تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٤

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

ذلك يقرّد معنى الألوهية. ومعنى العبودية. ويتميزان فلا يختلطان ولا يشتبهان.

(قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي. فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) مرة اخرى يعلن انني ماض في طريقي. اخلص لله بالعبادة. واخلص له الدينونة. فاما أنتم فامضوا في الطريق التي تريدون. واعبدوا ما شئتم من دونه. ولكن هنالك الخسران الذي ما بعده خسران الذي ستقعون فيه. أنه خسران النفس التي تنتهي الى جهنم. وخسران الأهل وخسران الجنة والنعيم الخالد. (أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) ثم يبين لهم كيفية بعد العذاب فيقول في هيئة ظلل من فوقهم ومن تحتهم. انه مشهد مرعب رهيب حقا. مشهد النار في هيئة ظلل من فوقهم ومن تحتهم. انه مشهد رعيب يعرضه خالق العباد لعباده في هذه الحياة لعلّهم يرهبونه ويتجنبون ما يوصلهم اليه بدون اختيار اذا أخرجوا من هذه الدار وهم على تلك الحالة من الانحراف والعصيان. (ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ) ويحذرهم لعلهم يحذرون. (يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) وعلى الضفة الاخرى يقف اهل السعادة واهل الفوز واهل الارباح الطائلة التي ربحوها في حياتهم الاولى. اهل النعيم الخالد وجنة فيها ما تشتهي أنفسهم (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى).

الطاغوت هو كل متكبر على الله. ويحكم بغير ما انزل الله. وهو كل من طغى وتجاوز حدود الخالق العظيم. والذين اجتنبوا اتباع الطاغوت الذي يعبر عنه بانه عبادة للطاغوت هم الذين انابوا الى ربهم واخلصوا له العبادة. هؤلاء (لَهُمُ الْبُشْرى) صادرة اليهم من الملأ الاعلى والرسول الاكرم ص وآله. يبلغها لهم بأمر الله تعالى (فَبَشِّرْ عِبادِ) انها البشرى العلوية يحملها خير البرية. وهذا بذاته نعيم ووسام لا تعادله كنوز العالم بأسرها.

٢٠١

هؤلاء من صفاتهم الخاصة التي نالوا بها هذا الوسام العلوي. انهم يستمعون القول ثم يمحّصون الحقائق من الاباطيل. فتلتقط قلوبهم. أحسنه وتطرد ما عداه. وبذلك تزكوا نفوسهم. وتنشرح صدورهم. وتضييء قلوبهم فيصبحوا يرون ما لا يرى الناس ويسمعون ما لا يسمعون (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) فالعقل السليم هو الذي يقود صاحبه الى الخير والصلاح. ويجنبه الشر والفساد. وبها يعرف العاقل من فاقده لا غير.

(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) والخطاب لرسول الله ص وآله. (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ) فيا له من مشهد ينعش القلوب المريضة. ويحيي القلوب الميتة. ويجلي العيون الرمداء. هذا المشهد المنعش مقابل المشهد المخيف الذي يعبر عنه (لهم ظلل من نار من فوقهم ومن تحتهم) ذلك وعد الله الذي لا يخلف الميعاد.

ولقد عاش المسلمون الذين تلقوا هذا القرآن اول مرة. عاشوا هذه المشاهد فعلا وواقعا ومن ثم فقد تحولت نفوسهم ذلك التحول. وتكيفت حياتهم على هذه الارض رأسا على عقب.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١) أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢) اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥))

٢٠٢

البيان : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ..) ان هذه الظاهرة التي يوجه القرآن اليها الانظار للتأمل والتدبر. فهذا الماء النازل من السماء. ما هو. وكيف نزل. اننا نمر بهذه الخارقة سراعا لطول الألفة وطول التكرار. ان خلق الماء في ذاته خارقة. ومهما عرفنا من نشئته فان هذه المعرفة خليقة بان توقظ قلوب العقلاء. الى رؤية يد الله تعالى وتتبع اثارها في كل خطوة من خطوات الحياة. ولو لا الماء لما وجدت حياة. والله من وراء هذا التدبير. وكله مما صنعت يداه. ثم نزول هذا الماء بعد وجوده. خارقة اخرى (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) سواء في الانهار الجارية على سطح الارض. او الانهار الجارية تحت أطباقها. مما يتسرب من المياه (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) والحياة النباتية التي تعقب نزول الماء خارقة يقف امامها جهد الانسان حسيرا ورؤية النبت الصغير. وهو يشقّ حجاب الارض عنها.

