تفسير كتاب الله العزيز - ج ٢

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٢

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٣

الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٩١) : أي غفر لهم مقامهم ووضع الخروج عنهم. (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا) : أي انصرفوا من عندك (وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) (٩٢) : ذكروا أنّ مجاهدا قال : هم بنو مقرّن ، من مزينة. وقال بعضهم : هم الأشعريّون ، رهط أبي موسى الأشعريّ (١).

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ) : يعني المنافقين (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) : أي مع النساء (وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٩٣).

قوله : (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) من غزاتكم وهي غزوة تبوك. (قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) : أي لن نصدّقكم (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) يعني ما أنزل فيهم (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) : الغيب : السرّ ، والشهادة : العلانية (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٩٤) : أي في الدنيا.

قوله : (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ) : من غزاتكم (لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ) : لا تقتلوهم ما أظهروا لكم الإيمان واعتذروا (رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٩٥) : أي يعملون.

(يَحْلِفُونَ لَكُمْ) : أي بالكذب والعلل (لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) : أي بما أظهروا لكم من الإيمان والاعتذار. (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ) : بما أظهروا لكم من الإيمان (فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) (٩٦) : أي لا يرضى عنهم بالفسق والنفاق الذي بطن منهم ، ولم تطّلعوا عليه أنتم منهم.

__________________

(١) هم البكّاءون السبعة ، وهم من الأنصار وغيرهم. وقد ذكرت كتب التفسير والسير أسماءهم وقصّتهم. انظر : سيرة ابن هشام ، ج ٤ ص ٥١٨. وتفسير الطبريّ ، ج ١٤ ص ٤٢١ ـ ٤٢٣.

١٦١

قوله : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) : يعني المنافقين من الأعراب. أي : هم أشدّ نفاقا من نفاق أهل المدينة ، وأشدّ كفرا من كفرهم. (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) : أي : أقلّ علما بالسنن ، وأجفى في الدين. (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٩٧) : أي : عليم بخلقه ، حكيم في أمره.

قوله : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً) (١) : أي في الجهاد في سبيل الله (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) : أي أن يهلك محمّد والمؤمنون فيرجع إلى دين مشركي العرب. (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) : أي عاقبة السوء (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٩٨).

قوله : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ) : أي يتقرّب به إلى الله (وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) : أي ويتّخذ صلوات الرسول أيضا قربة إلى الله عزوجل. وصلوات الرسول استنفاره ودعاؤه. (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) : أي الجنّة (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٩٩).

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من أقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، ومات لا يشرك بالله فإنّ حقّا على الله أن يغفر له ، هاجر أو قعد في مولده. وإنّما يتقبّل الله من المتّقين. وإنّ في الجنّة لمائة درجة بين كلّ درجتين كما بين السماء والأرض أعدّها الله لمن جاهد في سبيله. ولو لا أن أشقّ على أمّتي ولا أجد ما أحملهم عليه ولا تطيب أنفسهم أن يتخلّفوا بعدي ما قعدت خلف سريّة ، ولوددت أن أقاتل في سبيل الله فأقتل ، ثمّ أحيا ثمّ أقتل ، ثمّ أحيا ثمّ أقتل (٢).

وقوله في أوّل الحديث : هاجر أو قعد في مولده ، إنّما هو بعد ما انقطعت الهجرة ، وذلك بعد فتح مكّة ، فصار الجهاد تطوّعا.

__________________

(١) جاء في ز ، ورقة ١٣٢ ما يلي : «(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً) يعني المنافقين ، لأنّهم ليست لهم نية. قال محمّد : قوله : (مغرما) يعني غرما وخسرانا».

(٢) حديث صحيح أخرجه البخاريّ في كتاب فضل الجهاد والسير ، باب درجات المجاهدين في سبيل الله ، وفي باب تمنّي الشهادة ، عن أبي هريرة.

١٦٢

قوله : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) : ذكروا عن سعيد بن المسيّب. (١) قال : هم الذين صلّوا القبلتين مع النبيّ (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) : لا يموتون ولا يخرجون منها (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١٠٠) : وقد فسّرناه قبل هذا الموضع.

قوله : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) أي اجترأوا عليه والمتمرّد الجريء على المعاصي (لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) أي لا تعرفهم أنت يا محمّد ، نحن نعرفهم.

وقد عرّفهم الله رسوله وأعلمه بهم بعد ذلك ، وأسرّهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى حذيفة بن اليمان.

ذكروا عن الحسن أنّه قال : مات رجل له صحبة إلى جانب حذيفة فلم يصلّ عليه حذيفة. فأرسل إليه عمر فأغلظ له ، وقال : يموت رجل من أصحاب النبيّ إلى جانبك ولا تصلّي عليه! قال : يا أمير المؤمنين ، إنّه من القوم. فقال له عمر : أناشدك بالله ، أنا منهم ، قال : لا ، والله لا أؤمّن منها أحدا بعدك.

وقال بعضهم : قال له عمر : يموت رجل من أصحاب النبيّ إلى جانبك لا تسأل عليه؟ فقال له حذيفة : لو كنت مثله ما صلّيت عليك. قال : أمنافق هو يا حذيفة؟ قال : ما كنت لأخبرك بسرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال عمر : أناشدك الله ، أنا منهم؟ قال حذيفة : اللهمّ لا.

وفي هذا دليل لأهل الفراق أنّ عمر لم يلم حذيفة على أن لا يصلّي عليه ، وهو عند عمر مسلم. وفي قول عمر : يا حذيفة أناشدك الله أنا منهم؟ ما يدلّ كلّ ذي نهى وحجى أنّ عمر لم يكن يخاف على نفسه أنّه مشرك ، بل إنّه خاف أن تكون له معاص في الإسلام توجب عليه النفاق ، أو يكون نبيّ الله قد أسرّ إلى حذيفة شيئا من ذلك.

