تفسير كتاب الله العزيز - ج ٢

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٢

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٣

وقوله : (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) أي : بلى الصبح قريب ، في الإضمار.

وقال الحسن : خسف بهم فهم يتجلجلون (١) فيها إلى يوم القيامة.

قوله : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) : قال بعضهم : هو الطين. وقال مجاهد : هي بالفارسيّة ؛ أوّلها حجر وآخرها طين. وقال في الآية الأخرى التي في الذاريات : (حِجارَةً مِنْ طِينٍ) (٣٣) [الذاريات : ٣٣] قال بعض الكوفيّين : هي بالفارسيّة سنك وكل (٢).

قوله : (مَنْضُودٍ) (٨٢) : أي بعضه على بعض (مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ) : أي معلّمة عند ربّك في تفسير الحسن. وقال الحسن : هي من السماء ، مسوّمة ، أي : عليها سيما أنّها ليست من حجارة الدنيا ، وإنّما هي من حجارة العذاب. وتلك السيما على الحجر منها مثل الخاتم. قوله : (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) (٨٣) : قال مجاهد : يرهب به قريشا ، يعني المشركين. وبعضهم يقول : وما هي من ظالمي أمّتك ، يا محمّد ، يعني المشركين ، ببعيد ، أي : أن يحصبهم بها كما حصب قوم لوط.

ذكر جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ أخوف ما أخاف على أمّتي عمل قوم لوط (٣).

__________________

(١) تجلجل ، أي : ساخ في الأرض ودخل ، انظر اللسان (جلل).

(٢) جاءت الكلمة في المخطوطات هكذا : «سند وكل» وما أثبتّه هو الصواب حسبما جاء رسمها في كتب التفسير واللغة. وقد اختلف المفسّرون في أصل الكلمة ، وهل هي عربيّة أو معرّبة. فذهب أبو عبيدة في المجاز ، ج ١ ص ٢٩٦ إلى أنّ الكلمة عربيّة وأنّ معناها «الشديد من الحجارة الصّلب ، ومن الضرب». وذهب المؤلّف هنا إلى أنّها فارسيّة معرّبة ، وهو ما ذهب إليه ابن قتيبة ، وتبعه في ذلك الجواليقي في المعرّب ، ص ٢٢٩. وقد لخّص محقّق كتاب المعرّب الشيخ أحمد محمّد شاكر هذه الأقوال ورجّح أنّ الكلمة عربيّة وأنّ معناها : كثيرة وشديدة ، مؤيّدا في ذلك ما ذهب إليه أبو عبيدة.

(٣) أخرجه أحمد في مسنده ، والترمذيّ والحاكم في المستدرك. وأخرجه ابن ماجه في كتاب الحدود ، باب من عمل عمل قوم لوط (رقم ٢٥٦٣) كلّهم من حديث جابر. وأخرجه يحيى بن سلّام كما جاء في ز ، ورقة ١٤٩ بالسند التالي : يحيى عن همام بن يحيى عن القاسم بن عبد الواحد عن عبد الله بن محمّد بن عقيل عن ـ

٢٤١

قوله : (وَإِلى مَدْيَنَ) أي وأرسلنا إلى مدين تبعا للكلام الأوّل (أَخاهُمْ شُعَيْباً) : هو أخوهم في النسب ، وليس بأخيهم في الدين.

(قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) : أي بخير من الله في السعة والرزق. وقال بعضهم : رأى عليهم يسرا من يسر الدنيا ، وكانوا أصحاب تطفيف في الكيل ونقصان في الميزان. (وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) (٨٤) : أي يحيط بكم عذاب الله في الدنيا قبل عذاب الآخرة. (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) : أي بالعدل (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) : أي ولا تنقصوا الناس حقّهم الذي لهم. وقال بعضهم : ولا تظلموا ، وهو واحد.

قوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (٨٥) : أي ولا تسيروا في الأرض مفسدين. وقال الحسن : ولا تكونوا في الأرض مفسدين.

قوله : (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ) : قال بعضهم : حظّكم من ربّكم خير لكم ، يعني الجنّة. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) : أي إن آمنتم.

[قال] بعضهم : ما أبقى الله لكم من أموالكم الحلال هو خير لكم ممّا تبخسون الناس (١). وقال مجاهد : (بَقِيَّتُ اللهِ) : طاعة الله.

قوله : (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) (٨٦) : أي أحفظ أعمالكم عليكم حتّى أجازيكم.

قوله : (قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) : يعنون أوثانهم. (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) : أي أو أن نترك [أن نفعل] (٢). وبعضهم

__________________

ـ جابر بن عبد الله مرفوعا بلفظ : «إنّ أكثر ما أتخوّف على أمّتي ...».

(١) هذا الوجه من التأويل هو أقرب الوجوه إلى الصواب ، وهو ما ذهب إليه الفرّاء في معاني القرآن ، ج ٢ ص ٢٥ ، واختاره ابن قتيبة في تفسير غريب القرآن ، ص ٢٠٨.

(٢) زيادة لا بدّ منها لإيضاح المعنى. قال الفرّاء في معاني القرآن ، ج ٢ ص ٢٥ : «معناه : أو تأمرك أن نترك أن ـ

٢٤٢

يقرأها : (أو أن تفعل في أموالنا ما تشاء) ، أي : أو تأمرك أن تفعل في أموالنا ما تشاء. (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) (٨٧) : أي : إنّك أنت السفيه الضالّ. قال الحسن : أي : إنّك لست بالحليم الرشيد. كقوله : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (٤٩) [الدخان : ٤٩] أي : إنّك لست كذلك.

وأمّا قوله : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ) فقال الحسن : إنّ الله لم يبعث نبيّا إلّا فرض عليه الصلاة والزكاة. وهي مثل قوله : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (٥) [البيّنة : ٥].

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) : أي على أمر بيّن من النبوّة (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) : أي النبوّة (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) : فأفعله ، في تفسير الحسن. وقال غيره : لم أكن لأنهاكم عن أمر فأركبه.

(إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ) : أي وما اعتصامي (١) إلّا بالله ؛ أي : إنّ الله الموفّق الهادي إلى كلّ خير. (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (٨٨) : أي بقلبي وعملي.

(وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي) : أي لا يحملنّكم فراقي (٢) (أَنْ يُصِيبَكُمْ) : قال الحسن : بكفركم (مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) (٨٩) : أي أن ينزل بكم من عذاب الله مثل ما نزل بهم.

__________________

ـ نفعل (فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا). فأن مردودة على (نَتْرُكَ)» وقال الفرّاء : «وفيها وجه آخر ؛ تجعل الأمر كالنهي ، كأنّه قال : أصلواتك تأمرك بذا وتنهانا عن ذا. وهي حينئذ مردودة على (أن) الأولى ، لا إضمار فيه ، كأنّك قلت : تنهانا أن نفعل في أموالنا ما نشاء ؛ كما تقول : أضربك أن تسيء ، كأنّه قال : أنهاك بالضرب عن الإساءة».

(١) كذا في ق وع : «اعتصامي» ، وفي د وج : «عصمتي».

(٢) كذا في المخطوطات الأربع ، وفي ز ، ورقة ١٤٩ : «لا يحملنّكم عداوتي أن يصيبكم بكفركم بي من عذاب الله مثل ما ...».

٢٤٣

(وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ) : لمن استغفره وتاب إليه (وَدُودٌ) (٩٠) : أي يودّ أهل طاعته. وقال الحسن : يتودّد إلى خلقه.

(قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) : [أي لا نقبل ما تقول ، وقد فهموه وقامت بينهم به الحجّة] (١) (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) : أي مصاب البصر ؛ كان أعمى. (وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) : أي بالحجارة فقتلناك بها. (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) (٩١) : وكان من أشرافهم.

(قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) : على الاستفهام (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) : قال مجاهد : فضلا (٢). وقال غيره : أعززتم قومكم وأظهرتم بربّكم ، يعني أنّكم جعلتموه منكم بظهر.

(إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (٩٢) : أي خبير بأعمالكم. كقوله : (وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً) (٩١) [الكهف : ٩١] ، وكقوله : (أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (١٢) [الطلاق : ١٢].

قوله : (وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) : أي على ناحيتكم ، أي : على الكفر. وهذا وعيد (إِنِّي عامِلٌ) على ناحيتي (٣) ، أي : على ديني (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) : وليس يأمرهم أن يثبتوا على دينهم ، ولكن يخوّفهم أنّهم إن ثبتوا على دينهم جاءهم العذاب.

قال : (مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) : أي في الدنيا قبل عذاب الآخرة. (وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) : أي سيعلمون إذا جاءهم العذاب من الكاذب. (وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) (٩٣) : كقوله : (فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (٧١) [الأعراف : ٧١].

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ١٤٩.

(٢) في المخطوطات : «فصلا» ، وهو تصحيف صوابه ما أثبته : «فضلا» ، ولم أجد هذا التفسير عند مجاهد ، ووجدته منسوبا في تفسير الطبريّ ، ج ١٥ ، ص ٤٦١ إلى ابن زيد ؛ قال : «الظّهريّ : الفضل ، مثل الجمّال يخرج معه بإبل ظهارية ، فضل ، لا يحمل عليها شيئا ، إلّا أن يحتاج إليها. قال : فيقول : إنّما ربّكم عندكم مثل هذا ، إن احتجتم إليه ، وإن لم تحتاجوا إليه ، فليس بشيء». وانظر : مجاز أبي عبيدة ، ج ١ ص ٢٩٨.

(٣) كذا في المخطوطات : وفي ز ، ورقة ١٥٠ : (عَلى مَكانَتِكُمْ) أي : على دينكم (إِنِّي عامِلٌ) على ديني».

٢٤٤

قوله : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) : أي بالعذاب (نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) (٩٤) : أي موتى قد هلكوا.

قوله : (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) : أي كأن لم يعيشوا فيها (أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) (٩٥).

قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) : أي باياتنا التي تدلّ على صحّة نبوّته. (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) (٩٦) : أي بحجّة بيّنة.(إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) : أي وقومه. (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) (٩٧) (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) : قال الحسن : يكون قائدهم إلى النار حتّى يدخلها ويدخلها معه قومه.

قال : (وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) (٩٨) : أي النار.

(وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ) : أي في الدنيا (لَعْنَةً) : [يعني العذاب الذي عذّبهم به من الغرق] (١) (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) : أي : وأتبعوا يوم القيامة لعنة. (بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) (٩٩) : قال بعضهم : ترادفت عليه لعنتان : لعنة بعد لعنة ، لعنة الدنيا ، ولعنة الآخرة.

قوله : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى) : أي من أخبار القرى ، أي : الأمم السالفة. (نَقُصُّهُ عَلَيْكَ) : يا محمّد ؛ يعني ما قصّ من أخبارهم إلى هذا الموضع (مِنْها قائِمٌ) : أي تراه ، وقد هلك أهله (وَ) : منها (حَصِيدٌ) (١٠٠) : لا تراه. وقال بعضهم : منها قائم ترى مكانه ، وحصيد لا ترى له أثرا.

قوله : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) : وهو كقوله : (وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) (٧٦) [الزخرف : ٧٦] أي : لأنفسهم ، وكقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٤٤) [يونس : ٤٤].

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ١٥٠.

٢٤٥

قوله : (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) : يعني الأوثان التي كانوا يعبدونها. (لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) : يعني العذاب. (وَما زادُوهُمْ) : أي تلك الأوثان في عبادتهم (غَيْرَ تَتْبِيبٍ) (١٠١) : أي غير تخسير. وقال الحسن : غير تدمير.

