تفسير كتاب الله العزيز - ج ٢

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٢

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٣

تكون من الميّتين.

(قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي) : أي همّي (وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٨٦) : قال الحسن : أي : أعلم أنّ يوسف حيّ.

ذكر بعضهم قال : إنّه لم ينزل بيعقوب بلاء قطّ إلّا أتى حسن ظنّه بالله من ورائه.

قوله : (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) : [أي : تبحّثوا عن خبرهما] (١) (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) : أي من رحمته (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (٨٧).

قوله : (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ) : أي فلمّا رجعوا إلى مصر ، فدخلوا على يوسف وهم لا يعرفونه (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) : أي الحاجة (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) : أي يسيرة ، في تفسير بعضهم. وقال الحسن : خفيفة قليلة. وقال مجاهد : قليلة (٢). وقال بعضهم بدراهم رديّة ، وكانوا لا يأخذون في الطعام إلّا الجياد.

قوله : (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) : أي ببضاعتنا (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) : أي : بأخينا (إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) (٨٨) (٣).

(قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) (٨٩) : أي إنّ ذلك كان منكم بجهالة ، ولم يكونوا حين ألقوه في الجبّ بأنبياء.

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ١٥٧. وتبحّث ، أي : بالغ في البحث والتفتيش والالتماس. ولفظ أبي عبيدة في تفسير (فتحسّسوا) أدقّ تعبيرا. قال في مجاز القرآن ، ص ٣١٧ (فتحسّسوا) أي : تخبّروا والتمسوا في المظانّ».

(٢) في المخطوطات الأربع : «ثقيلة» ، ولا معنى للكلمة ، وهي خطأ أثبتّ صوابه من تفسير مجاهد ص ٣٢٠ ، ومن كتب التفسير.

(٣) هذا وجه من وجوه التأويل نسبه يحيى بن سلّام ، كما في مخطوطة ز ورقة ١٥٧ ، إلى قتادة. ونسبه ابن جرير الطبريّ في تفسيره ، ج ١٦ ص ٢٤٢ إلى ابن جريج ، وهو تأويل لم يرتضه الطبريّ وقال في تأويل قوله : (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) : «يقولون : وتفضّل علينا بما بين سعر الجياد والرديّة فلا تنقصنا من سعر طعامك لرديّ بضاعتنا».

٢٨١

(قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) : على الاستفهام (قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (٩٠).

(قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) : وهذا منهم قسم يقسمون به (وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) (٩١) : أي وقد كنّا خاطئين. من الخطيئة التي انتهكوها منه ومن أبيهم.

(قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) : [أي : لا تخليط ولا شغب ولا إفساد ولا معاقبة] (١) قد غفرت لكم ذلك. (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (٩٢). وهكذا يكون العفو الكريم ، والصفح الجميل. وفيما يؤثر عن النبيّ عليه‌السلام إذ أظهره الله على مكّة ، وأظفره بها أنّه قام على باب الكعبة (٢) ، فأخذ بعضادتي الباب ، وقد اجتمعت قريش أجمعها ، فحمد الله وأثنى عليه ؛ وصلّى على نفسه وعلى الأنبياء ، ثمّ قال : ((يا معشر قريش ، ما تقولون وما تظنون؟)) قالوا : نقول خيرا ونظنّ خيرا ، أخ كريم وابن أخ كريم ، وقد قدرت ، فما تقول؟ قال : (أقول كما قال أخي يوسف صلّى الله عليه وعلى جميع الأنبياء : (لا تثريب عليكم اليوم) ، وأنتم اذهبوا فانتم عتقاء الله وطلقاؤه)) (٣). فأطلقهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعفا عنهم ، ولم يثرّب عليهم شيئا ممّا فعلوه به ، كما فعل يوسف بإخوته إذ قال : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) أي : أرحم من رحم. دعا لهم. قوله : (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) : [أي : يرجع بصيرا] (٤) وإنّما بعث بقميصه إلى أبيه بأمر الله ، ولو لا أنّ ذلك علمه من قبل الله ، لأنّه كان نبيّا مرسلا ، لم يكن له بذلك علم أنّه يرجع إليه بصره إذا ألقي القميص على وجهه.

__________________

(١) زيادة من مجاز أبي عبيدة ، ج ١ ص ٣١٨. وقال القرطبيّ في تفسيره ، ج ٥ ص ٢٥٧ : «أي : لا تعيير ولا توبيخ ولا لوم عليكم اليوم».

(٢) في المخطوطات : «على باب المسجد» والصواب ما أثبتّه «على باب الكعبة» كما ورد الخبر في كتب السيرة والتاريخ.

(٣) أخرجه البيهقيّ في الدلائل عن أبي هريرة ، كما ذكره السيوطيّ في الدرّ المنثور ، ج ٤ ص ١٣٤. واقرأ الخبر مفصّلا في سيرة ابن هشام مثلا ، ج ٣ ص ٤١١ ـ ٤١٢.

(٤) زيادة من ز ، ورقة ١٥٧. وقال أبو عبيدة : «أي يعد بصيرا ، أي يعد مبصرا».

٢٨٢

قوله : (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) (٩٣).

قوله : (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) : أي خرجت العير من مصر بالقميص وجد يعقوب ريح يوسف فقال : (قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) (٩٤).

قال بعضهم : وجد ريحه حين خرجوا بالقميص من مصر ، وهو بأرض كنعان ، وبينهما ثمانون فرسخا.

وقوله : (لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) أي : لولا أن تسفّهون. وقال الحسن : لولا أن تهرّمون. وهو واحد. يقول : لولا أن تقولوا هرم واختلط عقله فتسفّهون. وقال مجاهد : لولا أن تقولوا : ذهب عقله.