__________________

(١) نسب هذا القول في ز ، ورقة ١٣٢ إلى قتادة. رقد جاء منسوبا في تفسير الطبريّ إلى سعيد بن المسيّب برواية قتادة عنه. انظر : تفسير الطبري ، ج ١٤ ص ٤٣٦ ـ ٤٣٧. وقال بعضهم : هم الذين بايعوا بيعة الرضوان.

١٦٣

وأمّا الشرك ، فلم يكن يخافه عمر على نفسه ، ولا يظنّه به (١).

قوله : (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) : فأمّا إحداهما فبالزكاة تؤخذ منهم قهرا ، وأمّا الأخرى فعذاب القبر في تفسير بعضهم. (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) (١٠١) : يعني المنافقين. وعذاب القبر أيضا في سورة طه [آية : ١٢٤] في قوله : (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً).

ذكروا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن [عن أبي هريرة] (٢) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكروه عن عبد الله بن مسعود ، وذكروه عن أبي سعيد الخدريّ أنّه قال : هو عذاب القبر يلتئم على صاحبه حتّى تختلف أضلاعه (٣). وقال بعضهم : (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) أي : عذاب الدنيا وعذاب القبر ، (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) أي : جهنّم.

قوله : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) : قيل : هم نفر من المؤمنين ، منهم أبو لبابة بن عبد المنذر ، وأويس بن ثعلبة في تفسير الكلبيّ. وكان الحسن لا يسمّيهم ويقول : كان عرض في هممهم شيء ، ولم يعزموا على ذلك ، ثمّ تابوا من بعد ذلك ، وأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاعترفوا بذنوبهم.

قال : (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٠٢) : وعسى من الله واجبة.

وقال بعضهم : ذكرنا لنا أنّهم كانوا سبعة رهط تخلّفوا عن غزوة تبوك ، فأمّا أربعة فهم الذين خلطوا : جدّ بن قيس ، وأوس ، وحرام ، وأبو لبابة ، وكلّهم من الأنصار ، فقيل

__________________

(١) هذه الفقرة من قوله : «وفي هذا دليل لأهل الفراق ...» من الشيخ هود الهوّاريّ ولا شكّ يحاجّ بها من يسمّيهم بأهل الفراق في مسائل الشرك والنفاق كما يراها الإباضيّة.

(٢) زيادة لا بدّ منها ، لأنّ أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف توفّي سنة أربع وتسعين للهجرة ، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة ، فلم يكن إذا صحابيّا. ولكنّه كان من فقهاء التابعين ، وكان يحمل عنه الحديث.

(٣) رواه مجاهد بسند عن أبي هريرة يرفعه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرجه عبد الرزّاق وابن أبي حاتم والحاكم. وأخرج الربيع بن حبيب في مسنده ، ج ٣ ص ١٧ (رقم ٨١٣) عن جابر بن زيد عن ابن عبّاس : قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو نجا من عذاب القبر أحد لنجا منه سعد بن معاذ ، ولقد ضغطه القبر ضغطة اختلفت فيه (أو منها) أضلاعه».

١٦٤

فيهم (١) : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ ...) الآية. قال : كانوا وعدوا أن ينفقوا ويجاهدوا ويتصدّقوا. والمرجون لأمر الله : كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أميّة.

وقال مجاهد : وآخرون اعترفوا بذنوبهم : أبو لبابة إذ قال لقريظة ما قال : أشار إلى حلقه أنّ محمّدا ذابحكم إذا نزلتم على حكمه. أخبرهم وأيأسهم من العفو.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حدّث عن ليلة أسري به ، فكان في حديثه أنّه رأى إبراهيم في السماء السابعة قال : وإذا أمّتي عنده شطران : شطر عليهم ثياب بيض ، وشطر عليهم ثياب رمد. فدخل الذين عليهم الثياب البيض ، واحتبس الذين عليهم الثياب الرمد. فقلت : من هؤلاء يا جبريل؟ فقال : هؤلاء الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيّئا ، وكلّ إلى خير (٢). ثمّ تلا هذه الآية : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (٦٨) [آل عمران : ٦٨].

قوله : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ) : [من الذنوب] (٣) (وَتُزَكِّيهِمْ بِها) وليست بصدقة الفريضة ، ولكنّها كفّارة لهم. وقال بعضهم : هم الذين اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيّئا ، وهم ناس من أصحاب النبيّ عليه‌السلام ، فتاب الله عليهم ، وقال : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها).

قال : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) : أي واستغفر لهم (إِنَّ صَلاتَكَ) : أي استغفارك (سَكَنٌ لَهُمْ) : أي تثبيت منك لهم على ما هم عليه من الإيمان (٤). (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١٠٣).

__________________

(١) كذا في ق وع : «فقيل فيهم» ، وهو الصحيح. وفي ج ود : «فقبل منهم» وهو خطأ. وفي الطبريّ ، ج ١٤ ، ص ٤٥٠ : «وهم الذين قيل فيهم». وهذه الجملة الأخيرة أوضح وأصحّ.

(٢) رواه البيهقيّ في دلائل النبوّة عن أبي سعيد الخدريّ. ورواه كثيرون ، منهم أبو هريرة وشدّاد بن أوس وابن عبّاس. وانظر أحاديث الإسراء والمعراج في كتب السنّة.

(٣) زيادة من ز ، ورقة ١٣٢.

(٤) كذا في المخطوطات الأربع : وفي ز ، ورقة ١٣٢ : «(سَكَنٌ لَهُمْ) أي يعني طمأنينة لقلوبهم ، يقوله الله عزوجل للنبيّ عليه‌السلام».

