تفسير كتاب الله العزيز - ج ٢

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٢

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٣

وقال بعضهم : فازوا من النار إلى الجنّة. وقال الحسن : (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) : النجاة العظيمة من النار. قال الله : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) [آل عمران : ١٨٥].

قوله : (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) : يقوله للنبيّ عليه‌السلام ، لقول المشركين له : إنّك مجنون ، وإنّك شاعر ، وإنّك ساحر ، وإنّك كاذب. (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) : أي فسينصرك عليهم ويذلّهم لك. (هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٦٥) : أي لا أسمع منه ولا أعلم.

قوله : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) : أي : جميع من في السماوات ومن في الأرض وأصنامهم التي يعبدونها من دون الله وأنفسهم [يفعل فيهم وبهم ما يشاء] (١).

قوله : (وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ) : يقول : إنّ الذين يعبدون من دون الله ليسوا بشركاء لله. (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) : يقول : ما يعبدون أوثانهم ويقولون : إنّها تقربهم إلى الله زلفى ، وما يقولون ذلك بعلم ، إن هو منهم إلّا ظنّ. (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (٦٦) : أي : إلّا يكذبون.

قوله : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) : يعني لتستقرّوا فيه من النّصب (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) : أي منيرا لتبتغوا فيه معايشكم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (٦٧) : وهم المؤمنون ، سمعوا عن الله ما أنزل إليهم فقبلوه.

قوله : (قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) : يعني مشركي العرب. وذلك أنّهم قالوا : إنّ الملائكة بنات الله (سُبْحانَهُ) : ينزّه نفسه عن ذلك (هُوَ الْغَنِيُ) : أي عن الولد (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ). ثمّ قال : (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا) : أي ما عندكم من حجّة بهذا الذي قلتم (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٦٨) : أي نعم قد قلتم على الله ما لا تعلمون.

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ١٤٠.

٢٠١

قوله : (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (٦٩) : ثمّ انقطع الكلام.

(مَتاعٌ فِي الدُّنْيا) : يقول : وإنّما الدنيا وما هم فيه متاع قليل ينقطع ، متاع يستمتعون به ثمّ يذهب إذا فارقوا الدنيا (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ) : أي عذاب جهنّم (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٧٠).

قوله : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ) : أي خبر نوح (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ) : أي عظم عليكم (مَقامِي) : أي بالدعاء إلى الله عزوجل (وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) : [أي وأجمعوا شركاءكم (١).

وقال بعضهم : وليجمع أوثانكم أيضا أمرهم (٢). قال الحسن ومجاهد : ما في أنفسكم وكيدكم. والعامّة على الوجه الأوّل : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) ، أي : وأجمعوا شركاءكم.

(ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) : أي في ستر وشبهة ، أي : ليكن ذلك علانية.

قال : (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَ) : أي اجهدوا عليّ جهدكم (وَلا تُنْظِرُونِ) (٧١) : أي طرفة عين ، أي : إنّكم لا تقدرون على ذلك. وذلك حين قالوا : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) (١١٦) [الشعراء : ١١٦] ، وهو كقوله : (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) (٩) [القمر : ٩] ، أي : ويهدّد بالقتل.

(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) : أي بكفركم (فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) : أي إن ثوابي إلّا على الله (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٧٢) : يقول : فما سألتكم على ما

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ١٤١.

(٢) هذا على قراءة من قرأ : (واجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) وهي قراءة الحسن التي قال عنها الفرّاء في معاني القرآن ، ج ١ ص ٤٧٣ : «وإنّما الشركاء ههنا آلهتهم ، كأنّه أراد : أجمعوا أمركم أنتم وشركاؤكم ، ولست أشتهيه لخلافه للكتاب ، ولأنّ المعنى فيه ضعيف وإنّ الآلهة لا تعمل ولا تجمع». وانظر ابن جنّي ، المحتسب ، ج ١ ص ٣١٤.

٢٠٢

أدعوكم إليه من هذا الدين أجرا فيحملكم ذلك على ترك ما أدعوكم إليه. وقد قال الله لمحمّد عليه‌السلام : (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) (٤٦) [القلم : ٤٦] أي : فقد أثقلهم الغرم ، فإنّما يحملهم على ترك الهدى الأجر الذي تسألهم. أي : إنّك لا تسألهم ذلك.

قوله : (فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) : أي في السفينة. وكان مع نوح في السفينة امرأته وثلاثة بنين له : سام وحام ويافث ونساؤهم ، فجميعهم ثمانية. (وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ) : أي بعد الهالكين يخلفون في الأرض بعدهم. (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) (٧٣) : أي الذين أنذرهم نوح كان عاقبتهم أن عذّبهم الله ثمّ صيّرهم إلى النار.

قال : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ) : أي من بعد نوح (رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) : أي من عند الله (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) : أي من قبل أن يأتيهم العذاب. (كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) (٧٤) : أي المشركين بشركهم.

