تفسير كتاب الله العزيز - ج ٢

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٢

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٣

قوله : (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) (٥٦).

قال الكلبيّ : هؤلاء قوم ممّن كان وادع رسول الله عليه‌السلام ، وكانوا ينقضون العهد ، فأمر الله فيهم بأمره فقال :

(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ) : [أي تظفر بهم] (١) (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (٥٧) : أي لعلّ من بقي منهم أن يذّكّر ما فعل بمن عذّب. وقال مجاهد : أهل قريظة مالأوا (٢) على النبيّ يوم الخندق.

وقال الحسن : لعلّهم يؤمنون مخافة أن ينزل بهم ما نزل بالذين نقضوا العهد.

قال بعضهم : كان أنزل في سورة محمّد [الآية : ٤] : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) فكانوا إذا أخذوا أسيرا لم يكن لهم إلّا أن يفادوه ، أو يمنّوا عليه فيرسلوه ، فنسختها هذه الآية : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) أي : فعظ بهم من سواهم لعلّهم يذّكّرون.

ذكر رجل من خولان قال : كنّا مع عبد الله بن مسعود صاحب النبيّ عليه‌السلام في غزوة ، فكان إذا أوتي (٣) بأسارى قال : لعلّ لأحد منهم عندكم عهدا ، فإن قالوا : لا ، قسم أو قتل.

قوله : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) : أي تعلمنّ من قوم خيانة ، أي : نقضا للعهد ، يعني إذا هم نقضوا. كقوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما) [النساء : ٣٥] أي : وإن

__________________

(١) زيادة من ز ورقة ١٢٠.

(٢) في كلّ المخطوطات : «مالوا على النبي» ، وأثبتّ ما في تفسير مجاهد ، ص ٢٦٦ : «مالأوا على نبيّ الله». وفي تفسير الطبري ، ج ١٤ ص ٢٢ : «مالأوا على محمّد يوم الخندق أعداءه».

(٣) كذا في المخطوطات كلّها : «أوتي» ، وصوابه : «أتي بأسارى». نعم جاء في اللغة العربيّة : آتى به ، ولكن معناه : جازى ؛ وقد جاء في معاني القرآن للفرّاء ، ج ٢ ص ٢٠٥ ما يلي : «وقرأ مجاهد : (آتينا بها) بمدّ الألف ، يريد جازينا بها على فاعلنا وهو وجه حسن». وذلك في قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها) [الأنبياء : ٤٧].

١٠١

علمتم شقاق بينهما ، وذلك إذا كانا قد وقع الشقاق بينهما. (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) : أي على أمر بيّن. أي أعلمهم أنّك حرب لهم. وقوله : (عَلى سَواءٍ) أي : يكون الكفّار كلّهم عندك سواء. (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) (٥٨) : لدينهم إذا نقضوا العهد. وقال مجاهد : هم أهل قريظة.

قوله : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) : [أي : فاتوا. ثمّ ابتدأ فقال :] (١) (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) (٥٩) : أي لا يعجزون الله فيسبقونه حتّى لا يقدر عليهم.

قوله : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) : قال بعضهم : النّبل. وقال الحسن : ما استطعتم من قوّة تقوون بها عليهم.

ذكر عمرو بن عبسة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : من رمى سهما في سبيل الله فأصاب العدوّ أو أخطأه فهو كعتق رقبة (٢).

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إنّ الله ليدخل الجنّة بالسهم الواحد الثلاثة من الناس : صانعه يحتسب به في صنعته الخير ، والممدّ به ، والذي يرمي به. ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ارموا واركبوا ، وأن ترموا أحبّ إليّ من أن تركبوا ، ومن ترك الرمي بعدما علمه فهي نعمة كفرها (٣). قوله : (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) : أي تخوّفون به عدوّ الله وعدوّكم. ذكروا أنّ رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من ارتبط فرسا في سبيل الله فهو كباسط يده بالصدقة لا يقبضها (٤).

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ١٢٠.

(٢) أخرجه ابن ماجه في كتاب الجهاد ، باب الرمي في سبيل الله ، عن عمرو بن عبسة. (رقم ٢٨١٢).

(٣) أخرجه أبو داود والترمذيّ وابن ماجه عن عقبة بن عامر الجهني. فأخرجه ابن ماجه في كتاب الجهاد ، باب الرمي في سبيل الله (رقم ٢٨١١) وفي آخره : «وكلّ ما يلهو به المرء المسلم باطل إلّا رميه بقوسه ، وتأديبه فرسه ، وملاعبته امرأته ، فإنّهنّ من الحقّ».

(٤) هذا من حديث رواه البيهقيّ عن الحسن بن أبي الحسن عن سهل بن الحنظلية قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة ، وأهلها معانون عليها ، ومن ربط فرسا في سبيل ـ

١٠٢

ذكروا عن عليّ بن أبي طالب قال : من ارتبط فرسا في سبيل الله كان روثه وأثره في أجره.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في الخيل : من اتّخذها يعدّها في سبيل الله فله بكلّ ما غيّبت في بطونها أجر. وإن مرّت بمرج فرعت فيه كان له بكلّ ما غيّبت في بطونها أجر. وإن استنّت (١) شرفا كان له بكلّ خطوة أجر ، حتّى ذكر أرواثها وأبوالها (٢). قوله : (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) : أي : من دون المشركين (لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ) : قال مجاهد : هم قريظة. وقال الحسن : هم المنافقون. وقال بعضهم : الجنّ. قوله : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (٦٠).

قوله : (وَإِنْ جَنَحُوا) : أي مالوا (لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) : والسلم هو الصلح. قوله : (فَاجْنَحْ لَها) أي للموادعة. قال مجاهد : هم قريظة. وقال بعضهم : نسخها في هذه الآية : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥]. قوله : (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٦١) : أي فلا أسمع منه ولا أعلم منه.

