تفسير كتاب الله العزيز - ج ٢

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٢

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٣

غيرانا (أَوْ مُدَّخَلاً) : أي بيوتا. وقال الكلبيّ : الملجأ : الحرز ، والمغارات : الغيران في الجبل ، والمدّخل : السرب في الأرض.

قال : (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) (٥٧) : أي وهم يسرعون الانطلاق إليه ، يعني المنافقين. وقال مجاهد : لو يجدون محرزا لولّوا إليه ، أي : لفرّوا إليه منكم.

قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) : [أي : يعيبك ويطعن عليك] (١). قال مجاهد : يروزك (٢). (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) (٥٨).

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينما هو يوما يقسم ذهبا وفضّة ، إذ جاء رجل من المنافقين ، قال بعضهم : ناتئ الجبين ، مشرف الحاجبين ، غائر العينين ، فقال : يا محمّد ، إن كان أمرك الله أن تعدل فما عدلت هذا اليوم. فقال : ويلك فمن يعدل عليك بعدي. ثمّ قال : احذروا هذا وأشباهه ، فإنّ في أمّتي أشباه هذا ؛ قوم يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة (٣).

ذكروا أنّ جابر بن عبد الله الأنصاريّ قال : إنّ رجلا أتى النبيّ وهو يقسم ذهبا وفضّة ، فقال : يا محمّد ، إن كان الله أمرك أن تعدل ، فما عدلت اليوم. فقال له النبيّ : لقد شقيت ، إن لم أعدل فمن يعدل (٤).

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ١٢٨.

(٢) في سع وع : «يدورك» وفيه تصحيف ، وفي ج ود : «يرورك» (كذا بدون نقط). والصحيح ما أثبتّه : «يروزك» ، وفي اللسان : «الروز : التجربة ، رازه ، يروزه روزا : جرّب ما عنده وخبره». وفي تفسير مجاهد ، ص ٢٨٢ : «يقول : يتّهمك ، يسألك ويروزك». وانظر تفسير الطبري ، ج ١٤ ص ٣٠٢ ، تعليق : ١.

(٣) حديث متّفق عليه ، رواه البخاريّ في كتاب الأدب ، باب ما جاء في قول الرجل : ويلك ، عن أبي سعيد الخدريّ. وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة ، باب ذكر الخوارج وصفاتهم من طرق (رقم ١٠٦٣) والرجل هو ذو الخويصرة التميميّ.

(٤) انظر التعليق السابق.

١٤١

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : والذي نفسي بيده ، ما أعطيكم شيئا ولا أمنعكموه ؛ إنّما أنا خازن أضع حيث أمرت (١).

قوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) : أي ما أعطاهم الله ورسوله (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ) : وهي تقرأ على وجه آخر بالنصب : سَيُؤْتِينَا الله وَرَسُولهُ) ، أي : ويؤتي رسوله (إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) (٥٩) : وفيها إضمار ، أي : لكان خيرا لهم من النفاق الذي كفروا به.

قوله : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٦٠).

فالفقير : الذي به زمانة ، أي عاهة في بعض جسده ، وهو محتاج. والمسكين : الذي ليست به زمانة وهو محتاج. والعاملون عليها ، أي على الصدقات الذين يسعون في جمعها. والمؤلّفة قلوبهم : قوم كانوا يتألّفهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليسلموا ؛ منهم أبو سفيان بن حرب ، وعيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر ، والحارث بن هشام ، وصفوان بن أميّة بن خلف ، وسهيل بن عمرو ، والأقرع بن حابس ، أعطاهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين ؛ أعطى أبا سفيان ورهطا معه مائة مائة من الإبل ، وأعطى الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن خمسين خمسين من الإبل. وفي الرقاب ، يعني المكاتبين. والغارمون : قوم عليهم دين [أو غرم] (٢) من غير فساد. وفي سبيل الله ؛ يحمل من ليس له حملان ويعطى منها. وابن السبيل : الضيف والمسافر إذا قطع به وليس له شيء (٣) جعل الله له فيها نصيبا. قال بعضهم : ويحمل في سبيل الله من الصدقة ، ويعطى إذا كان لا شيء له ، ثمّ يكون له سهم مع المسلمين.

__________________

(١) مضى تخريجه فيما سلف من هذا الجزء ، تفسير الآية ٤١ من سورة الأنفال.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ١٢٨.

(٣) كذا «وليس له شيء» انفردت بها المخطوطات ق ، ع ، ود ، ولم ترد العبارة في ز.

١٤٢

ذكروا أنّ عليّا وابن عبّاس قالا : إنّما هو علم جعله الله ، ففي أيّ صنف منهم جعلتها أجزأك.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إنّ المسكين ليس بالطوّاف الذي تردّه الأكلة والأكلتان ، والتمرة والتمرتان ، ولكن الذي لا يجد ما يغنيه ولا يسأل الناس إلحافا (١). ذكروا عن الحسن قال : ليس للعاملين عليها ولا للمؤلّفة قلوبهم اليوم شيء ، إلّا ما جعل الإمام للعاملين عليها. وكان يقول : ليست بسهام تقرع (٢) ، ولكن على ما يرى الإمام ، فربما كان بنو السبيل قليلا والفقراء كثيرا. وربما كان الفقراء كثيرا والمساكين كثيرا. وكذلك المكاتبون والغارمون. وإنّما هو على ما يرى الإمام من كثرتهم وقلّتهم وفقرهم.

قال : (وَفِي سَبِيلِ اللهِ) إذا لم يسعهم الفيء رضخ لهم من الصدقة.

(وَابْنِ السَّبِيلِ) : الرجل المنقطع به في الأرض ، فإنّه يرضخ له من الصدقة ، وإن كان في أرضه ذا مال كثير ، ولا يكون ذلك دينا عليه.