قوله : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) : يعني : قومه (بِآياتِنا) : أي التسع الآيات : يده وعصاه والطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدّم ، قال تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ) [الأعراف : ١٣٠]. قال : (فَاسْتَكْبَرُوا) : أي عن إجابة الرسل (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) (٧٥) : أي مشركين.

قوله : (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا) : [يعني اليد والعصا] (١) (قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) (٧٦).

(قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا). قال الله : (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) (٧٧).

قوله : (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا) : أي لتأفكنا ، أي : لتصدّنا ولتحوّلنا (عَمَّا وَجَدْنا

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ١٤١.

٢٠٣

عَلَيْهِ آباءَنا) : أي إنّا وجدناهم عبدة أوثان ، فنحن على دينهم ، وأنت تريد أن تحوّلنا عن ذلك (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ) : أي : وتريد أن يكون لك ولهارون الملك والطاعة (وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) (٧٨) : أي بمصدّقين.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) (٧٩) : أي عليم بالسحر.

(فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ) : أي للميعاد الذي اتّعدوا له هم وموسى (قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) (٨٠) : وذلك أنّهم قالوا لموسى (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) (١١٥) [الأعراف : ١١٥] (قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ). (فَلَمَّا أَلْقَوْا) : يعني حيّاتهم وعصيّهم (قالَ) : لهم (مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) : (١) ليس بشيء (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) : أي حتّى لا يكون شيئا (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) (٨١) : أي السحرة والمشركين.

(وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَ) : أي الذي جاء به موسى (بِكَلِماتِهِ) : أي بوعده الذي وعد موسى بقوله : (لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) (٦٨) [طه : ٦٨] أي : إنّك أنت الظاهر الظافر. (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (٨٢) : أي المشركون. أي : إنّ فرعون وقومه كانوا يكرهون الحقّ ، وأن يظهر عليهم موسى وهارون فيظهر دينهما ، ويغرق آل فرعون وهم ينظرون.

قوله : (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) : ذكروا عن ابن عبّاس قال : الذرّيّة : القليل. ذكروا أنّ مجاهدا قال : أولاد الذين أرسل إليهم موسى من طول الدهر ومات آباؤهم.

قوله : (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ) : أي أن يقتلهم فرعون ، وكانوا سبعين أهل بيت من قوم فرعون وإخوانهم (٢) بنو إسرائيل.

__________________

(١) جاء في مجاز أبي عبيدة ، ج ١ ص ٢٨٠ : «مجاز (ما) هاهنا : الذي ، ويزيد فيه قوم ألف الاستفهام كقولك : السحر». انظر تفصيل ذلك وبيان وجوه قراءة الكلمة عند الفرّاء في معاني القرآن ، ج ١ ص ٤٧٥.

(٢) كذا في د وج : «وإخوانهم». وفي ق وع : «من أخوالهم بني إسرائيل».

٢٠٤

قوله : (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ) : أي لباغ في الأرض ، يبغي عليهم ويتعدّى. (وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) (٨٣) : أي لمن المشركين.

قوله : (وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) : وقد علم أنّهم قد آمنوا وصدّقوا ، ولكنّه كلام من كلام العرب. تقول : إن كنت كذا فاصنع كذا ، وهو يعلم أنّه كذلك ، ولكنّه يريد أن يعمل بما قال له.

قال : (فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) (٨٤) : أي إن كنتم مؤمنين فامضوا على ما يأمركم به الله.

(فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٨٥).

ذكروا أنّ مجاهدا قال : قالوا : لا تعذّبنا بأيدي قوم فرعون ، ولا بعذاب من عندك ، فيقول فرعون وقومه : لو كان هؤلاء على حقّ ما عذّبوا وما سلّطنا عليهم [فيفتتنوا بنا] (١). (وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٨٦) : أي من فرعون وقومه.

قوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) : قال مجاهد : حين خاف موسى ومن معه من فرعون أن يصلّوا في مساجد ظاهرة (٢) أمروا أن يجعلوا في بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة يصلّون فيها سرّا. وقال الحسن : كانت قبلة النبيّين كلّهم الكعبة ؛ قال بعضهم إلّا ما صلّى النبيّ عليه‌السلام إلى بيت المقدس ، ثمّ صرف إلى الكعبة.

وقال الحسن : (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) أي : حين دخل موسى وبنو إسرائيل مصر بعدما أهلك الله فرعون وقومه ، أمروا أن يبنوا بمصر بيوتا ، أي : مساجد مستقبلة القبلة. كقوله : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [النور : ٣٦] يعني المساجد.

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ١٤١ ، وفي تفسير مجاهد ص ٢٩٦ ، وفي تفسير الطبري ج ١٥ ص ١٧٥.

(٢) كذا في المخطوطات : «في مساجد ظاهرة». وفي ز ، ورقة ١٤٢ : «أن يصلّوا في الكنائس الجامعة». وبهذا اللفظ الأخير جاءت العبارة في تفسيري مجاهد والطبريّ.

٢٠٥

قال : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (٨٧) : أي بالجنّة.

