تفسير كتاب الله العزيز - ج ٢

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٢

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٣

مّوزون) : أي معدود يعدّ ، أي : يقدّر (١).

قال الحسن : ثمّ ذكر الأرض فقال : (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) : أي ممّا أخرج الله لهم فيها ، وممّا عمله بنو آدم.

قوله : (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) (٢٠) (٢) : أي جعلنا لكم ومن لستم له برازقين معايش. قال مجاهد : يعني الأنعام والدوابّ ، وقال الحسن : البهائم وغيرها من الخلق. وقال الكلبيّ : يعني من لا تموّنونه ، أي : ليس عليكم من مؤونته شيء من الوحوش والطيور وكلّ شيء لا يمونه بنو آدم.

قوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) : يعنى المطر. وهذه الأشياء كلّها إنّما تعيش بالمطر. (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (٢١).

ذكروا أنّ عليّا قال : إنّ هذا الرزق ينزل من السماء كقطر المطر (٣) ، كلّ نفس بما كتب الله لها. وذكروا عن ابن عبّاس أنّه قال : ما من عام بأكثر من عام مطرا ، أو قال : ماء ، ولكنّ الله يصرّفه في الأرض حيث يشاء ، ثمّ تلا هذه الآية : (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا) [الفرقان : ٥٠].

قوله : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) : أي للسحاب. قال : (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) : ذكروا عن عبد الله بن مسعود قال : إنّ الله يرسل السحاب فتحمل الماء

__________________

(١) هذا هو القول الراجح عند كثير من المفسّرين. وهو الصحيح الذي أثبته العلم الحديث ، فكلّ ما في الكون ، علويّه وسفليّه ، موزون مقدّر من عند الله بقدر معلوم ، محدود لا يزاد فيه ولا ينقص منه. وجاءت العبارة في تفسير مجاهد ، ص ٣٤٠ : «مقدّر مقدور» ، وفي تفسير الطبريّ وفي ز ورقة ١٦٩ : «مقدور بقدر».

(٢) هذا وجه من وجوه التأويل ، ومن المفسّرين من جعل (من) في قوله : (ومن لّستم له برازقين) في محلّ نصب معطوفا على (معايش) لا على الضمير المجرور في (لكم) : «يقول : جعلنا لكم فيها المعايش والعبيد والإماء». انظر هذا المعنى مفصّلا معلّلا في معاني الفرّاء ، ج ٢ ص ٨٦ ، وفي كشّاف الزمخشريّ ، ج ٢ ص ٥٧٤.

(٣) كذا في ق وع : «كقطر المطر» ، وفي ج ود : «كقدر المطر». والأوّل أصحّ.

٣٤١

بين السماء ، ثمّ يرسل الرياح فتمري السحاب كما تمرى اللقحة حتّى تدرّ بمطر. وقال في آية أخرى : (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) (١١) [نوح : ١١] أي : تدرّ بالمطر.

قوله : (وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) (٢٢) : أي بحافظين. وفي تفسير الحسن أنّ الله ينزل الماء من السماء فيسكنه السحاب ، ثمّ يصرفه حيث يشاء ، وللماء خزّان من الملائكة. وقال في آية أخرى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) [الحاقّة : ١١] أي : على خزانه يوم غرق قوم نوح ؛ كان يجري بقدر فطغى يومئذ على خزانه.

قوله : (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) : أي : نخلق ونميت الخلق (وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) (٢٣) : أي [يموت الخلق] (١) والله الوارث الباقي بعد خلقه ، وإليه ترجعون. أي : فكما أحيى هذه الأرض بعد موتها بهذا الماء كذلك يحيي الموتى. قال : (ونحن الوارثون).

قوله : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ) : يعني آدم ومن مضى من ذرّيتّه. (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) (٢٤) : أي [من بقي] (٢) في أصلبة الرجال. وقال بعضهم : (المستقدمين) الأموات ، و (المستاخرين) الأحياء بعد الأموات (٣).

(وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) : أي هو يحشر الخلق يوم القيامة (إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (٢٥) : أي حكيم في أمره ، عليم بخلقه.

قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (٢٦) : الصلصال التراب اليابس الذي تجمّع ، يسمع له صلصلة. وقال في آية أخرى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) (١٤) [الرحمن : ١٤]. يعني الذي يجفّ من الطين المنتن. وقال مجاهد :

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ١٦٩.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ١٦٩.

(٣) وقال بعضهم : إنّ سبب نزول الآية تسابق بعض المؤمنين إلى الصفّ الأوّل في الصلاة وتزاحمهم عليه ، حتّى عزم بعضهم على بيع داره النائية فيشتري أخرى قريبة من المسجد حتّى يبتدر الصفّ الأوّل ، فلا يفوته فضله. فأنزل الله هذه الآية ، فقرّ الناس في مساكنهم. انظر في هذا المعنى ما رواه الفرّاء في معاني القرآن ، ج ٢ ص ٨٨ ، وما رواه الواحديّ في أسباب النزول ، ص ٢٨٠ ـ ٢٨١.

٣٤٢

الصالّ ، يعني المنتن ، أي : قد صلّ (١) ، مثل قوله : (من حمإ مّسنون) أي : الطين المنتن. ذكروا عن ابن عبّاس قال : المنتن. قال الحسن : نشأ ذرّيّته على صورته.

قوله (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) : الجان ، يعني إبليس في تفسير بعضهم. (خلقناه من قبل) قال الحسن : أي : من قبل آدم. (مِنْ نارِ السَّمُومِ) (٢٧) : أي سموم جهنّم.