١٦٥

قوله : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) : أي ويقبل الصدقات (وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١٠٤).

ذكروا عن الحسن أنّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا يقبل الله صلاة بغير طهور ، ولا صدقة من غلول (١).

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) : أي بما يطلعهم الله عليه ، في تفسير الحسن. قال الحسن : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اتّقوا فراسة المؤمن ، فإنّه بنور الله ينظر (٢).

ذكروا عن أبي الدرداء قال : إيّاكم وفراسة العلماء ، إن شهدوا عليكم شهادة تكبّكم في النار ، فو الله إنّه الحقّ ، يقذفه الله في قلوبهم وعلى أبصارهم.

ذكروا عن عثمان بن عفّان أنّه قال : لو أنّ رجلا عمل في قعر سبعين بيتا لكساه الله رداء عمله ، خيرا كان ذلك أو شرّا.

ذكر لنا أنّه مرّ على رسول الله بجنازة فأثنوا عليها خيرا ، حتّى تتابعت الألسن لها بخير ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وجبت. ثمّ مرّ عليه بجنازة ، فأثنوا عليها شرّا ، حتّى تتابعت الألسن عليها بشرّ فقال : وجبت ، أنتم شهداء الله في الأرض (٣).

قوله : (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٠٥).

قوله : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ

__________________

(١) انظر تخريجه فيما سلف ، ج ١ ، تفسير الآية ٢٤٥ من سورة البقرة (التعليق).

(٢) أخرجه الترمذيّ في كتاب التفسير ، تفسير سورة الحجر ، عن أبي سعيد الخدري ولفظه : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اتّقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله ، ثمّ قرأ : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ)». وأخرجه ابن جرير الطبريّ أيضا عن ابن عمر. وأخرجه أيضا عن ثوبان وزاد فيه : «وينطق بتوفيق الله».

(٣) حديث صحيح أخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز ، باب ما جاء في الثناء على الميّت ، عن أنس بن مالك (رقم ١٤٩١) ، وعن أبي هريرة (رقم ١٤٩٢). وأخرجه الترمذيّ وابن حبّان عن أنس.

١٦٦

حَكِيمٌ) (١٠٦).

قال بعضهم : هم هلال بن أميّة ، ومرارة بن ربيعة ، وكعب بن مالك. وقال مجاهد : هم الثلاثة الذين في آخر السورة الذين خلّفوا ، وهم الذين أرجئوا في هذه الآية ، ثمّ تاب عليهم في الآية التي في آخر السورة.

قوله : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) : أي إن أردنا ببنيانه إلّا خيرا (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (١٠٧).

في تفسير الحسن أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا رجع من غزوة تبوك نزل بين ظهراني الأنصار وبنى مسجد قباء (١) وهو الذي أسّس على التقوى. وقد كان المنافقون من الأنصار بنوا مسجدا ، فقالوا نميل (٢) به. فإمّا يأتينا رسول الله فيه وإمّا لا يأتيه ، ونخلو فيه لحوائجنا. ونبعث إلى أبي عامر الراهب [لمحارب من محاربي الأنصار كان يقال له الراهب] (٣) وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسره (٤) فيأتينا ونستشيره في أمورنا.

فلمّا بنوا المسجد وهو الذي قال الله عزوجل : (الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي : بين جماعة المؤمنين ، (وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) ، يعني أبا عامر المحارب. قال : فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينتظر الوحي ، فجعل لا يأتيهم ولا

__________________

(١) كذا في المخطوطات الأربع ، وفي ز ورقة ١٣٣ كذلك : «لمّا رجع من غزوة تبوك نزل بين ظهراني الأنصار وبنى مسجد قباء». وهو خطأ تاريخيّ محض ، لأنّ النبيّ عليه‌السلام بنى مسجد قباء قبل ذلك بسنوات. وقيل : كان المسجد موجودا قبل ذلك فصلّى فيه النبيّ عليه‌السلام أوّل صلاة جماعة عند مقدمه المدينة مهاجرا من مكّة وإقامته أيّاما بقباء. وقباء قرية بها مساكن بني عمرو بن عوف من الأنصار. انظر : معجم ياقوت ، ج ٣ ، ص ٣٠١. ولعلّ في الكلام سقطا أو سهوا من النسّاخ.

(٢) كذا في بعض المخطوطات وفي ز : «نميل به» ، وفي بعضها : «نمثل به».

(٣) زيادة من ز ، ورقة ١٣٣.

(٤) في ق وع ود : «سيّره» ، وفي ز : «أسره» ولم أهتد إلى معنى أرتضيه للكلمتين ، إلّا أن يكون المعنى : أخرجه من المدينة.

١٦٧

يأتونه. فلمّا طال ذلك عليه دعا بقميصه ليأتيهم. قال : فإنه ليزرّه عليه إذ أتاه جبريل فقال : (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) : يعني ذلك المسجد (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) : يعني مسجد قباء ، في تفسير الحسن. (أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (١٠٨) : أي من الذنوب.

ذكروا أنّه لمّا نزلت هذه الآية : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا أهل قباء ، إنّ الله قد أحسن عليكم الثناء [في الطّهور] (١) فماذا تصنعون؟ قالوا نغسل أدبار المقاعد (٢).

وقال بعضهم : ذكروا لنا أنّ أناسا من أهل النفاق ابتنوا مسجدا بقباء ليضاهوا به مسجد نبيّ الله عليه‌السلام. وبعثوا إلى نبيّ الله ليصلّي فيه. وذكر لنا أنّه أخذ قميصه ليأتيهم حتّى أطلعه الله على ذلك. وكان رجل فرّ من الإسلام يقال له أبا عامر ، فلحق بالمشركين فقتلوه بإسلامه (٣) وقالوا : إذا جاء صلّى فيه. قال مجاهد : (وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ) أي : لأبي عامر.