قوله : (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً) : أي زينة الدنيا (وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) : وهذا دعاء ، أي : يا ربّنا فأضلّهم عن سبيلك ، وهذا حين جاء وقت عذابهم وأمرهم بالدعاء عليهم. (رَبَّنا) : أي يا ربّنا (اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) : فمسخت دنانيرهم ودراهمهم وزروعهم حجارة. ذكر لنا أنّ زروعهم تحوّلت حجارة. (وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) : أي بالضلالة التي كانت منهم (فَلا يُؤْمِنُوا) : أي فحيل (١) بينهم وبين أن يؤمنوا بفعلهم في تفسير الحسن. وقد فعل. (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٨٨) : أي الموجع.

و (قالَ) مجيبا لهما : (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما) : على أمري وديني (وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ) : أي طريق (الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٨٩) : يعني المشركين.

قوله : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) : وهذا حين خرجوا من مصر. قال الله لموسى : (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) (٢٣) [الدخان : ٢٣]. (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً) : والعدو هو العدوان. وهي تقرأ على وجه آخر : وعدوّا (٢) ، من التعدّي. وكان جبريل يومئذ على فرس قائدا لموسى وأصحابه. وأوحى الله لموسى أن يضرب بعصاه البحر ففعل. (فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) (٦٣) [الشعراء : ٦٣]. وصار لهم اثني عشر طريقا ، لكلّ سبط طريق. واجتمع الماء وصار كالجبلين على تلك الطرق. وكان بنو إسرائيل يومئذ ستّمائة ألف مقاتل سوى الحشم. وكان مقدّمة فرعون على ألف ألف حصان ومائتي ألف حصان. وكان جميع جنوده أربعين ألف ألف. حتّى إذا خرج آخر أصحاب موسى ودخل فرعون وأصحابه أوحى الله عزوجل إلى البحر أن يلتئم

__________________

(١) كذا في ز ورقة ١٤٢ : «فحيل بينهم». وفي ع : «فيحل» (كذا). وفي ق ود : «فحل». ولعلّ ما جاء في ق ود هو الصواب : «فحل» ، حتّى يكون تابعا للدعاء قبله ، ثمّ تأتي عبارة : «وقد فعل» ، إخبارا بما تمّ بعد ذلك.

(٢) العدو ، والعدوّ ، والعدوان ، كلّها مصادر للفعل عدا. انظر اللسان : (عدو).

٢٠٦

عليهم ففعل.

قال الله عزوجل : (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٩٠).

يقول الله عزوجل : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (٩١) : أي إنّه آمن في حين لا يقبل الله منه الإيمان. وقد مضت سنّة الله في الذين خلوا من قبل أن لا يقبل الله الإيمان عند نزول العذاب.

قال : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) : أي بجسدك. مجّه البحر ، أي : قذفه البحر عريانا على شاطئ البحر. قال : (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) : أي لمن بعدك آية فيعلمون أنّك عبد ذليل قد أهلكك الله وغرّقك. فرآه العالمون.

قوله : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) (٩٢) : يعني المشركين ، أي : لا يتفكّرون فيها ولا ينظرون.

قوله : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) : أي أنزلنا بني إسرائيل منزل صدق ، أي : مصر ، في تفسير الحسن ، بعد ما أهلك الله فرعون وقومه.

(وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) : قال تعالى : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) (٢٦) أي : ومنزل حسن في الدنيا (وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) (٢٧) [الدخان : ٢٥ ـ ٢٧] أي مسرورين. وقال بعضهم : معجبين وهو واحد. قال : (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) (٥٩) [الشعراء : ٥٩] (١) أي هكذا أورثناها بني إسرائيل.

قوله : (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) : مثل قوله : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا

__________________

(١) كذا في المخطوطات الأربع : (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء : ٥٩] أمّا في سورة الدخان فجاءت الآية : ٢٨ هكذا : (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً ـ آخَرِينَ) ولعلّ الآيتين المتشابهتين اختلطتا على المؤلّف أو على بعض النسّاخ ، اللهمّ إلّا أن يكون المؤلّف عمد إلى الآية التي نصّ فيها نصّا صريحا ببني إسرائيل.

٢٠٧

وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) [آل عمران : ١٠٥]. وكقوله : (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (٥٣) [المؤمنون : ٥٣] وهم أهل الكتاب. (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٩٣).

قوله : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) : [يعني من آمن منهم] (١). ذكروا لنا أنّ رسول الله قال : لا أشكّ ولا أسأل (٢).

قال الحسن : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) يقول : لو سألت الذين يقرأون الكتاب من قبلك لأخبروك ، وليس يقول : سلهم لتعلم ذلك منهم.

قال : (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) (٩٤) : أي من الشاكّين. (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٩٥).

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) (٩٦) : وهم الذين يلقون الله عزوجل بكفرهم. (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٩٧) : أي الموجع. أي : إنّ الآية إذا جاءتهم فلم يؤمنوا جاءهم العذاب ، فإذا رأوا العذاب آمنوا فلا يقبل منهم.