قوله : (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) : قال مجاهد : هم قريظة. وقال الحسن : يعني المشركين ، يقول : إن هم أظهروا لك الإيمان وأسرّوا الكفر ليخدعوك

__________________

ـ الله كانت عليه كالمادّ يده بالصدقة لا يقبضها». وانظر الأحاديث الواردة في فضل ارتباط الخيل في الدرّ المنثور للسيوطي ، ج ٣ ص ١٩٤ ـ ١٩٨.

(١) أي عدت لمرحها ونشاطها شوطا أو شوطين. انظر اللسان : (سنن) و (شرف). وانظر : الخطابي ، غريب الحديث ، ج ١ ص ٥٢٢. وفيه : «سنّت شرفا : أي عدت طلقا. يقال : سنّ الفرس إذا لجّ في عدوه مقبلا ومدبرا».

(٢) حديث متّفق على صحّته ، أخرجه مسلم في كتاب الزكاة ، باب إثم مانع الزكاة عن أبي هريرة ، وقد سئل النبيّ عليه‌السلام عن الخيل. فأجاب بلفظ أطول ممّا هو هنا. وأخرجه البخاريّ في كتاب الجهاد والسير ، باب من احتبس فرسا لقوله تعالى : (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) ، عن أبي هريرة ولفظه : «من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده فإنّ شبعه وريّه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة». وأخرجه ابن ماجه في كتاب الجهاد ، باب ارتباط الخيل في سبيل الله (رقم ٢٧٨٨).

١٠٣

بذلك [لتعطيهم حقوق المؤمنين وتكفّ عن دمائهم وأموالهم] (١) فإنّ حسبك الله.

(هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ) : أي أعانك بنصره (وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) : يعني قلوب المؤمنين (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) : يعني أنّهم كانوا أهل جاهليّة يقتل بعضهم بعضا ويسبي بعضهم بعضا ، متعادين ، فألّف الله بين قلوبهم حتّى تحابّوا وذهبت الضغائن التي كانت بينهم بالإسلام (إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٦٣) : أي عزيز في نقمته حكيم في أمره.

قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٦٤) : أي حسبك الله وحسب من اتّبعك من المؤمنين.

قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) : أي حثّهم على القتال ، حرّضهم بما وعد الله الشهداء في الجنّة والمجاهدين.

قوله : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (٦٥) : قال الحسن : كان الله افترض هذا في هذه الآية فأمر المسلمين أن يصبروا العشرة أمثالهم إذا لقوهم. ثمّ أنزل الله التخفيف بعد ذلك فقال :

(الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٦٦) : فأمر الله المسلمين أن يصبروا لمثليهم إذا لقوهم. فلم يقبض رسول الله حتّى أظهر الله الإسلام وصار الإسلام (٢) تطوّعا.

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ١٢١.

(٢) كذا في المخطوطات. وفي ز : «حتّى أظهر الله الدين وأعزّه وصار الجهاد تطوّعا. قال ابن عبّاس : فمن فرّ من ثلاثة من المشركين فلم يفرّ ، ومن فرّ من اثنين فقد فرّ ، ولا ينبغي لرجل من المسلمين أن يفرّ من رجلين من المشركين». انظر : ز ورقة ١٢١.

١٠٤

ذكروا عن ابن عبّاس قال : كان جعل على كلّ رجل عشرة فجعل بعد ذلك على كلّ رجل رجلين.

قوله : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٦٧) : كان هذا في أسارى بدر.

قال بعضهم : كان أبو بكر أحبّ أن يقبل منهم الفداء ، وأراد عمر أن يقتلوا ، فأنزل الله هذه الآية ، ثمّ قال : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٦٨).

وقال الكلبيّ : (ما كانَ لِنَبِيٍّ) قبلك يا محمّد (أَنْ يَكُونَ لَهُ ، أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) قال : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) أنّكم الذين تأكلون الغنائم (لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

وقال الحسن : يقول : فأخذتم الفداء من الأسارى في أوّل وقعة كانت في المشركين من قبل أن تثخنوا في الأرض. وقال الحسن : لم يكن أوحي إلى النبيّ في ذلك بشيء فاستشار المسلمين فأجمع رأيهم على الفداء.

ذكر بعضهم قال : كان أراد أصحاب نبيّ الله يومئذ الفداء ، ففادوا أسارى بدر يومئذ بأربعة آلاف أربعة آلاف. وما أثخن نبيّ الله يومئذ في الأرض.

وقال بعضهم في قوله : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) أي سبق لهم من الله الخير ، وسبق لهم أنّهم استحلّ لهم الغنائم.

وقال الحسن : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) أن لا يعذب أهل بدر (لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا يدخل النار من شهد بدرا والحديبيّة ، فقالت حفصة : بلى ، فانتهرها ، في حديث بعضهم ، فقالت : أليس يقول الله : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) فقال : أو ليس قال : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) (٧٢)

١٠٥

[مريم : ٧١ ـ ٧٢] (١).

ذكروا عن عكرمة قال : ما أحلّت الغنيمة قبلكم ولا حرّمت الخمر على أحد قبلكم. وقال بعضهم : لم تحلّ الغنيمة إلّا لهذه الأمّة ؛ كانت تجمع فتنزل عليها نار من السماء فتأكلها.

قال : (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ) : أي فلا تعصوه (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦٩).

قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) : أي إسلاما (يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) : أي يعطيكم في الدنيا خيرا ممّا أخذ منكم (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) : أي كفركم وقتالكم النبيّ. (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٧٠) : أي لمن تاب وآمن وعمل صالحا. ذكروا أنّ رسول الله لمّا قدم عليه مال البحرين أمر العبّاس أن يأخذ منه. فجعل العبّاس يحثى في جيوبه ويقول : هذا خير ممّا أخذ منّا ، وأرجو المغفرة مع ذلك (٢). وقال الحسن : إنّ النبيّ أطلق الأسارى فمن شاء منهم رجع إلى مكّة ، ومن شاء منهم أقام معه. ذكروا أنّ الطلقاء أهل مكّة ، والعتقاء أهل الطائف.