ذكروا عن عثمان وعليّ رضي الله عنهما في قوله : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) قالا : هو مسجد النبيّ عليه‌السلام.

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ١٣٣.

(٢) كذا وردت هذه الجملة في المخطوطات الأربع : «نغسل أدبار المقاعد». وقد رويت بألفاظ منها : «إنّا نغسل منّا أثر الغائط والبول». و «إنّا نستطيب بالماء إذا جئنا من الغائط». والحديث أخرجه أحمد وابن خزيمة والطبرانيّ عن عويم بن ساعدة الأنصاريّ كما في تفسير الطبريّ. وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها ، باب الاستنجاء بالماء ، عن أبي أيّوب الأنصاريّ وجابر بن عبد الله ، وأنس بن مالك. (رقم ٣٥٥) بلفظ : «يا معشر الأنصار ، إنّ الله قد أثنى عليكم في الطّهور. فما طهوركم؟ قالوا : نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة ، ونستنجي بالماء. قال : فهو ذاك ، فعليكموه». وانظر : تفسير الطبريّ ، ج ١٤ ص ٤٨٣ ـ ٤٩٠.

(٣) في المخطوطات الأربع : «فألزموه بإسلامهم» ، وهو خطأ أثبتّ تصحيحه من تفسير الطبريّ ، ج ١٤ ص ٤٧٣ ، وانظر تعليق المحقّق هناك.

١٦٨

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في قوله : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى) قال : هو مسجدي هذا ، وفي ذلكم خير (١) ، يعني مسجد قباء.

وبلغنا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا المنافقين الذين بنوا ذلك المسجد فقال : ما حملكم على بناء هذا المسجد؟ فحلفوا له بالله : (إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ).

قوله : (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٠٩) : يقول : لا يكونون بالظلم مهتدين عند الله ، وهو ظلم النفاق ، وهو ظلم دون ظلم ، وظلم فوق ظلم. أي إنّ الذي أسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير من الآخر. قال بعضهم : ما تناهى أن وقع في النار. وذكر لنا أنّهم حفروا فيه بقعه فريء منها الدخان.

وقال الحسن : شبّه الله أعمال المنافقين مثل إنسان بنى على الرمل فانهار ، فلم يثبت البناء عليه. وكذلك أعمال المنافقين لا تثبت عند الله لأنّها ليس لها أصل تثبت به ، فانهارت لهم أعمالهم في نار جهنّم.

وبعضهم يقرأها بالنصب : (أفمنْ أسس بنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ الله وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ) ، بالنصب جميعا ، (عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ).

__________________

(١) كذا في المخطوطات : «وفي ذلكم خير». وفي تفسير الطبريّ : «وفي كلّ خير». والحديث أخرجه أحمد في مسنده كما أخرجه الطبريّ في تفسيره ، ج ١٤ ص ٤٨١ عن أبي سعيد الخدريّ. ورجّح الطبريّ أنّ المسجد الذي أسّس على التقوى هو مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة. ولكن إذا ثبت الحديث الذي رواه الطبريّ نفسه في ص ٤٨٨ ، وهو أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الذين قال الله فيهم : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) فأجاب بقوله : نعم الرجال منهم عويم بن ساعدة ، أقول : إذا ثبت هذا الحديث ، وليس هناك ما يقدح في صحّته ، أمكن أن نرجّح أنّ المسجد الذي أسّس على التقوى هو مسجد قباء ، لأنّ عويم بن ساعدة هو ، بدون خلاف ، من بني عمرو بن عوف ، أهل قباء. وممّا يقوّي هذا الترجيح ما رواه ابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها ، باب في الاستنجاء ، (رقم ٣٥٧) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نزلت في أهل قباء (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ). قال : كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية. وانظر تفسير القرطبيّ ، ج ٨ ص ٢٥٩ ـ ٢٦٠.

١٦٩

قوله : (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً) : أي شكّا (فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) : أي إلّا أن يموتوا. أخبر أنّهم يموتون على النفاق. (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١١٠) : أي عليم بخلقه ، حكيم في أمره.

قوله : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) : أي هذا حكم الله في هذا في التوراة والإنجيل والقرآن.

(وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) : على الاستفهام ، أي : لا أحد. قال : (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١١١) : أي النجاة العظيمة.

قوله : (التَّائِبُونَ) : قال الحسن : تابوا من الشرك وبرئوا من النفاق (الْعابِدُونَ) : أي عبدوا الله مخلصين. (الْحامِدُونَ) : أي الحامدون الله على السرّاء والضرّاء. قال الحسن : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قضى الله خيرا لكلّ مسلم ؛ إن أعطاه شكر ، وإن ابتلاه صبر (١).

(السَّائِحُونَ) : ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن السائحين فقال : هم الصائمون (٢). وذكروا عن الحسن قال : السياحة كثرة الصيام.

__________________

(١) أخرجه مسلم في صحيحه عن صهيب مرفوعا في كتاب الزهد والرقائق ، باب المؤمن أمره كلّه خير (رقم ٢٩٩٩) بمعنى أتمّ ، وهذا نصّه : «عجبا لأمر المؤمن! إنّ أمره كلّه خير ، وليس ذلك لأحد إلّا للمؤمن ؛ إن أصابته سرّاء شكر ، فكان خيرا له. وإن أصابته ضرّاء صبر ، فكان خيرا له».

(٢) أخرجه ابن جرير الطبريّ وغيره مرفوعا عن أبي هريرة وعن ابن مسعود أيضا ، وأخرجه بعضهم مرسلا. انظر تفسير الطبري ، ج ١٤ ص ٥٠٢ ، ٥٠٦. وانظر الدر المنثور ، ج ٣ ص ٢٨١.