قوله : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (٣٠) : فكانت الطاعة لله ، والسجدة لآدم.

قال الحسن : إنّ إبليس أمره الله بالسجود كما أمر الملائكة ، وإنّه ليس من الملائكة ، وإنّ الملائكة خلقوا من نور ، وخلق إبليس من النار [وقال ابن عبّاس : لو لم يكن إبليس من الملائكة لم يؤمر بالسجود] (٢).

قال : (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) (٣١) : قال الحسن : أبى أن يسجد معهم. وكان لإبليس اسم قبل أن يعصي الله ، فسمّاه حين عصى إبليس. وأبلس من الإبلاس ، والإبلاس : هو الإيّاس من رحمة الله. كقوله : (أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) (٤٤) [الأنعام : ٤٤] أي : آيسون من رحمة الله. وكقوله : (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) (٧٥) [الزخرف : ٧٥] أي : آيسون من رحمة الله.

قوله : (قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها) : أي من السماء (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) (٣٤) : أي ملعون (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ) (٣٥) : أي إلى يوم

__________________

(١) صلّ اللحم : إذا أنتن وتغيّر. وأدقّ تعريف في رأيي : ما قاله أبو عبيدة في المجاز ، ص ٣٥٠ : «الصلصال : الطين اليابس الذي لم تصبه نار ، فإذا نقرته صلّ فسمعت له صلصلة ، فإذا طبخ بالنار فهو فخّار وكلّ شيء له صلصلة ، صوت ، فهو صلصال ...».

(٢) زيادة من ز ، ورقة ١٦٩.

٣٤٣

الحساب ؛ أي : إلى يوم القيامة ، وعليك اللعنة أبدا.

(قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) : أي أخّرني (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (٣٨) : أي إلى النفخة الأولى التي يموت بها كلّ حيّ. وأراد عدوّ الله أن يؤخّره إلى النفخة الآخرة التي يبعث بها الخلق.

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ((بين النفختين أربعون ؛ الأولى يميت الله بها كلّ حيّ ؛ والآخرة يحيي الله بها كلّ ميّت)) (١). ذكر بعضهم قال : النفحة الأولى من الدنيا والثانية من الآخرة.

(قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) : قال الحسن : يريد قوله في أوّل الكلام : (فاخرج منها فإنّك رجيم وإنّ عليك اللّعنة إلى يوم الدّين قال ربّ بما أغويتني) أي : لعنتني (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) : أي يزيّن لهم الدنيا فيأمرهم بها ويخبرهم أنّه لا بعث ولا حساب ولا جنّة ولا نار ، يوسوس ذلك إليهم.

قال : (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٤٠) : أي الذين أخلصوا القول والعمل فوفّوا لله بهما (٢).

هو كقوله : (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) (٦٢) [الإسراء : ٦٢] ، وكقوله : (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) (١٧) [الأعراف : ١٧] أي : مؤمنين. وكان الحسن يقرأها : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) [سبأ : ٢٠] يرفع الظنّ وينصب إبليس ؛ يقول : صدق عليهم ظنّه ولم يقل ذلك بعلم. وكان مجاهد يقرأها مثقّلة : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ) يرفع

__________________

(١) حديث متّفق على صحّته ، أخرجه البخاريّ في كتاب التفسير ، في سورة الزمر. وأخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة ، باب ما بين النفختين (رقم ٢٩٥٥) كلاهما يرويه عن أبي هريرة.

(٢) كذا قرأ المؤلّف : «المخلصين» بكسر اللام وفسّرها بالإخلاص في العبادة. وقراءة ورش عندنا بفتح اللام (المخلصين) أي : أخلصتهم لطاعتك ، وهي قراءة مشهورة قرأ بها أهل المدينة والكوفة. قال الطبريّ في تفسيره ، ج ١٤ ص ٣٣ : «(إلّا عبادك منهم المخلصين) يقول : إلّا من أخلصته بتوفيقك فهديته ، فإنّ ذلك ممّن لا سلطان لي عليه ، ولا طاقة لي به».

٣٤٤

إبليس وينصب الظنّ.

قوله : (قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) (٤١) : مثل قوله : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) (١٢) [الليل : ١٢] ومثل قوله : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) [النحل : ٩] ، أي : الهدى.

وقال مجاهد : الصراط الحقّ يرجع إلى الله وعليه طريقه [لا يعرّج على شيء] (١) ، يعني أنّ الله هو الهادي لمن يشاء إلى صراط مستقيم ، أي : إلى الجنّة. وبعضهم يقرأها : (صراط عليّ مستقيم) ، يرفعها ، يقول : صراط رفيع مستقيم.

قوله : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) : مثل قوله : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٩٩) [النحل : ٩٩] أي : لا يستطيع أن يضلّ من هدى الله. قال : (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) أي : يتولّون إبليس قال : (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ) أي : بالله (مُشْرِكُونَ) (١٠٠) [النحل : ١٠٠].

قوله : (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (٤٢) : وهم من كلّ ألف تسعمائة وتسع وتسعون.

(وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) (٤٣) : أي لهؤلاء الغاوين (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) :

بعضها تحت بعض مطبقة ، الباب الأعلى جهنّم ، ثمّ سقر ، ثمّ لظى ، ثمّ الحطمة ، ثمّ السعير ، ثمّ الجحيم ، ثمّ الهاوية ؛ وجهنّم والنار يجمعان الأسماء.