ذكر بعض السلف قال : إنّ حقّا على الناس إذا جاءهم المصدّق أن يرحّبوا به ، وأن يطعموه من طعامهم ، فإن أخذ الصدقة على وجهها فسبيل ذلك ، وإن تعدّى لم يضرّ إلّا نفسه ، وسيخلف الله عليهم. ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : المتعدّي في الصدقة كما نعها (٣).

ذكروا أنّ عقبة بن عامر الجهنّي قال : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساعيا ، فاستأذنته أن نأكل من الصدقة فأذن لنا.

__________________

(١) انظر تخريجه فيما سلف ج ١ تفسير الآية ٢٧٣ من سورة البقرة (التعليق).

(٢) كذا في ق وع : «تقرع» ، وفي د وج : «توزع».

(٣) أخرجه الربيع بن حبيب في مسنده في كتاب الزكاة والصدقة ، باب الوعيد في منع الزكاة (رقم ٢٤٢) «عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا صلاة لمانع الزّكاة ـ قالها ثلاثا ـ والمتعدّي فيها كما نعها». قال الربيع : المتعدّي فيها هو الذي يدفعها لغير أهلها. وفي كتاب الخراج لأبي يوسف ص ١٧٥. «عن عبد الله بن مسعود أنّه قال : ما مانع الصدقة بمسلم ، ومن لم يؤدّها فلا صلاة له».

١٤٣

ذكروا عن عون بن أبي جحيفة (١) عن أبيه قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلينا ساعيا فأمره أن يأخذ الصدقة من أغنيائنا فيجعلها في فقرائنا ، وكنت غلاما فأعطاني منها قلوصا.

ذكروا أنّ أوّل مكاتب كوتب في الإسلام أبو مؤمل على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أعينوا أبا مؤمل (٢). فأعطي حتّى فضل منه فضلة من مكاتبته ، فسأل عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : أنفقها في سبيل الله.

ذكروا أنّ مكاتبا قام إلى أبي موسى الأشعريّ فقال : إنّي رجل مكاتب ، فحثّ عليّ الناس. قال : فحثّ أبو موسى عليه الناس. فألقى إليه من الدراهم والثياب حتّى قال : حسبي. فانطلق إلى منزله فوجد معه فضلة ثلاثمائة درهم. فسأل عن ذلك أبا موسى الأشعريّ ، فأمره أن يجعلها في مثله من الناس.

ذكروا أنّ مكاتبا كان في عهد عليّ تصدّق عليه ، ففضل عن مكاتبته فضل ، فأمره عليّ أن يجعله في المكاتبين.

قال : وكذلك الغارمون الذين لزمهم دين من غير فساد ، يجمع لهم من الصدقة ويأخذون منها كفاف ديونهم. فإن أعطوا أكثر من ذلك حتّى تفضل في أيديهم منه فضلة ردّوا تلك الفضلة على مثلهم في مثل حالهم.

وسئل بعض السلف عن الرجل العالم الفقيه الذي قد اتّخذه المسلمون سلفا وإماما ، فاستقلّ بأمور المسلمين والنظر في حوائجهم ، وهو فقير ، هل ينظر المسلمون له نظرا يغنونه عن المسألة ، ويفضّلونه على من سواه ممّن لم يحتمل من أمور المسلمين ما احتمل؟ فقال : نعم. وهل ينبغي للمسلمين إلّا هذا؟ وهل يجوز لهم أن يحتاج فيهم مثل هذا؟ وقد كان

__________________

(١) في ق وع «جحفة» ، وفي د : «حذيفة» ، وفي كلتا الكلمتين تصحيف صوابه : «جحيفة» كما جاء في الاستيعاب لابن عبد البرّ ، ج ٤ ص ١٦١٩ ـ ١٦٢٠.

(٢) لم أجد فيما بين يديّ في مصادر الحديث هذا الحديث ، ولم أعثر على اسم هذا الرجل المكنّى بأبي مؤمل فيما بين يديّ من تراجم الرجال. فهل هذا ممّا انفرد بروايته يحيى بن سلّام البصريّ؟.

١٤٤

عمر بن الخطّاب يفضّل أهل الفضل في الإسلام ، ويخصّهم من الصدقة والفيء بما لا يخصّ به غيرهم لما يحتملون من أمور المسلمين ، ويشغلون أنفسهم بحوائج المسلمين عن حوائجهم. فأهل أن يفضّلوا ، وأهل أن يشرّفوا ، وأهل أن ينظر لهم المسلمون بما يسعهم ويقوتهم ويقوت عيالهم (١).

قوله : (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) أي : لهؤلاء الذين سمّى في هذه الآية. وذلك في جميع الزكاة ، في الذهب والفضّة والماشية والثمار والحبوب والزروع. (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) عليم بخلقه ، حكيم في أمره.

قوله : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) : يعني المنافقين.

قال الحسن : كانوا يقولون : ما هذا الرجل إلّا أذن ، من شاء صرفه حيث شاء ، [ليست له عزيمة] (٢) ، فقال الله : (قُلْ) يا محمّد (أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) : أي هذا الرجل الذي تزعمون أنّه أذن ، خير لكم. (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) : [أي يصدّق الله ويصدّق المؤمنين] (٣) ، (وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) : أي : وهو رحمة للذينءامنوا منكم. أي إنّه رحمة للمؤمنين ، رحمهم‌الله بها ، واستنقذهم من الجاهليّة وظلمتها إلى النور ، وأنقذهم من النار إلى الجنّة.

وقال مجاهد : (وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) أي : سنقول له فيصدّقنا. يعني المنافقين يقولون : نحلف له فيعذرنا. وبعضهم يقرأها : (قُلْ أُذُن خَيْر لَكُمْ) ااي : هو أذن خير لكم.

قوله : [(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١) يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ

__________________

(١) هذا كلام نفيس من الشيخ هود الهوّاريّ ، وتوجيه سديد من سيّدنا عمر رضي الله عنه. وليت جماعات المسلمين يفقهون هذا الكلام فيعرفون لذوي الفضل فضلهم ، ولمن يضحّون بجهدهم الفكريّ وبأوقاتهم الثمينة يصرفونها في سبيل إعلاء كلمة الله ، وفي سبيل الصالح العامّ ، فيكفونهم مؤونة العيش ويخفّفون عنهم وطأة الحياة إن كانوا محتاجين.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ١٢٩.