وروى بعض المحقّقين من علماء التفسير في (السّائحون) معنى وجيها له قيمته وهو أنّه من السياحة بمعنى السير في الأرض للتفقّه في الدين والوقوف على آثار الماضين للاتّعاظ والاعتبار. انظر في هذا الموضوع كلاما جميعا للعلّامة محمّد جمال الدين القاسمي في تفسيره محاسن التأويل ، ج ٧ ص ٣٣٥ ، ٣٣٨.

١٧٠

(الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) : يقول : أهل الصلاة. (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) : وهو كلّ ما يعرف العباد عدله. (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) : وهو كلّ ما يعرف العباد جوره. (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) : فيما أمروا به ونهوا عنه. (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (١١٢) : وهم أهل هذه الصفة ، أي : بشّرهم يا محمّد بالجنّة.

قوله : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (١١٣).

ذكر بعضهم قال : كان أنزل في سورة بني إسرائيل : (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) (٢٤).

[الإسراء : ٢٣ ـ ٢٤] ؛ ثمّ أنزل الله في هذه السورة : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى ...) الآية ؛ فلا ينبغي [للمسلم] (١) إذا كان أبواه مشركين أن يستغفر لهما ، ولا يقل : ربّ ارحمهما ؛ وكذلك إذا كانا منافقين. قال الحسن : (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ ، أَنَّهُمْ ، أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي : ماتوا على الكفر والنفاق. وقال بعضهم : كان يقال : ليقل : اللهمّ اهده ، ولا يقل : اللهمّ اغفر له.

قوله : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ).

في تفسير ابن عبّاس والحسن : فلمّا مات تبيّن له أنّه عدوّ لله. وكان إبراهيم يرجوه ما كان حيّا ، فلمّا مات تبيّن له أنّه عدوّ لله ، لأنّه مات على الكفر.

وقال الكلبيّ : إنّ النبيّ عليه‌السلام سأل : أيّ قرابته أحدث به عهدا ، فقيل : أمّك.

__________________

ـ وقال ابن قتيبة في تفسير غريب القرآن ، ج ١ ص ١٩٣ : «(السَّائِحُونَ) : الصائمون ، وأصل السائح : الذاهب في الأرض ، ومنه يقال : ماء سائح وسيح ، إذا جرى وذهب. والسائح في الأرض ممتنع من الشهوات ، فشبّه الصائم به ، لإمساكه في صومه عن المطعم والمشرب والنكاح».

(١) زيادة لا بدّ منها ، من ز ، ورقة ١٣٣ ، سقطت من المخطوطات الأربع.

١٧١

فأراد أن يستغفر لها ، وقال : استغفر إبراهيم لأبويه وهما مشركان ، فلمّا همّ أن يستغفر لأمّه جاءه جبريل وقال : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ). يقول : فلمّا مات علم أنّه لا توبة له ، فتبرّأ منه.

وقال بعضهم : ذكر لنا أنّ رجلا قال لنبيّ الله عليه‌السلام : إنّ من آبائنا من كان يحسن الجوار ، ويصل الأرحام ، ويفي بالذّمم ، أفلا نستغفر لهم؟ قال : بلى ، فو الله إنّي لأستغفر لهم ، يعني والديه ، كما استغفر إبراهيم لوالديه (١) ، فأنزل الله هذه الآية : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ). وقال في قوله : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ) أي : لمّا مات على شركه (تَبَرَّأَ مِنْهُ).

قوله : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (١١٤) : قال بعضهم : الأوّاه : الرحيم. ذكروا عن عبد الله بن مسعود أنّه قال : الأوّاه : الرحيم. وبعضهم يقول : هو الدّعّاء. [وقال ابن عبّاس : الأوّاه : الموقن] (٢).

قوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١١٥).

بلغنا أنّ أناسا من أصحاب النبيّ عليه‌السلام ماتوا قبل أن تفرض الفرائض أو بعضها ، فقال قوم من أصحاب النبيّ : مات إخواننا قبل أن تفرض هذه الفرائض ، فما منزلتهم ، وقد كانوا مؤمنين بما فرض عليهم يومئذ؟ فأنزل الله هذه الآية ، فأخبر أنّهم ماتوا

__________________

(١) أخرجه ابن جرير الطبريّ في تفسيره ، ج ١٤ ص ٥١٣ عن قتادة مرسلا.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ١٣٤. وقد عدّد ابن الجوزي في زاد المسير ، ج ٣ ص ٥٠٩ ـ ٥١٠ ثمانية أقوال في (لَأَوَّاهٌ) ويبدو أنّ أدقّها تعبيرا وأصحّها تأويلا ما قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن ، ج ٦ ص ٢٧٠. قال : «مجازه مجاز فعّال من التأوّه ، ومعناه : متضرّع شفقا وفرقا ولزوما لطاعة ربّه ، وقال المثقّف العبديّ :

إذا ما قمت أرحلها بليل

تأوّه آهة الرّجل الحزين»

وانظر البيت ضمن قصيدة رائعة اختارها المفضل الضبي في «المفضليات» ص ٢٨٨ ـ ٢٩٢. تحقيق وشرح أحمد محمّد شاكر وعبد السّلام محمّد هارون ، الطبعة الرابعة ، دار المعارف بمصر.

١٧٢

على الإيمان.

قوله : (إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) : أي يمنعكم من عذاب الله (وَلا نَصِيرٍ) (١١٦) : قال الحسن : يقول : إن كفرتم ، يعني المؤمنين.

قوله : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) : يعني حين العسرة ، وهي غزوة تبوك.

