تفسير كتاب الله العزيز - ج ٢

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٢

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٣

ثمّ قال : (ساءَ مَثَلاً) : أي : بئس المثل مثل : (الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) (١٧٧).

قوله : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١٧٨) : أي : خسروا أنفسهم فصاروا في النار وخسروا الجنّة.

قوله : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) : (ذرأنا) أي : خلقنا لجهنّم في تفسير الحسن وغيره (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) الهدى (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) الهدى (وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) الهدى (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) من الأنعام فيما تعبّدوا به (أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (١٧٩) عن الآخرة.

قوله : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) : ذكر بعضهم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ لله تسعة وتسعين اسما ، مائة غير واحد ، من أحصاها دخل الجنّة (١). قال الحسن : منها «الله» ومنها «الرّحمن». قال : (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) : أي الذين يكذبون في أسمائه.

قال الكلبيّ : من أسمائه : الله والرحمن والرحيم والعزيز وأشباه هذا ؛ قال : (فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه) ، أي يميلون في أسمائه ، فسمّوا مكان الله اللات ، ومكان العزيز العزّى ، يعبدون اللات والعزّى. كلّ ذلك نهى الله عنه. نهاهم أن يسمّوا آلهتهم بشيء من أسمائه.

قال : (سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٨٠) و (ذروا) في هذا الموضع منسوخ نسخه القتال (٢).

قوله : (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ) : أي عصابة ، أي جماعة (يَهْدُونَ بِالْحَقِ) : أي يهتدون

__________________

(١) حديث متّفق على صحّته ، أخرجه البخاريّ في كتاب الدعوات ، باب : لله مائة اسم غير واحد. وأخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ، وأخرجه الترمذيّ كذلك ، كلّهم يرويه عن أبي هريرة.

(٢) انظر في تفسير الطبري ، ج ١٣ ، ص ٢٨٥ ، كيف يردّ الطبريّ ردّا محكما على من قال بالنسخ هنا.

٦١

بالحقّ (وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (١٨١) : أي بالحقّ يعدلون ، أي يحكمون. قال الكلبيّ : يعني الذين أسلموا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل الكتاب.

وذكر بعضهم قال : ذكر لنا أنّ نبيّ الله عليه‌السلام قال : هذه لكم ، وقد أعطى الله القوم بين أيديكم مثلها (١) ؛ يعني قوله : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (١٥٩) [الأعراف : ١٥٩].

قوله : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) (١٨٢) : هو كقوله : (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) (٤٤) [الأنعام : ٤٤]. وكقوله : (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٣٠) [الأنفال : ٣٠]. وقد فسّرناه في غير هذا الموضع في هذه السورة وفي سورة الأنعام (٢). قوله : (وَأُمْلِي لَهُمْ) : أي [وأطيل لهم] (٣) (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (١٨٣) : أي عذابي شديد.

قوله : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) : وهذا جواب من الله للمشركين لقولهم للنبيّ عليه‌السلام إنّه مجنون. يقول : لو تفكّروا لعلموا أنّه ليس بمجنون (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ) : ينذر عذاب الله (مُبِينٌ) (١٨٤) : يبيّن عن الله.

قوله : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي ما أراهم الله من آياته فيهما (وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) : ممّا يرونه ، فيتفكّروا فيعلموا أنّ الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يحيي الموتى. قال : (وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) : فيبادروا للتوبة قبل الموت. (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ) : أي بعد القرآن (يُؤْمِنُونَ) (١٨٥) : أي يصدّقون.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير الطبريّ في تفسيره ، ج ١٣ ص ٢٨٦ ، عن قتادة مرسلا. وكذلك أورده يحيى بن سلّام عن قتادة مرسلا حسبما أورده ابن أبي زمنين في مخطوطة ز ، ورقة ١١٣.

(٢) انظر ما مضى من هذا التفسير ج ١ ، تفسير الآية ٤٤ من سورة الأنعام.

(٣) زيادة من ز ، ورقة : ١١٣.

٦٢

قوله : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١٨٦) : قال الحسن : في ضلالتهم يتمادون. وقال غيره : في ضلالتهم يلعبون.

قوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) : أي متى قيامها في قول الكلبيّ. وقال الحسن : متى مجيئها.

قال : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) : أي إنّما علم مجيئها عند ربّي (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها) : أي [لا يظهرها في وقتها] (١) الذي وقت (إِلَّا هُوَ) : قال مجاهد : لا يأتي بها إلّا هو.

قال : (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : ذكروا عن عبد الله بن القاسم بن يسار (٢) مولى أبي بكر الصدّيق ، رضي الله عنه قال : إنّ الوحي إذا نزل سمع أهل السماوات ، قال بعضهم : مثل جرّ السلاسل على الصخور ، قال : فيفزعون ويخافون أن تكون الساعة. فإذا انجلى الخوف عن قلوبهم قال أهل كلّ سماء لأهل السماء الذين فوقهم : ماذا قال ربّكم؟ فيقولون الحقّ ، يعنون الوحي ، وهو العليّ الكبير. فلا يزال ذلك من سماء إلى سماء حتّى ينتهي إلى السماء الدنيا. وهو قوله في سورة سبأ [الآية : ٢٣] : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) أي انجلى عن قلوبهم (قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (٢٣). وقد قال في آية أخرى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) [الشورى : ١٨].

وقال الحسن : ثقلت على أهل السماوات حتّى تشقّقت لها السماوات ، وانتثرت لها النجوم ، وذهب الشمس والقمر ، وعلى الأرض ، حتّى ذهبت جبالها وذهبت بحارها.

قوله : (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) : أي فجأة. ذكر بعضهم قال : قضى الله لا تأتيكم إلّا بغتة.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه ، فما

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ١١٣.