قوله : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ) : أي هكذا أخذ ربّك (إِذا أَخَذَ الْقُرى) : يعني أهلها ، أي : الكفّار. (وَهِيَ ظالِمَةٌ) : أي وهي مشركة ، يعني أهلها (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (١٠٢).

قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ) : أي فيما قصصت من أخبار الأمم السالفة ، ومن إهلاكي القرى الظالمة (لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ). قوله : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) : أي يوم القيامة يجتمع فيه الخلق. (وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) (١٠٣) : أي يشهده أهل السماوات وأهل الأرض. قال : (وَما نُؤَخِّرُهُ) : أي ذلك اليوم ، يوم القيامة (إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) (١٠٤) : أي عند الله.

قوله : (يَوْمَ يَأْتِ) : أي يوم القيامة (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) : وهو كقوله : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) أي : روح كلّ جسد (١) (وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) (٣٨) [النبأ : ٣٨] أي : في الدنيا. وقوله : (صوابا) أي : لا إله إلّا الله.

ذكروا عن حذيفة بن اليمان أنّه قال : يجمع الله الخلائق يوم القيامة في صعيد واحد حفاة عراة ، يسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر ، قال : فأوّل ما يدعى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيقول : لبّيك وسعديك ، والخير في يديك ، والشرّ ليس إليك ، المهدي من هديت ، عبدك بين يديك ، وبك وإليك ، لا منجى ولا ملجأ إلّا إليك ، تباركت ربّنا وتعاليت ، وعلى عرشك استويت ، سبحانك ربّ البيت. ثمّ يقال له : اشفع ؛ فذلك المقام المحمود الذي وعده الله.

قوله : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) (١٠٥) : ذكروا عن عبد الله بن مسعود أنّه كان يقول :

__________________

(١) هذا وجه من وجوه تأويل كلمة الروح ، نسب إلى ابن عبّاس في بعض التفاسير ، ولها أوجه أخرى ؛ منها أنّ الروح هنا هو جبريل عليه‌السلام. وانظر ابن الجوزي ، زاد المسير ، ج ٧ ص ١٢ ـ ١٣.

٢٤٦

الشقيّ من شقي في بطن أمّه ، والسعيد من سعد في بطنه أمّه (١). ذكروا عن عبد الله بن مسعود أنّه قال : حدّثنا الصادق المصدّق قال : إنّ خلق أحدكم يجمع في بطن أمّه أربعين يوما نطفة ، ثمّ يكون أربعين يوما علقة ، ثمّ يكون أربعين يوما مضغة ، ثمّ يبعث الملك فيؤمر أن يكتب رزقه وعمله وأجله وأثره (٢) ، وشقيّ أو سعيد. والذي لا إله غيره إنّ العبد ليعمل بعمل أهل الجنّة حتّى لا يكون بينه وبين الجنّة إلّا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار حتّى يدخلها. وإنّ العبد ليعمل بعمل أهل النار حتّى لا يكون بينه وبين النار إلّا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنّة حتّى يدخلها (٣).

قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) (١٠٦) : قال بعضهم : هذا حين ينقطع كلامهم حيث يقول الله : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) (١٠٨) [المؤمنون : ١٠٨]. وذلك أنّ أهل النار يدعون مالكا ، فيذرهم مقدار أربعين خريفا ، ثمّ يجيبهم : (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) (٧٧) [الزخرف : ٧٧]. ثمّ يدعون ربّهم : فيذرهم قدر عمر الدنيا ثمّ يقول : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) ؛ فلا ينبسون بعدها بكلمة ، ولا كان إلّا الزفير والشهيق في نار جهنّم. فشبّه أصواتهم بأصوات الحمير ، أوّلها زفير وآخرها شهيق (٤). قوله : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) : أي إنّ الجنّة في السماء والنار في الأرض (٥) ، وذلك ما لا ينقطع أبدا.

__________________

(١) انفردت ع بهذه الجملة الأخيرة ، وهي أنسب للمقام ، وفي ق وج ود : «والسعيد من وعظ بغيره».

(٢) كذا في ج : «وأجله وأثره» ، وسقطت الكلمة : «وأجله» من د ، وسقطتا معا من ق وع.

(٣) حديث صحيح متّفق عليه ، أخرجه أصحاب السنن عن عبد الله بن مسعود. أخرجه البخاريّ ومسلم في كتاب القدر ، وهو في صحيح مسلم في باب كيفيّة خلق الآدميّ في بطن أمّه ... (رقم ٢٦٤٣) وجاء فيه : «ويؤمر بكتب رزقه وأجله وعمله وشقيّ أو سعيد».

(٤) أورد ابن أبي زمنين في ورقة ١٥٠ شرحا لغويّا للكلمتين فقال : «ذكر عن الخليل أنّه قال : الشهيق : ردّ النفس ، والزفير : إخراج النفس. وقيل : الزفير : صوت المكروب بالأنين ، والشهيق : أشدّ منه ارتفاعا».

(٥) كذا ورد تأويل هذه الآية في المخطوطات الأربع ، وفي ز ، ورقة ١٥٠. ولم أجده فيما اطّلعت عليه من كتب التفسير. وما وجدته قريبا منه ما ذكر عن ابن زيد في قوله تعالى : (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) قال : «ما دامت الأرض أرضا والسماء سماء».

٢٤٧

قوله : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) : [يعني ما سبقهم به الذين دخلوا قبلهم] (١) كقوله : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) ، وقال : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) [الزمر : ٧١ و ٧٣]. فالزمرة تدخل بعد الزمرة ، إلّا ما شاء ربك (٢). قال : (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (١٠٧).

قوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) : أي إلّا ما سبقهم به الذين دخلوا قبلهم. وذكر ههنا ما افترت الفرقة الشاكّة من أنّ قوما يدخلون النار ، ثمّ يخرجون منها بالشفاعة ؛ فإنّ هذا موضعه وموضع الردّ عليهم (٣). قوله : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (١٠٨) : أي غير مقطوع. قوله : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) يقول للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فلا تك في شكّ (مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) يعني مشركي العرب. (ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ) : أي : إلّا ما كان يعبد آباؤهم (٤) (مِنْ قَبْلُ) :

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ١٥٠.