قال بعضهم : هم الذين اتّبعوا رسول الله في غزوة تبوك في لهبان الحرّ على ما يعلم الله من الجهد ؛ أصابهم منها جهد شديد ، حتّى لقد بلغنا أنّ الرجلين كانا يشقّان التمرة بينهما.

وكان النفر يتداولون التمرة بينهم ، يمصّها هذا ، ثمّ يشرب عليها الماء ، ثمّ يمصّها الآخر.

ذكروا أنّ عثمان بن عفّان حمل في جيش العسرة على ألف بعير إلّا خمسين ، فكمّلها خيلا.

قوله : (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) : قال الحسن : تزيغ (١) عن الجهاد فينصرفون ؛ فعصمهم الله من ذلك ، فمضوا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١١٧). قال بعضهم : الثلاثة الذين خلّفوا هلال بن أميّة ، ومرارة بن ربيعة ، وكعب بن مالك ، وهو تفسير مجاهد والعامّة. قال : أمّا أحدهم فأوثق نفسه إلى سارية وقال : لا أطلقها [ولا أطلق نفسي] (٢) حتّى يطلقني نبيّ الله [فقال رسول الله : والله لا أطلقه حتّى يطلقه ربّه إن شاء]. وأمّا الآخر فعمد إلى حائطه

__________________

(١) في ز ، ورقة ١٣٤ : «(مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) أي : تميل عن الجهاد فعصمهم الله عزوجل من ذلك».

(٢) هذه الزيادات التي جعلتها بين المعقوفين كلّها من تفسير الطبريّ ، ج ١٤ ص ٥٤٦ ، للإيضاح ، والقول لقتادة وفي آخرها بدل تسيلان : «تشلشلان» أي : تتشلشلان ، بمعنى «يتبع قطران بعضه بعضا وسيلانه» كما جاء في اللسان (شلل).

١٧٣

الذي كان تخلّف عليه وهو مونع [فجعله صدقة في سبيل الله]. وأمّا الآخر فركب المفاوز حتّى لحق نبيّ الله ورجلاه تسيلان دما.

قوله : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) : أي وتاب على الثلاثة الذين خلّفوا عن غزوة تبوك : كعب بن مالك ، وهلال بن أميّة ومرارة بن ربيعة ، وهم الذين أرجئوا في الآية الأولى حيث يقول : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) في تفسير مجاهد. وهم عند الحسن آخرون غير المرجين.

قال : (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) : أي بسعتها. (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا) : أي وعلموا (أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١١٨).

بلغنا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أمر الناس ألّا يكلّموهم ولا يجالسوهم ، ثمّ أرسل إلى أهلهم ألّا يؤووهم ولا يكلّموهم. فلمّا رأوا ذلك ندموا وجاءوا فأوثقوا أنفسهم إلى سواري المسجد ، حتّى أنزل الله توبتهم في هذه الآية.

ذكروا عن كعب بن مالك أنّه لمّا تيب عليه جاء بماله كلّه إلى النبيّ صدقة ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أمسك عليك الشطر فهو خير لك (١).

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (١١٩). قال الكلبيّ : الذين آمنوا من أهل الكتاب ، أمرهم أن يكونوا مع الصادقين ، وهم المهاجرون والأنصار. وقال بعضهم : الصدق في النيّة ، في السرّ والعلانية. وقال بعضهم : (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) : صدقوا بقولهم فهاجروا ، فكونوا معهم ، أي : فهاجروا إلى المدينة (٢).

__________________

(١) أخرج هذه القصّة الطريفة البخاريّ في كتاب التفسير ، في أواخر سورة التوبة ، وفيه : قال مالك في آخر حديثه : «إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أمسك بعض مالك فهو خير لك». واقرأ قصّة المخلّفين مفصّلة في كتب التفسير والحديث والسيرة ففيها مواعظ وعبر وذكرى.

(٢) لا أرى وجها لتخصيص الكلبيّ مؤمني أهل الكتاب بالخطاب ، ولا لما ذهب إليه بعضهم من قصر معنى ـ

١٧٤

قوله : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) : وهذا في غزوة تبوك (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ) : يعني من خرج منهم (لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) : أي عطش (وَلا نَصَبٌ) : أي في أبدانهم (وَلا مَخْمَصَةٌ) : أي جوع تخمص له بطونهم (فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢١). ذكروا أنّ المجاهد إذا خرج من بيته جعل ذنوبه جسرا على باب بيته ، فإذا خرج قطعها ، فيكون من ذنوبه كيوم ولدته أمّه ؛ فما من خطوة يخطوها إلّا كتب له بها سبعمائة حسنة ، ولا بطشة يبطشها ، ولا عمل يعمله إلّا كتب له سبعمائة حسنة ، فإن مات أو قتل كان على الأرض حراما حتّى يرى مقعده في الجنّة ، ويغفر له كلّ ذنب هو له.

__________________

ـ المعيّة في اتّباع المهاجرين في هجرتهم إلى المدينة ، فإنّ صفة الصدق وردت في الآية بصيغة العموم ، فيجب أن تحمل على أوسع معانيها. وكلام الله موجّه إلى كلّ المؤمنين في كلّ زمان ومكان. ومن أولى معاني الصدق في الآية الصدق في الحديث والتنزّه عن الكذب في كلّ شيء. وذلك ما أدركه كعب بن مالك حين قال بعد ما روى قصّة المخلّفين الثلاثة ، وهو أحدهم : «قلت يا رسول الله ، إنّ الله إنّما أنجاني بالصدق ، وإنّ من توبتي ألّا أحدّث إلّا صدقا ما بقيت». وقال : «فو الله ما علمت أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله عليه‌السلام أحسن ممّا ابتلاني ؛ والله ما تعمّدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يومي هذا. وإنّي أرجو أن يحفظني الله فيما بقي». وقال : «والله ما أنعم الله عليّ من نعمة قطّ بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ألا أكون كذبته ، فأهلك كما هلك الذين كذبوه».