(٣) زيادة من ز ، ورقة ١٢٩.

١٤٥

لِيُرْضُوكُمْ) : أي بالعلل والكذب (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) : أي بالصدق والوفاء (إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) (٦٢) : أي إنّهم يزعمون أنّهم مؤمنون بالإقرار والتوحيد دون العمل بجميع الفرائض التي فرض الله عليهم. وليسوا بمؤمنين حتّى يكملوا جميع فرائض الله في القول والعمل. فقال : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ ، أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) من أن يرضوكم بالعلل والكذب.

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ) : أي من يشاقق الله ورسوله ، وقال بعضهم : من يخالف الله ورسوله (فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) (٦٣) : أي قد أنزل الله ذلك عليهم ، وأعلمهم به ، واتّخذ به الحجّة عليهم. وهو كقوله : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً) [الأنبياء : ٣٠]. وكقوله : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (٧٨) [التوبة : ٧٨].

قوله : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) : من النفاق وما كانوا يحذرون. ففعل الله ذلك بهم ، فأخرج أضغانهم ، وهو ما كانوا يكنّون في صدورهم. وإنّما حذروا من شيء تيقّنوا به ، ولو كانوا مشركين لم يحذروه لأنّهم يجحدونه ولا يقرّون به.

وقال مجاهد : يقولون القول بينهم ثمّ يقولون : نخشى الله أن يفشي علينا سرّنا هذا. ذكر بعضهم قال : كانت هذه السورة تسمّى جاهرة ، أي : جهرته (١). وبعضهم يقول : حافرة ، أي حفرت عن ذنوب القوم ، يعني المنافقين. وقال بعضهم : كانت هذه السورة تسمّى فاضحة المنافقين ، لأنّها أنبأت بمقالتهم وأعمالهم. وقال الحسن : كانت تسمّى حافرة ، أنبأت بما في قلوب المنافقين.

__________________

(١) كذا في د وج : «جهرته» ، وفي ق وع : «جهرة» ويبدو أنّ في الكلام سقطا. ولم أجد هذا الوصف هذه السورة ضمن تسعة أسماء لها ذكرها ابن الجوزيّ في زاد المسير ، ج ٣ ص ٣٨٩ ، ولا ضمن اثني عشر اسما عدّدها الزمخشريّ في الكشّاف ، ج ٢ ص ٢٤١.

١٤٦

(قُلِ اسْتَهْزِؤُا) : أي بمحمّد وأصحابه ، وهو وعيد هوله شديد ، كقوله : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩] وهو وعيد. (إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) (٦٤) : أي ما أكنتم في قلوبكم من النفاق فمخرجه ، فذاكره عنكم. وأمّا قوله : (اسْتَهْزِؤُا) فهو جواب من الله لقولهم. (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) يعني كفّار المشركين (قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) أي في المودّة (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) (١٤) [البقرة : ١٤ ـ ١٥]. أي إنّما نحن مخادعون. والاستهزاء في هذا الموضع إنّما هو الخداع. ألا تراه يردّ عليهم جوابهم : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) أي يخدعهم في الآخرة كما خدعوه في الدنيا.

وقد أوضح ما تأوّلنا عليه الآية في النساء فقال : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) [النساء : ١٤٢] يخادعونه بما أظهروا من التوحيد والإقرار ، وليس من شأنهم الوفاء بالأعمال. وهو خادعهم إذ جعل مساقهم مع المؤمنين. وبيان خدعه إيّاهم في سورة الحديد. وسنذكر ذلك أيضا في سورة الحديد إذا أتينا عليه ، كيف خدعهم الله عند ضرب السور بينهم وبين المؤمنين إذ طمعوا أن يكونوا من المؤمنين ، إذ سيقوا في زمرتهم بالنور القليل الذي كان معهم ، وبه ناكحوا المسلمين ووارثوهم. فطفئ نور المنافقين ، ومضى نور المؤمنين من بين أيديهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم. وسنأتي على بقيّة ما بقي من هذا في سورة الحديد إذا نحن بلغناها إن شاء الله.

قوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) (٦٥).

قال الكلبيّ : بلغنا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين رجع من تبوك ، بينما هو يسير إذا برهط أربعة يسيرون بين يديه وهم يضحكون. فنزل جبريل على النبيّ عليه‌السلام فأخبره أنّهم يستهزئون بالله تعالى ورسوله وكتابه. فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمّار بن ياسر فقال : أدركهم قبل أن يحترقوا واسألهم ممّا يضحكون ، فإنّهم سيقولون : ممّا يخوض فيه الركب إذا ساروا (١).

__________________

(١) روى ابن هشام هذا الخبر عن ابن إسحاق بتفصيل في سيرته ، ج ٤ ص ٥٢٤ ـ ٥٢٩ ، وأورده الواقديّ ـ

١٤٧

فلحقهم. فقال لهم : ممّ تضحكون وما تقولون؟ فقالوا : ممّا يخوض فيه الركب إذا ساروا ، فقال عمار : صدق الله وبلّغ الرسول ، احترقتم لعنكم الله. وكان يسايرهم رجل لم ينههم ولم يمالئهم. فأقبل ذلك الرجل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، والذي أنزل عليك الكتاب ما مالأتهم ولا نهيتهم. وجاءوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعتذرون فأنزل الله :

(لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) : فأخبر أنّ لهم إيمانا كفروا بعده ، وأنّ المشركين لم يتطاعموا (١) إيمانا قطّ فيكفروا بعد إيمانهم.

(إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) (٦٦) : أي جرم نفاق ، لأنّه جرم دون جرم ، وجرم فوق جرم ، فيرجى أن يكون العفو من الله لمن لم يمالئهم ولم ينههم (٢). وقال بعضهم : بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض أسفاره ، وبين يديه ناس من المنافقين ، فقالوا : أيرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها؟ هيهات ، هيهات من المنافقين ، فقالوا : أيرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها؟ هيهات ، هيهات له من ذلك. فأطلع الله نبيّه على ذلك فقال : احبسوا عليّ هذا الركب [فأتاهم] (٣) فقال : قلتم كذا وكذا. قالوا : يا رسول الله ، إنّما كنّا نخوض ونلعب.

قوله : (قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) أي : قد نافقتم بعد إقراركم وتوحيدكم ، يعني أهل هذا الكلام الذي تكلّموا به ، وهو كفر نفاق. وهو كفر المحدثين من أهل الإقرار بالله والنبيّ والكتاب.

__________________

ـ كذلك في المغازي ، ج ٣ ص ١٠٠٤ ـ ١٠٠٥.

(١) كذا في المخطوطات بصيغة التفاعل. ففي د : «تطاعموا» ، وفي ق وع : «تطامعوا» ، ويبدو أنّ المعنى : لم يذوقوا للإيمان طعما ، ولكنّي لم أجد هذا المعنى بهذه الصيغة في كتب اللغة.

(٢) انظر في معاني القرآن للفرّاء ، ج ١ ص ٤٤٥ معنى العفو عن الطائفة في هذه الآية فقد جاء في ذلك ما يلي : «والطائفة واحد واثنان ، وإنّما نزل في ثلاثة نفر ؛ استهزأ رجلان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن ، وضحك إليهما آخر ، فنزل : (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ) يعني الواحد الضاحك (نُعَذِّبْ طائِفَةً) يعني المستهزئين».

(٣) زيادة من تفسير الطبريّ ، ج ١٤ ص ٣٣٤ حيث جاء الخبر مرويّا بسند عن قتادة. وانظر في هذه الآية الواحدي ، أسباب النزول ، ص ٢٥٠ ـ ٢٥١.

١٤٨

قوله : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) : أي في الألفة والاجتماع على معاصي الله (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ) : وهو كلّ ما يعرف العباد جوره. (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) : وكلّ ما يعرف العباد عدله فهو معروف.

وقال بعضهم : (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ) أي بالكفر ، وهو النفاق. (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) وهو الإيمان ، أي : عن العمل بالصالحات ، وهي الإيمان ، وهذا يرجع إلى التأويل الأوّل ، وهو واحد.

(وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) : أي عن النفقة في سبيل الله وعن الزكاة. وقال مجاهد : لا يبسطونها بالنفقة في الحقّ. وقال بعضهم : لا يبسطونها إلى الخير.

قال : (نَسُوا اللهَ) : أي تركوا فرائض الله فلم يكملوها ولم يعملوا بجميعها (١). (فَنَسِيَهُمْ) : أي فتركهم كمن ليس مذكورا. وقال بعضهم : (فتركهم) أي : لم يذكرهم بما يذكر به المؤمنين أهل الوفاء والصدق من الخير. (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٦٧) : يعني فسق النفاق ، وهو فسق دون فسق ، وفسق فوق فسق.

قوله : (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ) : أهل الإقرار بالله والنبيّ والكتاب.

(وَالْكُفَّارَ) : أهل الإنكار والجحود (نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) : لا يموتون ولا يخرجون منها. (هِيَ حَسْبُهُمْ) : جميعا : المشركين والمنافقين. كقوله : (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها) [المجادلة : ٨] (وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) (٦٨) : أي دائم في الآخرة.

قال : (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) : يعني من الكفّار (كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) : يقول : لعنهم وأهلكهم وأوجب لهم النار. يقول : فسيعذّبكم كما عذّب الذين من قبلكم من الكفّار ، يعني الذين تقوم عليهم الساعة الدائنين بدين المشركين أبى جهل وأصحابه.

__________________

(١) كذا في المخطوطات الأربع ، وفي ز ، ورقة ١٢٩ : «(نَسُوا اللهَ) أي : تركوا ذكره بالإخلاص من قلوبهم».

١٤٩

قال : (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ) : قال الحسن : أي بدينكم (كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ) : أي : بدينهم (وَخُضْتُمْ) : في الكفر والتكذيب. رجع بهذا كلّه إلى كفّار قريش دون المنافقين. وخضتم في الكفر (كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ) : جميعا من الماضين والباقين (هُمُ الْخاسِرُونَ) (٦٩).

وقال الكلبيّ : (فَاسْتَمْتَعْتُمْ) في الدنيا بنصيبكم من الآخرة (كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) في الدنيا بنصيبهم من الآخرة.

قوله : (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ) : قريات قوم لوط الثلاث ، خسف بهم ، رفعها جبريل بجناحه حتّى سمع أهل سماء الدنيا صراخ كلابهم ثمّ قلبها. والمؤتفكات هي المنقلبات. وقال في آية أخرى : (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى) (٥٣) [النجم : ٥٣] وهي قريات قوم لوط الثلاث ، فهم يتجلجلون (١) فيها إلى يوم القيامة. يقول : ألم يأتهم خبرهم فيما أنزل الله في كتابه؟.

قال : (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) : أي أتت جميع هؤلاء رسلهم بالبيّنات (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) : أي بإهلاكه إيّاهم بعد قيام الحجج عليهم برسلهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٧٠) : أي بجحودهم وبشركهم ، يحذّر هؤلاء ما فعل بمن كان قبلهم.

قوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) : أي في الألفة والاجتماع على دين الله (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) : وهو ما يعرف العباد عدله (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) : وهو ما يعرف العباد جوره. وقال الحسن : (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) أي بالإيمان بالله (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي : عن الكفر بالله.

__________________

(١) يتجلجلون ، أي : يسيخون في الأرض ويدخلون فيها. وفي الحديث : «بينما رجل يجرّ إزاره من الخيلاء خسف به فهو يتجلجل إلى يوم القيامة».