(٢) هو عبد الله بن القاسم بن يسار المدني. وردت الرواية عنه في حروف القرآن ، ذكره ابن الجزري في غاية النهاية في طبقات القرّاء ، ج ١ ص ٤٤١.

٦٣

يطويانه حتّى تقوم الساعة. وتقوم الساعة والرجل يخفض ميزانه ويرفعه ، وتقوم الساعة والرجل يليط (١) حوضه ليسقي ما شيته فما يسقيها حتّى تقوم الساعة. وتقوم الساعة والرجل قد رفع أكلته إلى فيه ، فما تصل إلى فيه حتّى تقوم الساعة (٢).

قوله : (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) : فيها تقديم : يسألونك عنها ، يعني الساعة متى قيامها ، كأنّك حفيّ بهم. وقال الكلبيّ : كأنّك بينك وبينهم صداقة ، وهو واحد.

وذكر بعضهم عن مجاهد أنّه قال : كأنّك استحفيت عنها السؤال حتّى علمتها. ومن قال بهذا فليس فيها على هذا التفسير تقديم. قال الحسن : يعني قريشا ؛ يقول : تعلّمهم ما لا تعلّم غيرهم ، أي : لقرابتهم منك. قال الكلبيّ : كأنّك عالم بها ؛ وهي عنده مقدّمة.

وقال بعضهم : قالت قريش : يا محمّد ، أسرّ إلينا أمر الساعة لما بيننا وبينك من قرابة. فقال الله : (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) ، أي كأنّك حفيّ بهم. قال : وهي في هذا التفسير مقدّمة : يسألونك عنها كأنّك حفيّ بهم (٣).

قال : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (١٨٧) : ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : خمس لا يعلمهنّ إلّا الله : ((إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ

__________________

(١) لاط حوضه يليطه ويلوطه ، أي طيّنه وأصلحه لسقي ماشيته. انظر اللسان : (لوط).

(٢) أخرجه البخاريّ في كتاب الرقاق ، باب طلوع الشمس من مغربها ، من حديث أبي هريرة وأوّله : «لا تقوم الساعة حتّى تطلع الشمس من مغربها» وفيه : «... ولتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ، ولتقومنّ الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه ، ولتقومنّ الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها». وأخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة ، باب قرب الساعة (٢٩٥٤) عن أبي هريرة ، وفي ألفاظه : «والرجل يلط في حوضه فما يصدر حتّى تقوم».

(٣) قال ابن قتيبة في تفسير غريب القرآن ، ص ١٧٥ : «(حفيّ عنها) أي : معنيّ بطلب علمها ، ومنه يقال : تحفّى فلان بالقوم».

٦٤

عَلِيمٌ خَبِيرٌ). [لقمان : ٣٤] (١).

قوله : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ) : أي إنّما ذلك بما شاء الله (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) : أي : لو أطلعني الله على أكثر ممّا أطلعني عليه من الغيب لكان أكثر لخيري عنده (٢) ؛ ولم يطلعني الله على علم الساعة متى قيامها.

قوله : (وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) : هذا جواب لقول المشركين : إنّه مجنون ؛ فقال الله له : قل : (وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) أي الجنون ، كقولهم لنوح عليه‌السلام : (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) [هود : ٥٤] أي بجنون. (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ) : أي من العذاب (وَبَشِيرٌ) : بالجنّة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١٨٨) : وهذا تبع للكلام الأوّل : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ).

قوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) : أي آدم (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) : يعني حوّاء من ضلعه القصيرى اليسرى وهو نائم (لِيَسْكُنَ إِلَيْها).

قال : (فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ) : أي [استمرّ بها الحمل فأتمّته] (٣). (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) : قال بعضهم : استبان حملها ، أي فاشتهر بها الحمل. (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما) : أي : آدم وحوّاء (لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً) : أي غلاما (٤) (لَنَكُونَنَّ مِنَ

__________________

(١) أخرجه أحمد عن بريدة مرفوعا بهذا اللفظ. وأخرجه البخاريّ في كتاب الاستسقاء ، باب : لا يدري متى يجيء المطر إلّا الله. وقال أبو هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خمس لا يعلمهنّ إلّا الله». وفي الباب عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مفاتح الغيب خمس لا يعلمهنّ إلّا الله ...».

(٢) هذا وجه من وجوه التأويل ؛ وقال الفرّاء في تفسير الآية في معاني القرآن ، ج ١ ص ٤٠٠ : «يقول : لو كنت أعلم الغيب لأعددت للسنة المجدبة من السنة المخصبة ، ولعرفت الغلاء فاستعددت له في الرخص. هذا قول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم». وانظر : تفسير الطبري ، ج ١٣ ص ٣٠٢.

(٣) زيادة من مجاز القرآن لأبي عبيدة ، ج ١ ص ٢٣٦.

(٤) قال ابن سلّام في كتاب التصاريف ، ص ٢٨٠ في تفسير معنى الصلاح : «لئن أعطيتنا ولدا سويّ الخلق في صورة البشر».

٦٥

الشَّاكِرِينَ) (١٨٩) : أي لأنعمك.

قال الله : (فَلَمَّا آتاهُما) : أي أعطاهما (صالِحاً) : أي غلاما (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) : قال لهما إبليس : سمّياه عبد الحارث ، فسمّياه عبد الحارث ؛ فكان شركا في طاعة إبليس في تسميتهما إيّاه عبد الحارث ، ولم يكن شركا في عبادة ، في تفسير بعضهم. انقضت قصّة آدم وحوّاء من هذا الموضع.

قال : (فَتَعالَى اللهُ) : أي ارتفع الله وعلا ، من قبل العلوّ (عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١٩٠).