(٢) انظر أوجها من وجوه تأويل هذا الاستثناء في معاني الفرّاء ، ج ٢ ص ٢٨ ، وفي تفسير الطبريّ ج ١٥ ، ص ٤٨١ فما بعدها. وكان من المنتظر أن يقف الشيخ هود في هذا الاستثناء والذي بعده ويبيّن رأيه في ذلك ، ولكنّه لم يفعل. انظر إن شئت في هذا الموضوع ما قاله قطب الأئمّة محمّد اطفيّش في تيسير التفسير ، ج ٦ ص ٤٤ ـ ٤٦ ، فقد ذكر أوجها لمعنى الخلود ما دامت السماوات والأرض ، وللاستثناء الوارد بعده فقال : «(إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) من مدّة ، وهي ما بين قيام الساعة إلى دخول النار فإنّهم يعذّبون في قبورهم بنار تارة ، وتعذّب أرواحهم في سجّين تارة بها. والمستثنى منه هو المصدر الظرفيّ ، وهو دوام السماوات والأرض».

(٣) هذا كلام الشيخ هود الهوّاريّ يشير به إلى من يخالف رأيه في مسألة الخلود ؛ وهي ـ كما تعلم ـ من مسائل الخلاف بين العلماء. ولكنّ الشيخ هودا حين ذكر أنّ هذا موضع الردّ على من يسمّيهم «الفرقة الشاكّة» لم يردّ عليهم بالحجج ، واكتفى بحذف تأويلهم للآية ، وعدم ذكر رأيهم. فقد نقل ابن أبي زمنين في ز ، ورقة ١٥٠ ـ ١٥١ ، قولا للسديّ في تفسير الآية فقال عن الاستثناء الأوّل : «(إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) لأهل التوحيد الذين يدخلون النار فلا يدومون فيها ، يخرجون منها إلى الجنّة». وقال عن الاستثناء الثاني : «(إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) يعني ما نقص لأهل التوحيد الذين أخرجوا من النار». وسيعود الشيخ هود إلى هذا الموضوع بشيء من التفصيل في أوائل سورة الحجر ، ستقف عليه هناك ، إن شاء الله.

(٤) جعل المؤلّف هنا «ما» في قوله : (كما) موصولة ، ويمكن أن تكون مصدريّة ، أي : كعبادة آبائهم ، كما جاءت ـ

٢٤٨

أي كانوا يعبدون الأوثان. (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ) : أي من العذاب (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) (١٠٩) : وهو كقوله : (فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) (٦٣) [الإسراء : ٦٣].

قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) : [أي آمن به قوم وكفر به قوم] (١) (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) : ألّا يعذّب بعذاب الآخرة في الدنيا (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) : أي لقضى الله بينهم في الدنيا ، فأدخل أهل الجنّة الجنّة ، وأهل النار النار ، ولكن أخّر ذلك إلى يوم القيامة. (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (١١٠) : يعني المشركين. وقوله : (مريب) من قبل الريبة. قوله : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا) : يعني الأوّلين والآخرين (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١١١) (٢).

قوله : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) : على الإسلام (وَمَنْ تابَ مَعَكَ) : يعني المؤمنين الذين تابوا من الشرك. (وَلا تَطْغَوْا) : فترجعوا عن الإسلام وتطغوا فيما أحلّ لكم كما طغى أهل الجاهليّة فحرّموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحام والزرع. ولا تقارفوا كبائر ما نهاكم الله عنه فتطغوا. وهو طغيان فوق طغيان ، وطغيان دون طغيان ؛ بعضه شرك ، وبعضه نفاق دون الشرك. (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١١٢).

قوله : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) : والركون (٣) إلى الظلمة من وجهين : يقول : لا تلحقوا بالمشركين (٤) ، ولا ترضوا بأعمالهم ، وهو ظلم شرك. وكذلك لا تركنوا إلى الذين

__________________

ـ في تفسير الطبريّ ، ج ١٥ ص ٤٩١. وانظر كشّاف الزمخشريّ ، ج ٢ ص ٤٣١.

(١) زيادة من ز ، ورقة ١٥١.

(٢) انظر اختلاف القرّاء في قراءة قوله تعالى : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) وبيان ذلك في معاني الفرّاء ، ج ٢ ص ٢٨ ـ ٣٠.

(٣) وردت الكلمة في المخطوطات كلها : «الإركان» هكذا ، ولعلّ المؤلّف قرأ بقراءة من قرأ «ولا تركنوا» بضمّ التاء ، وهي قراءة أشار إليها الزمخشريّ في الكشّاف ، ج ٢ ص ٤٣٣ ونسبها إلى ابن أبي عبلة ، من أركنه : إذا أماله ، والصواب ما أثبتّه : «الركون» تبعا لقراءة الجمهور : (وَلا تَرْكَنُوا).

(٤) في المخطوطات الأربع ، وفي ز ، ورقة ١٥١ : «لا تلحقوا بالشرك» ، وهي نفس عبارة الطبريّ في تفسيره ، ج ١٥ ص ٥٠١ ، وهي من كلام قتادة. ولكنّ الجملة التالية تستلزم ما أثبتّه : «لا تلحقوا بالمشركين ، ولا ـ

٢٤٩

ظلموا من المنافقين ولا ترضوا بأعمالهم ، وهو ظلم فوق ظلم ، وظلم دون ظلم. (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) : أي فتدخلوها ، إذا أنتم ركنتم إلى الظالمين من المشركين والمنافقين. (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) : أي يمنعونكم من عذاب الله (ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) (١١٣) : أي لا ناصر لكم من الله.

قوله : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) : يعني الصلوات الخمس : أن تقام على وضوئها وركوعها وسجودها ومواقيتها.