١٥٠

قال : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) : أي على ما أمرهم الله به لا ينقصونها ، ولا يقومون إليها كسالى ، ولا يراءون الناس بها كما يفعل المنافقون. (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) : المفروضة ، طيّبة بها أنفسهم ، ليس كما يصنع المنافقون الذين لا ينفقون إلّا وهم كارهون.

قال : (وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) : في القول والعمل ، وفي كلّ ما تعبّدهم به من جميع فرائضه ، ليس كما صنع المنافقون الذين لم يطيعوا الله في كلّ ما تعبّدهم به من القول ، أي إنّهم قالوا ولم يعملوا ، يعني المنافقين.

(أُولئِكَ) : يعني المؤمنين الذين هذه صفتهم (سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) : أي : سيثيبهم الله (أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٧١) : أي : عزيز في نقمته حكيم في أمره.

قوله : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) : أهل الصدق والوفاء (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) : وقد فسّرنا الأنهار في غير هذا الموضع.

(خالِدِينَ فِيها) : أي في الجنّة (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) : ذكر الحسن قال : إنّ أدنى أهل الجنّة منزلة آخرهم دخولا. فيقال له : انظر ما أعطاك الله ، فيفسح له في بصره. فينظر مسيرة مائة ألف سنة كلّه له ، فليس فيه موضع شبر إلّا وهو عامر قصور الذهب والفضّة ، وخيام اللؤلؤ والياقوت. فيها أزواجه وخدمه ، يغدى عليه كلّ يوم بسبعين ألف صحفة من الذهب ، ويراح عليه بمثلها. في كلّ واحدة منها لون من الطعام ليس في صاحبتها ، يأكل من آخرها كما يأكل من أوّلها. لو نزل عليه الجنّ والإنس في غداء واحد وسعهم ، ولا ينقص ذلك ممّا عنده شيئا.

وذكروا عن ابن عبّاس قال : الخيمة درّة مجوّفة ، فرسخ في فرسخ ، لها أربعة آلاف مصراع من ذهب. ذكروا عن أبي موسى الأشعريّ قال : إنّ الرجل من أهل الجنّة لتكون له الخيمة طولها في السماء سبعون ميلا ، وإنّ له فيها لأهلا يطوف عليهم ولا يشعر بهم الآخرون.

وقال : (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) : قال الحسن : عدن اسم من أسماء الجنّة. وقال

١٥١

بعضهم : هي أشرف الجنان. ذكروا عن ابن عبّاس قال : عدن : بطنان الجنّة (١).

وقال : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) : أي أعظم ممّا هم فيه من ملك الجنّة. قال الحسن : وصل (٢) إلى قلوبهم من رضوان الله من اللذّة والسرور ما هو ألذّ عندهم وأقرّ لأعينهم من كلّ شيء أصابوه من لذّة الجنّة.

ذكروا عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا دخل أهل الجنّة الجنّة فرأوا ما فيها قال الله عزوجل لهم : لكم عندي أفضل من هذا. قالوا : ربّنا ليس شيء أفضل من الجنّة. قال : بلى ، أحلّ عليكم رضواني (٣).

قوله : (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٧٢) : قال الحسن : النجاة العظيمة. وقال بعضهم : فازوا من النار إلى الجنّة. وقد قال : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ) أي نجا من النار (وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) [آل عمران : ١٨٥] أي فقد سعد.

قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) : أي جاهد الكفّار المشركين بالسيف ، واغلظ على المنافقين بالحدود ، وهو تفسير الحسن. وقال الحسن : كان أكثر من يصيب الحدود يومئذ المنافقين. قال الكلبيّ : واغلظ على المنافقين ، أي : بالقول.

__________________

(١) بطنان الجنّة : وسطها ، كما ذكره الجوهريّ في الصحاح (بطن). وكما جاء في تفسير الطبريّ ، ج ١٤ ص ٣٥٣.

(٢) كذا في المخطوطات ، وفي ز ، ورقة ١٣٠ : «يصل» ، وهو أبلغ تعبيرا.

(٣) حديث متّفق عليه أخرجه البخاريّ ومسلم والترمذيّ وغيرهم. أخرجه البخاريّ في كتاب الرقائق ، وفي كتاب التوحيد ، باب كلام الربّ مع أهل الجنّة ، عن أبي سعيد الخدريّ ولفظه : إنّ الله يقول لأهل الجنّة : يا أهل الجنّة ، فيقولون : لبّيك ربّنا وسعديك ، والخير في يديك ، فيقول : هل رضيتم ، فيقولون : وما لنا لا نرضى يا ربّ ، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك. فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون : يا ربّ ، وأيّ شيء أفضل من ذلك؟ فيقول : أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا». وأخرجه مسلم في أواخر حديث طويل من كتاب الإيمان عن أبي سعيد الخدريّ (رقم ١٨٣). وأخرجه ابن سلّام بالسند التالي : «يحيى عن إبراهيم بن محمّد عن محمّد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله» كما جاء في ز ، ورقة ١٣٠.

١٥٢

قال : (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) : أي ومصيرهم ، أي منزلهم جهنّم. (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٧٣).

قوله : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ).

ذكروا عن الحسن قال : قال رجل من المنافقين لرجل من المسلمين : إن كان ما يقول محمّد حقّا لنحن أشرّ من الحمير. فقال المسلم : فأنا أشهد أنّ ما يقول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حقّ وإنّك شرّ من حمار. ثمّ أتى النبيّ عليه‌السلام فأخبره بذلك. فأرسل النبيّ إلى المنافق فقال : أقلت كذا وكذا؟ فقال : [والله] (١) يا رسول الله ما قلته ، [وحلف المسلم لقد قاله] (٢) فأنزل الله : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) أي : بعد إقرارهم وتوحيدهم (٣).

(وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) : قال مجاهد : هو المنافق الذي قال ما قال ، أراد أن يقتل المسلم الذي أخبر النبيّ عليه‌السلام بقول المنافق للمؤمن : إن كان ما يقوله محمّد حقّا فنحن أشرّ من الحمير (٤).