ورؤية النبتة وهي تصعد الى الفضاء رويدا رويدا. وتشق الارض بجذورها. هذه الرؤية كفيلة بان تملأ القلب المفتوح ذكرى. وان تثير فيه الاحساس. بالله الخالق المبدع الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.

والزرع مختلف الوانه في بقعة واحدة. في النبتة الواحدة. بل في الزهرة الواحدة. ان هو الا معرض لابداع القدرة (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا) وقد بلغ غايته المقدرة له. (ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً) وقد استوفى اجله وادى دوره كما قدر له واهب الحياة. (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) فكما ينزل الماء من السماء فينبت لهم به زرعا مختلفا ألوانه. كذلك ينزل من السماء ذكرا تتلقاه القلوب الحية. فتنفتح وتنشرح وتتحرك حركة الحياة. وتتلقاه القلوب القاسية كما تتلقاه الصخرة القاسية التي لا حياة فيها ولا نداوة. بل كما تتلقاه الاماكن القذرة فتزيدها نتنا.

٢٠٣

والله يشرح للاسلام قلوبا يعلم منها الخير. ويصلها بنوره فتشرق به وتستضيء (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) وهذه الاية تصور حقيقة القلوب التي تتلقى الاسلام فتنشرح له ومن يشرح الله صدره للاسلام ويمد له من نوره. يصبح يسير بنور بصيرته وضياء قلبه. (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) هكذا ترتعش القلوب حين تحركها يد الرحمان. والله تعالى يعلم من حقيقة القلوب ما يجازيها عليه بالهدى. أو بالضلال. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) فهو يضله يعني يدعه وما اختار لنفسه من عصيان خالقه وارتكاب ما نهاه عنه (وقيل ذوقوا كنتم تكسبون).

ويلتفت من هذا المشهد الى الحديث عن المكذبين الذين يواجهون محمدا ص وآله ـ ليعرض عليهم ما جرى للمكذبين قبلهم لعلهم يتداركون أنفسهم.

(فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١))

البيان : (فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) فهذه حال المكذبين في الدنيا والآخرة. ينتظرهم العذاب الاكبر. وسنة الله ماضية لا تتخلف. ومصارع القرون من قبلهم شاهدة. ووعيد الله لهم في الآخرة. والفرصة لهم سانحة. وهذا الذكر ولمن يتعظ ويتذكر ، والحجة لهم لازمة واضحة. (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) والله عزوجل يضرب الامثال للعبد الموحد. والمشرك. والخيار بيده (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ. وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) وباب التوبة مفتوح لا يغلق عن مخلوق حتى ينتهي اجله ويستكمل امده (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) انهما لا يستويان. فالذي يطيع

٢٠٤

سيده ومولاه. ينعم براحة الاستقامة. والمعرفة واليقين وتتوحد لديه الاسباب ـ وهي طاعة مولاه لا غير ـ وتسد أمامه الطرق والابواب الا طاعة مولاه واحراز رضاه لا غير فهنا الراحة والسعادة. وهنا الغنى والامان.

وهذا المثل بصورة حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك في جميع الاحوال. فالقلب المؤمن بحقيقة التوحيد هو القلب الذي يقطع الرحلة عن هذه الارض على هدى. لأن بصره ابدا معلق بنجم واحد. وطريق واحد. وباب واحد. وكفيل واحد وحارس واحد. ومصدر واحد للمنع والعطاء. وحينئذ تستقيم خطاه الى هذا المصدر الواحد. فيستمد منه وحده ويعلق يديه بحبل واحد. يشد عروته ويطمئن اتجاهه الى هدف واحد لا يميل ولا ينحرف عنه شعرة. ويختص بخدمة الخالق. ويترفع عن خدمة المخلوقين وبذلك تتجمع طاقته وتتوحد غايته وهي احراز رضا مولاه ليكفله ويحرسه. وهل للسعادة معنى غير هذا يا أولى الألباب

أنت سعيد مثلي) بذلك يفتخر الشيخ القبيسي على سواه.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥))

