج ٤ ص ١٢٠ بدون إشارة إلى ضعفه.

(٣) انظر ما سلف في هذا الجزء ، تفسير الآية ٢٩ من سورة الرعد.

(٤) هي الإبل الخراسانيّة ، طويلة الأعناق ، واحدها بختي ، ومؤنّثه بختية. وانظر اللسان : (بخت).

(٥) زممت البعير إذا علّقت عليه الزمام لقيادته ، فهو مزموم.

٣٢١

حسنها ، ذلّلن من غير مهانة ، نجب من غير رياضة ، عليها رحائل الذهب ، وكسوتها سندس وإستبرق ، حتّى تدفع إليهم ، ثمّ يسلّمون عليهم ويقولون : إنّ ربّكم بعث إليكم بهذه الرواحل لتركبوها وتتفسّحوا في الجنّة ، وتنظروا إلى ما أعدّ الله لكم ممّا لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب أحد مثله. قال : ويتحوّل كلّ رجل منهم على راحلته ، ثمّ يسيرون صفّا في الجنّة ؛ الرجل منهم إلى جنب أخيه ، لا تجاوز أذن ناقة منها أذن صاحبتها ، ولا ركبة ناقة منها ركبة صاحبتها. وإنّهم ليمرّون بالشجرة من شجر الجنّة فتتأخّر من مكانها ، فيرسل إليهم ربّهم الملائكة بالسلام ؛ فيقولون : ربّنا أنت السّلام ، ومن عندك السّلام ، ولك حقّ الجلال والإكرام ، فيقول لهم : وعليكم السّلام منّي ، وعليكم رحمتي ومحبّتي. مرحبا بعبادي الذين أطاعوني بالغيب ، وحفظوا وصيّتي. فيقولون : لا وعزّتك ، ما قدرناك حقّ قدرك ، وما أدّينا إليك كلّ حقّك ، ايذن لنا يا ربّنا أن نسجد لك. فيقول : وعزّتي وجلالي إنّي وضعت عنكم مؤونة العبادة ، وقد أفضيتم إلى كرامتي ، وبلغ الموعد الذي وعدتكم ، تمنّوا ، فإنّ لكلّ إنسان منكم ما تمنّى ... وقد بقي من هذا الحديث شيء كثير ، وهو في أحاديث الجنّة.

قوله : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً) : وهي لا إله إلّا الله (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) : وهي النخلة ، وهي مثل المؤمن (أَصْلُها ثابِتٌ) : أي في الأرض (وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) (٢٤) : يعني طولها ، وفرعها هو رأسها الذي تكون فيه الثمرة (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) : أي : بأمر ربّها.

قال بعضهم : كلّ ستّة أشهر.

وقال بعضهم : هي النخلة تؤتي أكلها كلّ حين. والحين : ما بين السنة إلى السنة وهي تؤكل شتاء وصيفا يعني الطلع والبلح والبسر والرطب والتمر ، وهي مثل عمل المؤمن هو في الأرض وعمله يصعد إلى السماء ، وهو ثابت يجازى به.

٣٢٢

وقال الحسن : إنّ المؤمن لا يزال من كلام طيّب وعمل صالح ، كما تؤتي هذه الشجرة أكلها ، أي : ثمرتها ، كلّ حين. (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٢٥) : أي لكي يذّكّروا.

وبلغنا عن ابن عبّاس أنّه قال : الحين غدوة والحين عشيّة ، وقرأ هذه الآية : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) (١٧) [الروم : ١٧]. وقال مجاهد : (كلّ حين) : كلّ سنة (١).

ذكروا عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ((إنّ من الشجر شجرة لا يسقط ورقها ، وإنّها مثل المؤمن ، فأيّ شجرة هي؟)) قالوا : الله ورسوله أعلم. قال ابن عمر : فوقع في نفسي أنّها النخلة. وكنت غلاما أصغر القوم ؛ فسكتّ. فقال رسول الله : ((هي النخلة)) (٢).

قوله : (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ) : أي الشرك والنفاق (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) : أي مرّة ، يعني الحنظلة (اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ) : [أي : قطعت من أعلى الأرض] (٣) (ما لَها مِنْ قَرارٍ) (٢٦) : أي ليس لأصلها ثبات في الأرض. فالريح تصرفها ؛ كذلك مثل عمل الكافر ، ليس لعمله الحسن أصل ثابت يجزى به في الآخرة.

ذكر أبو موسى الأشعريّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن

__________________

(١) اختلف المفسّرون اختلافا كثيرا في المقصود بالحين هنا ؛ فذهب بعضهم إلى أنّ الحين : هو كل وقت ، وذهب أبو عبيدة وغيره أنّه : ستّة أشهر. ورجّح ابن جرير الطبريّ قول من قال : «عنى بالحين ، في هذا الموضع غدوة ، وعشيّة وكلّ ساعة» ويبدو لي ، والله أعلم ، أنّ قول من قال : إنّ (كلّ حين) في هذه الآية يعني كلّ سنة ، أقرب إلى الصواب ؛ فإنّ من النخيل ما لا يؤتي أكله كلّ سنة. فإذا كانت النخلة تؤتي أكلها كلّ سنة بانتظام فهي من خيار النخل.

(٢) حديث متّفق عليه ، أخرجه البخاريّ في كتاب العلم ، باب قول المحدّث حدّثنا أو أخبرنا. وأخرجه مسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم ، باب مثل المؤمن كمثل النخلة (رقم ٢١٦٥٤). وأخرجه أحمد والترمذيّ وغيرهم.

(٣) زيادة من ز ، ورقة ١٦٥.