قال بعضهم : بإظهار النفاق. وكان يقول : كانوا نفرا ، وكان الرجل الذي أخبر النبيّ عليه‌السلام حاضرهم حين قال بعضهم : لئن كان ما يقول محمّد حقّا لنحن أشرّ من الحمير ؛ فلم يفطنوا بمكان الرجل ، فأرعب الله قلوبهم ، فقال في سورة الأحزاب : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) بالنبيّ وأصحابه ، وهم المنافقون ، يقولون : يهلك محمّد وأصحابه ، ونرجع إلى دين مشركي العرب.

__________________

(١) زيادة لا بد من إثباتها ، فالآية نصّ في ذلك.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ١٣٠.

(٣) أورد الطبريّ هذا الخبر في تفسيره ، ج ١٤ ص ٣٦١. والرجل الذي عناه هو الجلاس بن سويد الصامت ، كما جاء في بعض الروايات. وقد قيل : إنّه تاب بعد ذلك وحسنت توبته.

(٤) وقد أورد الواحديّ في أسباب النزول ، ص ٢٥١ ـ ٢٥٢ سببا لنزول الآية يشير إلى أنّ قوما همّوا بقتل النبيّ عليه‌السلام في عقبة.

١٥٣

وقال بعضهم : نزل هذا حين قالوا : (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) [المنافقون : ٨] فقال الله لئن لم ينتهوا عن إرجافهم وإظهارهم نفاقهم (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) أي لنسلّطنّك عليهم فتقتلهم ، (ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً) (٦٠) [الأحزاب : ٦٠]

وقال بعضهم : (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) أي : حين قالوا (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ).

قوله : (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) : يقول : لم ينقموا من الذي جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا إلّا أنّهم أصابوا الغنى في الدنيا ، ولو تمسّكوا به لأصابوا الجنّة في الآخرة. وهو كقوله : (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (٨) [البروج : ٨] وكقوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ) [المائدة : ٥٩].

قوله : (فَإِنْ يَتُوبُوا) : أي يرجعوا عن نفاقهم (يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا) : عن التوبة ، ويباينوا بالنفاق (١) (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا) بالسيف (وَالْآخِرَةِ) بالنار (وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍ) : يمنعهم من عذاب الله (وَلا نَصِيرٍ) (٧٤).

قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ) : فأوسع علينا من الرزق (لَنَصَّدَّقَنَ) : يعني الصدقة (وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٧٥) : أي : ممّن يطيع الله ورسوله. قال هذا المنافقون. قال الله : (فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ) : عن الإنفاق في سبيل الله وعن الصدقة ومنعوا حقّ الله. (وَتَوَلَّوْا) : أي عن الصلاح والطاعة (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٧٦) : أي عن أمر الله. (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ) : لا يتوبون منه (إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) (٧٧) : قال الحسن : ثلاث في المنافق : إذا وعد أخلف ، وإذا حدّث كذب ، وإذا اؤتمن خان (٢).

__________________

(١) كذا في المخطوطات الأربع ، وفي ز ، ورقة ١٣٠ : «ويظهروا الشرك».

(٢) هذا نصّ حديث متّفق عليه ، رواه أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ونصّه في صحيح مسلم ، كتاب الإيمان ، باب ـ

١٥٤

ذكروا عن الحسن قال : هؤلاء المنافقون ؛ ائتمنهم الله فخانوه ، أي : لم يكملوا بما كانوا أقرّوا لله من القول والعمل. أي : قالوا ولم يفعلوا ، ووعدوه فأخلفوه حين قالوا : (لَئِنْ ـ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي : المؤمنين المستكملين للقول والعمل (١).

قوله : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) : فسرّهم : الذي يخفونه والذي في قلوبهم من النفاق ، ونجواهم : ما يتناجون به من النفاق فيما بينهم. أي : قد علموا ذلك فيما أنزل الله في كتابه ، وقامت به الحجّة عليهم. (وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (٧٨).

قوله : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٧٩).

ذكروا أنّ عبد الرحمن بن عوف جاء بنصف ماله إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتقرّب به إلى الله فقال : يا رسول الله ، هذا صدقة [وأحسبه قال : يا رسول الله هذا نصف مالي أتيتك به ، وتركت نصفه لعيالي. فدعا الله أن يبارك له فيما أعطى وفيما أمسك] (٢). فلمزه المنافقون ، وقالوا : ما أعطى إلّا رياء وسمعة.

__________________

ـ بيان خصال المنافق ، (رقم ٥٩) : «آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان».

(١) هذا هو الحقّ إن شاء الله. فالآية عامّة نزلت في المنافقين لا في شخص بعينه. ولم يشر المؤلّف ـ على غير عادته ـ إلى سبب نزول الآية ، وإلى أنّها نزلت في صحابيّ يدعى ثعلبة بن حاطب الأنصاري. وقد أورد قصّته كثير من المفسّرين وجعلوها سببا لنزول الآية. انظر مثلا تفسير الطبري ، ج ١٤ ص ٣٧٠ ـ ٣٧٣. وأسباب النزول للواحديّ ، ص ٢٥٢ ـ ٢٥٤. وقد أجمع المؤرّخون وأصحاب السير والتراجم أنّ ثعلبة بن حاطب شهد بدرا وأحدا ، ولعلّه شهد الحديبيّة أيضا. وقد شكّ ابن حجر في الإصابة في نسبة هذا الخبر إليه وقال : «فمن يكون بهذه المثابة كيف يعقبه الله نفاقا في قلبه وينزل فيه ما نزل؟. فالظاهر أنّه غيره». فالأولى أن نتوقّف في قبول هذه الأخبار وتقويتها بدون تمحيص ، وأن نحسن الظنّ بالصحابة ، وخاصّة بمن قال فيهم من لا ينطق على الهوى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما يدريك يا عمر لعلّ الله اطّلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».

(٢) زيادة من ز ، ورقة ١٣١.