قوله : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها) : يقول : لو آمنت قبل نزول العذاب عليها لنفعها إيمانها ، فلم يفعل ذلك أهل قرية فيما خلا (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا) : أي قبل أن ينزل عليهم العذاب (كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ) : أي عذاب الهون (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) : أي عن الذين لو كانوا لم يؤمنوا قبل أن ينزل بهم العذاب نزل بهم الخزي. ولو كان نزل بهم ثمّ آمنوا لم يقبل منهم الإيمان. قال الله : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) (٨٥) [غافر : ٨٥].

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ١٤٢.

(٢) أخرجه ابن جرير الطبريّ في تفسيره ، ج ١٥ ص ٢٠٢ عن قتادة مرسلا.

٢٠٨

قال بعضهم : يقول : لم يكن هذا في الأمم قبلكم ، لم يكن ينفع قرية كفرت ثمّ آمنت حين عاينت عذاب الله إلّا قوم يونس (١).

وقال : ذكر لنا أنّ قوم يونس كانوا من أرض الموصل. فلمّا فقدوا نبيّهم قذف الله في قلوبهم التوبة ، فلبسوا المسوح ، وفرّقوا بين كلّ بهيمة وولدها ، فحجّوا إلى الله أربعين ليلة. فلمّا عرف الله الصدق من قلوبهم ، والتوبة والندامة على ما مضى منهم ، كشف عنهم العذاب بعد ما نزل بهم.

وقال بعضهم : كان بينهم وبين العذاب أربعة أميال.

وذكروا أنّ مجاهدا قال : (فَنَفَعَها) أي : كما نفع قوم يونس إيمانهم ، فلم يكن ذلك. قوله : (كَشَفْنا عَنْهُمْ) ، أي : صرفنا عنهم.

قوله : (وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (٩٨) : يعني إلى الموت بغير عذاب.

قوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٩٩) : على الاستفهام ؛ أي : لا تستطيع أن تجبر الناس على الإيمان ، إنّما يؤمن من أراد الله أن يؤمن.

قوله : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) (١٠٠) : أي رجاسة الكفر بكفرهم.

قوله : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ) : أي من شمسها وقمرها ونجومها وما فيها من العجائب (وَالْأَرْضِ) : أي من بحارها وشجرها وجبالها ، أي : ففي هذه آيات وحجج عظام.

ثمّ قال : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (١٠١) : أي : ما تغني عنهم

__________________

(١) جاءت عبارة أبي عبيدة في مجاز القرآن ، ج ١ ص ٢٨٤ أوجز وأوضح. قال : «ثمّ استثنى منهم فقال : إلّا أنّ قوم يونس لمّا رأوا العذاب آمنوا فنفعهم إيمانهم فكشفنا عنهم عذاب الخزي».

٢٠٩

الآيات إذا لم يقبلوها ولم يتفكّروا فيها.

قوله : (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) : أي وقائع الله في الأمم السالفة ، أي : ما أهلكهم به حين كذّبوا رسلهم. قال : (قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (١٠٢) : أي فسينزل بكم ما نزل بهم ، يعني الذين تقوم عليهم الساعة ، الدائنين بدين أبي جهل وأصحابه. إنّ الله أخّر عذاب كفّار هذه الأمّة إلى النفخة الأولى ، بها يكون هلاكهم ، ولم يهلكهم حين كذّبوا النبيّ عليه‌السلام بعذاب الاستئصال ، كما أهلك من قبلهم بعذاب الاستئصال ، فلم يبق منهم أحد.

قوله : (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) : أي وكنّا إذا أهلكنا قوما أنجينا النبيّ والمؤمنين. (كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) (١٠٣).

قوله : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) : يعني المشركين (فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) : أي الذي يميتكم (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٠٤).

قوله : (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ) : أي وجهتك (لِلدِّينِ حَنِيفاً) : أي مخلصا (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٠٥).

(وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) : يعني الأصنام (فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) (١٠٦) : أي من المشركين. (فَإِنْ فَعَلْتَ) أي : ولست فاعلا.

قوله : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) : أي بمرض أو بليّة (فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) : أي بعافية أو سعة (فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) : يعني السرّاء والضرّاء في النصب وغيره (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (١٠٧).

قوله : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) : يعني القرآن (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) : أي على نفسه ، كقوله :

٢١٠

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) [فصّلت : ٤٦].

قوله : (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) (١٠٨) : أي بحفيظ لأعمالكم حتّى أجازيكم بها. إنّما أنا منذر أبلّغكم رسالة ربّي.

قال : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ) : من ربّك (وَاصْبِرْ) : على ما يقول لك المشركون من أنّك ساحر وأنّك شاعر وأنّك مجنون وأنّك كاهن وأنّك كاذب (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) : فيأمرك بالهجرة والجهاد. وكان هذا قبل أن يؤمر بالقتال. وقد كان الله أعلم محمّدا عليه‌السلام أنّه سيفرض عليه الجهاد ، جهاد الكفّار (وَهُوَ خَيْرُ) : أي أفضل (الْحاكِمِينَ) (١٠٩).

