تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٤

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

فالله تعالى يقضي بالحق لانه يقضي عن علم صحيح وعدل مستقيم.

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥))

البيان : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) هذا التعبير بين قصة موسى (ع) وموضوع السورة قبلها يذكر المجادلين في آيات الله من مشركى العرب بعبرة التاريخ قبلهم. ويوجههم الى السير في الارض ورؤية مصارع الغابرين. الذين وقفوا موقفهم. وكانوا أشد منهم قوة وآثارا في الارض.

ولكنهم ـ مع هذه القوة والعمارة ـ كانوا ضعافا أمام بأس الله وبطشه (ان بطشه شديد) وكانت ذنوبهم تعزلهم عن مصدر القوة الحقيقية. (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ ..) ولا واق لمخلوق عند خالقه الا ايمانه الصحيح. وعمله الصالح. ولا ينفعه غير ذلك شىء.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا ..) هذا هو موقف اللقاء الاول. موسى ومعه آيات الله ومعه الهيبة المستمدة من الحق الذي اختاره لهذا التبليغ. وفرعون وهامان وقارون. ومعهم الباطل الزائف وقوتهم المخدوعة. ومركزهم الزائف. الذي يخافون عليه من الدمار.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا. اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ).

انه منطق الطغيان كلما أعوزته الحجة. وخذله البرهان. وخاف

٢٢١

أن يستعلي عليه الحق لاذ الى طغيانه. واما الحق فانه يخاطب الفطرة والعقول بالدليل والبرهان الساطع.

ولقد كان فرعون ـ في أيام مولد موسى (ع) ـ قد أصدر مثل هذا الامر. ونفذ بأكثر من عشرين ألفا القتل من الاطفال

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧) وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١))

البيان : (وَقالَ فِرْعَوْنُ ...) يبدو من قوله (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) ان رأيه هذا كان يجد ممانعة ومعارضة ـ من ناحية الرأي ـ كأن يقال مثلا : ان قتل موسى لا ينهي الاشكال. فقد يوحى هذا للجماهير وللدين الذي جاء به. وبخاصة بعد ايمان السحرة في مشهد شعبي جامع واعلانهم سبب ايمانهم. وهم الذين جيء بهم ليبطلوا عمله وبناؤه. وقد يكون بعض مستشاري الملك أحس في نفسه رهبة ان ينتقم آله موسى له. ويبطش بهم. وليس هذا ببعيد. فقد كان الوثنيون يعتقدون بتعدد الالهة. ويتصورون بسهولة ان يكون لموسى آله ينتقم لموسى ممن يعتدون عليه (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) فهل هناك أظرف من أن يقول فرعون الضّال الوثني. عن موسى رسول الله (ع) (انه يظهر الفساد) أليست هي بعينها كلمة كل طاغية مفسد.

٢٢٢

عن كل داعية مصلح. أليست هي بعينها كلمة الباطل الكالح في وجه الحق الجميل. أليست هي بعينها كلمة الخداع الخبيث لاثارة الخواطر في وجه الايمان.

انه منطق واحد يتكرر كلما التقى الحق والباطل. والايمان والكفر والصلاح والطغيان. على توالي الزمان واختلاف المكان. والقصة قديمة مكررة تعرض أفلامها في كل حين وحين. (وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) قالها بكل ثبات واطمئنان وايمان ويقين. قولة اعتمادها على قوة قاهرة لا تغلب. والتجاء الى وحدانية الله ربه وهكذا يكون الايمان.

(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) انها جولة ضخمة هذه التي جالها الرجل المؤمن مع الكافرين. وانه منطق الفطرة المؤمنة في تعقل ومهارة وقوة وايمان. (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ). فهذه الكلمة البريئة المتعلقة باعتقاد المطمئن بالايمان. تستحق القتل. انها في هذه الصورة فعلة منكرة بشعة. ثم يخطو بهم خطوة اخرى. فالذي يقول هذه الكلمة البريئة (ربي الله) يقولها ومعه حجة باهرة. وفي يده برهان ساطع. (وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ). يشير الى تلك الآيات التي عرضها موسى (ع) ورأوها. ثم يعرض لهم أسوأ الفروض. ويقف معهم موقف الناصح المشفق والحق يملؤ قولته. (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) ويحتمّل جريرته. (وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) ثم يهددهم من طرف خفي وهو يقول :

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) فاذا كان موسى كاذبا فان الله لا يهديه ولا يجري على يده الايات الباهرة. ثم يرجع الغوى يكرر الخداع والمكر فيقول فرعون لهم (ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) وهل يقول الطغاة الا ما يوافق هواهم وما يزين لهم

٢٢٣

شيطانهم ويخدعهم به ليرديهم حفر الدمار والنيران كما قال من قبل ولكن الرجل المؤمن يرى بنور ايمانه غير ما يراه الطاغي المجرم باجرامه.