(قالُوا تَاللهِ) : وهو قسم يقسمون به (إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) (٩٥) : أي في حبّك يوسف ، أما تنساه. وبعضهم يقول : في طمع من يوسف. وبلغنا أنّ هذا قول أبنائهم ، وكان آباؤهم في العير ، وأنّه كان يقول منذ فقد يوسف إلى أن وجد ريح القميص : ما أنا بيائس منه كلّما ذكرت رؤياه.

قوله : (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ) : ذكروا أنّ مجاهدا قال : البشير يهوذا بن يعقوب.

(أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٩٦) : قال الحسن : يعني من فرج الله ونعمته وعطائه. وكان الله قد أخبره بأنّ يوسف حيّ ، ولم يعلم أين مكانه.

قوله : (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) : أي أؤخّر ذلك إلى السحر (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٩٨).

قوله : (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) (٩٩) : قال بعضهم : يعني بأبويه أباه يعقوب وخالته (١). وقال بعضهم : كانت

__________________

(١) ذهب إلى هذا القول كثيرون ، منهم السدّيّ ، كما في تفسير الطبريّ ، ج ١٦ ص ٢٦٧ ، والسجستانيّ في ـ

٢٨٣

جدّته أمّ أمّه. وكان الحسن يقول : هي أمّه التي ولدته.

قوله : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) : والعرش هو السرير (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) : قال الحسن : خرّوا له بأمر الله ، أمرهم بالسجود له لتأويل الرؤيا. قال بعضهم : كان السجود تحيّة من كان قبلكم ، وأعطى الله هذه الأمّة السّلام ، وهي تحيّة أهل الجنّة. وقال بعضهم : كان سجودهم لله تلقاء يوسف.

(وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) : أي تحقيق رؤياي من قبل (قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا).

قوله : (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) : وكانوا بأرض كنعان ، أهل مواش وبرّيّة (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) : أي لطف بيوسف حتّى أخرجه من الجبّ ومن السجن ، وجمع له شمله وأقرّ عينه. (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (١٠٠).

قوله : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) : وقد فسّرناه قبل هذا الموضع (١). (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي خالق السّماوات والأرض (أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) : أي لا أتولّى في الدنيا والآخرة غيرك. (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (١٠١) : أي بأهل الجنّة.

وقال بعضهم : لمّا جمع الله شمله ، وأقرّ عينيه ذكر الآخرة فاشتاق إليها فتمنّى الموت ؛ قال : فلم يتمنّ نبيّ قطّ الموت قبل يوسف عليه‌السلام (٢).

__________________

ـ غريب القرآن ، ص ٤ ، ولكنّ الطبريّ ، ذهب إلى أنّهما أبوه وأمّه اعتمادا على قول ابن إسحاق ، وعلى لفظ الأبوين واستعماله في اللغة. ولعلّه لم يطّلع على قول الحسن الذي رواه ابن سلّام هنا.

(١) انظر ما سلف من هذا الجزء ، تفسير الآية ٢١ من هذه السورة. وهو يعني التمكين الذي أعطاه الله وما علّمه من تعبير الرؤيا.

(٢) هذا قول ابن عبّاس رواه الطبريّ من طرق في تفسيره ، ج ١٦ ص ٢٧٩ ـ ٢٨٠ ، فاقرأه مفصّلا هنالك من ـ

٢٨٤

قوله : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) : أي من أخبار الغيب ، يعني ما قصّ من قصّتهم من أوّل السورة إلى هذا الموضع. (نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) : أي عندهم (إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) (١٠٢) : أي بيوسف إذ يلقونه في الجبّ.

(وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (١٠٣) : قال : (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ) : أي على القرآن (مِنْ أَجْرٍ) : فيكونون إنّما حملهم على تركه الغرم. وقال في آية أخرى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ). [الأنعام : ٩٠]. قوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) (١٠٤) : يذكرون به الجنّة والنار.

قوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ) : أي وكم من آية ودليل (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها) : أي يرونها (وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) (١٠٥) : يعني بايات السماوات الشمس والقمر والنجوم ، وبالآيات التي في الأرض ما خلق الله فيها ، وآثار من أهلك الله من الأمم السالفة. يقول : لا يتّعظون بالآيات.

قوله : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (١٠٦) : وهي مثل قوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزخرف : ٤٧] : قال بعضهم : إيمانهم أنّك لا تسأل أحدا إلّا أنباك أنّ الله ربّه ، وهو في ذلك مشرك في عبادته.

قوله : (أَفَأَمِنُوا) : يعني المشركين (أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ) : على الاستفهام ، أي : غاشية تغاشهم من عذاب الله ، وهم آمنون من ذلك غافلون. أي : إنّهم ليسوا بامنين أن يأتيهم ذلك في تفسير الحسن. وقال غيره : (غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ) ، أي : عقوبة من عذاب الله ، (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) : أي تبغتهم فجأة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١٠٧) : أي وهم غافلون. يعني الذين تقوم عليهم الساعة بالعذاب.

قوله : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) : أي طريقي ، وهو الهدى (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى

__________________

ـ رواية قتادة وابن إسحاق. ففيه الموعظة والذكرى لمن اعتبر.

٢٨٥

بَصِيرَةٍ) : [أي : على يقين] (١) (أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) : أي أنا على الهدى ومن اتّبعني على بصيرة ، أي : على الهدى الذي أتانا من ربّنا (وَسُبْحانَ اللهِ) : أمره أن ينزّه الله عمّا قال المشركون (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٠٨).

قوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) : قال الحسن : لم يبعث الله نبيّا من أهل البادية ، ولا من النساء ، ولا من الجنّ. قال : لأنّ أهل القرى كانوا أعلم وأحلم من أهل العمود (٢).

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ((فضيلة أهل المدائن على أهل القرى كفضيلة الرجال على النساء ، وفضيلة أهل القرى على أهل العمود كفضيلة الرجال على النساء ، وأهل الكفور كأهل القبور)). فقيل : ما الكفور؟ قال : ((البيت بعد البيت)) (٣). ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ((ما من ثلاثة يكونون في قرية أو بدو ولا يجمعون للصلاة إلّا استحوذ عليهم الشيطان. وإنّما يأخذ الذئب من الغنم القاصية)) (٤).

ذكروا عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ((الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم ، يأتي الشاذّة والقاصية والناحية. عليكم بالمساجد والجماعة والعامّة ، وإيّاكم والشعاب)) (٥).

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ١٥٨.

(٢) أهل العمود ، وأهل العماد ، هم أهل الأخبية الذين يعيشون في البادية. نسبوا إلى العمود ، وهو الخشبة التي تنصب وسط الخباء ، ويقوم عليها البيت وإليها يسند. فكان أعمدة الخيام تلازمهم في حلّهم وترحالهم فأضيفوا إليها.

(٣) لم أجد فيما بين يديّ من مصادر الحديث هذا الحديث. وقد نسب ابن منظور في اللسان : (كفر) جملة من هذا الحديث ، وهي قوله : «أهل الكفور كأهل القبور» ، إلى معاوية. والكفر في اللغة هي القرية عند أهل الشام ومصر. انظر المعرّب للجواليقي ، ص ٣٣٤. ولعلّ يحيى بن سلّام ذكر سند هذا الحديث.

(٤) أخرجه أحمد في مسنده ، وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب في التشديد في ترك الجماعة ، (رقم ٥٤٧). وأخرجه النسائيّ في كتاب الإمامة ، باب التشديد في الجماعة.

(٥) أخرجه أحمد في مسنده.

٢٨٦

ذكروا أنّ معاذ بن جبل كان على بعض أهل الشام فجاءه ناس من أهل البادية فقالوا : قد شقّت علينا الإقامة ، فلو بدأت بنا ، فقال : لعمري ، لا أبدأ بكم قبل الحاضرة ، أهل لعبادة وأهل المساجد ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : ((عليهم تنزل السكينة ، وإليهم يأتي الخبر (١) ، وبهم يبدأ يوم القيامة. قال والخبر أي الوحي)) (٢).

قوله : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يقول : قد ساروا في الأرض فرأوا آثار الذين أهلكهم الله من الأمم السالفة حين كذّبوا رسلهم. كان عاقبتهم أن دمّر الله عليهم فصيّرهم إلى النار. يقول : أفلم يسيروا في الأرض فيحذروا أن ينزل بهم ما نزل بالقرون من قبلهم. (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) : هي دار المؤمنين في الآخرة (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) : أي خير لهم من الدنيا (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٠٩).

قوله : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) : أي يئس الرسل (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا).

ذكروا عن سعيد بن جبير أنّه قال : حتّى إذا استيئس الرجل من قومهم أن يؤمنوا وظنّ قومهم أنّ الرسل قد كذبوا.

وقال مجاهد : استيئس الرسل أن يعذّب قومهم. قال : [ظنّ قومهم أنّ الرسل قد كذبوهم] (٣) وهذا تفسير من قرأها بالتخفيف : (كذبوا). ومثل ذلك في هذه الآية الأخرى في سورة الأنبياء : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا

__________________

(١) في المخطوطات : «وإليهم يأتي الخير» ، ورجّحت أن يكون في الكلمة تصحيف صوابه ، «الخبر» أي خبر السماء ، وهو الوحي ، وإن كان الوحي خيرا أيضا بل هو كلّ الخير.

(٢) هذه أحاديث وأخبار قيّمة لم يوردها ابن أبي زمنين في مختصره لتفسير ابن سلّام ، وهي لعمري من كنوز السنّة وأخبار الصحابة الكرام رضي الله عنهم. فليتنا نبسط فيها القول تعليقا وشرحا ، حتّى نستفيد منها ونفيد ، فنقدّم لأجيالنا الصالحة المؤمنة نماذج من الخلق القويم والسيرة الحميدة. وقد حفظها لنا الشيخ هود الهوّاريّ ورواها كلّها ولو كان نقله إيّاها بأسانيدها ، كما جاءت في تفسير ابن سلّام ، لكان صنيعه أحسن وعمله أتمّ.

(٣) زيادة من تفسير مجاهد ، ص ٣٢٢.

٢٨٧

تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) (٩) [الأنبياء : ٧ ـ ٩]. قوله : (كذّبوا) [أي : ما] (١) وعدوا. كان الرسل وعدوا أن ينزل على قومهم العذاب إن لم يؤمنوا ، فظنّ القوم أنّ الرسل كذّبوا بما وعدوا به ، أي : من مجيء العذاب.

وكان الحسن يقرأها بالتثقيل : (كذّبوا) ، وتفسيرها حتّى إذا استيئس الرسل من أن يجيبهم قومهم بشيء قد علموه من قبل الله ، (وظنّوا) أي : وظنّ الرسل ، أي : وعلموا أنّهم قد كذّبوا التكذيب الذي لا يؤمن القوم بعده أبدا ، استفتحوا على قومهم بالدعاء عليهم ، أي : حين أذن الله بالدعاء عليهم ، فدعوا عليهم ، فاستجاب الله فأهلكهم (٢).