قوله : (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ) : قال الحسن : يعني الطلقاء ، بما أقرّوا لك به من الإيمان. (فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) : أي من قبل إقرارهم لك بالإيمان. وهي خيانة فوق خيانة ، وخيانة دون خيانة. قال : (فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) : حتّى صاروا أسارى في يديك. (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٧١). ذكر بعضهم قال : ذكر لنا أنّ رجلا (٣) كان يكتب لرسول الله ، ثمّ نافق ولحق بالمشركين بمكّة فقال : والله ما كان محمّد يكتب إلّا ما شئت. فلمّا سمع ذلك رجل من الأنصار نذر لئن أمكنه الله منه ليضربنّه بالسيف. فلمّا كان يوم الفتح جاء به رجل من عامّة

__________________

(١) أخرجه مسلم وأحمد والترمذيّ وابن ماجه وغيرهم ؛ أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل أصحاب الشجرة ... عن أمّ مبشّر الأنصاريّة امرأة زيد بن حارثة (رقم ٢٤٩٦). وأخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد ، باب ذكر البعث (رقم ٤٢٨١).

(٢) رواه الطبريّ في تفسيره ، ج ١٤ ص ٧٣ ـ ٧٤ ، عن قتادة مرسلا ، وعن ابن عبّاس.

(٣) قيل : هو عبد الله بن سعد بن أبي سرح.

١٠٦

المسلمين كانت بينه وبينه رضاعة فقال : يا نبيّ الله ، هذا فلان قد أقبل تائبا نادما. فأعرض عنه نبيّ الله. فلمّا سمع به الأنصاريّ أقبل متقلّدا سيفه ، فطاف به ساعة ، ثمّ إنّ نبيّ الله قدّم يده للمبايعة فقال : أما والله لقد تلوّمتك (١) هذا اليوم لتوفي فيه نذرك. فقال : يا نبيّ الله ، هيبتك والله منعتني ، فلولا أو مضت إليّ (٢). قال : إنّه لا ينبغي لنبيّ أن يومض ، إنّما بعثوا بأمر علانية ليس فيه دنس ولا رمس (٣).

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا) : أي إلى المدينة (وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) : يعني المهاجرين (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) : يعني الأنصار آووا المهاجرين لأنّهم أهل الدار ، ونصروا الله ورسوله. (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) : يعني المهاجرين والأنصار.

ذكروا أنّ المهاجرين قالوا : يا رسول الله ، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن بذلا في كثير ، ولا أحسن مواساة في قليل ، قد كفونا المؤونة ، وأشركونا في المهنإ ؛ قد خشينا أن يذهبوا بالأجر كلّه. قال : كلّا ما دعوتم الله لهم وأثنيتم عليهم.

قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) : هذا في الميراث.

قال بعضهم : نزلت هذه الآية فتوارث المسلمون زمانا بالهجرة. وكان الأعرابيّ المسلم لا يرث من قريبه المهاجر شيئا. [ثمّ نسخ ذلك] (٤) في سورة الأحزاب في هذه الآية : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) [الأحزاب : ٦]

__________________

(١) تلوّم في الأمر : تمكّث وانتظر.

(٢) أومض ، أي : أشار إليه إشارة خفيّة ، وهو من أومض البرق ، ومنه أو مضت المرأة إذا سارقت النظر.

(٣) الرمس : الصوت الخفيّ. ورمس الخبر والحديث أخفاه وكتمه. وقد روى الطبريّ في تفسيره ، ج ١٤ ص ٧٦ هذا الخبر عن قتادة في قصّة عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، ولم ترد فيه الجملة الأخيرة.

(٤) جاء في المخطوطات الأربع : «حتّى نزلت هذه الآية في سورة الأحزاب» ، وأثبتّ ما ورد في ز ورقة ١٢٢ ، وفي تفسير الطبريّ ، ج ١٤ ، ص ٨٠.

١٠٧

فخلط الله المؤمنين بعضهم ببعض ، وصارت المواريث بالملل.

غير واحد من العلماء أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لا يتوارث أهل ملّتين.

ذكر عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر ، لا يتوارث أهل ملّتين شتّى (١).

وقال الحسن : أراد أن يحضّ الأعراب على الهجرة ، فلم يكن الأعرابيّ يرث المهاجر ولا المهاجر الأعرابيّ. وهو منسوخ.

قوله : (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) : لهم ، يعني الأعراب ، لحرمة الإسلام. (إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) : يعني أهل الموادعة وأهل العهد من مشركي العرب ، من كان بينه وبين رسول الله عهد ، فنهي المسلمون عن أهل ميثاقهم (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٧٢) : أي لا يخفى عليه شيء من أعمالكم.

قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) : أي في الألفة والجماعة على معاصي الله. (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) (٧٣).

نزلت هذه الآية حين أمر النبيّ بقتال المشركين كافّة ، وقد كان قوم من المشركين يكونون بين رسول الله وبين حربه (٢) من قريش. فإذا أرادهم رسول الله قالوا له : ما تريد منّا ونحن كافون عنك ، وقد نرى ناركم. وكان أهل الجاهليّة يعظّمون النار لحرمة قرب الجوار ، لأنّهم إذا رأوا نارهم فهم جيرانهم. وإذا أرادهم المشركون قالوا : ما تريدون منّا

__________________

(١) حديث متّفق على صحّته ؛ أخرجه البخاريّ في كتاب الفرائض ، باب لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم ، وكذلك أخرجه مسلم في أوّل حديث في كتاب الفرائض (١٦١٤) كلاهما عن أسامة بن زيد. وأخرجه الربيع بن حبيب في مسنده في المواريث عن أسامة بن زيد (رقم ٦٧١) وقال الربيع : «يعني بالكافر ههنا المشرك». وأخرجه أحمد في مسنده والترمذيّ فى سننه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه.