البيان : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) انه الموت نهاية كل حي. ولا ينفرد بالبقاء الا الحي القيوم وفي الموت يستوي كل مخلوق بما فيه الملائكة والانبياء. وذكر هذه الحقيقة هنا حلقة من حلقات التوحيد الذي تقرره السورة كلها وتؤكده. ثم يلي ذلك تقرير ما بعد الموت. فالموت ليس نهاية المطاف انما هو حلقة لها ما بعدها. النشأة المقدرة المدبرة. التي ليس شيء منها عبثا ولا سدى. فيوم القيامة يختصم العباد فيما

٢٠٥

كان بينهم من خلاف. ويجيء رسول الله ص وآله. امام ربه ويوقف القوم للخصومة فيما كانوا يقولونه. واول ما يطالب اهل السقيفة الخبيثة بخيانتهم لعهده الذي اخذه عليهم يوم العدير لخليفته ووصية علي بن أبي طالب (ع) بأمر الزامي من الله عزوجل.

ثم يطالبهم بظلم بضعته الزهراء وغصب حقها والهجوم على بيتها بغير اذنها. وكسر ضلعها واسقاط جنينها المحسن حيث عصرها ابن الخطاب بين الحائط والباب. ثم يطالب ابن ابي قحافة في عهده بالخلافة من بعده لأبن الخطاب تنفيذا لما تآمر عليه في غصب الامامة من صاحبها الذي اختاره الله ورسوله لها دون سواه. ثم يطالب ابن الخطاب بما غير وبدل من احكامه وشرائعه تعمدا وعنادا ثم يطالب بما حاكه يوم الشورى حتى يحطم معنويات سيد الاوصياء (ع) حيث قرنه بمن لا يساوي نعاله من اسافل الناس ورعاعهم. وارجع الأمر الى عبد الرحمن بن عوف حتى لا ترجع الامامة والخلافة الى صاحبها الشرعي ثم يطالب عثمان بن عفان بما غيّر وبدل من احكام الله واضاف الى زميله ابن الخطاب ما هو ادهى وأمر.

ثم يطالب عائشة والزبير وطلحة بما فعلوا من نكث البيعة وشقّ عصا المسلمين وقتلهم الالوف من المسلمين بغير حق ثم يواصل الحساب مع معاوية وزملاءه الى النهاية. (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ. وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ) هذا طرف من الخصومة. فاما الاخر فهو الذي جاء بالصدق من عند الله وصدق به وبلغه عن عقيدة واقناع. ويشترك في هذه الخصومة مع رسول الله ص وآله اهل بيته المظلومين المغضوب حقهم واولهم سيدهم أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع) ثم تليه الزهراء ثم ابناؤها الاحد عشر اماما (ع).

٢٠٦

(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠))

البيان : هذه الآيات تصور منطلق الايمان الصحيح. في بساطته وقوته ووضوحه وعمقه. كما هو في قلب رسول الله ص وآله وأهل بيته (ع) واصحابه الذين ثبتوا على عهده. وكما ينبغي ان يكون قلب كل مؤمن برسالة الاسلام. وهي وحدها دستوره. الذي يغنيه ويكفيه. ويكشف له الطريق الواصل الى شاطىء الامان والصراط المستقيم.

(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) بلى فمن ذا يخفيه اذن. وماذا يخيفه والقوي الذي لا يغلب حارسه. والغني الجواد الذي لا يفتقر كافله. ان كان هو قد اتخذ مقام العبودية اعتماده. وقام بحق هذا المقام ومن ذا يشك في كفاية الله لعبده الا جاهله وهو القوي القاهر فوق عباده (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) فكيف يخاف من دخل حصنه الذي يقول فيه خليفته علي بن ابي طالب (ع) (ألا ان جار الله آمن وعدوه خائف).

انها قضية بسيطة واضحة. لا تحتاج الى جدل ولا كد ذهن. انه الله وكفى الذي اذا قال للشيء كن فيكون. وحين يكون هذا الموقف لا يبقى هنالك شك ولا يكون هناك اشتباه في كفاية وشفاية وحماية الله لعبده (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) ومعنى يضلل يعني يترك من تركه وما اختاره لنفسه من عصيانه له وابتعاده وانقطاعه عنه (أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ) بلى وانه لعزيز قوي. وانه ليجازي كلا بما يستحق. وانه

٢٠٧

لينتقم ممن يستحق الانتقام. فكيف يستحق منه العبودية غير مولاه الذي كفله وحماه. ومن كل بلاء وشر وقاه.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) لقد كانوا يعترفون بذلك تماما ولا يمكنهم انكار ذلك. وما يستطيع عقل أن يعلل نشأة السموات والارض الا بوجود ارادة عليا. فهو يأخذهم ويأخذ العقلاء جميعا بهذه الحقيقة الفطرية الواضحة. فاذا كان الله تعالى هو خالق السموات والارض. فهل يقدر أحد أن يكشف ضرا أراد الله أن يصيب به عبدا من عباده. أو يقدر أن يحبس رحمة أراد الله أن ينزلها على عبد من عباده.