وقال الكلبيّ : (حملت حملا خفيفا) يعني حوّاء. (فمرّت به) أي قامت به وقعدت. ثمّ أتاها الشيطان في غير صورته فقال : يا حوّاء ، ما هذا في بطنك؟ فقالت : لا أدري. قال : لعلّه بهيمة من هذه البهائم. قالت : لا أدري. فأعرض عنها. حتّى إذا أثقلت أتاها ، فقال لها : كيف تجدين نفسك يا حوّاء؟ قالت : إنّي أخاف أن يكون في بطني الذي خوّفتني ؛ ما أستطيع القيام إذا قعدت. فقال : أفرأيت إن دعوت الله فجعله إنسانا مثلك ، أو مثل آدم ، أتسمّينه بي؟ قالت : نعم. فانصرف عنها. فقالت لآدم : إنّ الذي في بطني بهيمة من هذه البهائم ، وإنّي لأجد له ثقلا. ولقد خفت أن يكون كما قال ، [فلم يكن لآدم ولا لحوّاء همّ غيره] (١) حتّى وضعت. فذلك قوله : (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ ـ آتَيْتَنا صالِحاً) أي : إنسانا (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ). كان هذا دعاءهما قبل أن تلد. فلمّا ولدت أتاها إبليس فقال : ألا تسمّينه بي كما وعدتني؟ قالت : وما اسمك؟ قال : اسمي عبد الحارث. فسمّته عبد الحارث ، فمات. يقول الله : (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما). ثمّ انقضت قصّة آدم وحوّاء هاهنا. ثمّ قال الله : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) يعني المشركين من بني آدم.

قوله : (أَيُشْرِكُونَ) : أي : أيشركون بالله ، على الاستفهام ، أي قد فعلوا. (ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً) : يعني الأوثان. (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) (١٩١) : كقوله : (قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (٩٦) [الصافّات : ٩٥ ـ ٩٦] أي بأيديكم ، يعني أصنامهم. قال : (وَلا

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ١١٤. لا بدّ من إثباتها حتّى يستقيم المعنى.

٦٦

يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً) : أي ولا تستطيع الأوثان أن تنصر من عبدها. (وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) (١٩٢) : أي : ولا تنصر الأوثان أنفسها. قال في آية أخرى : (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ) أي الوثن (وَالْمَطْلُوبُ) (٧٣) [الحج : ٧٣] أي الذباب.

قال : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى) : يعني المشركين (لا يَتَّبِعُوكُمْ) : أخبر بعلمه فيهم. (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) (١٩٣) : وهو كقوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٦) [البقرة : ٦].

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) : يقوله للمشركين ، يعني أوثانهم (عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) : أي مخلوقون (فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٩٤) أنّهم آلهة.

ثمّ قال : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها) : على الاستفهام ، يعني الأوثان (أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) : أي : إنّه ليس لهم شيء من هذا ، كقوله : (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) [النحل : ٢١] (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) : يعني أوثانكم التي أشركتموها بالله. (ثُمَّ كِيدُونِ) : أنتم وأوثانكم (فَلا تُنْظِرُونِ) (١٩٥) : أي : اجهدوا عليّ جهدكم (١).

قال : (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ) : أي : القران ، وأولياؤكم أنتم أيّها المشركون الشياطين. قال : (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) (١٩٦) : أي : يتولّى المؤمنين ، وهو وليّهم.

(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) : يعني الأوثان (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ) : من عذاب الله (وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) (١٩٧) : ثمّ قال : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى) : يعني المشركين (لا يَسْمَعُوا) : أي : الحجّة ، لا يسمعونها سمع قبول ، وقد سمعوها باذانهم

__________________

(١) انظر لزيادة الإيضاح تفسير الطبريّ ، ج ١٣ ص ٣٠٣ ـ ٣١٧. وانظر : ابن قتيبة ، تأويل مشكل القران ، ص ٢٥٨ ـ ٢٥٩.

٦٧

وقامت عليهم الحجّة. (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) : يعني النبيّ عليه‌السلام (وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (١٩٨) : يعني الحجّة.

قوله : (خُذِ الْعَفْوَ) : ذكروا عن عبد الله بن الزبير قال : خذ العفو من أخلاق الناس. [وقال مجاهد : يقول : خذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم بغير تجسّس] (١).

وقال الحسن : خذ العفو من المؤمنين من أنفسهم ما لا يجهدهم ، يعني الصدقة. والعفو : الفضل عن نفقتك ونفقة عيالك. وكان هذا قبل أن تفرض الزكاة.

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ، وابدأ بمن تعول ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، ولا يلوم الله على الكفاف (٢).

وقال الكلبيّ : (خذ العفو) أي : ما عفا من أموالهم ، وهو الفضل ، وذلك قبل أن تفرض الزكاة.

قوله : (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) : أي بالمعروف (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (١٩٩) : أي عن المشركين. الجاهلون ههنا المشركون (٣). قال بعضهم : نسخها القتال.

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ١١٤ ، ومن تفسير مجاهد ، ص ٢٥٣. وقال ابن أبي زمنين : «العفو في كلام العرب ما أتى بغير كلفة».

(٢) حديث صحيح أخرجه البخاريّ في كتاب النفقات ، باب وجوب النفقة على الأهل والعيال عن أبي هريرة. وانظر ما مضى من هذا التفسير ، ج ١ ، تفسير الآية ٢١٩ من سورة البقرة.