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ ..) ولكل حزب كان يوما. ولكل يلاقي فيه جزاء ما خدع وأجرم. فهو اليوم الذي يتجلى فيه بأس الخالق القهار (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) انما يأخذهم بذنوبهم واجرامهم. ثم يطرق على قلوبهم طرقة أخرى فيقول :

(وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) وفي ذلك اليوم ينادي الملائكة الذين يحشرون الناس لموقف العرض على عالم اسرارهم.

(وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥))

البيان : (يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) في ذلك ينادي الملائكة. وينادي أصحاب الاعراف وينادي اصحاب الجنة اصحاب النار. وأصحاب النار اصحاب الجنة. فالتنادي واقع في صور شتى.(يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) قد يكون ذلك فرارهم من هول جهنم. ولا عاصم ولات حين مناص. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) ولعل فيها اشارة خفية الى قول فرعون. (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) وتلميحا بان الهدى هدى الله. وان من تركه الله لعصيانه فما له من هاد.

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ ...) هذه هي المرة الاولى في القرآن التي

٢٢٤

يشار فيها الى رسالة يوسف (ع) للقوم في مصر. والرجل المؤمن يشتد هنا وهو يشير الى هذا الارتياب (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ) (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ ...) والتعبير على لسان الرجل المؤمن يكاد يكون طبق الاصل.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠))

البيان : (يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً) هكذا يموه فرعون الطاغية ويحاور كي لا يواجه الحق ولا يعترف بدعوة الوحدانية التي تهزّ عرشه وتهدد الاساطير التي قام عليها ملكه.

(وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) انها الحقائق التي تقررت من قبل في صدر السورة يعود الرجل فيقررها في مواجهة الحوادث وقد كان فرعون وملئه منذ لحظات يقول (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) فهو التحدي الصريح الواضح بكلمة الحق لا يخشى فيها سلطان فرعون وملئه المتآمرين معه كهامان وقارون وزيري فرعون ويكشف لهم عن حقيقة الحياة الدنيا. (انما هذه الحياة متاع الدنيا) متاع زائل لا ثبات له.

(وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) فهي الاصل واليها النظر والاعتبار.

(مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) فقد اقتضى فضل الله أن تضاعف الحسنات ولا تضاعف السيئات. رحمة من الله بعباده. ويستنكر الرجل المؤمن ان يدعوهم الى النجاة وهم يدعونه الى النار

٢٢٥

الى الكفر الى الجحود (يا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ).

(وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦))

البيان : (شتان بين دعوة الى الجنة ونعيمها الخالد. ودعوة الى النار وعذابها الدائم. وان مردنا الى الله ـ بدون اختيار ـ ان دعوته لهم واضحة مستقيمة انه يدعوهم الى العزيز الغفار. يدعوهم الى اله واحد تشهد له آثاره في كل ما أوجده وأتقنه في أحسن تقويم. وتنطق له بدائع صنعته. يدعوهم ليغفر لهم ما سلف من جرائمهم وفسادهم في الارض. ثم يقرر بان الذين تدعون من دون الله ليس لهم شأن في الدنيا ولا في الاخرة. وان المرد الذي لابد منه الى الله. وان المسرفين المتجاوزين للحد سيكون مصيرهم الى النار. وماذا يبقى بعد هذا البيان الواضح الشامل للحقائق الرئيسية في العقيدة. وقد جهر بها الرجل المؤمن الذي أدى ما يجب عليه من النصيحة لقومه والبيان التام لهم).

(فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ) وقد سجل مؤمن آل فرعون كلمته الحقة الخالدة في ضمير الزمان. (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها ..)

(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ

٢٢٦

فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠)

إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥))

البيان : (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ) لقد طويت الدنيا ـ بغرورها وخدعها عن أهلها ـ وعرضت أول صفحة بعدها. فاذا الرجل المؤمن الذي قال كلمة الحق ومضى قد وقاه الله سيئات مكر فرعون وملئه. فلم يصبه من آثارها شيء في الدنيا ولا في الاخرة. بينما حاق بآل فرعون سوء العذاب. (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) والنصّ ينظر الى زمان البرزخ قبل يوم القيامة. لان يوم القيامة عذابه دائم فلا فلا يخفف عنهم لا في ليل ولا في نهار ولذا قال :

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) ثم يأتي عرض آخر من النقاش. (فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً ..) ان الضعفاء اذن في النار مع المستكبرين. لقد منحهم الله كرامة التدبر والتمييز بين الخير والشر. والربح والخسران والكفر والايمان. ودعوة الاخيار ودعوة الاشرار. والتمييز بين منتهى أمرهم اما الى الجنة أو النار. لكنهم قد نبذوا هذه الكرامة واتبعوا أهواءهم وانقادوا الى شهواتهم كالبهائم الفاقدة لهذا العقل والتمييز ولذا قال عزوجل (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها. أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ).