(٢) أي : وبين أعدائه من قريش. يقال : أنا حرب لمن حاربني ، وهم حرب ، كذلك. وقيل : إنّ الكلمة جمع حارب أو محارب على حذف الزائد ، كما يقال : هم قوم سفر لجماعة المسافرين. انظر : اللسان (حرب).

١٠٨

ونحن على دينكم. فأنزل الله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ ، أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي : فألحقوا المشركين بعضهم ببعض حتّى يكون حكمكم فيهم واحدا. (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ) أي شرك (فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ).

وقال بعضهم : كان [ينزل] (١) الرجل بين المشركين والمسلمين فيقول : أيّهم ظفر كنت معه ، فأنزل الله في ذلك. فلا تراءى ناران : نار مشرك ونار مسلم إلّا صاحب جزية مقرّ بها.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث سريّة إلى أناس من خثعم كان فيهم لهم وليجة (٢) ولجوا إليهم. فلمّا رأوهم استعصموا بالسجود فقتل بعضهم. فبلغ ذلك النبيّ عليه‌السلام فقال : أعطوهم نصف العقل. ثمّ قال يومئذ عند ذلك : ألا إنّي بريء من كلّ مسلم مع مشرك في داره. قيل : لم يا رسول الله؟ قال : ألا لا تراءى ناراهما (٣).

ذكر الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم ، فمن ساكنهم أو جامعهم فهو منهم (٤). وهذا مثل الحديث الأوّل.

قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) :

__________________

(١) زيادة من تفسير الطبري ، ج ١٤ ص ٨٥ للإيضاح. والقول لقتادة ، وفي آخره : «إلّا صاحب جزية مقرّ بالخراج».

(٢) الوليجة : بطانة الرجل وخاصّته. وقيل هي : بطانة الرجل من غير أهله خاصّة. وقال الفرّاء في معاني القرآن ، ج ١ ص ٤٢٦ : «هي البطانة من المشركين». وقال السجستانيّ في غريب القرآن ، ص ٢٠٤ : «والرجل يكون في القوم وليس منهم وليجة».

(٣) أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد ، باب النهي عن قتل من اعتصم بالسجود (٢٦٤٥). وأخرجه الترمذيّ في السير ، باب ما جاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين ، كلاهما من حديث جرير بن عبد الله ، ولفظه عند أبي داود : «أنا بريء من كلّ مسلم يقيم بين أظهر المشركين ، قالوا : يا رسول الله ، لم؟ قال لا تراءى ناراهما».

(٤) أخرجه الترمذيّ في السير ، في نفس الباب السابق ، عن سمرة بن جندب ، وأخرجه أبو داود في كتاب الجهاد ، باب في الإقامة بأرض الشرك (٢٧٨٧). وانظر فقه هذين الحديثين في شرح السنّة للبغويّ ج ١٠ ، ص ٢٤٤ ـ ٢٤٧.

١٠٩

يعني الأنصار (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) : أي لذنوبهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٧٤) : أي الجنّة.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ) : أي : من بعد فتح مكّة (وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ) : أي مع النبيّ عليه‌السلام والمؤمنين (فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) : أي مؤمنون مثلكم ، ولا هجرة بعد فتح مكّة. قال الحسن : يعني الهجرة التي كانت مع النبيّ عليه‌السلام. قال : إلّا أنّ الهجرة إلى الأمصار قائمة إلى يوم القيامة. ذكروا أنّ صفوان بن أميّة وسهيل بن عمرو ورجل آخر قد سمّوه (١) قدموا على النبيّ عليه‌السلام المدينة فقال : ما جاء بكم؟ قالوا : إنّا سمعنا أنّه لا يدخل الجنة إلّا من هاجر. فقال : إنّ الهجرة قد انقطعت ، ولكن جهاد ونية حسنة (٢). ثمّ قال : أقسمت عليك أبا وهب ، يعني صفوان بن أميّة ، لترجعنّ إلى أباطح مكّة (٣).

قوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٧٥). ذكروا أنّ أبا بكر الصدّيق قال : إنّ هذه الآية التي ختم الله بها سورة الأنفال : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ ، أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) ممّن جرّت الرحم من العصبة.

ذكروا أنّ مجاهدا قال : هذه الثلاث الآيات في خاتمة الأنفال فيهنّ ذكر ما كان كتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين مهاجري المسلمين من كانوا وبين الأنصار في الميراث ، ثمّ نسخ ذلك في آخر السورة : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

__________________

(١) ورد ذكره في ز ، ورقة ٢٢٢ ، وهو عكرمة بن أبي جهل.

(٢) رواه الجماعة إلّا ابن ماجه من حديث ابن عبّاس. فقد رواه البخاريّ في كتاب الحجّ ، باب لا يحلّ القتال بمكّة ، ولفظه : «قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم افتتح مكّة : لا هجرة ، ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا ...».

(٣) روى الطبريّ في تفسيره ، ج ١٤ ص ٨٣ ، «عن ابن عبّاس قال : ترك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس يوم توفّي على أربع منازل : مؤمن مهاجر ، والأنصار ، وأعرابيّ مؤمن لم يهاجر ... والرابعة التابعون بإحسان». وانظر ترجمة صفوان بن أميّة وقصّته مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الاستيعاب لابن عبد البرّ ، ج ٢ ص ٧١٨ ، وفي سير أعلام النبلاء ، ج ٣ ص ٤٠٥ ـ ٤٠٨.