وهو ما فهمه أيضا ابن مسعود رضي الله عنه فقال : «إنّ الكذب لا يحلّ منه جدّ ولا هزل وقرأ : (اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ). وانظر : الطبري في تفسيره ، ج ١٤ ص ٥٥٩ ـ ٥٦٠ ، وفيه أنّ قراءة ابن مسعود كانت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) ، وزاد فيه : «فهل ترون في الكذب رخصة».

وهكذا من تأمّل في قصّة المخلّفين الثلاثة ، وتدبّر ما كان من أمر كعب بن مالك خاصّة ، وحديثه للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نزول توبته ، أدرك أنّ معنى الصدق هنا ينصرف أوّلا إلى الصدق في الحديث. ثمّ ، بعد ذلك ، الصدق في النية والعمل ، وأنّ الخطاب موجّه إلى كافّة المؤمنين في كلّ زمان ومكان بدون تخصيص.

١٧٥

ذكروا أنّ ابن عمر قال : صفرة في سبيل الله خير من خمسين حجّة. قال : يعني بالصفرة أن يذهب زاده حتّى يبقى صفرا ليس معه طعام ، وإنّما يتقبّل الله من المتّقين.

ذكروا عن أبي المصبّح قال : غزونا مع مالك بن عبد الله الخثعميّ (١) أرض الروم ، فسبق الناس رجل ، ثمّ نزل يمشي ويسوق فرسه. فقال له مالك : يا عبد الله ، ألا تركب؟ فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : من اغبرّت قدماه في سبيل الله ساعة من نهار فهما حرام على النار (٢). وأصلح دابّتي لتقيني من قومي (٣). قال : فلم أر نازلا أكثر من يومئذ.

ذكروا عن سعيد بن المسيّب أنّه قال : العمل (٤) في سبيل الله يضاعف كما تضاعف النفقة الواحدة بسبعمائة.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان نار جهنّم في منخري عبد مسلم أبدا (٥).

قوله : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) : أي جميعا. قال الحسن : فيعروا مقام رسول الله. (فَلَوْ لا) : أي فهلّا (نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ

__________________

(١) هو الأمير أبو حكيم مالك بن عبد الله الخثعميّ ، الفلسطينيّ ، من أبطال الإسلام. كان أميرا على الجيوش في خلافة معاوية. قيل : إنّه قاد جيوش الصوائف أربعين سنة. وروي أنّه كان صحابيّا ، والراجح أنّه تابعيّ ، توفّي في حدود سنة ستّين للهجرة أو بعدها. انظر : ابن عبد البرّ ، الاستيعاب ، ج ٣ ص ١٣٥٣. والذهبي ، سير أعلام النبلاء ، ج ٤ ص ١٠٩.

(٢) أخرجه البخاريّ في كتاب فضائل الجهاد والسير ، باب من اغبرّت قدماه في سبيل الله عن أبي عبس بن عبد الرحمن بن جبر بلفظ : «ما اغبرّت قدما عبد في سبيل الله فتمسّه النار».

(٣) كذا وردت هذه الجملة هنا في المخطوطات ، وكأنّها أقحمت إقحاما ، ولم أفهم لها معنى ولا مناسبة. وهي غير موجودة في ز ، ورقة ١٣٤ ، حيث جاءت نهاية الحديث متّصلة بقول أبي المصبح : «فلم أر نازلا أكثر من يومئذ».

(٤) في المخطوطات : «الذكر في سبيل الله يضاعف ...» وأثبتّ ما جاء في ز ، فهو أنسب مقاما وأصحّ معنى.

(٥) حديث صحيح أخرجه أحمد ، وأخرجه النسائيّ في كتاب الجهاد ، باب من عمل في سبيل الله على قدميه ، عن أبي هريرة. وانظر البغوي ، شرح السنّة ، ج ١٠ ص ٣٥٤.

١٧٦

وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) : أي من الكفّار (إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) : فيخبروهم بنصر الله النبيّ والمؤمنين ، ويخبروهم أنّهم ليس لهم بقتال النبيّ طاقة (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (١٢٢) : أي لا ينزل بهم ما نزل بغيرهم من القتل والسبإ والغنيمة ، فيؤمنوا.

وقال بعضهم : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين رجع من تبوك ، وقد أنزل الله في المنافقين الذين تخلّفوا عنه ما نزل ، قال المؤمنون : لا والله ، لا يرانا الله متخلّفين عن غزوة غزاها رسول الله أبدا ولا عن سريّة. فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم السرايا أن تخرج. فنفر المسلمون من آخرهم ، وتركوا نبيّ الله عليه‌السلام وحده ، فأنزل الله عزوجل : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) أي جميعا ، فيتركوك وحدك بالمدينة. (فَلَوْ لا) أي : فهلّا (نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) [أي ليتفقّه المقيمون] (١) (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) ، أي : من غزاتهم ، (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) ، أي : ليعلم المقيم الغازي ، إذا رجع ، ما نزل بعده من القرآن.

وقال بعضهم : إنّ احياء من بني أسد بن خزيمة أقحمتهم السنة إلى المدينة ، فأقبلوا معهم بالذراري ، فنزلوا المدينة ، فغلوا أسعارها ، وأفسدوا طرقها ، فنزلت : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).