وكان الحسن يقول : (والجانّ خلقناه من قبل من نّار السّموم) أي : اسم من أسماء جهنّم ، ويدع بعض هذه الأسماء ، ولا أدري أيّ اسم هو.

(لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) (٤٤) : بلغنا ـ والله أعلم ـ أنّ الباب الأعلى لمشركي العرب ، والباب الثاني للنصارى ، والثالث للصابئين ، والباب الرابع لليهود ، والخامس للمجوس ، والسادس لعبدة الأوثان ، والسابع للمنافقين. فقال في آية أخرى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ

__________________

(١) زيادة من تفسير مجاهد ، ص ٣٤١.

٣٤٥

فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء : ١٤٥] أي : الباب الأسفل. وتفسير مجاهد في قول الله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) (٢٩) [فصّلت : ٢٩] يعني : إبليس وابن آدم الذي قتل أخاه.

قوله : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (٤٥) : والعيون : هي الأنهار ، وقوله : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) (٥٤) [القمر : ٥٤] يعني به جميع الأنهار.

قوله : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ) (٤٦) : وذلك حين تتلقّاهم الملائكة تقول لهم : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) (٧٣) [الزمر : ٧٣]. وقد فسّرناه قبل هذا الموضع (١). وقوله : (ءامنين) أي : آمنين من الموت ، أي : خالدين فيها لا يموتون ، وهو كقوله : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) [الدخان : ٥٦].

قوله : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) : أي من غلّ الدنيا الذي كان يكون بينهم في الدنيا ، والضغائن التي كانت بينهم.

وبلغنا أنّهم إذا توجّهوا إلى الجنّة مرّوا بشجرة يخرج من أصلها عينان ، فيشربون من إحداهما فتجري عليهم نضرة النعيم ، فلا تشعث رؤوسهم ، ويغتسلون في الأحرى فيخرج ما في بطونهم من أذى أو قذى أو غلّ أو غشّ. ثمّ يتوجّهون إلى منازلهم ، فتتلقّاهم الملائكة فتقول لهم : (سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين). فقال الله : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ).

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يخلص المؤمنون من النار ، فيحبسون عند قنطرة بين الجنّة والنار ، فيقتصّ بعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتّى إذا هذّبوا ونقّوا قيل لهم : ادخلوا الجنّة ؛ فو الذي نفس محمّد بيده لأحدهم أهدى إلى منزله في الجنّة منه إلى منزله كان في الدنيا (٢). وذلك قوله : (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) (٦) [سورة محمّد : ٦] أي :

__________________

(١) انظر ما سلف في هذا الجزء ، تفسير الآية ٢٤ من سورة الرعد.

(٢) حديث صحيح أخرجه البخاريّ في كتاب الرقاق ، باب القصاص يوم القيامة ، من طريق قتادة عن ـ

٣٤٦

عرفوها حين دخلوها ، كأنّهم كانوا قبل ذلك فيها. قال بعضهم : ما شبّهوا إلّا بأهل جمعة انصرفوا من جمعتهم.

قوله : (إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) (٤٧) : قال بعضهم : ذلك في الزيارة إذا زار بعضهم بعضا. وقال بعضهم : لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض.

قوله : (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) : أي تعب ، والنصب والتعب واحد. (وَما هُمْ مِنْها) : أي من الجنّة (بِمُخْرَجِينَ) (٤٨).

قوله : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٤٩) : أي لا أغفر منه ولا أرحم ، يغفر للمؤمنين ويرحمهم ، فيدخلهم الجنّة. (وَأَنَّ عَذابِي) : يعني النار (هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) (٥٠) : أي الموجع.

(وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) (٥٢) : أي خائفون ، مثل قوله : (نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ) [سورة هود : ٧٠] وقال هاهنا : (قالُوا لا تَوْجَلْ) : أي لا تخف ، والخوف والوجل واحد. (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) (٥٣) : فعرف أنّهم ملائكة.

ف (قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) (٥٤) : قال مجاهد : عجب من كبره وكبر امرأته. (قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) (٥٥) : أي : من الآيسين. (قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) (٥٦).

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ) : [أي : ما أمركم] (١) (أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) (٥٨) : أي مشركين ، وهذا جرم شرك ، يعني قوم لوط لنعذّبهم. (إِلَّا آلَ

__________________

ـ أبي المتوكّل الناجي عن أبي سعيد الخدريّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ورواه الطبريّ بسند يرفعه من هذا الطريق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تفسيره ، ج ١٤ ص ٣٧ ـ ٣٨. وأخرجه السيوطيّ في الدرّ المنثور ، ج ٤ ص ١٠١ ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.

(١) زيادة من ز ، ورقة ١٧٠.

٣٤٧

لُوطٍ) : يعني أهله المؤمنين (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) (٦٠) : أي الباقين في عذاب الله ، في تفسير بعضهم. وقال الحسن : لمن الهالكين.

قوله : (فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ) (٦١) : أي الملائكة (قالَ) : لوط (إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) (٦٢) : قال مجاهد : أنكرهم نبيّ الله لوط.

(قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) (٦٣) : يعني : جئناك بعذاب قوم لوط ، في تفسير مجاهد ، وقوله : (بما كانوا فيه يمترون) أي : يشكّون ، ويقولون : لا نعذّب ، لأنّه كان يخوّفهم بالعذاب إن لم يؤمنوا.

(وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِ) : يعني : وجئناك بعذابهم (وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) : أي بطائفة من الليل ، والسّرى لا يكون إلّا ليلا (وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) : أي : كن آخرهم. (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) : أي لا ينظر وراءه إلى المدينة. (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) (٦٥).

(وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) : أي أعلمناه ذلك الأمر. والقضاء ههنا إعلام.

(أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ) : أي : أصل هؤلاء (١) (مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) (٦٦) : وهو كقوله : (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) (٨١) [هود : ٨١].

قوله : (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ) (٦٧) : أي قوم لوط يستبشرون بضيف لوط ، أي : لما يريدون من عمل السوء ، إتيان الرجال في أدبارهم.

(قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ) (٦٩). وكانوا إنّما يفعلون ذلك بالغرباء ، ولا يفعله بعضهم ببعض.

(قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) (٧٠) : أي أن تضيف أحدا. وكان لا يأوون (٢)

__________________

(١) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ١ ص ٣٥٣ : «(أنّ دابر هؤلاء مقطوع) أي : آخرهم مجتذّ مقطوع مستأصل».

(٢) كذا في المخطوطات ، يقال : أويته وآويته ، إذا أنزلته ، والجيّد منهما : آويته.

٣٤٨

ضيفا بليل ، فكانوا يعترضون من مرّ بالطريق بالفاحشة.

(قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) (٧١) : أمرهم بتزويج النساء. وقد فسّرناه في غير هذا الموضع (١). وقوله : (إن كنتم فاعلين) أي : إن كنتم متزوّجين.

قوله : (لَعَمْرُكَ) : وهذا قسم (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (٧٢) : أي لفي ضلالتهم يلعبون ، في تفسير بعضهم. وفي تفسير الحسن : يتمادون.

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) : أي بالعذاب (مُشْرِقِينَ) (٧٣) : أي حين أشرقت الشمس. (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) : رفعها جبريل حتّى سمع أهل السماء الدنيا ضواغي (٢) كلابهم ، ثمّ قلبها. (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) (٧٤) : أي أرسل الله عليهم بعدما قلبها حجارة فاتّبعت سفّارهم (٣) ومن كان خارجا من المدينة. وقوله : (من سجّيل) هي بالفارسيّة سند وكل : أوّلها حجر وآخرها طين.

قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) (٧٥) : أي للمتفرّسين. وقال بعضهم : للمعتبرين (٤). يقول : فيما أهلك الله به الأمم السالفة.

قوله : (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) (٧٦) : يعني قرية قوم لوط ؛ يقول : إنّها لبطريق واضح. وقال مجاهد : لبطريق معلم.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) (٧٧) : وقال في آية أخرى : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٣٨) [الصافّات : ١٣٧ ـ ١٣٨].

__________________

(١) انظر ما سلف في هذا الجزء ، تفسير الآية ٧٨ من سورة هود.

(٢) في مخطوطتي د وج «صواعر» ، وفي ق : «طوغي» ، وفيهما تصحيف. والصحيح ما أثبتّه : «ضواغي» جمع ضاغية. يقال : ضغا الذئب والسنّور والكلب ، يضغو إذا صوّت وصاح. والضّغاء : صوت كلّ ذليل مقهور. انظر اللسان : (ضغو).

(٣) كذا جاءت الكلمة في المخطوطات : «سفّارهم». وهو جمع صحيح في العربيّة لسافر ، كراكب ، ركاب. ومثله : قوم سافرة ، وسفر ، وأسفار ، لجماعة المسافرين.

(٤) وقال أبو عبيدة في المجاز ، ص ٣٥٤ : «(للمتوسّمين) أي : المتبصّرين المتثبّتين».

٣٤٩

قوله : (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ) (٧٨) : يعني الذين بعث إليهم شعيب (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) : والأيكة الغيضة (١).

كانوا أصحاب غيضة ؛ كان عامّة شجرهم المقل ، وهو الدوم ، فسلّط الله عليهم الحرّ سبعة أيّام ، فكان لا يكنّهم منه شيء. فبعث الله عليهم سحابة فلجأوا تحتها يلتمسون الرّوح (٢) فجعلها الله عليهم نارا ، فاضطرمت عليهم فماتوا فيها. وهو قوله : (فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١٨٩) [الشعراء : ١٨٩].

قوله : (وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) (٧٩) : يقول : إنّ منزل قوم لوط وأصحاب الأيكة (لبإمام مّبين) يعني بطريق (٣) واضح ، أي : بيّن.

قوله : (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) (٨٠) : يعني ثمود ، قوم صالح. (وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) : أي العذاب (مُصْبِحِينَ) (٨٣) : حين طلع الفجر. (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨٤).

قوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) : أي للبعث (وَإِنَّ السَّاعَةَ) : أي القيامة (لَآتِيَةٌ) : أي لجائية (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (٨٥) : والصفح ههنا منسوخ بالقتال. وهو كقوله : (فاصفح عنهم) يعني المشركين (وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٨٩) [الزخرف : ٨٩]. ثمّ أمره بقتالهم في سورة براءة فقال : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥]. قوله : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) (٨٦) : أي لا خالق غيره ، ولا أعلم منه.

__________________

(١) الغيضة موضع يغيض فيه الماء ويتجمّع فينبت فيه شجر كثير ملتفّ. انظر اللسان (غيض).

(٢) في المخطوطات «الرواح» وهو خطأ ، صوابه ما أثبتّه : «الرّوح» وهو نسيم الريح كما جاءت الكلمة في ز.