(٣) هذا القول لا يقبل على ظاهره ، فإنّ للجهل معاني كثيرة. والجهل هنا إلى معنى السفه والحمق وسوء الأخلاق أقرب. وأكاد أجزم أنّ صفة الجهل هنا لا تعني الشرك ، وقد تكون من معانيه في سياق آخر. وأقول إنّه لا نسخ في الآية ؛ فإنّ هذه الآية عامّة فيما أدّب الله به نبيّه ، وأدّبنا به بالتبع ، من الأدب العالي والسلوك الحسن حتّى قيل : «ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها». يدلّ على ذلك قصّة عيينة بن حصن الفزاريّ التي رواها البخاريّ في كتاب التفسير عن ابن عبّاس قال : «إنّ الحرّ بن قيس استأذن لعمّه عيينة بن حصن على عمر بن الخطّاب ، فأذن له. فلمّا دخل عليه قال له عيينة : هي يا ابن الخطّاب ، فو الله ما تعطينا الجزل ، ولا تحكم بيننا بالعدل. فغضب عمر حتّى همّ أن يوقع به. فقال له الحرّ : يا أمير المؤمنين ، إنّ الله تعالى قال لنبيّه : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) ، وإنّ هذا من الجاهلين. والله ما ـ

٦٨

قوله : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) : قال بعضهم : الغضب. وقال الحسن : وساوسه. (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢٠٠).

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ) : ذكروا أنّ مجاهدا قال : الطائف الغضب. وقال الحسن : الطائف من الطّوفان ، أي : يطوف عليهم الشيطان بوساوسه ؛ يأمرهم بالمعصية ، فتقبل وساوسه من معاصي الله. قال : (تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) (٢٠١) : أي تائبون من المعصية (١).

قال : (وَإِخْوانُهُمْ) : يعني من الشياطين (يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ) : يمدّون المشركين في الغيّ استجهالا (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) (٢٠٢) : عن هلكتهم (٢).

وبلغنا عن الحسن أنّه قال : الناس في الغضب أربعة : رجل بطيء الغضب سريع الرضا ؛ فذلك له ولا عليه ، ورجل سريع الغضب سريع الرضا ؛ فذلك لا له ولا عليه ، ورجل بطيء الغضب بطيء الرضا ؛ فذلك أيضا لا له ولا عليه ، ورجل سريع الغضب بطيء الرضا ؛ فذلك عليه ولا له.

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الغضب جمرة من نار توقد في جوف ابن

__________________

ـ جاوزها عمر حين تلاها عليه ، وكان وقّافا عند كتاب الله».

فلم يكن عيينة بن حصن حينئذ مشركا ، فقد أسلم زمن الفتح ، وكان من المؤلّفة قلوبهم ، ولكنّه كان أحمق سفيها. وصدق فيه قول ابن أخيه : إنّه من الجاهلين. فقد روى أنّه دخل يوما على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيته ، وعائشة جالسة معه ـ وذلك قبل أن ينزل الحجاب ـ فسألت عائشة النبيّ عليه‌السلام عن الرجل فقال عليه‌السلام : هذا أحمق مطاع ، وهو على ما ترين سيّد قومه. انظر : صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، آخر سورة الأعراف. وانظر : ابن عبد البرّ ، الاستيعاب ، ج ٣ ص ١٢٤٩.

(١) في المخطوطات تقديم وتأخير وتكرار في تفسير هذه الآية ، صحّحت كلّ ذلك من ز ، ورقة ١١٤.

(٢) كذا في ق ، وع ، ود. وفي ز ورقة ١١٤ : «وإخوانهم يعني إخوان المشركين» ، وأثبتّ ما جاء في تفسير مجاهد ، ص ٢٥٤. وقد اختلف المفسّرون في هذه الهاء والميم في (إخوانهم) هل هي عائدة على المشركين ، أو هي راجعة إلى المتّقين ؛ ولكلّ تفسير وجه مقبول من التأويل. انظر تفصيل ذلك في تفسير ابن الجوزي ، زاد المسير ، ج ٣ ص ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

٦٩

آدم ؛ ألم تر إلى حمرة عينيه ، وانتفاخ أو داجه ؛ فإذا غضب أحدكم فإن كان قاعدا فليلزم الأرض ، وإن كان قائما فليجلس (١).

قوله : (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) : أي : لولا تلقّيتها من الله (٢) ، في تفسير مجاهد. وقال بعضهم : (لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) أي : لولا جئت بها من قبلك. وذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أبطأ عنه الوحي ، قال له المشركون : لو لا اجتبيتها ، أي هلّا اجتبيتها من عندك فأتيت بهذا الوحي ، فإنّما تجيء به من عندك. وإذا أتاهم باية كذّبوا بها ، يعني باية من القرآن. وإذا أبطأ الوحي سألوا أن يأتيهم بآية.

قال الله : (قُلْ) : يا محمّد (إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) : ليس ذلك من عندي ، إنّما هو من عند الله (هذا بَصائِرُ) : يعني القرآن (مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٢٠٣).

قوله : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٢٠٤) : أي لكي ترحموا. قال بعضهم : ذلك في الصلاة ، وهو قول الحسن.

وقال الحسن : كانوا يتكلّمون في الصلاة حتّى نزلت هذه الآية. قال : وصارت سنّة بعد في غير الصلاة ، أن ينصت القوم إذا جلسوا لمن يقرأ عليهم القرآن.

قال الكلبيّ : بلغنا أنّهم كانوا ـ قبل أن تنزل هذه الآية ـ يتكلّم الرجل بالحاجة وهو في صلاته ، فيجيء الرجل إلى القوم وهم يصلّون ، فيقول : كم صلّيتم؟ فيقولون : كذا وكذا ،

__________________

(١) هذه الفقرة ، مع ما ذكر عن الحسن قبلها ، جمل من خطبة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رواها الترمذيّ عن أبي سعيد الخدريّ. وقال الترمذيّ : حديث حسن.