٣٢٣

مثل الأترجّة ؛ طعمها طيّب وريحها طيّب. ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيّب ولا رائحة لها. ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيّب وطعمها مرّ. ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح له)) (١). قال بعض السلف : مثل الجليس الصالح مثل حامل المسك ، تجد منه ريحه ، ومثل الجليس السوء مثل صاحب الكير ، إن لم يحرق ثوبك يؤذك دخانه (٢).

قوله (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) بلغنا عن الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس قال : إنّ المؤمن إذا وضع في قبره ورجع عنه أصحابه أتاه ملك فأجلسه ، ثمّ يقول له : من ربّك؟ فيقول : الله ربّي. ثمّ يقول له : وما دينك؟ فيقول : الإسلام. ثمّ يقول له فمن نبيّك؟ فيقول : محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فيقال له : صدقت. ثمّ يفتح له باب إلى النار ، ثمّ يقال له : انظر إلى هذه النار التي لو أنّك كذبت صرت إليها ، وقد أعاذك الله منها. ثمّ يفتح له باب إلى الجنّة ، ثمّ يقال له : هذه الجنّة ، ثمّ يرى منزله فيها فلا يزال يأتيه من ريح الجنّة وبردها ، حتّى تأتيه الساعة.

وإنّ الكافر إذا وضع في قبره ، ورجع عنه أصحابه أتاه ملك فأجلسه ، ثمّ قال له : من ربّك؟ فيقول : لا أدري ، ثمّ يقول له : من نبيّك؟ فيقول له : لا أدري ، فيقال له : لا دريت ، ثمّ يفتح له باب إلى الجنّة ، فينظر إليها : ثمّ يقال له : هذه الجنّة التي لو أنّك آمنت بالله ، وصدّقت رسوله ، وعملت بفرائضه صرت إليها ، لن تراها أبدا ، ثمّ يفتح له باب إلى النار ، فيقال له : هذه النار التي أنت صائر إليها ، ثمّ يضيق عليه قبره ، ثمّ يضرب ضربة لو أصابت جبلا

__________________

(١) حديث صحيح متّفق عليه ، أخرجه البخاريّ في كتاب التفسير ، باب فضل القرآن على سائر الكلام. وأخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها ، باب فضيلة حافظ القرآن (رقم ٧٩٧). وأخرجه أحمد في مسنده وغيرهم ، كلّهم يرويه من حديث أبي موسى الأشعريّ. كما أخرجه أيضا ابن ماجه في المقدّمة ، باب فضل من تعلّم القرآن وعلّمه (رقم ٢١٤).

(٢) هذه ألفاظ من حديث صحيح متّفق عليه ، أخرجه البخاريّ في كتاب الذبائح والصيد ، باب المسك. وأخرجه مسلم في كتاب البرّ والصلة والآداب ، باب استحباب مجالسة الصالحين ، ومجانبة قرناء السوء ، (رقم ٢٦٢٨).

٣٢٤

ارفض ما أصابت منه ، قال : فيصيح عند ذلك صيحة يسمعها كلّ شيء إلّا الثقلين. قال : فهو قوله : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) (١).

قال : (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) (٢٧).

ذكر جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ((إنّ هذه الأمّة تبتلى في قبورها)).

إذا أدخل المؤمن قبره وتولّى عنه أصحابه جاءه ملك شديد الانتهار ، فيقول له : ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول : إنّه رسول الله وعبده. فيقول : انظر إلى مقعدك الذي كان لك من النار ، قد أعاذك الله منه ، وأبدلت بمقعدك الذي ترى من النار مقعدك الذي ترى من الجنّة ، فيراهما كليهما ، فيقول المؤمن : دعوني أبشّر أهلي ، فيقال له : اسكن. وأمّا المنافق فيقال له : ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول : لا أدري ، أقول ما يقول الناس ، فيقال له : لا دريت ، هذا مقعدك الذي كان لك من الجنّة قد أبدلت مكانه مقعدك من النار.

قال جابر : سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : ((يبعث كلّ عبد في القبر على ما مات عليه ؛ المؤمن على إيمانه ، والمنافق على نفاقه)) (٢).

ذكر البراء بن عازب أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تبع جنازة رجل من الأنصار ، فلمّا انتهى إلى قبره وجده لم يلحد. فجلس وجلسنا حوله كأنّما على رؤوسنا الطير ، وبيده عود ينكث به الأرض ، ثمّ رفع رأسه فقال : ((اللهمّ إنّي أعوذ بك من عذاب القبر)) (٣). قالها ثلاثا.

__________________

(١) هذا خلاصة للحديثين الصحيحين الآتيين.

(٢) أخرجه أحمد وابن أبي الدنيا والطبرانيّ في الأوسط والبيهقيّ ، عن جابر بن عبد الله. وأحاديث عذاب القبر وابتلاء المؤمن والكافر فيه ثابتة صحيحة. وقد روي من طرق متعدّدة رواها جمع من الصحابة. انظر في هذا الموضوع : الدر المنثور للسيوطيّ ، ج ٤ ص ٧٨ ـ ٨٤ تجد أغلب ما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرفوعا وموقوفا. أعاذنا الله وإيّاك من عذاب القبر ومن سوء المصير.