٢١١

تفسير سورة هود (١) وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله : (الر) : قد فسّرناه في أوّل سورة يونس.

قوله : (كِتابٌ) : [أي : هذا كتاب] (٢) ، يعني القرآن (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) : أي بالأمر والنهي. (ثُمَّ فُصِّلَتْ) : قال مجاهد : ثمّ فسّرت. وقال الحسن : ثمّ فسّرت ، بيّن فيها الحدود والأحكام. وقال بعضهم : فصّلها فبيّن فيها حلاله وحرامه ، وطاعته ومعصيته.

(مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ) : أي من عند حكيم ، وهو الله تبارك وتعالى ، أحكمه بعلمه (خَبِيرٍ) (١) : أي بأعمال العباد.

قوله : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) : يقول للنبيّ عليه‌السلام : قل لهم ألّا تعبدوا إلّا الله (إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ) : يحذّركم عقابه ، أي النار إن لم تؤمنوا (وَبَشِيرٌ) (٢) : أي يبشّر بالجنّة من أطاعه وآمن به.

قوله : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) : أي من الشرك (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) منه (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً) : والمتاع معايشهم. (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) : أي إلى الموت ، ولا يهلككم بالعذاب إن آمنتم. يقول : أنتم في ذلك المتاع إلى الموت.

قوله : (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) : أي على قدر ما عمل واحتسب. كقوله : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) [الأنعام : ١٣٢].

وبلغنا عن عبد الله بن مسعود أنّه قال : من عمل حسنة كتبت له عشر حسنات ، ومن

__________________

(١) في د : «سورة هود عليه‌السلام» ، وفي ق وع ذكر لعدد الحروف والكلمات والآيات على اختلاف بينهما في بعض الألفاظ. ففي ق : «عدد الآيات ١٢٣ عند أهل الكوفة وأهل البصرة ، واثنان في عدد دمشق». وفي ع : «عند أهل الكوفة وأهل حمص واثنان في عدد دمشق».

(٢) زيادة من ز ، ورقة ١٤٣.

٢١٢

عمل سيّئة واحدة كتبت عليه واحدة ، فإن عوقب بالسيّئة في الدنيا بقيت له عشر حسنات ، فإن حوسب بها في الآخرة بقيت له تسع حسنات.

وقال مجاهد : (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) في الآخرة.

قال : (وَإِنْ تَوَلَّوْا) : أي عن هذا القرآن فيكذّبوا به. (فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) (٣) : يحذّرهم عذاب الله في الآخرة ، ولم يبعث الله نبيّا إلّا حذّر أمّته عذاب الدنيا وعذاب الآخرة إن لم يؤمنوا.

قوله : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤) : يقول : فيعذّبكم في الآخرة إن لم تؤمنوا في الدنيا لقدرته عليكم ، فيعذّبكم بكفركم.

قوله : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) : أي على ما هم عليه من الكفر. وقال مجاهد : ثنيهم صدورهم شكّ وامتراء.

قال : (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) : أي من الله إن استطاعوا ، ولن يستطيعوا. وقال الحسن : ليستخفوا منه بذلك ، يظنّون أنّ الله لا يعلم الذي استخفّوا منه.

قال : (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) : أي ما يظهرون من الكفر.

وقال بعضهم : هم المنافقون يثنون صدورهم بما هم عليه من الكفر ، وهو ما يسرّون ، أي : من ترك الوفاء بما أقرّوا به من الأعمال التي لم يوفّوا بها ، (وَما يُعْلِنُونَ) أي : ما يظهرون من الإيمان للنبيّ والمؤمنين.

قال : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٥) : أي بما تخفي الصدور.

وقال بعضهم : (يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) يقنعون رؤوسهم ، ويحنون صدورهم لكي لا يسمعوا كلام النبيّ عليه‌السلام ؛ فكانوا يحنون صدورهم لكي لا يسمعوا كتاب الله ولا ذكره.

٢١٣

وقال بعضهم : (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) وذلك أخفى ما يكون فيه ابن آدم إذا حنى صدره واستغشى ثوبه ، وأهمّ همّا في نفسه ، فإنّ الله لا يخفى ذلك عليه.

قوله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها) كان الحسن يقول في قوله : (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) [الأنعام : ٩٨] : مستقرّ في أجله إلى يوم يموت ، ومستودع في قبره إلى يوم يبعث. كأنّه يريد هذه الآية : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (٣٦) [البقرة : ٣٦].

وقال الكلبيّ : مستقرّها : حيث تأوي بالليل.

وذكر عكرمة عن ابن عبّاس أنّه قال : المستقرّ : الرحم ، والمستودع : الصّلب ؛ يعني مستقرّها في الرحم قبل أن تخرج إلى الدنيا ، ومستودعها في الصلب قبل أن تقع إلى الرحم.

وبلغنا عن عبد الله بن مسعود أنّه قال : مستقرّها الأرحام ، ومستودعها الأرض التي تموت فيها (١).