(٢) كذا في ق وع ود : «لولا تقلّيتها من الله» ، وهو قول لابن عبّاس وقتادة كما في تفسير الطبريّ ، ج ١٣ ، ص ٣٤٢. وفي تفسير مجاهد ، ص ٢٥٤ يقول : «لولا ابتدعتها من قبل نفسك». وفي معاني الفرّاء ، ج ١ ص ١٤٠٢ : «يقول : هلّا افتعلتها». وذكر الطبريّ في تفسيره ، ج ١٣ ، ص ٣٤٣ أنّه «حكى عن الفرّاء أنّه يقول : اجتبيت الكلام ، واختلفته ، وارتجلته ، إذا افتعلته من قبل نفسك». وأصل الاجتباء هو الاختيار والاصطفاء. انظر : اللسان (جبي).

٧٠

يسألهم عمّا فاته ، فأنزل الله هذه الآية.

قوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) : أي مخافة منه (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) : يقول : واذكره في نفسك أيضا بالغدوّ والآصال. والآصال العشيّات ، يعني صلاة مكّة ، حين كانت الصلاة ركعتين غدوة ، وركعتين عشيّة قبل أن تفرض الصلوات الخمس.

قال : (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) (٢٠٥) : أي عن الله وعن دينه.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) : يعني الملائكة (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (٢٠٦) : أي في الصلاة.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أطّت السماء وحقّ لها أن تئطّ ؛ ليس فيها موضع شبر إلّا وعليه ملك راكع أو ساجد ، أو مسبّح أو مهلّل ، أو معظّم لله (١).

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم عن حكيم بن حزام ، ولفظه : «بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أصحابه إذ قال لهم : هل تسمعون ما أسمع؟ قالوا : ما نسمع من شيء ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّى لأسمع أطيط السماء ، وما تلام أن تئطّ ؛ ما فيها من موضع شبر إلّا وعليه ملك ساجد أو قائم».

٧١

تفسير سورة الأنفال ، وهي مدنيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) : والأنفال الغنائم. (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ).

قال الحسن : كانت السريّة تسري ، فينفلهم الرسول ما شاء بعد الخمس.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ينفل في البدأة الربع ، وفي الرجعة الثلث ؛ فقيل لبعضهم : لم كان يجعل في الرجعة أكثر؟ قال : لأنّهم إذا رجعوا كانوا أشدّ لخوفهم.

ذكروا أنّ أبا إدريس [قال] (١) : إنّ الناس كانوا معسكرين ؛ فأتاهم أبو عبيدة بن الجرّاح حتّى بلغ حبيب بن مسلمة أنّ علجا من الروم يقال له بن (٢) توجّه نحو أرمينية ؛ لمطلبه فأدركه ، فقتله وأخذ سلبه. فوجد معه وقر خمسة أبغال ديباج ولؤلؤ من أصناف المتاع. فلمّا رجع قال له أبو عبيدة : أرنا ما جئت به. فقال : إنّما هو لي ، وأنا قتلته ، ولي سلبه. فقال له أبو عبيدة : ليس كذلك ، إنّما لك ما أعطيتك منه وطابت به نفسي. فقال :

أناشدك الله أن تظلمني وأن تأخذ منّي ما أعطاني الله ، حتّى ارتفعت أصواتهما. فسمعهما معاذ بن جبل ، فجاء فقال : يا حبيب بن مسلمة ، لا تسأل ما ليس لك. فقال حبيب : أليس يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من قتل قتيلا فله سلبه؟ (٣) فقال : إنّما قال ذلك في غزوة واحدة عام

__________________

(١) زيادة لا بدّ منها لتستقيم العبارة.

(٢) كذا في ج ود بياض قدر كلمتين ، وفي ق وع : «فقال له بأني قد توجه» (كذا) ولم أجد فيما بين بديّ من المصادر من روى هذه القصّة حتّى أتبيّن اسم العلج الروميّ ؛ ولعلّها ممّا انفرد بروايتها ابن سلّام ؛ ولم ترد في ز.

(٣) حديث متّفق على صحّته. أخرجه البخاريّ في كتاب الجهاد والسير ، باب من لم يخمس الأسلاب ، ومن قتل قتيلا فله سلبه. وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير ، باب استحقاق القاتل سلب القتيل (رقم : ١٧٥١). وأخرجه الربيع بن حبيب في مسنده في كتاب الجهاد (رقم ٤٦٧). وأخرجه مالك في الموطّأ ، باب ما جاء في السلب في النفل (رقم ٢٤) كلّهم يرويه عن أبي قتادة. ولفظه : «من قتل قتيلا له ـ

٧٢

حنين (١) ، ولم يقله لأبد. وسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : ذلك إلى الإمام ، إن شاء أعطى وإن شاء منع. وهو على ما يرى الإمام. فأخذه منه أبو عبيدة فخمّسه ، ثمّ أعطاه الخمس بعد الخمس (٢). فبلغ ما أعطي عشرة آلاف.

ذكروا عن الحسن أنّه قال : ما نفل الإمام فهو جائز.

ذكروا عن سعيد بن المسيّب أنّه قال : لا نفل بعد رسول الله. وقال سعيد بن المسيّب : إنّما ينفل الإمام في الخمس. معنى قوله : إنّ النبيّ كان ينفل الخمس من بعد الخمس ، ولا ينفل بعده إلّا في الخمس.

ذكروا عن ابن عمر أنّهم كانوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة ، فبلغت سهامهم اثني عشر بعيرا ، قال : ونفل كلّ إنسان منّا بعيرا سوى ذلك.

ذكروا عن الحسن أنّ رجلا سأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم زماما من شعر قبل أن تقسم الغنيمة ، فقال : سألتني زماما من نار ، فو الله ما كان لك أن تسألنيه ، وما كان لي أن أعطيكه ، ولو أعطيتكه لأعطيتك به زماما من نار (٣).

وأمّا قوله : (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) فيقول : ذلك كلّه لله ، وجعل حكمه إلى رسول الله (٤).