(٣) هذا جزء من حديث صحيح متّفق عليه ، أخرجه البخاريّ في كتاب الصلاة ، باب الدعاء قبل السّلام ، وأخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب ما يستعاذ منه في الصلاة ، عن عائشة (رقم ٥٨٩) وعن أبي هريرة (رقم ٥٨٨). وجاءت رواية أبي هريرة بهذا اللفظ : «اللهمّ إنّي أعوذ بك من ـ

٣٢٥

إنّ المؤمن إذا كان في قبل من الآخرة وانقطاع من الدنيا أتته ملائكة وجوههم كالشمس بحنوطه وكفنه ، فجلسوا منه بالمكان الذي يراهم منه. فإذا خرج روحه صلّى عليه كلّ ملك بين السماء والأرض ، وكلّ ملك في السماوات ، وفتحت أبواب السماء ، كلّ باب منها يعجبه أن تصعد روحه منه. فينتهي الملك إلى ربّه فيقول : يا ربّ ، هذا روح عبدك. فيصلّي الله عليه وملائكته ويقول : ارجعوا بعبدي وأروه ما أعددت له من الكرامة ، فإنّي عهدت إلى عبادي أنّي (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ) [سورة طه : ٥٥] فيردّ إليه روحه حتّى يوضع في قبره. وإنّه ليسمع قرع نعالهم حين ينطلقون عنه ، فيقال : من ربّك؟ وما دينك؟ ومن نبيّك؟ فيقول : الله ربّي ، والإسلام ديني ، ومحمّد نبيّي ، فنادى مناد : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ).

ويأتيه عمله في صورة حسنة وريح طيّبة فيقول : أبشر بحياة فيها نعيم مقيم ، فقد كنت سريعا في طاعة الله ، بطيئا عن معصية الله ، فيقول : وأنت فبشّرك الله بخير ، فمثل وجهك يبشّر بالخير ، فمن أنت؟ فيقول : أنا عملك الحسن. فيفتح له باب من أبواب النار فيقال له : هذا منزلك ، فأبدلك الله خيرا منه. ثمّ يفتح له منزله من الجنّة ، فينظر ماذا أعدّ الله له من الكرامة فيقول : يا ربّ متى تقوم الساعة كي أرجع إلى أهلي ومالي ، فيوسّع له في قبره ويرقد.

وأمّا الكافر فإذا كان في قبل من الآخرة وانقطاع من الدنيا أتته الملائكة بسرابيل من قطران ، ومقطّعات من نار. فجلسوا منه بالمكان الذي يراهم. وينتزع روحه كما ينتزع السّفود الكثير شعبه من الصوف المبتلّ من عروقه وقلبه. فإذا خرج روحه لعنه كلّ ملك بين السماء والأرض وكلّ ملك في السماوات ، وغلّقت أبواب السماء دونه ، كلّ باب يكره أن يصعد روحه منه. فينتهي الملك إلى ربّه فيقول : يا ربّ هذا روح عبدك فلان لا تقبله أرض ولا سماء ، فيلعنه الله وملائكته فيقول : ارجعوا بعبدي فأروه ما أعددت له من الهوان ، فإنّي

__________________

ـ عذاب القبر ، وعذاب النار ، وفتنة المحيا والممات ، وشرّ المسيح الدجّال».

٣٢٦

عهدت إلى عبادي أنّي (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ). فيردّ إليه روحه حتّى يوضع في قبره ، وإنّه ليسمع قرع نعالهم حين ينصرفون عنه. فيقال له : ما دينك؟ ومن ربّك؟ فيقول : لا أدري. فيقال له : لا دريت. فيأتيه عمله في صورة قبيحة وريح منتنة فيقول : أبشر بعذاب مقيم ، فيقول : وأنت فبشّرك الله بشرّ ، فمثل وجهك يبشّر بالشرّ ، فمن أنت؟ فيقول : أنا عملك الخبيث. ثمّ يفتح له باب من أبواب الجنّة فيقال له : هذا منزلك لو أطعت الله. ثمّ يفتح له منزله من النار فينظر إلى ما أعدّ الله له من الهوان ، ويقيّض له أصمّ أعمى بيده مرزبة لو توضع على جبل لصار رفاتا ، فيضربه ضربة فيصير رفاتا. ثمّ يعاد فيضربه بين عينيه ضربة يصيح بها صيحة يسمعها من على الأرض إلّا الثقلين ، وينادي مناد أن أفرشوه لوحين من النار ، فيفرش لوحين من نار ، فيضيّق عليه قبره حتّى تختلف أضلاعه (١).

قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) : أي نعمة الله التي أنعمها عليهم جعلوا مكانها كفرا. كقوله : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) (٨٢) [الواقعة : ٨٢] ، أي : تجعلون مكان شكر النعمة تكذيبا وكفرا. فكان كفر المشركين تكذيبا ، وكان كفر المنافقين كفرا لأنعم الله ، لم يشكروها. وإذا لم تشكر النعم فقد كفرت.

قوله : (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) (٢٩) : [هم المشركون من أهل بدر] (٢) أخرجوا قومهم إلى قتال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببدر ؛ يعني أخرج بعضهم بعضا فقتلهم الله ببدر فحلّوا في النار. وقوله : (دار البوار) أي : دار الفساد ، أي : أفسدت أجسادهم في النار. وقال الحسن : (دار البوار) شرّهم ، قوله : (وبيس القرار) أي : وبئس المأوى والمنزل الذي استقرّوا فيه فصار قرارهم.

__________________

(١) حديث البراء بن عازب هذا حديث معروف في كتب الحديث صحيح الإسناد ؛ أخرجه البخاريّ مختصرا في كتاب التفسير من سورة إبراهيم ، وأخرجه أحمد وعبد بن حميد وأبو داود والحاكم وصحّحه ، والبيهقيّ وغيرهم مطوّلا بزيادة ونقصان. أخرجه أبو داود مثلا في كتاب السنّة ، باب في المسألة في القبر وعذاب القبر. (رقم ٤٧٥٣). وأخرجه الربيع بن حبيب في الجزء الرابع في مراسيل جابر بن زيد (رقم ٩٨٢).