وقوله : (جاءَهُمْ نَصْرُنا) : أي عذابنا (فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ) : أي النبيّ والمؤمنين (وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا) : أي : عذابنا (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (١١٠) : أي عن القوم المشركين.

قوله : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ) : يعني قصص يوسف وإخوته (عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) : أي لذوي العقول يعتبرون بها ، وهم المؤمنون.

قوله : (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى) : أي ما كان يفتريه محمّد ، أي : لقول المشركين (إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ) [الفرقان : ٤] أي : كذب افتراه ؛ يعنون محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى جميع الأنبياء. قال الله : (ما كانَ) يعني القرآن (حَدِيثاً يُفْتَرى) أي : يفتعل ويتقوّل (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) : أي من التوراة والإنجيل. وفيها تصديق بالقرآن والإيمان به وبمحمّد عليه‌السلام. (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) : أي في الحلال والحرام والأحكام والوعد والوعيد (وَهُدىً) : يهتدون به إلى الجنّة (وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١١١) : أي : يصدّقون.

__________________

(١) في المخطوطات «كذبوا ، وعدوا» (كذا) ، وزدت ما بين المعقوفين ليصحّ المعنى.

(٢) اقرأ سؤال عروة بن الزبير خالته عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها عن قوله تعالى في هذه الآية ، وكيف فسّرت الآية على قراءة من قرأ بالتثقيل : (كذّبوا) في كتاب التفسير من سورة يوسف ، باب (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) اقرأ ذلك في فتح الباري ، ج ٨ ص ٣٦٧ ـ ٣٧٠. وانظر مختلف قراءات هذا اللفظ : «كذبوا» ومعانيها في تفسير الطبريّ ، ج ١٦ ص ٢٩٦ ـ ٣١١.

٢٨٨

تفسير سورة الرعد

وهي مدنيّة (١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ : قوله : (المر) : قد فسّرنا نحوها قبل هذا الموضع. قوله : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) : أي القرآن. وبعضهم يقول : التوراة والإنجيل. (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) : أي القرآن (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (١) : وقد فسّرناه في غير هذا الموضع.

قوله : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) : فيها تقديم في تفسير الحسن. يقول : الذي رفع السماوات ترونها بغير عمد. وقال الكلبيّ أيضا : إنّ رفعها بغير عمد. وقال ابن عبّاس : لها عمد ولكن لا ترونها.

قوله : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) : وهو مثل قوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٥) [سورة طه : ٥]. قال : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) : أي القيامة ، وقال بعضهم : يجري مجرى لا يعدوه.

قوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) : أي [يقضي القضاء] (٢) في خلقه فيما يخلق ويحيي ويميت ويرزق ويفعل (يُفَصِّلُ الْآياتِ) : أي : يبيّنها (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (٢) : أي تصدّقون بالبعث. يقول : (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) أي : إذا سمعتم ما في القرآن.

قوله : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) : أي بسطها. وبسطها ودحاها واحد.

__________________

(١) في ق وع وز : «وهي مكّيّة كلّها» إلّا آية واحدة ، وهي قوله : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ ...) الآية ، وأثبتّ ما جاء في ج ود ؛ وفيهما : «وهي مدنيّة كلّها إلّا آية واحدة ...» ، لأنّه موافق لما في مصاحف ورش. واختلاف السلف في كون السورة مكّيّة أو مدنيّة اختلاف قديم يرجع إلى عهد الصحابة والتابعين.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ١٥٩.

٢٨٩

وفي تفسير الحسن : إنّ بدء خلق الأرض كان في موضع بيت المقدس ، قال الله لها : انبسطي أنت كذا ، وانبسطي أنت كذا ، وانبسطي أنت كذا. وفي تفسير عطاء : إنّ الأرض دحيت دحوا (١) من تحت الكعبة. وقال مجاهد : كان البيت قبل الأرض بألفي سنة (٢) ومدّت الأرض من تحته. وقال بعضهم : من مكّة دحيت الأرض.

قوله : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) : يعني الجبال (وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) : قال بعضهم : أهبط الله من الجنّة ثلاثين ثمرة ؛ عشرة يؤكل داخلها ولا يؤكل خارجها ، وعشرة يؤكل خارجها ولا يؤكل داخلها ، وعشرة يؤكل داخلها وخارجها.

قوله : (جَعَلَ فِيها) : أي : خلق (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) : أي من كلّ لونين (٣) اثنين من كل ما خلق الله من النبات. والواحد زوج.

قوله : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) : أي : يلبس الليل النهار. وقال الحسن : فيذهبه.

وهو كقوله : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) [الزمر : ٥] يعني أحدهما يذهب الآخر. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٣) : وهم المؤمنون.

قوله : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) : قال مجاهد : هي الأرض العذيّة (٤) الطيّبة تكون مجاورة أرضا سبخة مالحة. وقال بعضهم : قرى متجاورات قريب بعضها من بعض.

قال : (وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ) : ذكروا أنّ البراء بن

__________________

(١) في المخطوطات : «دحيت دحا ودحى». ولم أجد فيما بين يديّ من مصادر اللغة هذا المصدر ، فأثبت التصحيح «دحوا» من اللسان ومن كتب اللغة. يقال : دحوت الشيء أدحوه دحوا ، ودحوته أدحاه ، دحيا ، والأوّل أفصح.

(٢) كذا في ق وع : «ألفي سنة» ، وفي ع ود : «ألف سنة» ، والله أعلم بحقيقة ذلك.

(٣) كذا في المخطوطات الأربع ، وفي ز ، ورقة ١٥٩ : «أي صنفين» ، وجاء فيها : «قال محمّد : قيل إنّه يعني نوعين : حلوا وحامضا ، والزوج عند أهل اللغة : الواحد الذي له قرين».