قوله : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ).

__________________

ـ عليه بيّنة فله سلبه».

(١) في المخطوطات الأربع : «عام خيبر» ، وهو تصحيف صوابه ما أثبتّه : «عام حنين».

(٢) كذا في د وج : «بعد الخمس» ، وهو أصحّ ، وفي ق وع : «بعد الخصم».

(٣) أورده السرخسيّ في شرح كتاب السير الكبير لمحمّد بن الحسن الشيبانيّ ، ج ٣ ، ص ٥٩٧. «عن أبي الأشعث الصنعانيّ قال : جاء رجل إلى النبيّ عليه‌السلام ومعه زمام من شعر ، فقال : مر لي بهذا الزمام ، فإنّه ليس لراحلتي زمام. فقال : سألتني زماما من نار. مالك أن تسألينه ، ومالي أن أعطيكه. فرمى به في المغنم».

(٤) سقط هذا السطر كلّه من د وج.

٧٣

قال الكلبيّ : بلغنا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا صافّ المشركين يوم بدر ، قال ليحرض الناس على القتال : إنّ الله وعدني أن يفتح لي بدرا ، وأن يغنمني عسكرهم ، فمن قتل قتيلا فله كذا وكذا إن شاء الله من غنيمتهم ، ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا إن شاء الله (١). فلمّا تواقفوا ألقى الله في قلوب المشركين الرعب ، فانهزموا ، واتبعهم سرعان (٢) من الناس ، فقتلوا سبعين رجلا ، وأسروا سبعين ، وغنموا العسكر وما فيه. وأقام وجوه الناس مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مصافّه ، فلم يشذّ عنه منهم أحد.

ثمّ قام أبو اليسر بن عمرو الأنصاريّ من بني سلمة ، فكلّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، إنّك وعدت من قتل قتيلا أو أسر أسيرا من غنيمة القوم ، الذي وعدتهم ، وإنّا قد قتلنا سبعين ، وأسرنا سبعين. ثمّ قام سعد بن معاذ فقال : يا رسول الله ، إنّه ما منعنا أن نطلب كما طلب هؤلاء زهادة في الأجر ، ولا جبن عن العدوّ ، ولكنّا خفنا أن نعري صفّك ، فتعطف علينا (٣) خيل المشركين فأعرض عنهما رسول الله. ثمّ قال أبو اليسر مثل كلامه الأوّل. وعاد سعد فتكلّم مثل كلامه الأوّل وقال : يا رسول الله ، الأسرى والقتلى كثير ، والغنيمة قليلة ، وإن تعط هؤلاء الذي ذكرت لهم لم يبق لسائر أصحابك كبير شيء ، فنزلت هذه الآية : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ ...) إلى آخر الآية (٤).

ذكروا عن الكلبيّ أنّه قال : كان النبيّ وعد الأنصار المغنم ، فتكلّم فيه المهاجرون ، فأنزل الله هذه الآية وقال : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) فقسمه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين

__________________

(١) وسقطت هذه الجملة : «ومن أسر أسيرا ...» من د وج. والحديث صحيح ؛ أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد ، باب النفل. وأخرجه النسائيّ ، وابن جرير الطبريّ في تفسيره ، ج ١٣ ص ٣٦٧ ، ٣٧١ ، كلّهم يرويه عن ابن عبّاس.

(٢) سرعان الناس وسرعانهم : أوائلهم المستبقون إلى الأمر.

(٣) في ق وع : «علينا» ، وفي د وج : «عليك» ، وما أثبتّه أصحّ وأليق بأدب الصحابة في مخاطبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٤) انظر للتوسّع فيما جاء في أوائل هذه السورة ، شرح كتاب السير الكبير لمحمد بن الحسن الشيباني ، شرح السرخسي ، ج ٢ ص ٥٩٢ ـ ٦٢٠ ، أبواب الأنفال ، ففيه فقه كثير ، وعلم غزير وفوائد جمّة.

٧٤

المهاجرين والأنصار.

ذكر بعضهم قال : كان نبيّ الله ينفل الرجل من المؤمنين سلب الرجل من الكفّار إذا ما قتله ، فأمرهم الله أن يردّ بعضهم على بعض فقال : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) أي : ليردّ بعضكم على بعض.

قال : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١).

قوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) : أي : رقّت قلوبهم مخافة عقابه. وقال مجاهد : (وجلت قلوبهم) أي : فرقت قلوبهم (١).

قال : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) : أي تصديقا. أي كلّما نزل من القرآن شيء صدّقوا به. كقوله : (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم مّن يّقول أيّكم زادته هذه إيمانا) هذا قول المنافقين ، قال الله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (١٢٤) [التوبة : ١٢٤].

قوله : (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٢) (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) : أي : يقيمونها على وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها. (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٣) : أي الزكاة المفروضة على ما سنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد فسّرنا ذلك في سورة البقرة وسورة الأنعام (٢).

قال : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) : أي في الجنّة على قدر أعمالهم. قال (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) [الأحقاف : ١٩]. قوله : (وَمَغْفِرَةٌ) : أي لذنوبهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٤) : أي في الجنّة.

قوله : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) : أي : أخرجك من مكّة إلى المدينة ،

__________________

(١) ورد في المخطوطات بعض الاختلاف في ألفاظ تفسير هذه الآية ، فأثبتّ التصحيح من ز ، ورقة ١١٥ ، ومن تفسير مجاهد ، ص ٢٥٧.

(٢) انظر ما سلف ، ج ١ ، تفسير الآيات ٢٧٠ ـ ٢٧٤ من سورة البقرة ، والآية ١٤١ من سورة الأنعام.