(٢) زيادة من ز ، ورقة ١٦٦.

٣٢٧

قوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) : أي آلهتهم التي يعبدون ، عدلوها بالله فجعلوها آلهة مثله. (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) : أي عن سبيل الهدى. (قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) (٣٠) : كقوله : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) (١٩٧) [آل عمران : ١٩٦ ـ ١٩٧].

قوله : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) : أي : الصلوات الخمس ، يحافظون على وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها (وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) : أي الزكاة الواجبة (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) : أي : يوم القيامة (لا بَيْعٌ فِيهِ) : أي لا يتبايعون فيه (وَلا خِلالٌ) (٣١) : أي تنقطع كلّ خلة إلّا خلّة المتّقين. كقوله : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (٦٧) [الزخرف : ٦٧] ، وكقوله : (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) [البقرة : ٢٥٤].

قوله : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) : إنّما الرزق من المطر. (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ) (٣٢) : قال مجاهد : في كلّ بلد فجرت.

(وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) : أي : يجريان إلى يوم القيامة (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) (٣٣) يختلفان عليكم (وَآتاكُمْ) أي وأعطاكم (مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) أي وما لم تسألوه ، في تفسير الحسن. وليس كلّ ما سألوا. وبعضهم يقرأها : (من كلّ) أي : من كلّ شيء ، (ما سألتموه) يقول : أعطاكم ما لم تسألوه (١).

قال : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) : [روى الحسن عن أبي الدرداء قال : من لم ير نعمة الله عليه إلّا في مطعمه ومشربه فقد قلّ عمله وحضر عذابه] (٢). (إِنْ

__________________

(١) اقرأ ملخّصا جميلا أورده الفرّاء في معاني القرآن ، ج ٢ ص ٨٧ ـ ٨٨ في قراءة (كلّ) ، من قوله : (من كلّ ما سألتموه) وتعليله وترجيحه لقراءة من قرأ بالإضافة.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ١٦٦.

٣٢٨

الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (٣٤) : أي ظلوم لنفسه ، كفّار بنعم ربّه [حين أشرك] (١) وقد أجرى عليه هذه النعم.

قوله : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) : يعني مكّة (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) (٣٥) : يعني المؤمنين منهم ، كقوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [البقرة : ١٢٨]. (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ) : يعني الأصنام أضللن (كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) : يقول : ضلّ المشركون بعبادتها من غير أن تكون هي التي دعت إلى عبادة أنفسها. (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي) : فعبد الأوثان ثمّ تاب إليك بعد ذلك (فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣٦).

(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) : يعني إسماعيل (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) : أي إنّما أسكنتهم مكّة ليعبدوك (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً) : أي قلوبا (مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) : أي تنزع إليهم (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (٣٧) : أي لكي يشكروا نعمك. ذكر عن ابن عبّاس أنّه قال : لو كان قال : فاجعل أفئدة الناس تهوي إليهم لحجّه اليهود والنصارى وكلّ أحد. ولكنّه قال : (افئدة مّن النّاس تهوي إليهم).

قوله : (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) : تفسير ابن عبّاس أنّ إبراهيم جاء بهاجر وإسماعيل حتّى وضعهما بمكّة ، ثمّ رجع. فلمّا قفا نادته هاجر : يا إبراهيم ، إنّما أسالك ؛ فالتفت ، فقالت له : من أمرك أن تضعني بأرض ليس بها زرع ولا ضرع ولا أنيس؟ قال : ربّي. قالت : إذا لا يضيّعنا. فلمّا ولّى إبراهيم قال : (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) أي : من الحزن. (وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) (٣٨).

قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) (٣٩) : وقد دعا في هذه الآية الأخرى : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) (١٠).

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ١٦٦.

٣٢٩

(رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) : أي : واجعل من ذرّيتّي من يقيم الصلاة. (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) (٤٠) : يعني دعائي لمحمّد وأمّته. قال الحسن : هو كقوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [البقرة : ١٢٨].

قوله : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) (٤١) : قال الحسن : إنّ إبراهيم دعا لأبيه أن يحوّله الله من الكفر إلى الإيمان ، ثمّ يغفر له ، وهو يرجو أن يسلم. فلمّا مات كافرا تبرّأ منه وعرف أنّه قد هلك ، وهو كقوله : (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) (٨٦) [الشعراء : ٨٦]. قال هذا قبل أن يموت.

قوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) : أي المشركون والمنافقون (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) (٤٢) : أي إلى إجابة الداعي حين يدعوهم من قبورهم.

(مُهْطِعِينَ) : أي منطلقين مسرعين إلى إجابة الداعي إلى بيت المقدس في تفسير بعضهم حين يدعوهم من الصخرة من بيت المقدس.

ذكروا عن عبد الله بن مسعود قال : يقوم ملك بين السماء والأرض بالصور فينفخ فيه ، والصور : قرن ، فيذهب كلّ روح إلى جسده حتّى يدخل فيه ، فيقومون من قبورهم ، فيجيبون بإجابة رجل واحد.

بلغنا عن محمّد بن كعب القرظيّ عن أبي هريرة قال : تجعل الأرواح في الصور مثل النحل ، ثمّ ينفخ فيه صاحب الصور ، فيذهب كلّ روح إلى جسده (١).

وقال في آية أخرى : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) أي : من القبور (سِراعاً) [المعارج : ٤٣] أي : إلى المنادي إلى بيت المقدس.