وطرفا النهار : في الطرف الأوّل صلاة الصبح ، وفي الطرف الآخر صلاة الظهر والعصر ، (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) : يعني صلاة المغرب وصلاة العشاء. وزلف الليل [أدانيه] (١) ، يعني : أوائله.

قال : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) : أي إنّ الصلوات الخمس يذهبن ما دون الكبائر.

ذكر أبو عثمان النهديّ قال : كنت مع سلمان الفارسيّ تحت شجرة ، فأخذ غصنا منها ، فهزّه حتّى تساقط ورقه ، ثمّ قال : إنّي كنت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت شجرة ، فأخذ غصنا منها ، فهزّه حتّى تساقط ورقه ، ثمّ قال : (إنّ الرجل المسلم إذا توضّأ وأحسن وضوءه ، ثمّ صلّى الصلوات الخمس تحاتّت عنه ذنوبه كما تحاتّ هذا الورق) ، ثمّ تلا هذه الآية : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) (٢).

ذكر الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ألا إنّ الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة

__________________

ـ ترضوا بأعمالهم».

(١) زيادة من ز ، ورقة ١٥١.

(٢) أخرجه أحمد في مسنده ، وأخرجه الطبرانيّ في الأوسط ، كما أخرجه الطبريّ في تفسيره ، ج ١١ ص ٥١٤. و ٥٢٠.

٢٥٠

كفّارات لما بينهنّ ما اجتنبت الكبائر) (١).

قوله : (ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) (١١٤) : أي توبة للتائبين. ذكروا عن عبد الله بن مسعود أنّ رجلا أصاب من امرأة قبلة ، فأتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسأله عن كفّارتها ، فنزلت هذه الآية : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ ...) إلى قوله : (ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) (٢).

قوله : (وَاصْبِرْ) : أي على ما فرض الله عليك ، وعلى ما يقول لك المشركون من الأذى (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (١١٥).

قوله : (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ) : [يعني طاعة] (٣) (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) : يقول : لم يكن ذلك إلّا قليلا ممّن أنجينا منهم ، أي : من المؤمنين. و (أُولُوا بَقِيَّةٍ) عند بعضهم مثل قوله : (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ) [يونس : ٨٦] أي : حظّكم عند ربّكم خير لكم ، يعني الجنّة.

قال : (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ) : يعني المشركين ، اتّبعوا ما أترفوا فيه ، أي : من دنياهم. وقال الحسن : ما وسّع الله عليهم فيه من الدنيا. (وَكانُوا مُجْرِمِينَ) (١١٦) : أي مشركين.

قوله : (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) (١١٧) : كقوله : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ

__________________

(١) أخرجه أحمد والترمذيّ في كتاب الصلاة ، باب ما جاء في فضل الصلوات الخمس. وأخرجه مسلم في كتاب الصلاة ، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ... (رقم ٢٣٣) عن أبي هريرة ، وفي بعض ألفاظه ، «كفّارة لما بينهنّ ما لم تغش الكبائر».

(٢) أخرجه البخاريّ في كتاب التفسير من آخر تفسير سورة هود ، وفي آخره : «قال الرجل : ألي هذه؟ قال : لمن عمل بها من أمّتي». وأخرجه الطبريّ من طرق في تفسيره ، ج ١٥ ص ٥١٥ ـ ٥١٩ ، من حديث ابن. مسعود.

(٣) زيادة من ز ، ورقة ١٥١.

٢٥١

يَظْلِمُونَ) (٤٠) [العنكبوت : ٤٠] ، يعني بشركهم وتكذيبهم رسلهم. ولو آمنوا لم يهلكوا بالعذاب.

قوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) : أي على الإيمان. مثل قوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس : ٩٩] (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (١١٨) (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) : والمختلفون هم الكفّار ، وهم في اختلاف [على أديان شتى] (١) ، في تفسير مجاهد وغيره ، مثل قوله : (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) (٥) [سورة ق : ٥] أي : ملتبس. وعامّة الناس كفّار.

وقوله : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) وهم المؤمنون ، لا يختلفون في البعث كما اختلف الكفّار ، وهم في شكّ منه ، وذلك منهم اختلاف ، وهم منه في لبس. فأهل رحمة الله أهل جماعة وإن تفرّقت ديارهم ، وأهل معصية الله أهل فرقة وإن اجتمعت ديارهم. والآية محتملة لاختلاف الكفّار في البعث وشكّهم فيه ، واختلاف من اختلف من أهل القبلة ممّا شرعوا من الأديان ما لم يأذن به الله ، وادّعائهم على الله في ذلك الكذب ، وبقولهم في ذلك على الله ما لا يعلمون (٢).

قوله : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) : قال الحسن : للاختلاف ، وتلا هذه الآية : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) (٣) [النبأ : ١ ـ ٣]. ولا اختلاف اليوم أعظم وبالا ولا أشدّ فرقة ولا ادّعاء على الله من مختلفي أهل القبلة فيما شرعوا من أديانهم ، وتقوّلوا على الله من أباطيلهم. قال : ولذلك خلق أهل الرحمة لا يختلفون.

قوله : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) : أي وسبقت كلمة ربّك (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١١٩) : أي : من كلا الفريقين : الجنّ والإنس ، يعني الكفّار أهل النار. كقوله : (اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) (١٨)

__________________

(١) زيادة من تفسير مجاهد : ص ٣٠٩.

(٢) بعض هذه الجمل في هذه الفقرة والتي تليها من كلام الشيخ هود ولا شكّ ، وهي غير واردة في ز.

٢٥٢

[الأعراف : ١٨] أي : من كلا الفريقين ممّن عصى الله وارتكب الكبائر.

قوله : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) : فتعلم أنّ الأنبياء قد لقيت من الأذى ما قد لقيت. قوله : (وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُ) : قال بعضهم : وجاءك في هذه السورة الحقّ. وقال الحسن : في هذه الدنيا الحقّ. وتفسير مجاهد : في هذه السورة.