٧٥

ومن المدينة إلى قتال أهل بدر. وقال مجاهد : لهم درجات عند ربهم ، كما أخرجك ربّك من بيتك كذلك لهم درجات عند ربّهم (١).

قوله : (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِ) : قال مجاهد والحسن : يعني : في القتال. قال الحسن : ومعنى مجادلتهم أنّهم كانوا يريدون العير ، ورسول الله يريد ذات الشوكة ، أي القتال ، بما وعده الله أن ينصره على أهل بدر.

قوله : (بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) : قال الحسن : من بعد ما أخبرهم الله أنّهم منصورون ، إلّا أنّ بين ذلك قوما يقتلون. (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) (٦) : وهم في ذلك ماضون لأمر الله.

وذلك أنّ عيرا أقبلت من الشام لقريش تحمل التجارة فيها أبو سفيان ، وهو أمير القوم ، وخرج المشركون العرب من الحرم [فيهم] (٢) أبو جهل لقتال رسول الله ، فوعده الله إحدى الطائفتين فقال : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) : ووعدهم الله ذات الشوكة في الإضمار. [ومعنى الشوكة السلاح والحرب] (٣).

__________________

(١) كذا في ق ، وع ، ود ، وز ، ورقة ١١٥. ولكن جاء في تفسير مجاهد ، ص ٢٥٨ ما يلي : «(كما أخرجك ربّك من بيتك بالحقّ) يقول : كذلك أخرجك ربّك من بيتك بالحقّ». ويبدو أنّه خطأ ، صوابه : «كذلك يجادلونك في الحقّ». فقد روى الطبريّ بإسناد في تفسيره ، ج ١٣ ص ٣٩٢ : «عن مجاهد : (كما أخرجك ربّك من بيتك بالحقّ) كذلك يجادلونك في الحقّ ، القتال». وهذا الوجه الأخير هو ما رجّحه الطبريّ : «ومعناه كما أخرجك ربّك بالحقّ على كره من فريق من المؤمنين ، كذلك يجادلونك في الحقّ بعد ما تبيّن ، لأنّ كلا الأمرين قد كان ، أعني خروج من خرج من المدينة كارها ، وجدالهم في لقاء العدوّ وعند دنو القوم بعضهم على بعض ...». وأورد أبو عبيدة في مجاز القرآن ، ج ١ ص ٢٤٠ قولا لم أره لغيره فقال : (كما أخرجك ربّك من بيتك بالحقّ) مجازه مجاز القسم ، كقولك : والذي أخرجك ربّك ، لأنّ (ما) في موضع الذي ، وفي آية أخرى : (وَالسَّماءِ وَما بَناها) أي والذي بناها». وهذا تأويل بعيد.

(٢) زيادة لا بدّ منها ليستقيم المعنى ، أي «خرج المشركون وفيهم» ، أو «وعلى رأسهم أبو جهل».

(٣) زيادة من ز ، ورقة ١١٦. وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن ، ج ١ ص ٢٤١ : «مجاز الشوكة : الحدّ ، يقال : ما أشدّ ـ

٧٦

(وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) : وكلمات الله وعده الذي وعدهم أنّ لهم إحدى الطائفتين. (وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) (٧) : أي أصل الكافرين.

(لِيُحِقَّ الْحَقَ) : فيظهر محمّدا ، ومعه الحقّ (وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) : أي ما جاء به المشركون. (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (٨) : وهم المشركون في هذا الموضع.

وهذه الآية نزلت قبل قوله : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ) ، وهي بعدها في التأليف. هذا في تفسير الحسن. وكان جبريل يأتي النبيّ بالوحي فيقول : إنّ الله يأمرك أن تضع آية كذا وكذا بين ظهراني آية كذا وكذا من السورة.

وقال بعضهم : الطائفتان : إحداهما أبو سفيان ، أقبل بالعير من الشام ، والطائفة الأخرى : أبو جهل معه نفير قريش (١) ؛ فكره المسلمون الشوكة والقتال ، وأحبّوا أن يصيبوا العير ، وأراد الله أن يصيبوا ثمّ ما أراد.

قوله : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) (٩) : أي متتابعين. وقال مجاهد : (مردفين) : ممدين (٢). وقال الحسن : دعوا الله أن ينصرهم على عدوّهم ، فاستجاب لهم فقال : (أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ).

قوله : (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى) : أي ما جعل المدد من الملائكة إلّا بشرى (وَلِتَطْمَئِنَ) : أي [لتسكن] (٣) (بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (١٠) : أي عزيز في نقمته ، حكيم في أمره.

__________________

ـ شوكة بني فلان ، أي : حدّهم».

(١) في ق وع : «معه عير قريش» ، وهو خطأ ، وفي ج ود : «معه عسكر قريش» وهو صحيح ، وفي ز ، ورقة ١١٦ : «معه نفير قريش» ، وهو أصحّ وأدقّ تعبيرا ، لأنّ مشركي قريش استنفروا استنفارا من مكّة.

(٢) وقال أبو عبيدة : «(بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) مجازه مجاز فاعلين ، من أردفوا ، أي : جاءوا بعد قوم قبلهم ، وبعضهم يقول : ردفني ، أي جاء بعدي ، وهما لغتان. ومن قرأها بفتح الدال وضعها في موضع مفعولين ، من أردفهم الله من بعد من قبلهم وقدّامهم».

(٣) زيادة من ز ، ورقة ١١٦.

٧٧

قوله : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ) : أي : أمانا منه. قال الحسن ومجاهد : أمانا من الله. (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) : أي يطهّر ما في قلوبكم من الخوف (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) : أي ترهيب الشيطان الذي كان دخل قلوبكم (١) في تفسير الحسن. (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) (١١) : فأنزل الله ذلك الماء على المسلمين ، فأذهب الله ما في قلوبهم ممّا كان أوقع الشيطان في قلوبهم من تخويفه.