وقال مجاهد : إنّ أناسا من أصحاب النبيّ عليه‌السلام كانوا خرجوا إلى البوادي ، فأصابوا من الناس معروفا ، ومن الخصب ما ينتفعون به ، ودعوا من لقوا من الناس إلى الهدى ؛ فقال لهم الناس : ما نراكم إلّا قد تركتم صاحبكم وجئتمونا. فوجدوا في أنفسهم من ذلك تحرّجا ، وأقبلوا من البادية حتّى دخلوا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فقال الله : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) ، أي : بعض ، وقعد بعض يبتغون الخير ، (لِيَتَفَقَّهُوا) ، أي : ليستمعوا ما في الناس وما أنزل بعدهم ، (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) ، أي الناس كلّهم (٢).

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ١٣٥.

(٢) هكذا يستعرض المؤلّف هنا أوجها مختلفة لتأويل الآية الكريمة ، مسندة إلى أصحابها القائلين بها. ولكنّ ـ

١٧٧

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) : قال الحسن : كان هذا قبل أن يؤمر بقتال المشركين كافّة ، ثمّ أمر بقتال المشركين كافّة بعد.

قوله : (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) : أي شدّة عليهم (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (١٢٣) : أي بالنصر والتأييد. أي : أنّه سينصركم عليهم.

قوله : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ) : يعني المنافقين ؛ رجع إليهم (مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ) : يعني السورة (١) (إِيماناً) : يقوله بعضهم لبعض.

قال الله جوابا لقولهم : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) : أي تصديقا إلى تصديقهم (وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (١٢٤) : أي بما يجيء من عند الله.

(وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) : وهم المنافقون (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) : أي كفرا إلى كفرهم (وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) (١٢٥) : يقول : أنّهم يموتون على الكفر.

قوله : (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) : قال الحسن : يعني : يبتلون بالجهاد في سبيل الله مع رسول الله ، فيرون نصر الله رسوله (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ) : من نفاقهم (وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) (١٢٦).

وقال مجاهد : (يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) بالسنين والجوع (٢).

قوله : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) : يعني المنافقين (هَلْ

__________________

ـ المؤلّف يكتفي بهذا ولا يجرؤ فيرجّح قولا على آخر ، ولا يختار تأويلا على تأويل. قارن هذا بطريقة الطبريّ في تفسيره ، وبموقفه حين لا يتردّد في أن يرجّح أحد هذه الأقوال ويدلي برأيه ، بعبارته المألوفة ، حين يقول : «وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال : تأويله ...» إلخ. انظر تفسير الطبري ، ج ١٤ ص ٥٦٥ ـ ٥٧٤.

(١) جاء في المخطوطات : «يعني الآية» وهو خطأ. ورجوع الضمير إلى اللفظ المذكور أولى.

(٢) سقط ذكر هذه الآية وتفسيرها كلّه من مخطوطة د وج. وهكذا تكمل المخطوطة نقص الأخرى.

١٧٨

يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) : يعني من المسلمين ؛ يقوله بعضهم لبعض (ثُمَّ انْصَرَفُوا) : قال الحسن : يعني عزموا على الكفر. (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) : هذا دعاء واجب عليهم (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (١٢٧) : أي لا يرجعون إلى الإيمان.

قوله : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) : يعني النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. [قال السدّيّ : أي : من جنسكم] (١) (عَزِيزٌ عَلَيْهِ) : أي شديد عليه (ما عَنِتُّمْ) : أي ما ضاق بكم. وقال الحسن : ما ضاق بكم في دينكم. (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) : أي على أن تؤمنوا. (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١٢٨) : أي إنّما يرأف بالمؤمنين الذين تجب لهم الرأفة ، ولا يرأف بغيرهم ممّن نزع الله الرأفة عنهم.

قوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) : أي أعرضوا عن الله وعمّا بعث به رسوله (فَقُلْ) : يا محمّد (حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (١٢٩). ذكروا عن ابن عبّاس قال : لا يعلم قدر العرش إلّا الذي خلقه.

ذكروا عن ابن عبّاس عن أبيّ بن كعب قال : إنّ آخر القرآن بالسماء عهدا هاتان الآيتان : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ).

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ١٣٥.

١٧٩

تفسير سورة يونس وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ : قوله : (الر) : ذكروا أنّ عليّا قال : (الر) و (حم) ، ونون : الرّحمن. وكان الكلبيّ يقول في هذا وأشباهه : هو من الذي قال الله فيه : (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) [آل عمران : ٧]. وكان الحسن يقول : ما أدري ما تفسير (الر) وأشباه ذلك ، غير أنّ قوما من السلف كانوا يقولون : أسماء السور وفواتحها.

قوله : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) (١) : أي هذه آيات الكتاب الحكيم. أي المحكم (١) ؛ أحكمت آياته بالأمر والنهي.

قوله : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً) : على الاستفهام (أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) : يعني محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : إنّه ليس بعجب. وقد قال في آية أخرى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) [يوسف : ١٠٩] ؛ ولم يبعث الله رسولا من أهل البادية ، ولا من الجنّ ، ولا من النساء.

قوله : (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) : أي عذاب الله في الدنيا والآخرة إن لم يؤمنوا ، كما أهلك قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم حين كذّبوا رسلهم.

وهذا جواب من الله لقول المشركين حيث قالوا : (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ ، أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) ، أي على عبادتها (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) (٦) [سورة ص : ٦]. وقال في الآية الأخرى : (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) (٥) [سورة ص : ٥]. فقال الله : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا) أي بأن أوحينا (إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) يعرفونه ويعرفون نسبه.

قوله : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) : أي سلف صدق

__________________

(١) قال أبو عبيدة في مجاز القرآن ، ج ١ ص ٢٧٢ : «والحكيم مجازه : المحكم المبيّن الموضّح ، والعرب قد تضع «فعيل» في معنى «مفعل». وفي آية أخرى : (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) [سورة ق : ٢٣] مجازه : معدّ».

١٨٠