__________________

(١) وهذه الأقوال من قبيل الإسرائيليّات. فنحن نؤمن بأنّ النفخ في الصور حقّ ، نفخة أولى هي نفخة الصعق ، ونفخة أخرى هي نفخة القيام. أمّا كيف تعود الأرواح إلى أجسادها فذلك من الغيب. فما لم يثبت في ذلك حديث صحيح عن المعصوم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فليس لنا أن نتكلّف ، أو نقفو ما ليس لنا به علم.

٣٣٠

(مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) : قال بعضهم : رافعي رؤوسهم شاخصة أبصارهم. (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) : أي يديمون النظر. (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) (٤٣) : قال : انتزعت القلوب فغصّت بها الحناجر ، فلا هي تخرج من أفواههم ولا تعود إلى مكانها.

وذكروا عن أبي هريرة قال : يحشر الناس ثلاث أمم : أمّة على الإبل ، وأمّة على أقدامهم ، وأمّة على وجوههم. قال : قيل : يا رسول الله ، كيف يمشي على وجهه؟ قال : إنّ الذي أمشاه على قدميه قادر أن يمشيه على وجهه)) (١).

قوله : (وَأَنْذِرِ النَّاسَ) : أي في الدنيا (يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) : أي أنذرهم اليوم ذلك اليوم (فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) : أي الذين أشركوا والذين نافقوا (رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) : سألوا الرجعة إلى الدنيا حتّى يؤمنوا ويجيبوا الدعوة ويتّبعوا الرسل ويكملوا الفرائض. قال الله : (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ) : أي في الدنيا (ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) (٤٤) : أي من الدنيا إلى الآخرة ، يعني المشركين خاصّة. ثمّ انقطع الكلام.

ثمّ قال للذين بعث فيهم محمّد (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) : أي : بشركهم ، يعني من أهلك من الأمم السالفة ، فخلفتموهم بعدهم في مساكنهم (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) : أي كيف أهلكناهم. أي : إنّكم لتمرّون بمنازلهم ومساكنهم وترون آثارهم. (وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) (٤٥) : قال مجاهد : الأشباه. وقال الحسن : يعني أنّكم إن كفرتم أهلكناكم كما أهلكناهم ؛ يخوّفهم بذلك.

قال : (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) : أي : محفوظ لهم حتّى يجازيهم به. (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) (٤٦).

قال الكلبيّ : إن نمروذ الذي بنى الصرح ببابل أراد أن يعلم علم السماء ، فعمد إلى

__________________

(١) حديث متّفق عليه. أخرجه البخاريّ في كتاب الرقاق ، باب كيف الحشر. وأخرجه مسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم. باب يحشر الكافر على وجهه (رقم ٢٨٠٦) ، كلاهما يرويه عن أنس بن مالك.

٣٣١

تابوت فجعل فيه غلاما. ثمّ عمد إلى نسور أربعة فأجاعهنّ ، ثمّ ربط كلّ نسر بقائمة من قوائم التابوت ، ثمّ رفع لهم لحما في أعلى التابوت ، فجعل الغلام يفتح الباب الأعلى فينظر إلى السماء فيراها كهيئتها. ثمّ يفتح الباب الأسفل فينظر إلى الأرض فيراها مثل اللجّة. فلم يزل كذلك حتّى جعل ينظر فلا يرى الأرض ، وإنّما هو الهواء ، وينظر فوق فيرى السماء كهيئتها. فلمّا رأى ذلك صوّب اللحم ، فتصوّبت النسور. فيقال ، والله أعلم ، إنّه مرّ بجبل فخاف الجبل أن يكون أمر من الله ، فكاد الجبل أن يزول من مكانه. فذلك قوله : (وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال). وذكر بعضهم أنّ نمروذ كان في التابوت ومعه صاحبه. فهو الذي جعل يأمره أن ينظر. فلمّا هاله ذلك أمره ، فنكس اللحم ، فانحدرت النسور. فبعث الله عليه أضعف خلقه : بعوضة ، فدخلت في منخره حتّى وصلت إلى دماغه فمات.

وقال بعضهم : في قراءة عبد الله بن مسعود : (وَإِنْ كاد مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ). وذلك تفسيرها عندهم. قال بعضهم : ذلك المكر ما عمل بالنسور ، فلا أعلمه إلّا قوله : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) (٨٩) أي : عظيما (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) أي : يتشقّقن منه (وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا) أي : بأن دعوا (لِلرَّحْمنِ وَلَداً) (٩١) [سورة مريم : ٨٨ ـ ٩١].

وتفسير الحسن في هذا الحرف : (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) يقول : ما كان مكرهم لتزول منه الجبال ، أي : هم أهون على الله من ذلك (١).

قوله : (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) : أي : ما وعدهم من النصر في الدنيا والجنّة في الآخرة (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) (٤٧) : أي عزيز في نقمته ، ذو انتقام من أعدائه بعذابه.

__________________

(١) هذه هي قراءة الجمهور ، وهذا هو التأويل الذي رجّحه الطبريّ في تفسيره ، ج ١٣ ص ٢٤٦ ـ ٢٤٧ ط. الحلبي. انظر : ابن خالويه ، الحجّة ، ص ١٧٩ ، وابن جنّي ، المحتسب ، ج ٤ ص ٣٦٥ ، وابن الأنباري ، البيان في غريب إعراب القرآن ، ج ٢ ص ٦١ ـ ٦٢.

٣٣٢

قوله : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٤٨) : أي قهر العباد بالموت وبما شاء من أمره. ذكروا عن عبد الله بن مسعود قال : تبدّل الأرض بيضاء كأنّها فضّة لم يعمل عليها خطيئة ، ولم يسفك عليها محجمة من دم حرام. وبرزوا حفاة عراة كما خلقوا حتّى يلجمهم العرق ، و (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [هود : ١٠٥].