قوله : (كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٦) : يعني عند الله ، وقد فسّرناه قبل هذا الموضع (٢).

قوله : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) : يعني : وما بينهما. وقد فسّرنا ذلك في غير هذا الموضع (٣). وهذا من الإضمار.

قوله : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) : قال مجاهد : قبل أن يخلق شيئا.

(لِيَبْلُوَكُمْ) : أي ليختبركم بالأمر والنهي. (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) : أي فيما ابتلاكم.

__________________

(١) روى ابن سلّام هنا بسند إلى ابن مسعود خبرا رأيت من المناسب إثباته هنا كما ورد في ز ، ورقة ١٤٣ : «عن ابن مسعود قال : إذا أراد الله عزوجل أن يقبض عبدا بأرض جعل له بها حاجة ، فإذا كان يوم القيامة قالت الأرض : ربّ هذا ما استودعتني».

(٢) انظر ما سلف ، ج ١ ، تفسير الآية ٥٩ من سورة الأنعام.

(٣) انظر ما مضى في هذا الجزء ، تفسير الآية ٣ من سورة يونس.

٢١٤

قوله : (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٧) : أي إن هذا القرآن إلّا سحر مبين ، تكذيبا منهم بالبعث.

قوله : (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) : أي : إلى سنين معدودة ، في تفسير الكلبيّ. وقال مجاهد : إلى حين. وقال بعضهم : إلى أجل معدود. وذلك عند بعضهم عذاب الآخرة. وتفسير الحسن : إلى النفخة الأولى ، وأنّ الله قضى ألّا يعذّب كفّار هذه الأمّة بعذاب الاستئصال إلّا بالساعة.

(لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ) : قال بعضهم : لمّا قالوا : (ما يَحْبِسُهُ) ، يعنون العذاب (١).

قال الله : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ). ثمّ أنزل بعد ذلك : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل : ١] فذلك قوله : (ما يَحْبِسُهُ) أي ما يحبس العذاب. قال الحسن : وذلك قولهم للنبيّ : (ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ) [العنكبوت : ٢٩]. قال الله : (وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) [العنكبوت : ٥٣].

قال : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) يعني الذين تقوم عليهم الساعة ، الدائنين بدين أبي جهل وأصحابه. (لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) أي ليسوا بالذين يستطيع أحدهم أن يصرف عنهم عذاب الله إذا نزل بهم. (وَحاقَ بِهِمْ) : يومئذ (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٨) : وتفسير الكلبيّ : عذاب الآخرة.

قوله : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً) : والإنسان ههنا المشرك ، والرحمة في هذا الموضع الصحّة والسعة في الرزق.

قال : (ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ) : أي من رحمة الله أن تصل إليه فيصيبه رخاء بعد شدّة (كَفُورٌ) (٩) : أي لنعمة الله.

__________________

(١) كذا في المخطوطات الأربع ، ورجوع الضمير في الآية إلى لفظ العذاب ظاهر ، فلا معنى لذكر ذلك وشرحه. اللهمّ إلّا أن يكون في الكلام سقط أو خطأ. ويلاحظ في هذه الجمل تكرار لا داعي له ، فالمعنى واضح.

٢١٥

قال : (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) : فعافيناه من تلك الضرّاء. والضرّاء : المرض واللأواء ، وهي الشدائد (لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي) : أي بعد إذ نزلت به (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) (١٠) : أي ليست له حسبة (١) عند ضرّاء ، ولا شكر عند سرّاء. (فرح) أي : بالدنيا ، مثل قوله : (وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) [الرعد : ٢٦] وهم أهل الشرك.

ثمّ استثنى الله أهل الإيمان فقال : (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) : أي على هذه اللأواء (٢) والشدائد (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : أي إنّهم لا يفعلون ذلك الذي وصف من فعل المشركين. (أُولئِكَ) : الذين هذه صفتهم (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) : أي لذنوبهم (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (١١) : أي الجنّة.

قوله : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) : يعني النبيّ عليه‌السلام ، حتّى لا تبلّغ عن الله الرسالة مخافة قومك (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا) أي بأن يقولوا : (لَوْ لا) أي هلّا (أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ) أي مال فإنّه فقير ليس له شيء (أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) فيخبرنا أنّه رسول الله فنؤمن به.

وقوله : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) على الاستفهام ، أي : لست بتارك ذلك حتّى تبلّغ عن الله الرسالة.

(إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) : أي تنذرهم عذاب الله في الدنيا والآخرة إن لم يؤمنوا (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (١٢) : أي حفيظ لأعمالهم حتّى يجازيهم بها.

قوله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) : أي افترى محمّد هذا القرآن ، على الاستفهام ، يقول : قد قالوا ذلك. قال : (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ) : أي مثل هذا القرآن (مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) : أي من هذه الأوثان (٣) التي تعبدون من دون الله

__________________

(١) كذا في ز ، ورقة ١٤٤ : «حسبة» ، أي احتساب أجر الصبر عند الله ، وهو أصحّ ، وفي ق وع ود : «خشية».