١١٠

تفسير سورة التوبة وهي مدنيّة كلّها (١)

ذكروا عن ابن عبّاس أنّه قال : قلت لعثمان بن عفّان : كيف جعلتم الأنفال وهي من المئين مع براءة ، وهي من الطّول ، ولم تكتبوا بينهما سطر(بسم الله الرحمن الرحيم)؟ فقال : إنّ رسول الله عليه‌السلام كان تنزل عليه الثلاث الآيات والأربع الآيات والخمس الآيات جميعا وأقلّ من ذلك وأكثر فيقول : اجعلوا آية كذا وكذا في سورة كذا وكذا في موضع كذا وكذا ، وإنّه قبض ولم يقل لنا في الأنفال شيئا ، ونظرنا فرأينا قصصهما متشابها فجعلناها معها ولم نكتب بينهما سطر(بسم الله الرحمن الرحيم).

قوله : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١) : يعني بالبراءة براءة من العهد الذي كان بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين مشركي العرب. يقول للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، ثمّ أقبل على أهل العهد من المشركين فقال : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) : وكان ذلك بقيّة عهدهم من يوم النحر إلى عشر ليال يمضين من ربيع الآخر ، وهو العام الذي ححّ فيه أبو بكر الصدّيق ونادى فيه عليّ بالأذان.

وفي تفسير الحسن أنّ النبيّ عليه‌السلام أمر أبا بكر أن يؤذّن الناس بالبراءة. فلمّا مضى دعاه فقال : إنّه لا يبلّغ عنّي في هذا الأمر إلّا من هو من أهل بيتي. وقال بعضهم : إلّا من هو منّي. فأمر بذلك عليّ بن أبي طالب ، رضي الله عنه (٢).

ذكر الأعمش عن بعض أشياخه أنّ النبيّ بعث ببراءة مع أبي بكر ، ثمّ أتبعه عليّا ، فأمره أن ينادي بها. ورجع أبو بكر إلى النبيّ يبكي ، فقال : يا رسول الله ، هل أنزل فيّ شيء؟

__________________

(١) أذكّر أنّه ورد في أوّل السور في مخطوطتي ق وع تعداد للآيات والكلمات والحروف ، وهي من زيادة بعض النسّاخ ولا شكّ ، وهي غير واردة في د وج ، ولا في ز. لذلك لم أر ضرورة لإثباتها.

(٢) ذكره ابن هشام في السيرة ، ج ٣ ص ٥٤٩ عن أبي جعفر محمّد بن عليّ.

١١١

قال : لا. فذكر ما لا أحفظه (١). وحجّ أبو بكر بالناس (٢) ذلك العام. ذكروا أنّ مجاهدا قال : (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، يعني خزاعة ومدلج ومن كان له عهد غيرهم.

أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تبوك حين فرغ منها ، فأراد أن يحجّ. ثمّ إنّه قال : إنّه يحضر البيت مشركون يطوفون عراة ، ولا أحبّ أن أحجّ حتّى لا يكون ذلك. فأرسل أبا بكر وعليّا فطافا بالناس بذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون فيها ، وبالموسم كلّه ، فآذنوا أصحاب العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر ، وهي الأربعة الأشهر المنسلخات المتواليات : عشرون من آخر ذي الحجّة إلى عشر يخلون من شهر ربيع الآخر ، ثمّ لا عهد لهم.

ذكروا أنّ أبا بكر أمّر يومئذ على الحاجّ ، ونادى فيه عليّ بالأذان. وكان عام حجّ فيه المسلمون والمشركون ، فلم يحجّ المشركون بعده.

قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) : أي إنّكم لستم بالذين تعجزون الله وتسبقونه في الأرض حتّى لا يقدر عليكم. (وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) (٢).

قال : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) : [أي وإعلام من الله ورسوله] (٣) ، يعني بالأذان أن يؤذّن للناس بذلك. (إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) : أي يوم النحر.

ذكروا عن عليّ قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن يوم الحجّ الأكبر فقال : هو يوم النحر(٤).

__________________

(١) خبر رجوع أبي بكر إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا أورده الطبريّ في تاريخه ، ج ٣ ص ١٢٢ ـ ١٢٣ بسند عن السدّيّ. وفيه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجاب أبا بكر حين سأله هذا : «بأبي أنت وأمّي يا رسول الله أنزل في شأني شيء؟ قال : لا ، ولكن لا يبلّغ عنّي غيري ، أو رجل منّي. أما ترضى يا أبا بكر أنّك كنت معي في الغار ، وأنّك صاجي على الحوض؟ قال : بلى يا رسول الله. فسار أبو بكر على الحجّ ، وسار عليّ يؤذّن ببراءة».

(٢) سقط تفصيل هذا الخبر كلّه من د ؛ حيث وثب الناسخ من كلمة «الناس» التي جاءت قبل خمسة أسطر إلى شبيهتها هنا ؛ فجاءت العبارة في د هكذا : «أمر أبا بكر أن يؤذن الناس ذلك العام» ، وهذا نموذج من سهو النسّاخ.

(٣) زيادة من ز ، ورقة ١٢٣.

(٤) أخرجه الترمذيّ وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عليّ رضي الله عنه قال : سألت رسول الله ـ

١١٢

ذكر عن الحسن قال : إنّما كان عاما ولم يكن يوما ، يعني ذلك العام.

ذكروا عن مجاهد قال : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ) كلّهم بالقتال إلّا أن يؤمنوا وقال : (الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) حين الحجّ ، أيّامه كلّها.