١٥٥

وجاء الحثحاث أبو عقيل (١) ، رجل من الأنصار ، إلى النبيّ عليه‌السلام فقال : يا رسول الله : بتّ البارحة أجرّ الجرير (٢) على صاعين من تمر. فأمّا صاع فأمسكته لأهلي ، وأمّا صاع فهذا هو. [فقال له نبيّ الله عليه‌السلام خيرا] (٣) ؛ فقال المنافقون : والله إن كان الله ورسوله لغنيّين عن صاع أبي عقيل. فأنزل الله هذه الآية. وقال : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) : أي خالفوا الله ورسوله (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٨٠) : أي لا يكونون بالفسق مهتدين عند الله. وهذا فسق النفاق ، وهو فسق دون فسق ، وفسق فوق فسق.

وكانوا يأتون النبيّ عليه‌السلام ويعتذرون إليه ، ويقولون : (إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) [التوبة : ١٠٧] و (إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً) (٦٢) [النساء : ٦٢]. فلمّا نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد خيّرني ربّي ، فو الله لأزيدنّهم على السبعين (٤) ؛ فأنزل الله هذه الآية في سورة المنافقون (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٦) [المنافقون : ٦] وهو فسق النفاق. وهذا ممّا يدلّ أهل الفراق أن لو كانوا مشركين كما وصفوا لم يستغفر لهم رسول الله ، ولم يقل : لأزيدنّ على السبعين مرّة في الاستغفار لهم ؛ وما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليجهل الشرك فيستغفر لأهله ، وقد قال الله : (ما

__________________

(١) أخرج الحديث البخاريّ عن أبي مسعود الأنصاريّ في كتاب التفسير ، باب (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ). وأخرجه ابن جرير الطبريّ من طريق سعيد عن قتادة مرسلا في تفسيره ، ج ١٤ ص ٣٨٤ ـ ٣٨٥. وقد اختلف الرواة في اسم أبي عقيل صاحب الصاع ؛ فقد ورد اسمه في مخطوطتي ق وع بلفظ الجحاب ، وكذلك ورد في تفسير الطبريّ بالحاء والباء. وقد أورد الحافظ ابن حجر في فتح الباري ، ج ٨ ص ٣٣١ مختلف هذه الروايات. ويبدو لي أنّ الراجح في ضبطه ما أثبتّه : «الحثحاث» بالحاء وبمثلّثتين ، كما ورد في الاستيعاب لابن عبد البرّ ، ج ٤ ص ١٧١٧ ، والله أعلم.

(٢) الجرير هو الحبل ، ويعني أنّه بات يستقي الماء من البئر وهو يجرّ حبل الدّلو.

(٣) زيادة من ز ، ورقة ١٣١.

(٤) أخرجه البخاريّ في كتاب التفسير عند تفسير الآية من سورة التوبة ، عن ابن عمر رضي الله عنهما. وأخرجه الطبريّ في تفسيره ج ١٤ ص ٣٩٦ عن ابن عبّاس مرفوعا ، وعن قتادة مرسلا.

١٥٦

كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (١١٣) [التوبة : ١١٣].

قوله : (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) : قال مجاهد : بعد الفتح وبعد الطائف وبعد حنين في الصيف ، حين اخترفت النخل ، وطابت الثمار ، واشتهي الظلّ ، وشقّ عليهم الخروج في إبّان الحرّ.

قال الله للنبيّ عليه‌السلام : (قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا) : من نار الدنيا في تفسير الحسن. (لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) (٨١) لعلموا أنّ نار جهنّم أشدّ حرّا من نار الدنيا.

ذكر بعضهم قال : بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مسير له في يوم شديد الحرّ إذ نزل منزلا وجعل أحدهم ينتعل ثوبه من شدّة حرّ الأرض ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أراكم تجزعون من شدّة حرّ الشمس وبينكم وبينها مسيرة خمسمائة عام ، والذي نفسي بيده لو أنّ بابا من أبواب جهنّم فتح بالمشرق ورجل بالمغرب لغلا دماغه حتّى يسيل من منخريه (١).

وذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لو أنّ غربا (٢) من جهنّم وضع في الأرض لأذى حرّه ما بين المشرق والمغرب.

وذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ناركم هذه التي توقدون بها جزء من سبعين جزءا من نار جهنّم. قيل : يا رسول الله ، إن كانت لكافية. قال : فإنّها فضلتها بتسعة وستّين جزءا كلّها مثل حرّها. وزاد فيه بعضهم قال : ضربت بالماء مرّتين لكي تنتفعوا بها وتدنوا منها (٣).

__________________

(١) رواه يحيى بن سلّام عن النضر بن معبد عن أبي قلابة كما جاء في ز ، ورقة ١٣١.

(٢) في بعض المخطوطات : «ترابا» ، وفي بعضها : «غرابا» ، والصحيح ما أثبتّه : «غربا» ، وهو الدلو العظيمة. وقد روى هذا الحديث الطبرانيّ عن أنس بلفظ أطول حسبما ذكر المنذريّ في الترغيب والترهيب ، ج ٤ ص ٤٦٢.

(٣) حديث متّفق على صحّته ، رواه البخاريّ ومسلم والترمذيّ وابن ماجه ؛ أخرجه البخاريّ في كتاب بدء ـ

١٥٧

قوله : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨٢) : يعني المنافقين. (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً) في الدنيا ، أي : إلى موتهم ، (وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) أي : في النار إذا صاروا إليها.

ذكروا عن أبي موسى الأشعريّ أنّه قال : إنّ أهل النار ليبكون الدموع ، حتّى لو أنّ السفن أرسلت في دموعهم لجرت ، ثمّ يبكون بعد ذلك الدم (١).

ثمّ قال للنبيّ عليه‌السلام : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ) : أي : من غزوة تبوك (إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ) : أي من المنافقين (فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ) : معك (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) : فبذلك كفرتم ، وبذلك نهيت أن أستصحبكم (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) (٨٣) : أي مع النساء في تفسير الحسن. وفي تفسير الكلبيّ : مع الأشرار. ذكر بعضهم قال : ذكر لنا أنّهم كانوا اثني عشر رجلا قيل فيهم ما قيل.