(٢) كذا في ق وع : «اللأواء» وهو أصحّ ، وفي د وج : «الأذى».

(٣) كذا في المخطوطات الأربع : «أي : من هذه الأوثان». وفي ز ، ورقة ١٤٤ : «أي : استعينوا من أطاعكم من ـ

٢١٦

(إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٣).

قال : (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) : فيأتوا بعشر سور مثله ، ولن يفعلوا ، يعني الأوثان ، (فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ) : أي القرآن (بِعِلْمِ اللهِ) : أي من عند الله (وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٤) يقول : قل لهم : فهل أنتم مسلمون ، وهو كقوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (٢٥) [الأنبياء : ٢٥].

قوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) : يعني المشرك الذي لا يؤمن بالآخرة (١) (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ) : [أي جزاء حسناتهم] (٢) (فِيها) : أي في الدنيا. (وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) (١٥) : أي في الدنيا (لا يُبْخَسُونَ) أي : لا يظلمون ، لا ينقصون حسناتهم التي عملوها في الدنيا. يجازون بها في الدنيا.

(أُولئِكَ) : يعني المشركين (الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٦) : أي من حسنات الآخرة ، لأنّهم جوزوا بها في الدنيا. ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله : الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر (٣).

ذكروا عن الحسن قال : قيل يا رسول الله : هذا المؤمن المعروف إيمانه شدّد عليه عند الموت ، وهذا الكافر المعروف كفره يهوّن عليه عند الموت. قال : سأخبركم عن ذلك ؛ إنّ

__________________

ـ دون الله». ويبدو أنّ تأويل قوله تعالى : (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) بالأوثان لا يؤدّي معنى العموم الذي يدلّ عليه اسم الموصول (من) وأرى إبقاء اسم الموصول على عمومه وإطلاقه أولى من تخصيصه وتقييده ، خاصّة إذا ذكرنا قوله تعالى من سورة الإسراء : ٨٨ (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً).

(١) وهذه الآية أيضا أعمّ من أن تقصر على المشركين ، فقد قال مجاهد : إنّهم أهل الرياء ، وقال قتادة : هي في اليهود والنصارى. وانظر تفسير الطبريّ ، ج ١٥ ص ٢٦٢ ـ ٢٦٨.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ١٤٤.

(٣) أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق ، وهو أوّل أحاديث الكتاب (رقم ٢٩٥٦). وأخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد ، باب مثل الدنيا ، (رقم ٤١١٣) كلاهما يرويه من حديث أبي هريرة ، وانظر ما مضى ، ج ١ ، تفسير الآية ٣٢ من سورة الأنعام.

٢١٧

المؤمن يكون قد عمل السيّئة فشدّد عليه عند الموت ليكون بها ، وإنّ الكافر يكون قد عمل الحسنة فيهوّن عليه عند الموت ليكون بها (١).

قوله : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) : أي على بيان ويقين. قال بعضهم : يعني محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) : قال الحسن : (شاهِدٌ مِنْهُ) : لسانه ، يعني النبيّ عليه‌السلام. وفي تفسير الكلبيّ : (شاهِدٌ مِنْهُ) : جبريل ، أي : شاهد من الله.

قال : (وَمِنْ قَبْلِهِ) : قال الكلبيّ : ومن قبل القرآن (كِتابُ مُوسى) : أي التوراة (إِماماً وَرَحْمَةً) : يقول : تلا جبريل على موسى التوراة إماما ورحمة.

وقال ابن عبّاس : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) قال : هو المؤمن. (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) أي : من أهل الكتاب. قال : (وَمِنْ قَبْلِهِ) أي : من قبل القرآن (كِتابُ مُوسى) أي : التوراة (إِماماً) أي يأتمّ به من قبله (٢) وعمل به ، (وَرَحْمَةً) له.

قوله : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) : يعني المؤمنين يؤمنون بالقرآن والتوراة والإنجيل. (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) : أي بالقرآن (مِنَ الْأَحْزابِ) : أي من اليهود والنصارى (٣). قال الله : (فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) : أي في شكّ منه. يقول للنبيّ عليه‌السلام : ومن يكفر به فالنار موعده (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (١٧).

قال : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) هل يستوي هو ومن يكفر بالقرآن والتوراة والإنجيل ؛ إنّهما لا يستويان عند الله.

__________________

(١) كذا ورد هذا الحديث في المخطوطات الأربع بهذه العبارة : «ليكون بها» ولم أوفّق لتحقيقها ، ولعلّ في الحديث نقصا. ولم أجد الحديث فيما بين يديّ من المصادر والمراجع حتّى أضبطه وأصحّحه.

(٢) في المخطوطات : «من قبل وعمل به».

(٣) اقتصر المؤلّف هنا على تأويل (الأحزاب) باليهود والنصارى. ولكنّ سعيد بن جبير عند ما روى عن ابن عبّاس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله : «ما من أحد يسمع بي من هذه الأمّة ولا يهوديّ ولا نصرانيّ ولا يؤمن بي إلّا دخل النار» ، نزع بهذه الآية : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) وقال : الأحزاب الملل كلّها. وقال قتادة : الكفّار أحزاب كلّهم على الكفر. وانظر تفسير الطبريّ ، ج ١٥ ص ٢٨٠.