(٤) العذيّة ، والعذاة : الأرض ذات التربة الطيّبة ، البعيدة من البحور والسباخ ، لا وخامة فيها ولا وباء. وانظر اللسان (عذا).

٢٩٠

عازب قال : إذا كان أصل النخلات واحدا فهو صنوان ، وغير صنوان إذا كانت النخلات مفترقات.

قوله : (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) : قال مجاهد : بماء السماء. وقال بعضهم : وكلّ ماء عذب فهو من السماء. قال الله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) [الزمر : ٢١] والينابيع العيون تنبع.

ذكروا أنّ ابن مسعود رحمه‌الله قال : كلّ النخل قد نبت من مستنقع الماء الأوّل إلّا العجوة (١) فإنّها من الجنّة. قوله : (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) : قال مجاهد : أي : بعضها أطيب من بعض. [وقال : هذا مثل لبني آدم صالحهم وخبيثهم وأبوهم واحد] (٢). (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٤) : أي فيعلمون أنّ الذي صنع هذا قادر على أن يحيي الموتى.

قوله : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) : أي إن تعجب يا محمّد من تكذيبهم إيّاك فعجب لتكذيبهم بالبعث حين قالوا : (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) وهذا على الاستفهام ، أي : إنّا لا نبعث ، وهذا استفهام على إنكار ، أي : قولهم ذلك عجب. قال الله : (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٥).

قوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) : أي بالعذاب. وذلك قولهم : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٢٢) [الأنفال : ٣٢] ، وقولهم : (رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) (١٦) [سورة ص : ١٦] وذلك منهم تكذيب واستهزاء.

قال الله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) ، والحسنة ما هم فيه من الرخاء

__________________

(١) العجوة نوع من أجود تمور المدينة ، وقيل هي ممّا غرسه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده ، ونخلتها تسمّى اللّينة.

(٢) زيادة من تفسير مجاهد ، ص ٣٢٩.

٢٩١

والعافية ، أي : أرادوا تعجيل العذاب. (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) : قال بعضهم : يعني وقائع الله في الأمم السالفة. وقال مجاهد : (المثلات) : الأمثال ، وهذا مثل القول الأوّل (١).

قال : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) : أي إذا تابوا إليه. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) (٦) : أي إذا داموا على شركهم.

قوله : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) : هذا قول مشركي العرب. وقال الحسن : ولست من أن تأتيهم بآية في شيء. (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (٧) : أي داع يدعو إلى الله ، يعني النبيّين.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ((إنّما أنا منذر والله هو الهادي)) (٢). وقال بعضهم : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) ، أي : نبيّ.

قوله : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) : أي من ذكر أو أنثى. (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ). ذكروا عن الحسن قال : الغيضوضة (٣) أن تلد المرأة في تسعة أشهر ، وما تزداد : أن تلد لأكثر من تسعة أشهر.

قال عكرمة : الغيضوضة في الحمل : لا تغيض يوما في حملها إلّا ازدادته في طهورها.

وقال مجاهد : الغيضوضة : إراقة المرأة تحبس الولد. (وما تزداد) أي : وإذا لم تهرق المرأة تمّ الولد وعظم. والغيضوضة : النقصان.

__________________

(١) وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن ج ١ ص ٣٢٣ : «المثلات واحدتها مثلة ، ومجازها : مجاز الأمثال».

(٢) أخرجه الطبرانيّ في الكبير بلفظ : «إنّما أنا مبلّغ والله يهدي» ، عن معاوية.

(٣) كذا وردت هذه الكلمة «الغيضوضة» ، وهي كلمة رواها المؤلّف عن الحسن وعكرمة ومجاهد ، وهي من مصادر الفعل : غاض غيضا ومغيضا ومغاضا وغيضوضة ، ولم ترد هذه الكلمة في معاجم اللغة ، وقد رواها الطبريّ مرّة واحدة في تفسير هذه الآية عن الحسن في ج ١٦ ص ٣٦٤ ، وقال محقّق التفسير الشيخ محمود محمّد شاكر : «وهذا المصدر حقيق أن يثبت في كتب اللغة لأنّه من كلام الحسن البصريّ ، وناهيك به فصيحا وحجّة في اللغة».

٢٩٢

وفي تفسير بعضهم : السقط الذي تسقط الأرحام من غير تمام ، وإذا ولدته لتمام فهو الزيادة فوق السقط إلى التمام ، كقوله : (مُخَلَّقَةٍ) أي : التمام ، (وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) [الحج : ٥] أي : السقط.

قوله : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) (٨) : أي بقدر.

قوله : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) : الغيب : السرّ ، والشهادة : العلانية. (الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) (٩) : أي : المتعالي عمّا قال المشركون.

قوله : (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) : قال بعضهم : فيها تقديم (١) ، يقول : من أسرّ القول ومن جهر به ذلك عند الله سواء ، سرّه وعلانيته. (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) : أي يعمل الذنوب والمعاصي سرّا بالليل (وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) (١٠) : أي وظاهر بالنهار.

وقال الكلبيّ : (مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) : يعمل الذنوب والمعاصي سرّا بالليل ، (وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) أي : خارج بالنهار ومعالن لتلك الذنوب بالنهار ، يقول : الليل والنهار والسرّ والعلانية عنده سواء.

قوله : (لَهُ مُعَقِّباتٌ) : أي : لهذا المستخفي وهذا السارب معقّبات (٢) (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) : فيها تقديم ، أي : له معقبات من بين يديه ومن خلفه ، من أمر الله ملائكة يحفظونه.