قوله : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) : أي إن لم يؤمنوا (فَإِنْ تُبْتُمْ) : يقول للمشركين : فإن تبتم من الشرك فأسلمتم (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) : أي عن الله ورسوله وعن دينه (فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) : أي لستم بالذين تعجزون الله فتسبقونه حتّى لا يقدر عليكم.

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣) : أي بالقتل قبل عذاب الآخرة.

ثمّ رجع إلى قصّة أصحاب العهد فقال : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) : أي لم يضرّوكم شيئا (وَلَمْ يُظاهِرُوا) : أي لم يعاونوا (عَلَيْكُمْ أَحَداً) : من المشركين (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) : أي إلى الأجل الذي عاهدتموهم عليه من يوم النحر إلى عشر يمضين من شهر ربيع الآخر. (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (٤).

قوله : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) : ذكروا عن بعضهم قال : إنّه ذكر في أوّل السورة أهل العهد فقال : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ) من يوم النحر خمسين ليلة إلى انسلاخ المحرّم لمن لا عهد له. فأمر الله نبيّه إذا مضى هذا الأجل في المشركين ممّن لم يكن له عهد فقال : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ).

قال : (وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) : فأمر بقتالهم في الحلّ والحرم وعند البيت حتّى يشهدوا أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله. وأمره في أهل العهد أن يتمّ لهم عهدهم أربعة أشهر بعد يوم النحر إلى عشر يمضين من ربيع الآخر ، ثمّ

__________________

ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان هو السائل عن يوم الحجّ الأكبر. انظر الدر المنثور ، ج ٣ ص ٢١١.

١١٣

يقتلون حيث وجدهم.

قال الحسن : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) الأشهر الحرم في هذا الموضع الأشهر التي أجّلوا فيها والتي كانوا يحرمون فيها على المسلمين لأنّهم في عهد منها (١) ، آخرها عشر ليال يمضين من شهر ربيع الآخر ؛ وسمّاها حرما لأنّه نهى عن قتالهم فيها وحرّمه. وقول الكلبيّ مثل القول الأوّل : لهم خمسون ليلة إلى انسلاخ المحرّم ثمّ يقتلون حيث وجدوا.

قال : (فَإِنْ تابُوا) : أي من الشرك (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) : أي وأقرّوا بالزكاة ، لأنّ من المسلمين من لا تجب عليهم الزكاة (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥) : أي يغفر لهم الكفر إذا آمنوا. كقوله : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨].

وقال بعضهم في قوله : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ...) إلى آخر الآية ، قال : هم مشركون قريش الذين عاهدهم نبيّ الله زمان الحديبية ، وكان عهدهم أن لا إغلال ولا إسلال (٢). فغلّوا نبيّ الله ونكثوا العهد وظاهروا المشركين على المسلمين.

قوله : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) : ليسمع كلام الله (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) : فإن أسلم أسلم وإن أبى أن يسلم ف (٣) (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) : أي لا تحركه حتّى يبلغ مأمنه. قال الحسن : هي محكّمة إلى يوم القيامة.

وقال مجاهد : هو إنسان يأتيه فيسمع كلام الله ويسمع ما أنزل الله فهو آمن حتّى يبلغ مأمنه من حيث جاء. قال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) (٦) : وهم المشركون.

__________________

(١) كذا في المخطوطات ، ولعلّ صوابها : «في عهد منهم».

(٢) لا إغلال ولا إسلال ، أي : لا خيانة ولا سرقة ، يقال : غلّ يغلّ غلولا ، وأغلّ ، بمعنى : خان خيانة. ورجل مغلّ مسلّ ، أي : صاحب خيانة وسلّة. قال شريح : ليس على المستعير غير المغلّ ولا على المستودع غير المغلّ ضمان ، أي : إذا لم يخن في العارية والوديعة فلا ضمان عليه. انظر اللسان (غلل).

(٣) في الآية القرآنيّة : (ثُمَّ أَبْلِغْهُ).

١١٤

وقال الكلبيّ : إنّ أناسا من المشركين ممّن لم يكن لهم عهد ولم يوافوا الموسم ذلك العام بلغهم أنّ رسول الله أمر بقتال المشركين ممّن لا عهد له إذا انسلخ المحرم ، فقدموا على رسول الله بالمدينة ليجدّدوا حلفا ، وذلك بعد ما انسلخ المحرّم ، فلم يصالحهم رسول الله إلّا على الإسلام وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، فأبوا ، فخلّى رسول الله سبيلهم حتّى بلغوا مأمنهم. وكانوا نصارى من بني قيس بن ثعلبة ، فلحقوا باليمامة حتّى أسلم الناس ، فمنهم من أسلم ، ومنهم من أقام على نصرانيّته.

قوله : (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) : [أي ليس العهد إلّا لهؤلاء الذين لم ينكثوا] (١).

وقال مجاهد : هم قوم كان بينهم وبين النبيّ عهد ومدّة ، فأمره أن يوفي لهم بعهدهم ما أوفوا ، ولا ينبغي للمشركين أن يقربوا المسجد الحرام.

قال : (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ) : أي على العهد (فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) : عليه (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (٧).

قال : (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) : أي : كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله وأن يظهروا عليكم (لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) : قال بعضهم : الإلّ : الجوار ، والذمّة : العهد.

وقال مجاهد : (إِلًّا وَلا ذِمَّةً) : عهدا ولا ذمّة. وقال الكلبيّ : الإلّ : الحلف ، والذمّة : العهد. وقال بعضهم : الإلّ : القرابة ، والذمّة : العهد.

قوله : (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ) : وهم المنافقون في تفسير الحسن ؛ وهو ما أقرّوا به من التوحيد فأصابوا به الغنائم والحقوق ، وحقنوا دماءهم وأموالهم وذراريهم (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) (٨) : وهذا فسق نفاق ، وهو دون فسق الشرك. (اشْتَرَوْا

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ١٢٣.