ذكروا عن عائشة رضي الله عنها قالت : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قول الله : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) وقوله : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر : ٦٧] ، فأين يكون الناس يومئذ؟ قال : ((هم يومئذ على جسر جهنّم)) (١).

قوله : (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ) : أي المشركين والمنافقين (يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) (٤٩) : أي في السلاسل ؛ كلّ إنسان وشيطانه الذي كان قرينه في الدنيا في سلسلة واحدة.

(سَرابِيلُهُمْ) : [أي قمصهم] (٢) (مِنْ قَطِرانٍ) : قال الحسن : القطران الذي تطلى به الإبل. قال : (قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) [سورة الحج : ١٩]. وهي نار. وقال مجاهد : (من قطر آن) ، يقول : من صفر حارّ قد انتهى حرّه (٣). (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) (٥٠). وقال في آية أخرى : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ) [الزمر : ٢٤] أي : يجرّ على وجهه في النار. (لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) : أي ما عملت. (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٥١) : قال بعضهم : يقضي بين الخلق يوم القيامة في قدر نصف يوم من أيّام الدنيا. وقال في آية أخرى : (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) (٦٢) [الأنعام : ٦٢].

قوله : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) : أي القرآن بلاغ للمؤمنين ، والناس هاهنا : المؤمنون،

__________________

(١) أخرجه الطبريّ من طرق في تفسيره ، ج ١٣ ص ٢٥٣ بهذا اللفظ ، وأخرجه أحمد ومسلم والترمذيّ بلفظ : «على الصراط».

(٢) زيادة من ز ، ورقة ١٦٨ ، وهو لفظ أبي عبيدة في مجاز القرآن ، ج ١ ص ٣٤٥ ، وزاد : «وواحدها : سربال».

(٣) وهو قول ابن عبّاس ، وقرأه كذلك : «قطر آن» ، كما رواه الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٨٢.

٣٣٣

(بلاغ) أي : يبلغهم إلى الجنّة (١). (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا) : أي بالقرآن (أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) : ليس له شريك ، وقد علموا ذلك وتيقّنوه (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٥٢) : أي أولو العقول ، وهم المؤمنون.

__________________

(١) وقيل : معناه : كفاية في الموعظة والادّكار والاعتبار.

٣٣٤

تفسير سورة الحجر

وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ : قوله : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) (١) : قد فسّرناه في غير هذا الموضع (١).

قوله : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) (٢) (٢) : هو كقوله : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) [المؤمنون : ٩٩ ـ ١٠٠] ، وكقوله : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٧) [الأنعام : ٢٧] ، وكقوله : (يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) (٦٦) [الأحزاب : ٦٦]. وذلك لما رأوا من كرامة الله للمؤمنين وثوابه إيّاهم ، فتمنّوا أن لو كانوا مسلمين ومؤمنين لينالوا ما نال المسلمون من ثواب الله وجزيل عطائه.

وقد تأوّلت الفرقة الشاكّة هذه الآية على غير تأويلها ، وردّت على الله تنزيله ، فقالوا : هم قوم من أهل التوحيد يدخلون النار ، فيعيّرهم أهل النار ، ويقولون : قد كان هؤلاء

__________________

(١) يشير إلى تفسير الحروف المقطّعة في أوائل بعض السور. انظر ما سلف ، ج ١ تفسير الآية الأولى من سورة البقرة ، وج ٢ ، تفسير الآية الأولى من سورة يونس.

(٢) قال أبو البركات ابن الأنباري في كتابه : البيان في غريب إعراب القرآن ج ٢ ص ٦٣ : «قرئ (ربّما) و (ربما) بالتشديد والتخفيف. فالتشديد على الأصل ، والتخفيف لكثرة الاستعمال. وهما لغتان جيّدتان». وقد قرأ نافع وعاصم بتخفيف الباء كما ذكره الداني في التيسير ، ص ١٣٥. وقال ابن عصفور في كتابه : الممتع في التصريف ، ج ٢ ص ٦٢٦ ، في باب حذف الباء : «حذفت من ربّ ، فقالوا : (رب) في معناها. قال الشاعر :

أزهير إن يشب القذال فإنّه

رب هيضل لجب لففت بهيضل»

والبيت لأبي كبير عامر بن الحليس الهذلي ، من قصيدته الرائعة التي مطلعها :

أزهير هل عن شيبة من معدل

أم لا سبيل إلى الشّباب الأوّل

أم لا سبيل إلى الشباب ، وذكره

أشهى إليّ من الرّحيق السّلسل

انظر السكّري ، شرح أشعار الهذليّين ، ج ٣ ص ١٠٦٩ ـ ١٠٧٠.

٣٣٥

مسلمين فما أغنى عنهم ؛ قالوا : فيغضب لهم ربّهم فيخرجهم ـ زعموا ـ من النار ويدخلهم الجنّة. قالوا : فعند ذلك (يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ). فزعموا أنّ الله مخرج أقواما من النار قد احترقوا وصاروا حمما ، فيدخلون الجنّة ، فيقول أهل الجنّة : هؤلاء الجهنّميّون. قالوا : فيدعون ربّهم فيمحي ذلك الاسم عنهم ، فيسمّون عتقاء ربّ العالمين ، افتراء على الله ، وكذبا عليه ، وجحودا بتنزيله إذ يقول : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) يعني الشرك (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) يعني الكبائر الموبقة (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٨١) [البقرة : ٨١] وقال : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) (٣٧) [المائدة : ٣٧]. وقال : (وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) (٩) [الصافات : ٩] أي : دائم لا ينقطع. وقال : (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) (٧٥) [الزخرف : ٧٥] أي : يائسون. وقال : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (٢٢) [الحج : ٢٢]. وقال : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) (٣٦) [فاطر : ٣٦]. وقال : (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) (٧٧) [الزخرف : ٧٧]. وقال : (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) (٤٩) قالت لهم الخزنة : (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ) أي : أهل النار (إِلَّا فِي ضَلالٍ) (٥٠) [غافر : ٤٩ ـ ٥٠].