قال مجاهد : الملائكة من أمر الله بالليل والنهار. وإنّهم يجتمعون عند صلاة الصبح وعند صلاة المغرب. وبعضهم يقول : يحفظونه من أمر الله ، أي : بأمر الله. وقال بعضهم : هم

__________________

(١) يريد تقديم الخبر على المبتدإ. وانظر معاني القرآن للفرّاء ، ج ٢ ص ٥٩ ـ ٦٠.

(٢) هذا هو القول الصحيح الراجح في رجوع الضمير إلى أقرب مذكور ، وانظر قولا آخر لابن زيد رواه الطبريّ في تفسيره ، ج ١٦ ص ٣٧٩ ـ ٣٨٢ في قصّة عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة ، وقد ردّ الطبريّ هذا القول ولم يرتضه.

٢٩٣

ملائكة الله يتعاقبونكم.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، فيجتمعون عند صلاة الصبح وعند صلاة العصر فيسألهم ربّهم ، وهو أعلم بهم : كيف تركتم عبادي؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلّون وتركناهم وهم يصلّون)) (١).

ذكر مجاهد قال : ما من آدميّ إلّا ومعه ملكان يحفظانه في ليله ونهاره ، ونومه ويقظته ، من الجنّ والإنس والدوابّ والسباع والهوامّ ، وأحسبه قال : والطير ، كلّما أراده شيء قالا : إليك حتّى يأتي القدر.

وقال بعض أصحاب النبيّ عليه‌السلام : ما من آدميّ إلّا ومعه ملكان : ملك يكتب عمله ، وملك يقيه ما لم يقدّر له.

وقال الحسن : إنّ الملائكة المعقّبات الذين يتعاقبون بالليل والنهار أربعة أملاك : ملكان بالليل وملكان بالنهار.

ذكر بعضهم أنّ في مصحف أبيّ بن كعب : له معقّبات من بين يديه ، ورقيب من خلفه.

وتفسير الكلبي (يحفظونه) أي : يحفظون عمله ؛ كقوله : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) (١٢) [الانفطار : ١٠ ـ ١٢] ، وهم يتعاقبون ، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، يتعاقبون ببني آدم ويحفظون أعمالهم.

قوله : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) : وقال في الآية الأخرى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) (٢٨) [سورة إبراهيم : ٢٨] ، وذلك أنّ الله إذا بعث إلى قوم رسولا فكذّبوه ، أهلكهم. كقوله : (وَضَرَبَ

__________________

(١) حديث صحيح أخرجه الربيع بن حبيب من طريق جابر بن زيد عن أبي هريرة ، وأوّله : «يتعاقب فيكم ...». وأخرجه البخاريّ في كتاب الصلاة ، باب فضل صلاة العصر. انظر : فتح الباري ، ج ٢ ص ٣٣ ـ ٣٧. وأخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما (رقم ٦٣٢).

٢٩٤

اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (١١٢) وهم أهل مكّة (وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ) (١١٣) [النحل : ١١٢ ـ ١١٣]. وذلك العذاب هو الجوع الذي كان أصابهم ، ثمّ عذّبوا بعد ذلك بالسيف يوم بدر.

قال : (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً) : يعني عذابا (١) (فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) (١١) : يمنعهم من عذاب الله.

قوله : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) : يخاف أذاه [ومعرّته] (٢) والنصب فيه ، وطمعا للمقيم يرجو منفعته وبركته ويطمع في رزق الله.

وبعضهم يقول : خوفا من البرد أن يهلك الزرع ، وطمعا في المطر أن ينتفع به في الزرع (٣). وتفسير الحسن : (خوفا) : يخيف به عباده لما فيه من الخوف والصواعق ، (وطمعا) يرجون به المطر. وقال : والبرق ضوء خلقه الله علما للمطر.

قوله : (وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) (١٢) : قال مجاهد : هي التي فيها الماء. وهو مثل قوله : (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً) [الأعراف : ٥٧].

قوله : (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) : أي والملائكة أيضا يسبّحون بحمده من خيفته.

قال بعضهم : والرعد ملك يزجر السحاب بالتسبيح. وكان بعض الصحابة إذا سمع الرعد قال : سبحان من يسبّح الرعد بحمده والملائكة من خيفته.

__________________

(١) في المخطوطات : «يعني استئصالهم» ، وأثبتّ ما في ز ، ورقة ١٦٠ لأنّه أنسب وأعمّ. قال أبو عبيدة في مجاز القرآن : «(وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً) مضموم الأوّل ، ومجازه : هلكة ، وكلّ جذام وبرص وعمى ، وكلّ بلاء عظيم فهو سوء مضموم الأوّل ، وإذا فتحت فهو مصدر سؤت القوم ...».

(٢) زيادة من ز ، ورقة ١٦٠.

(٣) كذا في ق وع : «أن ينتفع به في الزرع» ، وهو أنسب ، وفي ج ود : «ينتفع به في الرزق».

٢٩٥

وقال الكلبيّ : هو ملك اسمه الرعد ، والصوت الذي يسمع هو تسبيحه ، يؤلّف به السحاب بعضه إلى بعض ، ثمّ يسوقه حيث أمر. وبعضهم يقول : كما يسوق الحادي الإبل.

ذكروا عن عبد الله بن عمر قال : ليس شيء أشدّ سياقا من السحاب. ذكروا عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنّه قال : البرق مخاريق الملائكة.

ذكروا عن ابن عبّاس أنّه كتب إلى أبي الجلد يسأله عن البرق ، فكتب إليه أنّ البرق ماء (١).

وقال بعضهم : إنّ البرق لمحة يلمحها الملك إلى الأرض ، وهو الملك الذي يزجر السحاب.