قوله : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ). ثمّ أخبره لم ذاك وبم هو ، فقال : (بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) : أي خالفوا الله وخالفوا رسوله (وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) (٨٤) : وهو فسق النفاق.

قال بعضهم : بلغنا أنّه عبد الله بن أبيّ بن سلول ؛ لمّا مات جاء ابنه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، أعطني قميصك أكفّنه فيه. فأعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قميصه فكفنه فيه ، وصلّى عليه النبيّ. فأنزل الله : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) ثمّ أخبره لم

__________________

ـ الخلق ، باب صفة النار وأنّها مخلوقة ، عن ابن عمر. وأخرجه مسلم في كتاب الجنّة وصفة نعيمها وأهلها ، باب في شدّة حرّ نار جهنّم (رقم ٢٨٤٣) عن أبي هريرة ، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد ؛ باب صفة النار ، عن أنس بن مالك (رقم ٤٣١٨).

(١) هذا معنى حديث أخرجه ابن ماجه عن أنس بن مالك مرفوعا (رقم ٤٣٢٤) ولفظه : «يرسل البكاء على أهل النار فيبكون حتّى ينقطع الدموع ، ثمّ يبكون الدم حتّى يصير في وجوههم كهيئة الأخدود لو أرسلت فيه السفن لجرت».

١٥٨

ذاك وبم هو فقال : (بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي خالفوا الله وخالفوا رسوله (وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) (١).

وقال بعضهم : ذكر لنا أنّه مات منافق فكفنه رسول الله في قميصه وصلّى عليه ودلّاه في قبره. فأنزل الله هذه الآية. فذكر لنا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : وما يغني عنه قميصي من عذاب الله ، والله إني لأرجو أن يسلم به ألف من قومه (٢).

وقال بعضهم : إنّ رسول الله تقدّم ليصلّي عليه ، فأخذ جبريل بثوبه فقال : والله (لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً ...) إلى آخر الآية. وفي هذا دليل على أهل الفراق أن لو كانوا مشركين كما قالوا ما صلّى عليهم رسول الله ، ولا وقف على قبورهم ، ولا كفنهم في ثيابه ، ولا دلّاهم في قبورهم بعد قول الله : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) [التوبة : ٢٨] ، وبعد قوله : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (١١٣) [التوبة : ١١٣].

قوله : (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ) : أي وتموت أنفسهم (وَهُمْ كافِرُونَ) (٨٥) : أي وهم مخالفون لله ورسوله. أخبر أنّهم يموتون على الكفر. وقد فسّرناه في الآية الأولى التي قبل هذه الآية.

قوله : (وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ) : أي ذوو السعة والغنى في المقام والتخلّف عن الجهاد (وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ) (٨٦) (٣). قال : (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) : أي مع النساء في

__________________

(١) قصّة طلب عبد الله بن عبد الله بن أبيّ من رسول الله عليه‌السلام أن يصلّي على أبيه عبد الله بن أبيّ ، وصلاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه ثابتة في كتب التفسير والحديث. انظر مثلا : صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، سورة براءة. وتفسير الطبري ، ج ١٤ ص ٤٠٩.

(٢) ذكر السيوطيّ في الدر المنثور ، ج ٣ ص ٢٦٦ هذا الخبر الذي أخرجه أبو الشيخ عن قتادة وفيه : «والله إنّي لأرجو أن يسلم به أكثر من ألف من بني الخزرج».

(٣) في المخطوطات الأربع : («(مَعَ الْقاعِدِينَ) : أي مع النساء». وهو خطأ من النسّاخ ولا شكّ. وقد أثبتّ ـ

١٥٩

تفسير الحسن وغيره من العامّة. (وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) (٨٧).

قال : (لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ) : قال الحسن : الخيرات : النساء الحسان (١). وقد قال : (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) (٧٠) [الرحمن : ٧٠] (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٨٨) : أي السعداء.

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) : قد فسّرنا الأنهار في غير هذا الموضع (٢) (خالِدِينَ فِيها) : أي لا يموتون (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٨٩) : قد فسّرناه قبل هذا الموضع (٣).

قوله : (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) : يعني المنافقين من الأعراب (لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) : في القعود (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) : فيما أقرّوا به من الإقرار والتوحيد إذ تخلّفوا في غزوة تبوك (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٩٠) : أي موجع. وذلك يقع على جميع المنافقين.

قوله : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى) : نزلت في عبد الله بن أمّ مكتوم الأعمى وأصحابه (وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ) : أي جناح في التخلّف عن الغزو (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) : إذا كان لهم عذر. (ما عَلَى

__________________

ـ «النساء» تفسيرا «للخوالف» كما هو الصحيح. وكما ذهب إليه جمهور المفسّرين ؛ فإنّ صيغة فواعل تأتي في الأصل جمعا لمؤنّث على وزن فاعلة. وقد ورد فواعل وزنا لمذكّر مثل فارس فوارس ، وهالك وهوالك. انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة ، ج ١ ص ٢٦٥. أمّا القاعدون فهم الذين قعدوا في بيوتهم من العجزة والمرضى وغيرهم ممّن لا يخرج للجهاد.

(١) قال أبو عبيدة في مجاز القرآن ، ج ١ ص ٢٦٧ : «(وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ) وهي جمع خيرة ، ومعناها الفاضلة في كلّ شيء». وهو وصف ، وليس على صيغة التفضيل. وإذا أريد التفضيل قيل : هو ، أو هي ، خير الناس. وانظر اللسان : (خير).

(٢) انظر ما سلف ، ج ١ ، تفسير الآية ٢٥ من سورة البقرة.

(٣) انظر ما سلف ج ١ ، تفسير أواخر سورة المائدة ، الآية ١١٩.

١٦٠