١١٥

بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) : أي : عرضا من الدنيا يسيرا. (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) : أي : فصدّوا الناس عن دينه (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩) : أي : بئس ما كانوا يعملون.

وقال مجاهد : هو أبو سفيان أطعم حلفاءه وترك حلفاء محمّد عليه‌السلام.

قوله : (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) : وقد فسّرنا ذلك واختلافهم فيه. (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) (١٠) : وهو من باب الاعتداء. اعتدوا على الله وعلى رسوله وأهل دينه.

(فَإِنْ تابُوا) : أي من الشرك (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (١١).

ذكر الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلّا الله ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة.

ذكر أبو هريرة وغيره قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلّا الله فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها وحسابهم على الله (١). وقد فسّرنا «إلّا بحقّها» في غير هذا الموضع (٢).

وقد زعم الحسن أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلّا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. وفي ذلك دليل على أنّ الإيمان قول وعمل ، كقوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (٥) [البيّنة : ٥]. ومن قال : أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلّا الله ، فهو

__________________

(١) انظر تخريجه فيما مضى من الجزء الأوّل ، تفسير الآية ١٥١ من سورة الأنعام ، (التعليق). وفي ق وع. وردت العبارة هكذا : «فقد عصموا منّي دماءهم ...».

(٢) هذه الجملة الأخيرة من الشيخ هود الهوّاريّ. وقد فسّر هذه العبارة «إلّا بحقّها» بمناسبة تفسير قوله تعالى من سورة الأنعام آية : ١٥١ فقال : «فينبغي أن يتفهّم الناس هذه النّكتة : إلّا بحقّها ؛ وحقّها ما وصفنا من رجل كفر بعد إسلامه ، أو زنى بعد إحصانه ، أو قتل نفسا متعمّدا ، أو قاتل على البغي فقتل عليه».

١١٦

يقول : هو أوّل ما يدعون إليه : شهادة أن لا إله إلّا الله ، ثمّ يدعون بعد ذلك إلى الصلاة وإلى الزكاة ، فإن أبوا لم يقبل منهم (١).

قوله : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) : قال بعضهم : من أئمّة الكفر أبو سفيان وأميّة بن خلف وأبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وسهيل بن عمرو ، وهم الذين نكثوا العهد بينهم وبين نبيّ الله وهمّوا بإخراجه من مكّة.

قال : (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) : أي لا عهد لهم (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) (١٢) : أي لعلّ من لم يقتل منهم أن ينتهي عن كفره مخافة القتل.

وفي تفسير الكلبيّ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان وادع أهل مكّة سنين ، وهو يومئذ بالحديبيّة ، فحبسوه عن البيت ، وصالحوه على أنّك ترجع عامك هذا ، ولا تطأ بلدنا ، ولا تنحر البدن بأرضنا ، وأن نخليها لك عاما قابلا ثلاثة أيّام ، ولا تأتينا بالسلاح. إلّا سلاحا يجعل في قرابه ، وأنّه من صبأ إليك منّا فهو إلينا ردّ. فصالحهم رسول الله على ذلك ، فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا.

ثمّ إنّ حلفاء رسول الله من خزاعة قاتلوا بني أميّة من كنانة ، فأمدت بنو أميّة حلفاءهم بالسلاح والطعام. فركب ثلاثون رجلا من حلفاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خزاعة ، فيهم بديل بن ورقاء ؛ فناشدوه الله والحلف. فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعين حلفاءه ، فأنزل الله على نبيّه : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) ، أي لا عهد لهم (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ).

قوله : (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) : قال الحسن : من المدينة (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) : فاستحلّوا قتال حلفائكم

__________________

(١) وهذا الشرح والتعليق أيضا من زيادة الشيخ هود ، فهو يقف كلّما وردت عبارة توحي بمعنى من معاني الإرجاء ليردّ فكرة الإرجاء وبفنّدها بالحجج.

١١٧

(أَتَخْشَوْنَهُمْ) : على الاستفهام ، فلا تقاتلوهم (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٣) : أي إذ كنتم مؤمنين فالله أحقّ أن تخشوه ، وليس أحد أشدّ خشية لله من المؤمنين.

(قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) : يعني القتل في الدنيا (وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) (١٤) : والقوم المؤمنون الذين شفى الله صدورهم حلفاء رسول الله من مؤمني خزاعة ؛ فأصابوا يومئذ ، وهو يوم فتح مكّة ، مقيس بن صبابة (١) في خمسين رجلا من قومه.

وقال مجاهد : (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ ، أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي قاتلوا حلفاء محمّد عليه‌السلام. قال : (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) أي : خزاعة ، حلفاء محمّد ، من آمن منهم.

ذكر عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوم فتح مكّة ، كفّوا السلاح إلّا خزاعة من بني بكر (٢).

__________________

(١) في المخطوطات الأربع : «مقسم» ، وفيه تصحيف ، صوابه ما أثبتّ من ز ، ورقة ١٢٤ ، ومن سيرة ابن هشام ، ج ٢ ص ٢٩٣ ، ومن جمهرة أنساب العرب لابن حزم ، ص ١٨٢ : «مقيس بن صبابة». وهو الذي أهدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دمه يوم فتح مكّة ، وكان قدم المدينة مظهرا إسلامه ، ومطالبا بدية أخيه هشام. فأمر له النبيّ عليه‌السلام بدية أخيه. ولكنّه عدا ، بعد مدّة ، على قاتل أخيه فقتله ، ورجع إلى مكّة مرتدّا ، وقال في ذلك شعرا.