وذكر بعضهم قال : من سمع الرعد فقال : سبحان ربّي وبحمده ، لم تصبه صاعقة.

قوله : (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) : ذكروا عن الحسن أنّ الملك يزجر السحاب بسوط من نار ، وربما انقطع السوط ، وهو الصاعقة (٢).

__________________

(١) هو أبو الجلد جيلان بن فروة الأسديّ البصري. قال عنه ابن أبي حاتم : صاحب كتب التوراة ونحوها. وثّقه ابن سعد ، وابن حبّان. وقد روى الطبريّ بسند هذا الخبر في تفسيره ، ج ١ ص ٣٤٠. وفيه أنّ ابن عبّاس كتب إليه يسأله عن الرعد فأجابه أبو الجلد فقال : الرعد ملك. وبنفس السند روى الطبريّ في ج ١٦ ص ٣٨٧ هذا الخبر : «كتب ابن عبّاس إلى أبي الجلد يسأله عن البرق ، فقال : البرق ، الماء».

(٢) لا أساس لهذه الأقوال كلّها من كتاب أو سنّة صحيحة ، وهي وأمثالها من الإسرائيليّات التي شحنت بها كتب التفسير الأولى ، ونقلها الرواة بدون تمحيص. فنحن نؤمن بأنّ الرعد يسبّح مصداقا لقوله تعالى في هذه الآية ، وفي الأخرى في قوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء : ٤٤] ، ولكن لا نصدّق أبدا أنّ الرعد اسم ملك ، أو أنّ البرق مخاريق الملائكة ، أو أنّه لمحة ملك يزجر السحاب. وهذا قبل أن يأتي العلم الحديث فيفنّد كلّ هذه الأقوال الخرافيّة. ومن العجب أن يكتب هذا بعض المفسّرين وينسبون أمثال هذه الأباطيل إلى الصحابة ، ويروون هذه الأساطير وهم يتلون قوله تعالى من سورة النور : ٤٣ : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) فاللهمّ إنّا نعوذ بك من الجهل ومن العجز والكسل ، ووفّقنا يا ربّ إلى التفكير في آياتك المجلوّة في الأكوان ، وإلى تدبّر آياتك المتلوّة في القرآن ، وألهمنا الرشاد في أمرنا ، والسداد في قولنا ، والصلاح في عملنا ، ـ

٢٩٦

قوله : (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ) : أي المشركون يجادلون نبيّ الله ، أي : يخاصمونه في عبادتهم الأوثان دون الله (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) (١٣).

ذكروا أنّ رجلا أنكر القرآن (١) وكذّب بالنبيّ عليه‌السلام ، فأرسل الله عليه صاعقة فأهلكته ، فأنزل الله : (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ).

قال بعضهم : المحال : القوّة والحيلة. وقال مجاهد : شديد القوى. وقال الحسن : شديد النقمة. وقال الكلبيّ : شديد الجدال.

قوله : (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) : أي لا إله إلّا الله ، هي دعوة الحقّ. قال : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) : أي الأوثان (لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ) : وهو مثل الذي يعبد الأوثان إذا رجا الحياة في عبادته (٢) كالذي يرفع بيده الإناء الذي فيه الماء يرجو به الحياة فمات قبل أن يصل إلى فيه. وقال بعضهم : كباسط كفّيه إلى الماء يدعو الإناء الذي فيه الماء ليأتيه فمات قبل أن يأتيه الإناء. يقول : فكذلك المشركون حيث رجوا منفعة آلهتهم ضلّت عنهم فهلكوا.

قال : (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ) : أي آلهتهم (إِلَّا فِي ضَلالٍ) (١٤).

وقال مجاهد : يدعو الماء بلسانه ، ويشير إليه بيده ولا يأتيه أبدا.

ذكر بعضهم قال : هذا مثل ضربه الله ؛ إنّ هذا الوثن الذي يدعو من دون الله ، إنّه لا يستجيب له بشيء ، أي : لا يسوق له خيرا ، ولا يدفع عنه شرّا حتّى يأتيه الموت ، كمثل هذا الذي يبسط كفّيه إلى الماء ليبلغ فاه ، ولا يصل ذلك إليه حتّى يموت عطشا.

__________________

ـ وهب لنا من لدنك إيمانا ينير بصائرنا ، ويعصمنا من الزلل. آمين.

(١) هو عامر بن الطفيل حسبما ذكره الواحديّ في أسباب النزول ، ص ٢٧٥ ـ ٢٧٦ ، وما رواه المفسّرون : الطبري وابن كثير والقرطبيّ والسيوطيّ في تفسير الآية.

(٢) كذا في المخطوطات الأربع : «إذا رجا الحياة في عبادته» ، وفي ز ورقة ١٦٠ : «إذا رجا الخبر في عبادتها».

٢٩٧

قوله : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) : أي العشيّ.

قال الحسن : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ) ، ثمّ انقطع الكلام. ثمّ قال : (والارض) ، أي : ومن في الأرض ، (طَوْعاً وَكَرْهاً) [أي : طائعا وكارها] (١). ثمّ قال (٢) : لا يجعل الله من دخل في الإسلام طوعا كمن دخله كرها (٣).

وفي تفسير الكلبيّ : يسجد أهل السماوات طوعا ، ومن ولد في الإسلام ، والذي يسجد كرها من جبر (٤) على الإسلام.