ذكروا أنّ أبا بكر قال : يا رسول الله ، ألا أراك قد شبت. قال : (شيّبتني هود والواقعة والمرسلات وعمّ يتساءلون وإذا الشمس كوّرت) (١).

قوله : (وَمَوْعِظَةٌ) : أي ما في القرآن من مواعظ. (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (١٢٠).

قوله : (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) : أي على ناحيتكم ، على كفركم. يخوّفهم العذاب إن ثبتوا على كفرهم (إِنَّا عامِلُونَ) (١٢١) : أي على ديننا (وَانْتَظِرُوا) : أي ما ينزل بكم من العذاب ، أي : الذين تقوم عليهم الساعة ، يعني آخر كفّار هذه الأمّة الدائنين بدين أبي جهل وأصحابه. (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (١٢٢) : أي : أن يأتيكم العذاب.

قوله : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي لا يعلم غيب السماوات والأرض إلّا هو. وهو مثل قوله : (يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الفرقان : ٦] (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) : أي يوم القيامة (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (١٢٣) : لا يغفل ، ولا تخفى عليه خافية.

__________________

(١) أخرجه الترمذيّ في سننه في تفسير سورة الواقعة بهذا اللفظ عن ابن عبّاس ، وقال : «هذا حديث حسن غريب». وأخرجه ابن سعد في الطبقات ، وأبو نعيم في الحلية ، ورواه الطبرانيّ بلفظ : «شيّبتني هود وأخواتها».

٢٥٣

تفسير سورة يوسف وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) (١) : قد فسّرناه في غير هذا الموضع. (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) : أي بلسان عربيّ مبين (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٢) : أي لكي تعقلوا ما فيه فتؤمنوا به.

قوله : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) : من الكتب الماضية وأمور الله السالفة في الأمم (١) (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) : [أي : بوحينا إليك هذا القرآن] (٢) (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ) : أي من قبل أن ينزل عليك القرآن (لَمِنَ الْغافِلِينَ) (٣) : وهو كقوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) [الشورى : ٥٢] ، وكقوله : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) (٧) [الضحى : ٧].

قوله : (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (٤).

فتأوّلها يعقوب أنّ إخوة يوسف ، وكانوا أحد عشر رجلا ، وأبويه سيسجدون له ؛ أعلمه الله بذلك. فإخوته هم الأحد عشر كوكبا ، والشمس والقمر أبواه.

(قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) : يقول : يحسدوك ، ظنّا منه ؛ فكان حقّا ، كما ظنّ. (إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٥) : أي بيّن العداوة للإنسان.

(وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) : أي يصطفيك ويختارك للنبوّة. وهذا شيء أعلمه الله

__________________

(١) جاءت العبارة مضطربة في أغلب النسخ المخطوطة فأثبتّ التصحيح من ز ، ورقة ١٥٢ ، ومن تفسير الطبريّ ، ج ١٥ ص ٥٥١ ـ ٥٥٢ ، ونسب هذا القول فيهما لقتادة.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ١٥٢. و «ما» مصدريّة هنا.

٢٥٤

يعقوب عليه‌السلام ، أنّ الله سيعطي يوسف النبوّة.

قوله : (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) : قال مجاهد : تفسير الرؤيا. وتفسير الحسن : عواقب الأمور التي لا تعلم إلّا بوحي النبوّة. (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) : أي بالنبوّة. (وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) : فأعلمه أنّه سيعطي ولد يعقوب كلّهم النبوّة. (كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) : قال بعضهم : حيث أراد ذبحه ، في قول من قال : إنّه إسحاق ، ففداه الله بكبش. (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٦) : أي : عليم بخلقه ، حكيم في أمره.

قوله : (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) (٧) : أي : عبرة لمن كان سائلا عن حديثهم.

قوله : (إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) : أي : جماعة (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٨) : أي من الرأي ، أي : في حبّ يوسف وأخيه ، وليس يعنون في ضلال في الدين. ولم يكونوا يوم قالوا هذه المقالة أنبياء ، وقد كانوا مسلمين.

قوله : (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) (٩) : تفسير الحسن قال : يعنون في الدنيا ، أي : في صلاح الدنيا (١) ، وليس يعنون صلاح الدين. وبعضهم يقول : وتتوبون من بعد قتله ، فتكونون قوما صالحين.

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) : قال بعضهم : هو روبيل ، وكان أكبر القوم ، وهو ابن خالة يوسف ، وهو الذي قال : (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) [يوسف : ٨٠]. وقال مجاهد : كبيرهم شمعون ، وأكبر منه في [الميلاد] (٢) روبيل.

__________________

(١) كذا في المخطوطات الأربع. ولكن جاء في ز ، ورقة ١٥٢ تفسير آخر للحسن هذا نصّه : «يعنون : تصلح منزلتكم عند أبيكم في تفسير الحسن». وهذا تأويل ورد في كثير من كتب التفسير.

(٢) في ق وع : «البلاد» ، وفي ج ود : «التيلاد» (كذا). فإذا كانت هذه الكلمة الأخيرة تصحيفا للتلاد ، وهو المال القديم ، فينبغي أن يكون الوصف هكذا : «وأكثر منه في التلاد». وقد أثبتّ التصحيح ممّا يأتي في تفسير الآية ـ

٢٥٥

(لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) : أي في بعض نواحيها (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) : أي بعض مارّة الطريق (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) (١٠) ولا تقتلوه.

(قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١٢) : وهي تقرأ على وجهين : بالياء والنون. فمن قرأها بالياء فهو يعني يوسف ، يقول : (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ). ومن قرأها بالنون فهو يعني جماعتهم.

وقراءة الحسن بالياء ، وقراءة مجاهد بالنون. وقال مجاهد : تفسير (نرتع ونلعب) أي : ننشط ونلهو (١).

قوله : (قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) (١٣) (قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) : (٢) أي جماعة (إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) (١٤) : أي إنّا إذا لعجزة.