والجواب بالنفي قطعا. فاذا تقرر هذا فما الذي يخشاه من عرف الله وأحرز رضاه. وما الذي يرجوه من غيره من تركه والتجأ الى سواه.

انه متى استقرت هذه الحقيقة في قلب مؤمن استحال أن يدنو اليه بعد خوف أو فزع. أو يعلق في ذهنه أمل من سواه. وهذا معنى انقطاع الخوف والرجاء من غير الله لمن عرف الله (قل حسبي الله. عليه فليتوكل المتوكلون) وهنا تستقر الطمأنينة والثقة واليقين حيث يستقر هذا الايمان. وحينئذ يستقيم المضي في الطريق على ثقة تامة الى نهاية الطريق.

(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ ..) أي امضوا على طريقكم وانا ماض في طريقي. لا أميل ولا أنحرف عنه قيد شعرة. وأنا لا أخاف ولا أقلق وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه في الدنيا. ويحل عليه عذاب مقيم في دار الخلود والدوام فياله من خسران وعذاب.

٢٠٨

(إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥))

البيان : (انا أنزلنا عليك الكتاب بالحق) الحق في طبيعته. والحق في منهجه. والحق في شريعته. والحق الذي تقوم عليه السموات والارض. كل يلتقي عليه نظام البشرية.

ان هذا الكتاب ونظام الكون كله في تناسق. هذا هو الحق الذي أنزل (للناس) ليهتدوا بنوره وتنشرح قلوبهم بضيائه. ويسعدوا بالسير وفق أحكامه.

(فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) انما الوكيل عليهم هو خالقهم العظيم. وهم في قبضته. في نومهم ويقظتهم.(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) فالله يستوفي الانفس. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) انهم هكذا في قبضة الله دائما وهو الوكيل عليهم. ولست عليهم بوكيل. وانهم محاسبون اذن وليسوا بمتروكين. فماذا يرجون اذن :

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ) وهو سؤال للتهكم والسخرية. من زعمهم أنهم يعبدون تماثيل ليقربوهم الى الله. (أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ). فلله الشفاعة جميعا. فهو الذي يحاسب ويعاقب ويقبل شفاعة من أراد ويستحق.

٢٠٩

(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فليس هنالك خارج على ارادته. ولا مهرب من قبضته.

(وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) الاية تصف واقعة حال على عهد النبي ص وآله. حين كان المشركون يهشون ويبشون اذا ذكرت الهتهم. وينقبضون اذا ذكرت كلمة التوحيد ولكنها تصف نفسية تتكرر في شتى الازمان.

(قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠))

البيان : (قُلِ اللهُمَّ ...) انه دعاء الفطرة التي ترى السماء والارض. ويتعذر عليها أن تجد لها خالقا غير الله فاطر السماوات والارض. فتتجه اليه بالاعتراف والاقرار وتعرفه بصفته اللائقة. فاطر هذا الكون وما فيه. (عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) المطلع على الغائب والحاضر والباطن والظاهر. (أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فهو وحده الحكم العدل.

(وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ) انه الهول الملفوف في ثنايا التعبير الرهيب. فلو ان لهؤلاء الظالمين (ما في الارض ومثله) لقدموه فدية مما يرون (مِنْ سُوءِ الْعَذابِ) وهناك حول يتضمنه التعبير الملفوف.

(وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)

٢١٠

وهذه كذلك تزيد الموقف رهبة حين ينكشف لهم سوء وقبح ما فعلوا وما كانوا به يستهزؤون من الواعظ والمرشد والمحذر لهم.

(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ..) ان الضر يسقط عن الفطرة ركام الاهواء والشهوات. ويجردها من العوامل المصطنعة التي كانت تحجب عنها الحق الكامن فيها وعندئذ تتوجه الى خالقها حينما تنقطع لديها الاسباب والوسائل المصطنعة لدى البشر الغافلين عن هذا.

(بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ) هي فتنة للاختيار والامتحان ليتبين ان كان سيشكر أو سيكفر وان كان سيصلح أو سيفسد. وان كان سيعرف الطريق. أم يجنح الى الضلال المبين.

(قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) هي ذاتها هذه الكلمة الضالة التي قالها الذين من قبلهم وهؤلاء سيصيبهم ما أصاب الغابرين. فسنة الله لا تتبدل (وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ).

(فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥))

البيان : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ..) انها الرحمة الواسعة التي تسع جميع المذنبين والمنحرفين ان هم تابوا واعتدلوا ورجعوا الى حظيرة القدس والطاعة والاخلاق وحينئذ تحرسهم عناية الخالق العظيم من كل هول وخوف ومن عدوهم الشيطان الرجيم.

٢١١

(وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) الانابة والرجوع والعودة الى أفياء الطاعة والاستسلام سعادة كبرى. انه حساب مباشر بين العبد ومولاه. وبين المخلوق وخالقه. فمن أراد الأوبة فالباب مفتوح على مصرعيه لا يغلق أمام المريدين ابدا. ولا شيء أحب الى المولى من رجوع عبده الى طاعته. واعتذاره عما سلف منه فانه عزوجل يقبل التوبة ويعفو عن السيئات.

(من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وانتم لا تشعرون قبل أن تتحسروا على مافات من الفرصة والمهلة وعلى التفريط في حق الله. وعلى السخرية بوعد الله الذي لا خلف له).

(أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١) اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤))

البيان : (أن تقول نفس يا حسرتا ..) وهي علالة لا أصل لها ـ لانها عند ضيق الخناق ـ فالفرصة هاهي ذي سانحة لكل عاقل رشيد. ووسائل الهدى ما تزال مبذولة لكل مريد. وباب التوبة مفتوح لكل من يريد. (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً) هي أمنية المجرمين. بعد فوات الاوان. فاذا انتهت الحياة فلا كرة ولا رجعة. وما هي الا فرصة هذه الحياة فاذا انقضت فلا تعوده وستسألون عنها مع التبكيت والترذيل.

(بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها .. وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ

٢١٢

كَذَبُوا عَلَى اللهِ ...)

وهذا هو المصير الاخير. فريق مسودة وجوههم من الخزي والعذاب الاليم وهم المستكبرون. وفريق فرحون مستبشرون بما آتاهم ربهم. وهم المتقون المطيعون. الذين عاشوا في حذر من تعدي الحدود التي حددها خالقهم لهم في الحياة الدنيا. (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

(اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) انها الحقيقة التي تنطق بالحق ويعترف بها كل عبد منيب. فما يملك أحد أن يدعي أن له دخل في خلق الكون وما فيه. ولا يستطيع عقل أن يزعم ذلك. وكل ما في الوجود شاهد صادق على واجب الوجود بذاته. ولو لا وجوده بذاته عزوجل لما وجد موجود بعد العدم وكل ما في الوجود كان معدوما وقد أوجده خالقه العظيم بقوله كن فيكون. وليس هناك أمر من أموره متروكا. ولا سبيل للصدفة والعبث أبدا.

(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) فهو يصرّفها وفق تنظيم وتصميم. وحكمة واتقان وتدبير.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) خسروا سعادة الدنيا والاخرة. ففي الدنيا عاشوا أشقياء تعساء. وفي الاخرة لهم عذاب النار. وذلك هو الخسران المبين للجنة ونعيمها.

(قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) وهو الاستنكار الذي تصرخ به الفطرة السليمة. في وجه المضللين والمفسدين والخداعين. فأهل العقل لا تخدعنهم زخارف الدجالين.

(وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ

٢١٣

مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠))

البيان : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ ..) وهذا تهديد للمنحرفين عن المنهج القويم ـ اياك اعني واسمعي يا جارة ـ فليس المراد به صفوة الخلق وسيد النبيين ولكن لنعلم نحن ان الالتجاء لغير الله والخوف من سواه يحبط العمل ويحرقه كما تحرق النار الحصيد.

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) نعم ما قدروه حق قدره ولو قدروه لاستحال أن يرجوا سواه او يلتجئوا الى غيره وبيده أزمة الامور واليه يرجع الامر كله واذا قال للشيء كن فيكون.

(وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ) وكل ما يرد في القرآن المجيد. وفي الحديث من هذا القبيل انما هو تقريب للحقائق. التي لا يملك البشر ادراكها بغير هذا التعبير الذي يراد منه قدرته الباهرة. التي لا تتقيد بشكل. ولا تتحيز في حيز. ولا تتحدد بحدود.

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ...) ولا تذكر الصيحة الثالثة هنا صيحة الحشر والتجميع. ولا تصور ضجة الحشر وضجيج الزحام. لان هذا المشهد يرسم هنا في هدوء. (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) ارض التي تبدلت بأرضنا هذه. وانطمست الشمس والقمر وتعين انارتها بنور خالقها.(وَوُضِعَ الْكِتابُ) الحافظ لاعمال العباد. (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) ليقولوا كلمة الحق التي يعلمون. (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ) فلا حاجة الى كلمة تقال. ولا الى صوت واحد يرتفع. ومن ثم تجمل وتطوى عملية الحساب والسؤال والجواب روعة المقام.

٢١٤

(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥))

البيان : واستقبلتم خزنتها يسجلون استحقاقهم لها ويذكرونهم بأسباب مجيئهم اليها. و (قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) فالموقف موقف اذعان وتسليم. لا موقف مخاصمة ولا مجادلة. وهم مقرون مستسلمون (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) ذلك ركب جهنم ركب المتكبرين. (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) فهو استقبال طيب وثناء جميل (طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) فهذه الارض الجديدة الطاهرة النقية التي فيها ما تشتهي الانفس وتلذ الاعين. (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) (وقيل الحمد لله رب العالمين).

٢١٥

ـ ٤٠ ـ سورة المؤمن آياتها (٨٥) خمس وثمانون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥))

البيان : هذه السورة بدء سبع سور كلها تبدأ بالحرفين (حا. ميم) منها سورة واحدة يذكر فيها بعد هذين الحرفين ثلاثة حروف اخرى (عين. سين. قاف) وقد سبق الحديث عن الاحرف المقطعة في أوائل السور. وانها اشارة الى صياغة هذا القرآن منها وهو معجز لهم مع تيسير هذه الاحرف لهم ومعرفتهم بها. وهي أحرف لغتهم التي يتحدثونها. ويكتبونها وتليها الاشارة الى تنزيل الكتاب. احدى الحقائق التي يتكرر الحديث عنها في السور الملكيّة بوجه خاص في معرض بناء العقيدة. (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).

(غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) العزة والعلم وغفران الذنب وقبول التوبة وشدة العقاب والفضل والانعام ووحدانية الالوهية. ووحدانية المرجع والمصير وكل هذه المعاني هي موضوعات السورة التي جاءت في مطلع السورة. توحي بالاستقرار والثبات والرسوخ للكرم والعظمة والعفو.

(غافِرِ الذَّنْبِ) الذي يعفو عن ذنوب العباد التائبين النادمين. على ما حصل منهم وصدر.

٢١٦

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فله الالوهية وحده لا شريك له فيها ولا شبيه. فهو المصدر لكل نعمة.

(إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) فلا مهرب من حسابه ولا مفرّ من عقابه. واليه يرجع الامر كله.

(ما يجادل في آياتنا الا الذين كفروا) بعد تقرير تلك الصفات العلوية. وتقرير الوحدانية. يقرر ان هذه الحقائق مسلمة من كل من في الوجود. وكل ما في الوجود دال بوجوده على عظمه موجده.

امّا الذين كفروا فهم وحدهم الذين يجادلون في هذه الحقائق والمسلّمات (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) فمهما تقلبوا وتحركوا. وملكوا واستمتعوا. فهم الى اندحار وهلاك ودمار. ونهاية أمرهم الى النار

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ) فهي قصة قديمة من زمن نوح (ع). واهل التكذيب والطغيان على مدى الازمان. وكل ما جاءهم رسول بما لا تهوى انفسهم كذبوه بالسنتهم دون قلوبهم) (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) ولقد كان عقابا مدمرا قاضيا عنيفا شديدا. تشهد آثارهم من بعدهم.

(وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ

وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠))

البيان : فمتى حقت كلمة الله على أحد فقد هوى وقضي الامر. وبطل كل جدال. وهكذا يصور القرآن الحقيقة الواقعة. حقيقة

٢١٧

المعركة. بين الايمان والكفر. وبين الحق والباطل. وبين الدعاة الى الله عزوجل. والطغاة الذين يستكبرون في الارض بغير الحق. وهكذا نعلم أنها معركة قديمة بدأت منذ فجر البشرية. وان ميدانها أوسع من الارض كلها. لان الوجود كله يقف مؤمنا بخالقه مسلما له تسليما. ولا يشذّ عن هذا التسليم. الا الذين كفروا وعصوا واتبعوا أهوائهم وكان عاقبة امرهم خسرانا ودمارا. مهما طال تقلبهم في البلاد والفساد والطغيان.

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ) نحن لا نعرف ما هو العرش. ولا نملك صورة له. ولا نعرف كيف يحمله حملته. ولكن يمكن ان يكون رمزا كبيت الله للكعبة المكرمة. والمسجد المطهر. بعد أن قام الدليل العقلي على استحالة ان يكون لله تعالى حيازة في زمان أو مكان لان ذلك من لوازم المخلوقات المحدودة او المجسمة. وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

(رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) يقومون بين يدي الدعاء ـ في طلب الرحمة للناس ـ (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا) وتلتقي هذه الاشارة الى المغفرة والتوبة (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) هذه الدعوة ـ بعد الدعاء ـ لفتة الى الركيزة الاولى في الموقف العصيب.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ ...) لمقت الله اشدّ كراهة. وهم ينادون من كل جانب. ان مقت الله لكم يوم كنتم تدعون الى الايمان فتكونوا أشد من مقتكم لانفسكم. والان وقد سقط عنهم الغشاء.

(قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ

٢١٨

الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧))

البيان : (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ). وهي كلمة الذليل البائس (ربنا) وقد كانوا يكفرون وينكرون ـ أحييتنا أول مرة ـ حين نفخت الروح في الموات. فاذا نحن أحياء. ثم أحييتنا الاخرى بعد موتنا. فجئنا اليك. وانك لقادر على اخراجنا مما نحن فيه (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ).

(ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) فهذا هو الذي يقودكم الى ذلك الموقف الرهيب.

(فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) موقف الحكم والاستعلاء على كل شيء في موقف الفصل الاخير.

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ ..) آيات الله ترى في كل شيء في هذا الوجود (وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) فالذي ينيب الى ربه يتذكر نعم الله تعالى. ويتذكر فضله. ويتذكر آياته التي ينساها الجاهلون.

(فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) لا يرضى الكافرون من المؤمنين أن يخلصوا دينهم لخالقهم وأن يدعوه وحده دون سواه. فليمض المؤمنون في وجهتهم وليدعوا ربهم وحده وهم الفائزون.

(رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ) فهو سبحانه صاحب الرفعة والاستعلاء. وهو صاحب العزة والكبرياء. وهو الذي يلقي أمره المحيي للارواح والقلوب على من يختاره من عباده.

(لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) في هذا اليوم يتلاقى البشر جميعا. ولكن كل مشغول بنفسه لا يفكر الا بخلاصه من النار وغضب الجبار (يَوْمَ

٢١٩

التَّلاقِ) في هذا اليوم يتلاقى البشر جميعا. ولكن كل مشغول بنفسه لا يفكر الا بخلاصه من النار وغضب الجبار (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ).

(يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ) خافية) والله اللطيف الخبير. ولكنهم في غير هذا اليوم قد يحسبون انهم يمكنهم اخفاء جرائمهم. عن خالقهم كما يخفونها عن الناس أما اليوم فيحسون انهم مكشوفون وانهم مفضوحون. ويقفون عارين عن كل ساتر حتى الاوهام. ويومئذ يتضاءل المتكبرون. ويقف الوجود كله خاضعا خاشعا للحي القيوم. ويتفرد مالك الملوك والسلاطين الواحد القهار.(لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ـ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ).

(الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) اليوم يوم الجزاء والوفاء. يوم القضاء والفصل.

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠))

البيان : الازفة العاجلة. وهي القيامة. واللفظ يصورها كأنها مقتربة زاحفة. وكأنما القلوب المكروبة تضغط على الحناجر. وهم كاظمون لأنفاسهم. وهم لا يجدون حميما يعطف عليهم ولا شفيعا ذا كلمة تطاع في هذا الموقف العصيب المكروب.

(يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) العين الخائنة تجتهد في اخفاء خيانتها. ولكنها لا تخفى على الله لان الستور لديه مكشوفة لعلمه المطلق. والله وحده هو الذي يقضي في هذا اليوم. قضاء الحق. (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ)

٢٢٠