فكيف بعد هذا من تنزيل الله ومحكم كتابه تزعم الفرقة الشاكّة أنّ أهل جهنّم يخرجون منها ويدخلون الجنّة؟ يتّبعون الروايات الكاذبة التي ليس لها أصل في كتاب الله ، وينبذون كتاب الله وراء ظهورهم كأنّهم لا يعلمون ، فالله الحاكم بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين (١).

__________________

(١) هذا كلّه من كلام الشيخ هود الهوّاريّ ، وانفردت به كلّ من ق ، وج ، ود. وقد نقل الشيخ هود فيه بعض العبارات التي وردت في ز ، ورقة ١٦٨. وفي مخطوطة تفسير ابن سلّام ، القطعة ١٧٧ من قطع مخطوطات القيروان كلام طويل في حوالي ورقة ، تناول تفسير هذه الآية. وقد روى فيه ابن سلّام أحاديث حول من سمّوا بالجهنّميّين وحول الشفاعة. وقد حذفها الشيخ هود لأنّها لم تثبت عنده. واكتفى بالردّ عليها بالآيات البيّنات الدالّة على خلود المشركين والكفّار الذين يموتون من غير توبة في نار جهنّم. ومسألة الخلود ، كما ـ

٣٣٦

قوله : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) : يعني المشركين ، (يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) في الدنيا (وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) الذي يأملون من الدنيا (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٣) : أي يوم القيامة. وهذا وعيد هوله شديد. وكان هذا قبل أن يؤمر بقتالهم ، ثمّ أمر بقتالهم ، ولا يدعهم حتّى يسلموا أو يقتلوا ، يعني مشركي العرب.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ((المؤمن يأكل في معّى واحد ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء)) (١).

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ((الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر)) (٢).

قوله : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) (٤) : يعني الوقت الذي يهلكون فيه ، يعني من أهلك من الأمم السالفة بتكذيبهم رسلهم. (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) : أي وقت العذاب (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) (٥) عنه.

قوله : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) : يعني القرآن فيما تدّعي (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) (٦) : يعنون محمّدا. (لَوْ ما تَأْتِينا) : أي لولا ، فلوما ولو لا واحد. (بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٧) : أي حتّى تشهد لنا أنّك رسول الله ، فنصدّقك حينئذ.

قال الله : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ) : حتّى تعاينوهم (إِلَّا بِالْحَقِ) : أي بعذابهم

__________________

ـ تعلم ، من مسائل الخلاف بين الإباضيّة وبين بعض الفرق الإسلاميّة.

(١) حديث متّفق عليه. أخرجه البخاريّ في كتاب الأطعمة ، وأخرجه مسلم في كتاب الأشربة (رقم ٢٠٦٠ ـ ٢٠٦١ ـ ٢٠٦٢) كلاهما يرويه في باب المؤمن يأكل في معى واحد ... من طرق عن جابر ، وابن عمر ، وأبي هريرة وأبي موسى. ورواه الواقديّ في كتابه المغازي ، ج ٣ ص ١٠١٨ في أخبار غزوة تبوك عن رجل من بني سعد بن هذيم.

(٢) حديث صحيح أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق ، باب في الزهد في الدنيا وهوانها على الله عزوجل ، رقم ٢٩٥٦. وأخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد ، باب مثل الدنيا (رقم ٤١١٣) كلاهما يرويه عن أبي هريرة. وأخرجه الحاكم والطبرانيّ عن سلمان. وأخرجه البزّار عن ابن عمر.

٣٣٧

واستئصالهم (وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) (٨) طرفة عين ، أي : بعد نزول الملائكة.

وقال مجاهد : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ) أي : بالرسالة والعذاب.

قوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) : يعني القرآن (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٩) : أي حفظه الله من إبليس أن يزيد فيه شيئا أو ينقص منه شيئا. كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ) والباطل هو إبليس (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) فينقص منه (وَلا مِنْ خَلْفِهِ) [فصلت : ٤١ ـ ٤٢] فيزيد فيه شيئا. حفظه الله من ذلك (١).

وقال مجاهد : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) أي : عندنا.

قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) (١٠) : أي أرسلنا الرسل في فرق الأوّلين ، أي : أمم الأوّلين ، أمّة بعد أمّة.(وَما يَأْتِيهِمْ) : يعني تلك الأمم (مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ) : أي نسلك التكذيب (٢) (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) (١٢) : أي المشركين (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) : أي بالقرآن (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) (١٣) : يعني ما أهلك به الأمم السالفة بتكذيبهم ، يخوّف المشركين بذلك.

قوله : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ) : أي فصاروا فيه (يَعْرُجُونَ) (١٤) : أي الملائكة (لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) : أي سدّت أبصارنا (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) (١٥).

وقال بعضهم : (فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) أي : يختلفون فيه بين السماء والأرض.