وقال بعضهم : ذكر لنا أنّهم مطروا يومين حتّى سال الوادي ماء واقتتلوا على كثيب أعفر ، فلبّده الله بالماء ، وشرب المسلمون ، وتوضأوا ، واستقوا ، وأذهب الله عنهم وساوس الشيطان.

قال الكلبيّ : بلغنا أنّ المشركين سبقوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتّى نزل حيالهم ، وبينه وبينهم الوادي ؛ ونزل على غير ماء ، فقذف الشيطان في قلوب المؤمنين أمرا عظيما فقال : زعمتم أنّكم عباد الله ، وعلى دين الله ، وقد غلبكم المشركون على الماء ، وأنتم تصلّون محدثين مجنبين ، فأحبّ الله أن يذهب من قلوبهم رجز الشيطان ، فأغشى المؤمنين نعاسا أمنة منه ، وأنزل عليهم من السماء ماء ليطهّرهم به من الأحداث والجنابة ، ويذهب عنهم رجز الشيطان [أي ما كان قذف في قلوبهم] (٢) وليربط على قلوبهم ويثبّت به الأقدام.

وكان بطن الوادي فيه رملة تغيب فيه الأقدام ، فلمّا مطر الوادي اشتدّت الرملة ، فمشى عليها الرجال ، واتّخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حياضا على الوادي (٣) ، فشرب المسلمون منها واستقوا ، ثمّ صفّوا. وأوحى ربّك إلى الملائكة : (أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ...) إلى قوله : (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) ، وهي أطراف الأيدي والأرجل (٤).

__________________

(١) كذا في ق وع. وفي ج ود : «الذي كان أدخل في قلوبهم».

(٢) زيادة من ز ، ورقة ١١٦.

(٣) كذا في ق وع ، وفي ز ، وهو الصواب. وفي د : «وانحدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتّى وطئ على الوادي ...». وهو تصحيف ولا شكّ.

(٤) قال أبو عبيدة في مجاز القرآن ، ج ١ ص ٢٤٢ : «(وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) مجازه : يفرغ عليهم الصبر وينزله عليهم ـ

٧٨

قوله : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) : قال الحسن : يعني فاضربوا الأعناق (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) (١٢) : أي كلّ عضو. وقال الكلبيّ : أطراف الأيدي والأرجل. وقال بعضهم : (كُلَّ بَنانٍ) أي : كلّ مفصل.

قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) : قال الحسن : حادّوا الله وعادوه ورسوله. وقال بعضهم : الشقاق هو الفراق. (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (١٣).

قال : (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ) : أي في الدنيا ، يعني القتل (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ) : بعد القتل (عَذابَ النَّارِ) (١٤) : أي في الآخرة.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) (١٥) : أي : منهزمين (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ) : أي ينهزم (يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) : أي : يوم بدر (إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) : أي يتحرّف للقتال ، أن يدع موقف مكان لمكان. (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) : أي ينحاز إلى جماعة (فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) : أي استوجب غضبا من الله (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٦) : أي بئس مصير من صار إلى جهنّم.

قال الحسن : لم يكن الفرار من الزحف من الكبائر إلّا يوم بدر ، لأنّ تلك العصابة من المسلمين لو أصيبت لذهب الإسلام. فكان الله قد افترض في هذه الآية : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا)

[الأنفال : ٦٥] ؛ فأمر الله المسلمين أن يصبروا لعشرة أمثالهم (١) إذا لقوهم. ثمّ أنزل الله بعد ذلك التخفيف فقال : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ

__________________

ـ فيثبتون لعدوّهم». وقال : «(فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) مجازه : على الأعناق ، يقال : ضربته فوق الرأس وضربته على الرأس».

(١) في ق وع ود : «أن تصبر العشرة مكانهم». وأثبتّ ما جاء في ز ، فهو أصحّ وأدقّ تعبيرا.

٧٩

صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ) [الأنفال : ٦٦]. فلم يقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتّى أظهر الله الإسلام وصار الجهاد تطوّعا.

فإن جاء المسلمين عدوّ لا طاقة لهم به تحيّزوا إلى البصرة ، أو قال : إلى بصرتهم. وإن جاءهم ما يغلبهم تحيّزوا إلى الكوفة ، فإن جاءهم ما يغلبهم تحيّزوا إلى الشام ، وإن جاءهم ما يغلبهم تحيّزوا إلى المدينة ، فإن جاءهم ما يغلبهم فليس ثمّ تحيّز ، وصار الجهاد فريضة.

ذكروا عن الحسن أنّه قال : إنّ عمر بن الخطّاب لمّا بلغه قتل أبي عبيدة بن الجراح وأصحابه بالقادسيّة قال : يرحم الله أبا عبيدة ؛ لو انحاز إلينا لكنّا فئته (١).

ذكروا عن الحسن قال : لو أنّ أهل سمرقند انحازوا إلينا ـ ونسأل الله العافية من ذلك ـ لكنّا فئتهم.

ذكروا أنّ أبا بكر وعمر كانا يقولان للجيوش : وإن غلبكم أمر فانحازوا إلينا ، فإنّا فئتكم.

ذكر بعضهم قال : أوجب الله لمن فرّ يوم بدر النار ، ثمّ كانت أحد بعدها فأنزل الله: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (١٥٥) [آل عمران : ١٥٥]. ثمّ كانت حنين بعدها بسبع سنين فأنزل الله : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٧) [التوبة : ٢٥ ـ ٢٧].

قال بعضهم : يوم الدجّال كيوم بدر. ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أفضل الشهداء

__________________

(١) كذا في المخطوطات الأربع ، وفي ز ورقة ١١٧ : «لو انحاز إليّ لكنت له فئة».

٨٠