قال الله : (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) : ففعلوا وألقوه في الجبّ (٣). (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) : قال مجاهد : إلى يوسف. قال الحسن : أعطاه الله النبوّة وهو في الجبّ. وقال بعضهم : هو إلهام (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١٥) : أي أنّك يوسف. ولم يكن إخوة يوسف يومئذ أنبياء ، وإنّما أوتوا النبوّة بعد ذلك ، وهم الأسباط.

وقال بعضهم : أتاه وحي الله وهو في البئر بما يريدون أن يفعلوا به ، (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي : بما أطلع الله عليه يوسف من أمرهم.

__________________

ـ ٨٠ من هذه السورة ، عند قوله تعالى : (قالَ كَبِيرُهُمْ ، أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ).

(١) وقراءتنا وقراءة أهل المدينة بالياء وكسر العين ، و (يلعب) بالياء أيضا. قال ابن أبي زمنين في ز ورقة ١٥٢ :«كأنّهم قالوا : يرعى ماشيته ويلعب فيجمع النفع والسرور».

(٢) قال ابن أبي زمنين : «يقال : العصبة من العشرة إلى الأربعين». وهو قول نسب إلى ابن عبّاس في بعض التفاسير.

(٣) جعل الطبريّ في تفسيره ، ج ١٥ ص ٥٧٤ قوله (أجمعوا) هو جواب (لمّا) دخلت عليه الواو. ورأى الزمخشريّ في الكشّاف ، ج ٢ ص ٤٤٩ أنّ جواب (لمّا) محذوف تقديره : «فعلوا ما فعلوا به من الأذى».

٢٥٦

قوله : (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) : أي بمصدّق لنا (وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) (١٧) : أي ولو صدقناك.

(وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) : أي لطّخوا قميصه بدم سخلة ، قال مجاهد : سخلة شاة. (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أي زيّنت لكم أنفسكم أمرا (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي ليس لي فيه جزع ، في تفسير مجاهد. (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) (١٨) : أي ما تكذبون.

قال الحسن : فعلم يعقوب ، بما أعلمه الله ، أنّ يوسف حيّ ، ولكن لا يعلم أين هو.

وذكروا عن الحسن أنّه قال : لمّا جيء بقميص يوسف إلى يعقوب ، نظر إليه فلم ير شقّا ولا خرقا ، وقال : ما كنت أعهد الذئب حليما [أكل ابني وأبقى على قميصه] (١).

قوله : (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ) : الذي يرد الماء ليستقي للقوم (٢).

وقال بعضهم : (واردهم) : رسولهم. (فَأَدْلى دَلْوَهُ) : أي في الجبّ ، وهي بئر بيت المقدس. فلمّا أدلى دلوه تشبّث بها يوسف.

قال الحسن : ف (قالَ) : الذي أدلى دلوه في البئر : (يا بُشْرى هذا غُلامٌ) : يقول لصاحبه : البشرى! قال له صاحبه : ما وراءك؟ قال : هذا غلام ، فأخرجوه. وقال بعضهم : (يا بُشْرى هذا غُلامٌ) ، أي : تباشروا به حين أخرجوه (٣).

قوله : (وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) (١٩) : قال بعضهم : أخفوه من

__________________

(١) زيادة من تفسير الطبري ، ج ١٥ ص ٥٨١ أثبتّها لإيضاح هذا المعنى الطريف.

(٢) في المخطوطات الأربع : «واردهم ، الذي يستقي لهم الماء». وأثبتّ ما في ز ورقة ١٥٣ ، فهو أدقّ تعبيرا ، وأدلّ على أصل الكلمة اللغويّ.

(٣) وقيل : نادى المدلي دلوه صاحبا له من السيّارة كان يسمّى بشرى ، وهذا على قراءة من قرأ الكلمة بدون إضافة. وهو قول نسب إلى السدّيّ كما في تفسير الطبريّ ، ج ١٦ ص ٣.

٢٥٧

أصحابهم ، وقالوا : هو بضاعة استبضعناه أهل الماء لنبيعه لهم بمصر.

وقال بعضهم : كان إخوة يوسف ، وهم عشرة ، قريبا منهم حين أخرجوه من الجبّ ؛ فجاءوا فقالوا : هذا غلام لنا أبق منّا ، فباعوه منهم ، فهم الذين أسرّوه بضاعة فباعوه.

وقال مجاهد : وأسرّوه بضاعة ، أي : صاحب الدلو ومن كان معه قالوا لأصحابهم : إنّما استبضعناه ، مخافة أن يستشركوهم فيه إن علموا بثمنه. قالوا : إنّما استبضعناه ، لإخوته معه يقولون : استوثقوا منه لا يأبق حتّى تبيعوه بمصر. وقال يوسف : من يبتاعني فليبشر (١).

قوله : (وَشَرَوْهُ) : أي باعوه (بِثَمَنٍ بَخْسٍ) : أي ظلم ، أي حرام ولم يكن يحلّ بيعه (٢) (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) : قال مجاهد : باعوه باثنين وعشرين درهما.

قال الكلبيّ : المعدودة ما كان دون الوقية (٣) والوقيّة أربعون درهما ، فما دون الوقيّة فهو معدود ، لا يوزن.

قوله : (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) (٢٠) : أي الذين التقطوه. وزهادتهم فيه أنّهم لم يكونوا يعرفون منزلته من الله ، فباعوه من ملك مصر.

قوله : (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ) : أي منزلته (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) : أي نتبنّاه. قال الحسن : يقول : نتبنّاه.

__________________

(١) كذا في ق وع : «فليبشر» ، وهو الصحيح ، وفي ج ود : «فليشتر». وهو تصحيف.

(٢) كذا في المخطوطات ، وفي ز ورقة ١٥٣ : «بخس أي حرام لم يكن يحلّ بيعه)». والحقّ أنّ كلمة البخس نفسها لا تفيد معنى الحرمة. قال أبو عبيدة في معاني القرآن ، ج ١ ص ٣٠٤ : «بخس : أي : نقصان ، ناقص ، منقوص. يقال : بخسني حقّي ، أي : نقصني ، وهو مصدر بخست ، فوصفوا به ، وقد تفعل العرب ذلك».