(٣) في المخطوطات : «يعني بموضع» ، وأثبت ما هو أصحّ : «طريق». كما جاءت الكلمة في ز ، ورقة ١٧١. وزاد ابن أبي زمنين : «قيل للطريق إمام لأنّه مؤتمّ به ، أي : يهتدى به». كأنّه نقله من مجاز أبي عبيدة ، ج ٢ ص ٣٥٤ حيث قال : «الإمام كلّ ما ائتممت واهتديت به».

٣٥٠

قوله : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (٨٧) : ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : السبع المثاني فاتحة الكتاب (١). قال بعضهم : إنّما سمّيت المثاني لأنّهنّ يثنّين في كلّ ركعة (٢).

قوله : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) : [أي : أصنافا منهم] (٣). قال مجاهد : يعني الأغنياء.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكرا صابرا ، ومن لم تكونا فيه لم يكتبه الله شاكرا ولا صابرا : من نظر إلى من فوقه في الدين ومن دونه في الدنيا فاقتدى بهما كتبه الله شاكرا وصابرا (٤). قوله : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) : أي على المشركين إن لم يؤمنوا. (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٨٨) : أي [ألنه لمن آمن بك] (٥) أي : ارأف بهم. وهو مثل قوله : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١٢٨) [التوبة : ١٢٨]. ومثل قوله : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران : ١٥٩].

قوله : (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) (٨٩) : أي أنذر الناس النار.

قوله : (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) (٩١) : تفسير الحسن : يقول [الله] : إنّا أنزلنا عليك القرآن كما أنزلنا على المقتسمين. والمقتسمون : أهل الكتابين الذين اقتسموه فجعلوه كتبا بعد إذ كان كتابا واحدا ، فجعلوه كالأعضاء ،

__________________

(١) انظر تخريجه فيما مضى ، ج ١ ، تفسير الآية الأولى من سورة الفاتحة. وانظر ما أورده أبو عبيدة في مجازه ، ج ٢ ص ٣٥٤ في المراد بالسبع المثاني في رأيه. واقرأ ما ذكره الطبريّ في تفسيره ، ج ١٤ ص ٥١ ـ ٦٠ حول اختلاف المفسّرين في المراد بالسبع المثاني وهل هي فاتحة الكتاب أو السبع الطوال.

(٢) أمّا أبو عبيدة فقال في المجاز ، ص ٣٥٤ : «وإنّما سمّيت آيات القرآن مثاني لأنّها تتلو بعضها بعضا ، فثنّيت الأخيرة على الأولى ، ولها مقاطع تفصل الآية بعد الآية حتّى تنقضي السورة ، وهي كذا وكذا آية ...».

(٣) زيادة من ز ، ورقة ١٧١.

(٤) أخرجه الترمذيّ في صفة القيامة ، باب النظر في الدين لمن هو أعلى ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه بسند ضعيف. وقال عنه الترمذيّ : حديث غريب.

(٥) زيادة من ز ، ورقة ١٧١.

٣٥١

وحرّفوه عن مواضعه ، ثمّ قالوا : هذا من عند الله. وكتب الله كلّها قرآن (١). وقال في آية أخرى : (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (٥٣) [المؤمنون : ٥٣]. وهي تقرأ على وجهين : زبرا وزبرا ؛ فمن قرأها زبرا فهو يقول : قطعا ، ومن قرأها زبرا فهو يقول : كتبا.

ذكروا عن ابن عبّاس قال : هم اليهود والنصارى آمنوا ببعض وكفروا ببعض.

وذكر بعضهم قال : هم رهط خمسة من قريش عضهوا (٢) كتاب الله ، فزعم بعضهم أنّه سحر ، وزعم بعضهم أنّه شعر ، وزعم بعضهم أنّه كهانة وزعم بعضهم أنّه أساطير الأوّلين ، وزعم بعضهم أنّ محمّدا مجنون ، وزعم بعضهم أنّه كاذب.

قال : أمّا أحدهم فالأسود بن عبد يغوث ، أتى على نبيّ الله وهو عند البيت ، فقال له الملك : كيف تجد هذا؟ فقال : بئس عبد الله. قال : قد كفيتكه. ثمّ أتى عليه الوليد بن المغيرة ، فقال له : كيف تجد هذا؟ فقال : بئس عبد الله. قال : كفيتكه. ثمّ أتى عليه الأسود بن المطّلب ، فقال الملك : كيف تجد هذا؟ قال : بئس عبد الله. قال : كفيتكه. ثمّ أتى عليه العاص بن وائل ، فقال له الملك : كيف تجد هذا؟ قال : بئس عبد الله. قال : كفيتكه.

فأمّا الأسود فأتى بغصن من شوك فضرب به على رأسه ووجهه حتّى سالت حدقتاه ، فكان يقول بعد ذلك : دعا عليّ محمّد بدعوة ، ودعوت عليه بأخرى ، فاستجاب الله له فيّ ، واستجاب لي فيه : دعا عليّ أن أثكل وأن أعمى (٣) فكان كذلك. ودعوت عليه أن يصير

__________________

(١) كذا في المخطوطات : «وكتب الله كلها قرآن». وهو الصحيح. ومعناه أنّ كتب الله كلّها مجموع أجزاؤها ، مضموم بعضها إلى بعض ، ومن معاني لفظ القرآن لغة الجمع والضمّ. انظر اللسان : (قرأ).