وقال مجاهد : سجود المؤمن طائعا ، وسجود ظلّ الكافر كارها. يقول : يسجد ظلّه والكافر كاره. وقال الحسن : (وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) يعني سجود ظلّ الكافر. يعني أنّه يسجد له بالغدوّ والآصال. أما ظلّه فيسجد له ، وأمّا هو فلا يسجد. وتفسير الكلبيّ : إذا سجد الرجل سجد ظلّه معه. (١٥)

قوله : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ) : هو مثل قوله : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) (٨٧) [المؤمنون : ٨٦ ـ ٨٧] قال الله : فإذا أقرّوا بذلك أي : أنّه الله ف (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) : وهو على الاستفهام. (لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) : ولا تغني عنهم أوثانهم التي يعبدون من دون الله. وهذا استفهام على معرفة. أي : قد فعلتم.

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) : وهذا مثل الكافر والمؤمن ؛ الكافر أعمى عن

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ١٦٠.

(٢) كذا في المخطوطات الأربع ، «ثمّ قال» ، أي : الحسن ، وفي ز ، ورقة ١٦٠ : «قال الحسن : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والله لا يجعل الله من دخل في الإسلام طوعا كمن دخله كرها».

(٣) لم أجده حديثا مرفوعا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما بين يديّ من مصادر الحديث. ولعلّ ناسخ مخطوطة زوهم فجعله من مراسيل الحسن.

(٤) كذا في المخطوطات الأربع : «جبر» ، والثلاثيّ صحيح ، وأفصح منه : أجبر. انظر اللسان : (جبر).

٢٩٨

الهدى ، والمؤمن أبصر الإيمان. (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) : على الاستفهام ، أي : إنّ ذلك لا يستوي.

(أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) : يقول : هل يدّعون أنّ تلك الأوثان خلقت مع الله شيئا ، فلم يدروا أيّ الخالقين يعبدون؟ هل رأوا ذلك؟ وهل يستطيعون أن يحتجّوا به على الله يوم القيامة؟ أي : إنّهم لا يدّعون ذلك ، وإنّهم يعرفون أنّ الله خالق كلّ شيء ، فكيف يعبدون هذه الأوثان من دون الله. وهذا تفسير الحسن.

ثمّ قال الله : (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (١٦).

وقال مجاهد : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) فحملهم ذلك على أن شكّوا في الأوثان ، فاتّخذوهم آلهة.

قوله : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) : الكبير بقدره ، والصغير بقدره (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً) : أي عاليا ، يعني الزبد الذي قد ربا فوق الماء. (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ) : هذه ثلاثة أمثال في مثل واحد ضربها الله للمؤمن والكافر.

فأمّا قوله : (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ) فإنّه يعني الذهب والفضّة إذا أذيبا ، فعلا خبثهما ، وهو الزبد ، فخلص خالصهما تحت ذلك الزبد. (او متاع) أي : وابتغاء متاع ، ما يستمتع به ، (زبد مّثله) أي : مثل زبد الماء. والذي يوقد عليه ابتغاء متاع هو الحديد والنحاس والرصاص إذا صفّي ذلك أيضا فخلص خالصه وعلا خبثه ، وهو زبده (١). قال الله : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ). قال : (فَأَمَّا الزَّبَدُ) : زبد الماء وزبد الحلي وزبد الحديد والنحاس والرصاص (فَيَذْهَبُ جُفاءً) : أي باطلا لا ينتفع به ، وهذا مثل عمل الكافر لا ينتفع به في الآخرة (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) : أي فينتفع

__________________

(١) في تفصيل هذه الأمثال وردت بعض الأخطاء في المخطوطات أثبتّ صحّتها من ز ، ورقة ١٦١. ففي بعضها وردت كلمة الصفر ، بدل كلمة الحديد ، وفي بعضها «فخلص وخلص خالصه».

٢٩٩

بالماء ، فينبت عليه الزرع والمرعى ، فينتفع به. وينتفع بذلك الحليّ والمتاع الخالص من الصفر والحديد والرصاص. فهذا عمل المؤمن يبقى ثوابه في الآخرة.

قوله : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) (١٧). ثمّ فسر تلك الأمثال فقال :

(لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ) : أي آمنوا بربّهم (الْحُسْنى) : أي الجنّة.

(وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) : أي الكفّار (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ).

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ((يقال للكافر يوم القيامة : لو أنّ لك ملء الأرض ذهبا أكنت مفتديا به؟ فيقول : نعم. فيقال له : كذبت. قد سئلت ما هو أهون من ذلك)) (١).

قال : (أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ) : أي لافتدوا به من سوء الحساب ؛ يؤخذون بسيّئاتهم ، وتحبط حسناتهم ؛ أي : قد استوفوها في الدنيا ، فلهم سوء الحساب في الآخرة. وسوء الحساب : شدّته. وحسابهم : أن يصيروا إلى النار. (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) : أي ومنزلهم جهنّم (وَبِئْسَ الْمِهادُ) (١٨) : أي وبئس الفراش. والمهاد والفراش والقرار واحد ، مثل قوله : (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) [البقرة : ٢٢] ومهادا وبساطا وقرارا. قوله : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) : أي القرآن الحقّ ، (كَمَنْ هُوَ أَعْمى) : أي عنه. يعني به الكافر ، وهو على الاستفهام. يقول : فهل يستوي هذا المؤمن وهذا الكافر؟ أي : إنّهما لا يستويان. (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (١٩) : أي أولو العقول ، وهم المؤمنون.

(الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) (٢٠) : أي الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم حيث قال : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢]. يقول : أوفوا بذلك الميثاق ، يعني المؤمنين الذين آمنوا بمحمّد عليه‌السلام.

__________________

(١) حديث متّفق عليه ، أخرجه البخاريّ في كتاب الرقاق ، باب من نوقش الحساب عذّب ، وأخرجه مسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم ، باب طلب الكافر الفداء بملء الأرض ذهبا (رقم ٢٨٠٥) كلاهما يرويه من حديث أنس بن مالك.

٣٠٠