(٣) في المخطوطات : «الوقية» وأصح منها : «الأوقية» ، والوقية قليلة الاستعمال وهي لغة عامّيّة ، ووزنها في القديم أربعون درهما. انظر اللسان : (وقى) ، و (أوق) ، وانظر صحاح الجوهري : (وقى). أمّا وزنها بمقياس الميزان العصريّ فهو حوالي مائة وعشرين غراما. وانظر إن شئت جدول المكاييل والمقاييس في قواعد الإسلام للجيطالي ، ج ٢ ص ٣٠ ، والجدول من وضع محقّق الكتاب المرحوم الشيخ عبد الرحمن بكلّي.

٢٥٨

قال الله : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) : يعني أرض مصر وما أعطاه الله وما مكّنه (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) : قال مجاهد : تعبير الرؤيا. (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) : هو مثل قوله : (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) [الطلاق : ٣] (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٢١) : وهم المشركون.

قوله : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) : [يقال : بلغ عشرين سنة] (١) (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) : قال الحسن : أعطي الرسالة عند هذه الحال ، وقد كان أعطي النبوّة قبل ذلك في الجبّ. (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٢٢).

قوله : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ) : أي : امرأة العزيز (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) أي : هلمّ لك. وهي تقرأ على وجه آخر : (هَيْت لَكَ) أي : تهيّأت لك (٢) (قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي) أي سيّدي ، يعني العزيز (أَحْسَنَ مَثْوايَ) : أي أكرم منزلتي (٣). (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (٢٣). ذكروا أنّ أوّل ما قالت : يا يوسف ، ما أحسن شعرك! قال : أما إنّه أوّل شيء يبلى منّي.

قوله : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) : أي ما أرادته به على نفسها حين اضطجعت له (وَهَمَّ بِها) : أي حلّ سراويله (٤). قال : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ).

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ١٥٣.

(٢) أشار بعض المفسّرين إلى هذا المعنى ، وقد أنكره أبو عمرو بن العلاء إنكارا شديدا كما أخبر به أبو عبيدة معمر في مجاز القرآن ، ج ١ ص ٣٠٥ ـ ٣٠٦ ، ونقله عنه الطبريّ ، وذكر مختلف قراءات اللفظة في تفسيره ، ج ١٦ ص ٢٥ ـ ٣١.

(٣) كذا جاء تفسير كلمة «مثواي» ، و «مثواه» قبلها ، بالمنزلة ، وكذلك جاءت منسوبة إلى قتادة في تفسير الطبريّ ، ج ١٦ ص ١٨. وأصحّ من ذلك وأدقّ تعبيرا أن يقال عن الأولى ما ذكره الطبريّ : «أكرمي موضع مقامه وذلك حيث يثوي ويقيم فيه». وإنّ المثوى هو المنزل والمقام ، كما ذكره ابن قتيبة في تفسير غريب القرآن ، ص ٢١٤ ، والزمخشريّ في الكشّاف ، ج ٢ ص ٤٥٤. وقال البخاريّ في كتاب التفسير تفسير سورة يوسف : «مثواه مقامه».

(٤) كذا في المخطوطات وفي ز ورقة ١٥٣. وهو منكر من القول وزور. وقد وردت في كتب التفسير أقوال ـ

٢٥٩

ذكروا عن الحسن أنّه قال : زعموا أنّه رأى يعقوب في صورته قد فرّج عنه سقف البيت عاضّا على إصبعه. وكذلك قال غيره. قال مجاهد : مثّل له يعقوب فاستحى منه. وقال بعضهم : قد مثّل له يعقوب ، قد فرج سقف البيت ، مشرفا عليه ، فصرف الله عنه وأذهب كلّ شهوة كانت في مفاصله. وفي تفسير الكلبيّ : إنّه ملك تشبّه بيعقوب.

قال الله : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (٢٤) : يعني أنّه نبيّ أخلص بالنبوّة.

قال بعضهم : فولّى هاربا فاتّبعته (وَاسْتَبَقَا الْبابَ) : فسبقها إلى الباب ليخرج (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) : أي : شقّته من خلفه. (وَأَلْفَيا سَيِّدَها) : أي زوجها. ولو لم يعلم حقّ الزوج وحرمته ، إلّا أنّ الله سمّاه سيّدا ، أي : سيّدا للمرأة. قال : (وَأَلْفَيا سَيِّدَها). (لَدَى الْبابِ) : أي عند الباب.

(قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً) : تعني الفاحشة (إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢٥) : أي موجع.

(قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي). قال : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) : أي من أهل المرأة. قال بعضهم : أخوها ، وقال بعضهم : ابن عمّها. فجعله العزيز بينهما حكما ، فقضى بينهما بالحقّ.

قال : (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ

__________________

ـ مختلفة في همّ يوسف ، نسب بعضها إلى ابن عبّاس ؛ فراحت أخيلة القصّاص والأكاذيب الإسرائيليّة تنسج أخبارا ما أنزل الله بها من سلطان ، ولا ثبت فيها عن الصادق المصدوق حديث صحيح. والذي يليق بكلّ مسلم أن يؤمن بما دلّ عليه اللفظ القرآنيّ مجملا مع تنزيه الأنبياء عمّا لا يليق بمقامهم ؛ فهم المصطفون الأخيار. والهمّ لا يعدو أن يكون حديثا نفسيّا ، أو خاطرا عابرا ، لا يتعدّيان إلى حركات أو أعمال بالجوارح. ونعوذ بالله من سيّئات الظنون!. انظر في هذا الموضوع ، على سبيل المثال مناقشة قيّمة ردّ بها الفخر الرازي على بعض الروايات الزائفة وذلك في التفسير الكبير ، ج ١٨ ص ١١٤ ـ ١١٩.

٢٦٠