(٢) كذا في ق «عضهوا» ، وفي د وج «عضّوا» ولكلّ معنى. فأمّا عضّى ، تعضية ، فمعناه فرّق وجزّأ وهذا المعنى هو الأنسب هنا. وأمّا عضه ، يعضه عضها فمعناه : قذفه ورماه ببهتان وقال في الشيء أو الشخص ما ليس فيه زورا وبهتانا.

(٣) قيل : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا عليه فقال : اللهمّ أعم بصره ، وأثكله ولده. كذا رواه ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق ، ج ١ ص ٤٠٩ ، وابن جرير الطبريّ في تفسيره ، ج ١٤ ص ٧١.

٣٥٢

طريدا شريدا وحيدا مع يهود يثرب وسرّاق الحجّ ، فكان كذلك (١). وأمّا الوليد بن المغيرة فذهب يرتدي فتعلّق بردائه سهم لا يدرى راميه فأصاب إكحله فمات. وأمّا العاص بن وائل فوطئ على شوكة فأوتى في ذلك حتّى تساقط لحمه عضوا عضوا ، فمات وهو كذلك. وأمّا الأسود بن المطّلب وعديّ بن قيس فلا أدري ما أصابها ، وهم المستهزئون ، استهزأوا بكتاب الله وبنيّه (٢).

وقال بعضهم : هم خمسة نفر من قريش اقتسموا القرآن خمسة أجزاء ، كلّ رجل منهم جزءا نقضا على محمّد وردّا عليه.

وفي تفسير الكلبيّ : إنّهم سبعة عشر رجلا قسموا على عقاب (٣) مكّة لمن قدم مكّة من الناس ، يسألونهم عن محمّد ؛ فقالت طائفة : هو كاهن ، إنّما قوله كهانة ، وقالت طائفة : إنّما هو شاعر ، وقالت طائفة : إنّما هو مجنون يهذي من أمّ رأسه ، وقالت طائفة منهم : إنّما هو ساحر فعضهوا القرآن.

قال : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩٣).

قوله : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) : قال الكلبيّ : أظهر ما أمرت به ، وهذا بعدما اكتتم سنتين بمكّة ، ثمّ أمره أن يظهر ما أمره الله به. وقال مجاهد : اجهر بالقرآن في الصلاة.

قوله : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) نسخها القتال. (٩٤)

قوله : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (٩٥) : قال بعضهم : هم المقتسمون الخمسة.

__________________

(١) لا والله لم يكن طريدا ولا شريدا ولا وحيدا ، بل كان مكرّما مبجّلا ، عزيزا بين السابقين الأوّلين الذين هاجروا معه ، وفي منعة من الأنصار الذين آووا ونصروا ؛ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه ، ورضي الله عنهم أجمعين.

(٢) اقرأ بتفصيل : «كفاية الله أمر المستهزئين» في سيرة ابن هشام ، ج ١ ص ٤٠٨ ـ ٤١٠.

(٣) جمع عقبة ، وهي الطريق الصاعد في الجبل.

٣٥٣

وقال الكلبيّ : إنّ المقتسمين السبعة عشر. والمستهزئون خمسة : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والحارث بن قيس ، وهو عمّ عبد الله بن الزبعريّ ، والأسود بن المطلّب ، وهو أبو زمعة بن أسد ، والأسود بن عبد يغوث الزهريّ ، [ابن] (١) خال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أخي أمّه. قال : (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٩٦).

قوله : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) (٩٧) : أي إنّك ساحر ، وإنّك كاهن ، وإنّك مجنون ، وإنّك شاعر ، وإنّك كذّاب. (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (٩٨) : أي المصلّين.

(وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (٩٩) : يعني الموت. وهو تفسير مجاهد.

وقال بعضهم : عند الموت يأتيك يقين ، أي : من الخير أو الشرّ. وكان الحسن يقول : ابن آدم عند الموت يأتيك اليقين.

__________________

(١) سقطت هذه الكلمة من جميع المخطوطات ، والصواب إثباتها ، لأنّه الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف ، وأمّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم آمنة بنت وهب بن عبد مناف.

٣٥٤

تفسير سورة النّحل

وهي من أوّلها إلى صدر هذه الآية : (والذين هاجروا في الله

من بعد ما ظلموا) [الآية : ٤١] مكّيّة وسائرها مدنيّ (١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) : قال الحسن : هذا جواب من الله لقول المشركين للنبيّ عليه‌السلام : (ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣٢) [الأنفال : ٣٢] ، ولقولهم : (عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) [سورة ص : ١٦]. فقال : (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) [العنكبوت : ٥٤]. وقال : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) أي : إنّ العذاب قريب. وبعضهم يقول : يستعجلونك بعذاب الآخرة ، وذلك منهم تكذيب واستهزاء. فأنزل الله : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ).

قوله : (سُبْحانَهُ) : أي ينزّه نفسه عمّا يقول المشركون (وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١) : من العلوّ ، أي : ارتفع عمّا يشركون به.

قوله : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ) : أي : بالرحمة والوحي (مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ).

ذكروا عن كعب قال : إنّ أقرب الملائكة إلى الله إسرافيل. وإذا أراد الله أمرا أن يوحيه جاء اللوح حتّى يصفق جبهة إسرافيل ، فيرفع رأسه ، فينظر ، فإذا الأمر مكتوب ، فينادي جبريل فيلبّيه ، فيقول : أمرت بكذا ، فلا يهبط جبريل من سماء إلى سماء إلّا فزع أهله مخافة الساعة ، حتّى يقول جبريل : الحقّ من عند الحقّ ، فيهبط على النبيّ عليه‌السلام ، فيوحي إليه.