__________________

(١) الباطل هنا أعمّ من أن يحصر في إبليس ، ومظاهر حفظ الله لكتابه من التحريف والزيادة والنقصان ومن كلّ شيء ، أكثر من أن تحصى. اقرأ خبرا طريفا رواه القرطبيّ في تفسير الآية في الجامع لأحكام القرآن ، ج ١٠ ص ٥ ـ ٦. وقيل : إنّ الضمير في قوله : (له لحافظون) راجع إلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكنّ روح العربيّة تأبى هذا التأويل ، فالضمير يرجع إلى أقرب مذكور.

(٢) وقيل : الضمير في قوله (نسلكه) راجع إلى الذكر المنزّل ، وهو ما ذهب إليه الزمخشريّ في تفسيره ، ج ٢ ص ٥٧٣. أمّا جمهور المفسّرين فأرجعوا الضمير إلى التكذيب والاستهزاء. انظر مثلا : معاني القرآن للفرّاء ، ج ٢ ص ٨٥ ، وتفسير الطبريّ ، ج ١٤ ص ٩.

٣٣٨

وقال ابن عبّاس : الملائكة تختلف فيه ، يبصرونهم عيانا ، لقال من يكذّب بهذا الحديث : (إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ).

وقال الحسن : فاختلف فيه بنو آدم لقال من يكذّب بهذا الحديث : (إنّما سكّرت ابصارنا بل نحن قوم مّسحورون).

وقال بعضهم : إنّ المشركين قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) (٩٢) [الإسراء : ٩٢] أي : عيانا ، معاينة ، فتخبرنا الملائكة أنّك رسول الله ، فنؤمن بك. فهو قول الله : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ). جوابا لذلك.

قوله : (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً) : قال ابن عبّاس : أي : نجوما (١) (وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ) (١٦) : أي : زيّنا السماء بالنجوم للناظرين. كقوله : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) (٦) [الصافّات : ٦].

قال : (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) (١٧) : والرجيم : الملعون. قال الحسن :

رجمه الله باللعنة. (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) : أي فإنّها لم تحفظ منه ، أي : يسمع الخبر من أخبار السماء ، ولا يسمع من الوحي شيئا. وهو قوله : (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) (٢١٢) [الشعراء : ٢١٢] ، أي : عن سمع القول. وقال في آية أخرى : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها) أي : من السماء (مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) (٩) [الجن : ٩]. وقال في هذه الآية : (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) (١٨) : أي مضيء. وقال في آية أخرى : (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) (١٠) [الصافات : ١٠]. وثقوبه : ضوءه.

__________________

(١) كذا في المخطوطات الأربع ، وفي ز ١٦٩ ، نسب هذا القول في تفسير البروج بالنجوم إلى ابن عبّاس. ويبدو أنّه سهو من الناسخ الأوّل ، فإنّ الذين فسّروها كذلك هم الحسن وقتادة ومجاهد ، أمّا ابن عبّاس فقال : إنّ البروج هنا هي المنازل ، كما في تفسير القرطبي ، ج ١٠ ص ١١. ومال أبو عبيدة في مجاز القرآن ، ج ١ ص ٣٤٨. (بروجا) : أي : منازل للشمس والقمر». وبذلك أيضا فسّرها الشيخ الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير ، ج ١٤ ص ٨٢ ـ ٨٣ ، وأتى بتفاصيل مفيدة في الموضوع.

٣٣٩

ذكروا أنّ أبا رجاء العطارديّ قال : كنّا قبل أن يبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما نرى نجما يرمى به ، فبينما نحن ذات يوم إذا النجوم قد رمي بها ؛ فقلنا : ما هذا إلّا أمر قد حدث. فجاءنا أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد بعث. فأنزل الله هذه الآية في سورة الجن [٩] (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً).

ذكروا عن ابن عبّاس أنّه قال : إذا رأيتم الكوكب قد رمي به فتواروا فإنّه يحرق ولا يقتل.

وفي تفسير الكلبيّ : إنّهم سراة إبليس يسرون بأنفسهم ليأتوا إبليس بخبر السماء. قال : فإذا قذفوا خبلوا فذهبت قوّتهم ، فلم يستطيعوا أن يصعدوا إلى السماء. وفي تفسير الحسن أنّه يحرقه فيقتله في أسرع من الطرف. ويقول : إنّ أحدهم يسترق السمع وقد علم أنّه سيحرق وأنّ له عذاب السعير. وهو قوله : (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) (٥) [الملك : ٥].

قوله : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) : أي بسطناها (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) : وهي الجبال ، وقد فسّرناه قبل هذا الموضع. وقال في آية أخرى : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) (٣٠) [النازعات : ٣٠] قال لها : انبسطي أنت كذا ، وانبسطي أنت كذا. وقد فسّرناه قبل هذا (١).

قوله : (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) (١٩) : قال الحسن : من كلّ شيء يوزن ، مثل الزعفران والعصفر (٢) وكلّ ما ينبت ممّا يوزن من النبات.

وتفسير الكلبيّ : أنبت الله في الجبال الذهب والفضّة والصفر والرصاص والحديد والجوهر وكلّ شيء لا يباع إلّا وزنا.

وقال بعضهم : كلّ شيء موزون ، أي : معلوم مقسوم. وقال مجاهد : (من كلّ شيء

__________________

(١) انظر ما سلف في هذا الجزء ، تفسير الآية ٣ من سورة الرعد.

(٢) العصفر : نبات ينبت بأرض العرب يصبغ به باللون الأحمر. يقال : عصفرت الثوب فتعصفر ، وزعم الأزهريّ أنّ الكلمة معرّبة ، ولكنّ الجواليقيّ لم يذكرها في معجمه المعرّب.

٣٤٠