٢١٨

قوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) : على الاستفهام ، أي : لا أحد أظلم منه. وافتراؤهم على الله أن قالوا إنّ الله أمرهم بما هم عليه من عبادة الأوثان ، وتكذيبهم بمحمّد ، يعني به مشركي العرب.

قوله : (أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ) : [أي : الأنبياء] (١). (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (١٨).

ذكروا عن صفوان بن محرز أنّه قال : بينما أنا أحدّث ابن عمر إذ عارضه رجل فقال : يا أبا عبد الرحمن ، كيف سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مسألة الربّ عبده المؤمن يوم القيامة؟ قال : سمعته يقول : إنّ الله يسأل عبده المؤمن يوم القيامة ، ويخبره بستره من الناس ، فيقرّره بذنوبه ، فيقول : عبدي ، أتعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول : يا ربّ ، أعرف ؛ حتّى إذا قرّره بذنوبه ، وظنّ في نفسه أنّه قد هلك قال : فإنّي قد سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم ؛ ثمّ يعطى كتاب حسناته. وأمّا الكافر والمنافق فإنّه ينادي الأشهاد : (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ ، أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (٢).

والكذب على الله من وجهين : فكذب المشركين ادّعاؤهم الأنداد والأولاد لله. وكذب المنافقين في نصبهم الحرام دينا ، وادّعاؤهم على الله دينا غير دينه ، واستحلالهم ما حرّم الله.

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ١٤٤. وقد اختلف العلماء في الأشهاد على خمسة أقوال ؛ فقيل : هم الرسل ، وقيل : هم الملائكة ، وقيل : الناس عامّة ، وقيل : الجوارح. انظر ابن الجوزي ، زاد المسير ، ج ٤ ص ٨٩.

(٢) في المخطوطات : «ويخبره من يستره من الناس» ، وهو خطأ ، صوابه ما أثبتّه. والحديث متّفق عليه ، أخرجه البخاري مرارا ، فأخرجه في كتاب التفسير ، سورة هود. وأخرجه مسلم في كتاب التوبة ، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله (رقم ٢٧٦٨). وأخرجه ابن ماجه في المقدّمة ، الحديث (رقم ١٨٣). وانظر تفسير الطبري ، ج ٦ ص ١٢٠ ، وج ١٥ ص ٢٨٤ ، كلّهم يروى الحديث من طريق قتادة عن صفوان بن محرز عن ابن عمر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو حديث النجوى. وانظر : الطرسوسي ، مسند عبد الله بن عمر ، (رقم ٢٦) ص ٢٧.

٢١٩

قوله : (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) : أي عن طريق الله (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) : أي ويدعون الناس إلى الطريق الأعوج ، إلى الشرك ، وطريق الله مستقيم إلى الجنّة ، وهو طريق المؤمنين ، وهو الإسلام ، طريق إلى الجنّة.

قال : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) (١٩) : أي يكذّبون بالبعث.

(أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) : أي سابقين في الأرض ، أي : لم يكونوا ليسبقونا حتّى لا نبعثهم ثمّ نعذّبهم.

قوله : (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) : يمنعونهم من عذاب الله. قال : (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) : أي في النار (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) : أي سمع الهدى ، أي : لا يقدرون أن يسمعوه سمع قبول في الدنيا. (وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) (٢٠) : أي بصر قبول الهدى. قال بعضهم : هي مثل التي في البقرة : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) [البقرة : ٧] أي : بكفرهم فعل ذلك بهم.

(أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) : فصاروا في النار (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٢١) : أي من عبادة الأوثان. ضلّت عنهم فلم تغن عنهم شيئا ؛ كقوله (ضَلُّوا عَنَّا) [غافر : ٧٤].

(لا جَرَمَ) : وهي كلمة وعيد (١) (أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) (٢٢) : أي خسروا أنفسهم.

ثمّ قال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) : أي اطمأنّوا إلى ربّهم ، أي : خلصت قلوبهم بالإيمان. كقوله : (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النحل : ١٠٦].

__________________

(١) كذا في المخطوطات الأربع ، وفي ز ، ورقة ١٤٤ ، ولم يفسّر المؤلّف الكلمة ، وهي تفيد التحقيق. قال الفرّاء في معاني القرآن ، ج ٢ ص ٨ : «كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا بدّ أنّك قائم ، ولا محالة أنّك ذاهب ، فجرت على ذلك ، وكثر استعمالهم إيّاها ، حتّى صارت بمنزلة حقّا ؛ ألا ترى أنّ العرب تقول : لا جرم لآتينّك ، لا جرم قد أحسنت ، وكذلك فسّرها المفسّرون بمعنى الحقّ ...». وانظر : تفسير الطبريّ ، ج ١٥ ص ٢٨٨.

٢٢٠