قوله : (أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) (٢) : أي لا تعبدوا معي إلها آخر.

__________________

(١) ورد هذا التفصيل بين ما هو مكيّ وما هو مدنيّ من هذه السورة في كلّ من ج ، ود ، وز ، ورقة ١٧١ ، وسقط من ق.

٣٥٥

قوله : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) : يعني بالإنسان ههنا المشرك (١) (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) (٤) : وهو كقوله : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (٧٨) [يس : ٧٧ ـ ٧٨].

قوله : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها) : يعني الإبل والبقر والغنم (لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) : أي ما يصنع من الكسوة من أصوافها وأوبارها وأشعارها. (وَمَنافِعُ) : في ظهورها. هذه الإبل والبقر ، وألبانها في جماعتها. قال : (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) (٥) : أي من جماعتها ، أي : لحومها. ويؤكل من البقر والغنم السمن.

وقال بعضهم : (لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) أي : لباس. وقال مجاهد : لباس ينسج.

وقال مجاهد في قوله : (وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) قال : منها مركب ولحم ولبن.

قوله : (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ) : أي حين تروح عليكم راجعة من الرعي. (وَحِينَ تَسْرَحُونَ) (٦) : أي : تسرحونها إلى الرعي.

وقال بعضهم : (ولكم فيها جمال حين تريحون) يعني الإبل. وهي أعجب ما تكون إذا راحت عظاما ضروعها ، طوالا أسنمتها ، (وحين تسرحون) إذا سرحت لرعيها.

قوله : (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ) : أي البلد الذي تريدونه.

وفي تفسير الحسن أنّها الإبل والبقر. (إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) : أي لو لا أنّها تحمل أثقالكم لم تكونوا بالغي ذلك البلد إلّا بمشقّة على أنفسكم. وقال بعضهم : إلّا بجهد الأنفس. ومن فسّرها بجهد الأنفس فهو يقرأها بشقّ الأنفس.

(إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٧) : يقول : فبرأفة الله وبرحمته سخّر لكم هذه الأنعام ، وهي للكافر رحمة الدنيا ليرزقه فيها من النعم.

__________________

(١) وقيل : الإنسان هنا اسم جنس ، ويقصد به جميع الناس ولا يخصّ به المشرك من غيره.

٣٥٦

قوله : (وَالْخَيْلَ) : يقول : وخلق الخيل (وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) : أي في ركوبها. وذكر بعضهم أنّ الله خلقها للركوب وللزينة.

ذكروا عن جابر بن عبد الله أنّهم أكلوا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير ، فنهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن لحوم الحمير والبغال ولم ينه عن الخيل.

ذكر عطاء عن جابر بن عبد الله أنّهم كانوا يأكلون لحم الخيل على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وذكر عن الحسن قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن لحوم الحمر الأهليّة وعن ألبانها.

ذكر الحكم الغفاري مثل ذلك. قال : وأبى البحر (١) ذلك. قيل : من البحر؟ قال : ابن عبّاس. قال : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ...) إلى آخر الآية [الأنعام : ١٤٥].

قال : (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٨) : أي من الأشياء كلّها ممّا لم يذكر لكم.

قوله : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) : أي قصد الطريق ، أي : طريق الهدى إلى الجنّة ، كقوله : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) (١٢) [الليل : ١٢]. وكقوله : (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) (٤١) [الحجر : ٤١]. وقال بعضهم : (قصد السّبيل) : بيان حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته.

قوله : (وَمِنْها جائِرٌ) : أي وعنها ، أي : عن السبيل جائر ، وهو الكافر جار عن سبيل الهدى. وجار عنها وجار منها واحد ، وهي في قراءة ابن مسعود : (ومنكم جائر). قال بعضهم : جائر من السبيل ، أي : عن سبيل الهدى ، ناكب عنها. وذلك تفسيرها (٢).

__________________

(١) في المخطوطات : «وأبى البحر من ذلك». أي : أنّ ابن عبّاس أبى أكل لحوم الخيل. والمرويّ في المسألة أنّ ابن عبّاس سئل عن أكل لحوم الخيل فكرهها. انظر اختلاف العلماء في أكل لحوم الخيل في تفسير القرطبي ، ج ١٠ ص ٧٥ ـ ٧٨.

(٢) قال الفرّاء في معاني القرآن ، ج ٢ ص ٩٧ : «(وعلى الله قصد السّبيل) ، يقال : هداية الطريق ، ويقال : السبيل : الإسلام. (ومنها جائر) يقال : الجائر : اليهوديّة والنصرانيّة».

٣٥٧

قال : (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (٩) : مثل قوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس : ٩٩]. وكقوله : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) [الرعد : ٣١].

قال : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) (١٠) : أي ترعون أنعامكم ، أي : تسرحونها فيه. وقال مجاهد : (تسيمون) أي : ترعون.

قوله : (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ) : أي بذلك الماء (الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) : ذكر بعضهم قال : إنّ الله أهبط إلى الأرض من الجنّة ثلاثين ثمرة ؛ عشر يؤكل داخلها ولا يؤكل خارجها ، وعشر يؤكل خارجها ولا يؤكل داخلها ، وعشر يؤكل داخلها وخارجها (١). قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١١) : وهم المؤمنون. قال : فالذي ينبت من ذلك الماء الواحد هذه الألوان المختلفة قادر على أن يحيي الموتى.