(٢) كذا في المخطوطات الأربع : «كفوا السلاح إلّا خزاعة من بني بكر». ومعنى هذا الحديث أنّ النبيّ عليه‌السلام أمر الناس أن يكفّوا عن القتال ، قتال المشركين يوم الفتح ، إلّا خزاعة فقد استثناها من هذا الأمر لتنتقم من بني بكر الذين كانوا قاتلوهم قبل الفتح ، وأعانتهم في ذلك قريش. وكان هذا الاستثناء ، لدى المفسّرين ، هو معنى قوله تعالى : (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) : مؤمني خزاعة ، حلفاء النبيّ عليه‌السلام. وقد أورد هذا الحديث أبو عبيد القاسم ابن سلّام مسندا في كتاب الأموال ، ص ١٤٥ ، وبتفصيل أكثر. ولفظه : «كفّوا السلاح إلّا خزاعة عن بني بكر ، فإنّ لهم حتّى صلاة العصر». ثمّ قال : «كفّوا السلاح». وذكر ابن هشام في السيرة ، ج ٣ ص ٤١٤ ـ ٤١٦ أنّ خزاعة عدت في الغد من يوم الفتح على رجل مشرك من هذيل ، فقتلوه في الحرم ، فقال النبيّ عليه‌السلام : «يا خزاعة ، ارفعوا أيديكم عن القتال ، فقد كثر القتل إن نفع ، لقد قتلتم قتيلا لأدينّه. وانظر تفسير الطبري ، ج ١٤ ص ١٦٠ ـ ١٦١.

١١٨

ذكر بعضهم قال : كان يقال : ما كان من حلف في الجاهليّة فإنّ الإسلام لا يزيده إلّا شدّة ، ولا حلف في الإسلام (١)

قوله : (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) : أي من أهل مكّة (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١٥).

قوله : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا) : أي : فلا يفرض عليكم الجهاد (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ) : أي ولمّا يعلمكم فاعلين لما فرض عليكم ، وهو علم الفعال (٢). (الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) : أي دخلا. وقال بعضهم : بطانة ، وهو واحد. أي : مثلما صنع المنافقون (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) أي : إلى الكفّار المشركين (قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) [البقرة : ١٤] أي : في المودّة والهوى. قال الله : (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٦).

قوله : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) وهذا كفر الشرك ، وهذا حين نفي المشركون من المسجد الحرام.

قوله : (شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) يقول : كلامهم يشهد عليهم بالكفر. (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) : في الدنيا والآخرة. (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) (١٧).

(إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ) : يعني الكعبة (٣) لأنّها مسجد جميع الخلق ، إليها

__________________

(١) حديث صحيح. رواه مسلم في كتاب فضائل الصحابة ، باب مؤاخاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أصحابه عن جبير بن مطعم (رقم ٢٥٣٠). ورواه ابن جرير عن ابن عبّاس. ورواه أحمد عن قيس بن عاصم أنّه سأل النبيّ عليه‌السلام عن الحلف فقال : «ما كان من حلف في الجاهليّة فتمسّكوا به ، ولا حلف في الإسلام».

(٢) جاء في ز ، ورقة ١٢٤ ما يلي : «قال محمّد : قد علم الله قبل أمرهم بالقتال من يقاتل ممّن لا يقاتل ، ولكنّه كان يعلم ذلك غيبا ، فأراد الله العلم الذي يجازي به وتقوم به الحجّة ، وهو علم الفعال».

(٣) هذا قول غير مسلّم به ؛ لأنّه لا خلاف في أنّ القراءة وردت في قوله تعالى : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ) بالجمع ؛ فالمقصود بها إذا جميع المساجد ، حتّى يشمل فضل العمارة جميع بيوت الله ، وينال أجرها كلّ مؤمن يعمر أيّ بيت من بيوت الله. أمّا في الآية السابقة : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) فقد قرأ ابن كثير وأبو ـ

١١٩

يؤمّون. (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (١٨) : وعسى من الله واجبة.

قوله : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٩) : أي لا يكونون بالظلم عند الله مهتدين. وهو ظلم فوق ظلم وظلم دون ظلم.

ذكروا أنّ مجاهدا قال : أمروا بالهجرة ، فقال عبّاس بن عبد المطلب : أنا أسقي الحاجّ ، وقال طلحة ، أخو بني عبد الدار : وأنا حاجب الكعبة ، فلا نهاجر (١). فنزلت هذه الآية ... إلى قوله : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ ، أَجْرٌ عَظِيمٌ). وكان هذا قبل فتح مكّة.

وقال الحسن : اختلف أناس من أصحاب النبيّ عليه‌السلام فقال بعضهم : من أقام على السقاية للمسجد الحرام أفضل ممّن جاهد. وقال بعضهم : المجاهد في سبيل الله أفضل ممّن أقام على السقاية وعمر المسجد الحرام (٢). وقال بعضهم : بلغنا أنّ الذي ذكر بالجهاد في هذا الموضع عليّ بن أبي طالب.

قوله : (لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) قال الحسن : أي : إنّ المؤمن المجاهد أفضل. أي أهل هذه الصفة ليسوا سواء.

قال : (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ

__________________

ـ عمرو فيها على التوحيد : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) وقرأ الباقون بالجمع ، فيمكن أن يكون المقصود بها الكعبة البيت الحرام دون غيرها من المساجد. وهذا وجه له حظّ قويّ من النظر. انظر الحجّة لابن خالويه ، ص ١٤٩. والتيسير للداني ، ص ١١٨.

(١) وقع اضطراب في النسخ في الاستشهاد بالآية. فقد ورد في ق وع وج بعد قوله : «فلا نهاجر» هذه الجملة : «فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ ، أَوْلِياءَ ...). وهذا خطأ أثبتّ صوابه من ز ، ورقة ١٢٤.

(٢) في بعض المخطوطات : «الجهاد في سبيل الله أفضل ممّن أقام على السقاية ...» ، والتعبير صحيح له في الأسلوب العربيّ نظائر ، بل له نظير في هذه الآية نفسها.

١٢٠