قوله : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) : يختلفان عليكم (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ) : يذكّر عباده نعمته عليهم ، وينبّههم بها على لسان نبيّه ممّا لم ينتبّهوا له إلّا بالمنبّهين ، وهم الأنبياء. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (١٢) : وهم المؤمنون.

قوله : (وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ) : أي وما خلق لكم في الأرض (مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) : قال الحسن : من النبات. وقال بعضهم : من الدوابّ والشجر والثمار. قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (١٣) : وهم المؤمنون.

قوله : (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ) : أي خلق البحر (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا) :

__________________

(١) هذا نوع من التكرار الذي لاحظه ابن أبي زمنين على تفسير ابن سلّام ، والذي لا لزوم له ، فقد مرّ هذا القول في هذا الجزء قريبا في تفسير الآية ٣ من سورة الرعد.

٣٥٨

أي الحيتان (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) : أي اللؤلؤ. (وَتَرَى الْفُلْكَ) : أي السفن (مَواخِرَ فِيهِ) : يعني شقّها الماء في وقت جريها (١).

وقال بعضهم : (مواخر فيه) أي : سفن البحر مقبلة مدبرة تجري فيه بريح واحدة. وقال مجاهد : ولا تجري الريح من السفن إلّا العظام (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) : يعني طلب التجارة في البحر. (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٤) : أي لكي تشكروا. وهو مثل قوله :(لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) (٨١) [النحل : ٨١].

قوله : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) : وهي الجبال (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) : أي لئلّا تتحرّك بكم. وقال مجاهد : أن تكفأ بكم. وقد فسّرناه في غير هذا الموضع (٢). (وَأَنْهاراً) : أي : جعل فيها أنهارا (وَسُبُلاً) : أي : طرقا (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٥) : أي لكي تهتدوا الطرق.

(وَعَلاماتٍ) : أي جعلها في الطرق تعرفونها بها. (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) (١٦) : والنجم جماعة النجوم التي يهتدون بها (٣).

قوله : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ) : يعني نفسه (كَمَنْ لا يَخْلُقُ) : يعني الأوثان ، على الاستفهام ، هل يستوون؟ أي : لا يستوي الذي يخلق والأوثان التي لا تخلق والتي تعبدون من دون الله ، التي لا تملك ضرّا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، والنشور البعث.

(أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (١٧) : يقوله للمشركين. والمؤمنون هم المتذكّرون. يقول :

__________________

(١) قال أبو عبيدة في المجاز : «(وترى الفلك مواخر فيه) من مخرت الماء ، أي : شقّته بجاجئها ، والفلك ههنا في موضع جميع ، فقال : فواعل ، وهو موضع واحد ، كقوله : (الفلك المشحون) ...» [الشعراء : ١١٩].

(٢) انظر ما سلف في هذا الجزء ، تفسير الآية ٣ من سورة الرعد.

(٣) روى الطبريّ في تفسيره ، ج ١٤ ص ٩١ ـ ٩٢ بسند عن قتادة قال : «قوله (وعلامات وبالنّجم هم يهتدون) والعلامات النجوم. وإنّ الله تبارك وتعالى إنّما خلق هذه النجوم لثلاث خصلات : جعلها زينة للسماء ، وجعلها يهتدى بها ، وجعلها رجوما للشياطين. فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد رأيه ، وأخطأ حظّه ، وأضاع نصيبه ، وتكلّف ما لا علم له به».

٣٥٩

(أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) والله هو الخالق ، وهذه الأوثان التي تعبدون من دون الله تخلق ولا تخلق شيئا.

قوله : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ) : أي ما يسرّ المشركون من نجواهم في أمر النبيّ ، أي : ما يتشاورون في أمره ، مثل قوله : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي : الذين أشركوا (هَلْ هذا) يعنون محمّدا (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) (٣) [الأنبياء : ٣] أي : إنّه سحر. يعنون القرآن. قال الله : (وَما تُعْلِنُونَ) (١٩) : أي من شركهم وجحودهم.

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) : يعني الأوثان (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) (٢٠) : أي يصنعون بأيديهم. قال إبراهيم : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (٩٦) [الصافّات : ٩٥ ـ ٩٦] أي : بأيديكم.

قوله : (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) : أي : الأوثان أموات لا أرواح فيها (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) (٢١).

قال بعضهم : تحشر الأوثان بأعيانها فتخاصم عابديها عند الله بأنّها لم تدعهم إلى عبادتها ، وإنّما كان دعاهم إلى عبادتها الشيطان. قال الله : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) أي : أمواتا لا أرواح فيها (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) (١١٧) [النساء : ١١٧].

قوله : (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) : أي : لا يصدّقون بالآخرة (قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) : أي لهذا القرآن. وبعضهم يقول : منكرة لا إله إلّا الله (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) (٢٢) : عن عبادة الله وعمّا جاء به رسول الله. وقال بعضهم : عن القرآن ، وهو واحد. ثمّ قال : (لا جَرَمَ) : وهي كلمة وعيد (١). (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما

__________________

(١) أصلها : لا بدّ ولا محالة ، ثمّ صار لها أحيانا معنى القسم. وقال المفسّرون : معناها : حقّا. انظر ما قاله الفرّاء في معاني القرآن ، ج ٢ ص ٥٨ في أصل معنى لا جرم واستعمالها ومعناها الذي لها بعد ذلك. وانظر اللسان (جرم) فإنّ ابن منظور يفصّل مختلف معانيها واستعمالها. وانظر ما سلف في هذا الجزء ، تفسير الآية ٢٢ من ـ

٣٦٠