٢٢٧

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها) انا كل منا نحن واياكم التابع والمتبوع في العذاب سواء (إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) فلا مجال لمراجعة في الحكم. ولا مجال لتغيير أو تعديل او استئناف او تمييز لمحاكم أخرى. (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا ...) انهم يطلبون من خزنة جهنم يتشفعون لهم في تخفيف العذاب عنهم مع جهنم نفسها التي يشتد غضبها عليهم وزفيرها (اذا ألقوا فيها سمعوا لها تغيظا وزفيراتكاد تميز من الغيظ ...)

(قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى) (قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ).

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) معهم) هذا التعقيب الجازم يناسب ذلك الموقف الحاسم ولقد اطلعت منه البشرية على مثل هذا من صنع الله في الذين كفروا ودمارهم وفوز المؤمنين. هذا في الدنيا واما في الاخرة. فلا جدال في الفوز والربح والسعادة للذين اتبعوا الرسل وآمنوا بخالقهم العظيم واحرزوا رضاه بتقواهم وعملهم الصالح الخالص لوجه الله.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى) وكان هذا نموذج من نماذج نصر الله. ايتاء الكتاب والهدى وهذا النموذج الذي ضربه الله تعالى في قصة موسى (ع) يكشف لنا رقعة فسيحة نرى فيها صورة خاصة من صور النصر تشير الى الالتجاء.

(إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠))

٢٢٨

البيان : (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ). ان هذا المخلوق الانساني لينسى نفسه في احيان كثيرة. ينسى انه كائن صغير ضعيف يستمد القوة في كل حركة وسكون من خالقه الذي اخرجه من العدم الى الوجود ولذا يقول المصلي (بحول الله وقوته اقدم واقعد) وانه ليجادل في آيات الله ويكابر وهي ظاهرة ناطقة معبرة للفطرة بلسان الفطرة. وهو يزعم لنفسه وللناس انه انما يناقش لانه لم يقتنع. ويجادل لأنه غير مستيقن. وخالقه العظيم يقرر ان ما يصدر من هذا المخلوق الحقير انما هو الكبر والتطاول على خالقه فسوف يعلم حين تحتويه ملائكة غلاظ شداد ويجسّرونه بسلاسل من نار الى جهنم وبئس المصير.

ولو ادرك او لو تحقق حقيقته في هذا الوجود وخروجه منه بغير اختيار منه لتواضع من كبريائه وأدى الشكر والتمجيد لخالقه وسيده.(فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فالاستعاذة بالله في مواجهة الكبر توحي باستبشاعه وشناعته. فالانسان انما يستعذ بالله من الشيء الفظيع القبيح الذي يتوقع شره وأذاه. فهو يوكل أمره لسيده ومولاه (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) والسموات والارض معروضات للانسان يراهما. ويستطيع ان يقيس نفسه اليهما ولكنه حين (يعلم) حقيقة النسبة وحقيقة الاحجام والقوى بينه وبين السموات والارض حينئذ لا بد ان يستصغر نفسه وقواه وهذه الشمس واحدة من نحو مئات الملايين من الشموس في المجرة القريبة منا والتي نحن منها وكلها متناثرة في الفضاء الهائل من حولها تكاد تكون تائهة فيه.

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) فالبصير يرى ويعلم ويعرف قدره وقيمته. ولا يتطاول على مخلوق مثله فضلا عن خالقه العظيم الذي هو مفتقر اليه في استمرار وجوده كما كان مفتقر اليه في اصل وجوده من

٢٢٩

العدم وخلق له هذا الجسم والبدن (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) والدعاء ادب لا بد ان يراعي الداعي عظمة من يدعوه وكرم من يرجوه. وفضل المنعم اليه. ومن في كل حركة وسكون مفتقر اليه.

فاما الذين يستكبرون عن التوجه لله عزوجل فجزاؤهم الحق ان يوجهوا الى جهنم صاغرين وهذه هي نهاية تكبرهم على خالقهم المتفضل عليهم بنعم لا تحصى.

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥))

البيان : الليل والنهار ظاهرتان كونيتان. والارض والسماء خلقان كونيان كذلك تذكر مع تصوير الله للبشر واحسان صورهم. ومع رزق الله لهم من الطيبات. وكلها تعرض معرض نعم الله وفضله على الناس. وفي معرض الوحدانية. واخلاص الدين لله فيدل هذا على ارتباط هذه الظواهر والخلائق والمعاني. وعلى وجود الصلة بينها.

ان بناء هذا الكون على القاعدة التي بناها الله عليها ثم سيره وفق الناموس الذي قدره الله له. هو الذي سمح بوجود الحياة. في هذه الارض ونموها وارتقائها.

ونذكر هنا لمحات خاطفة تشير الى بعض نواحي الارتباط في صميم هذا الكون وعلاقته بحياة الانسان مجرد لمحات تسير مع اتجاه هذه الاشارة المجملة في كتاب الله.

ـ فلو كانت الارض لا تدور حول نفسها في مواجهة الشمس ما تعاقب الليل والنهار.

٢٣٠

ولو دارت الارض حول نفسها أسرع مما تدور لتناثرت المنازل تفككت الارض وتناثرت.

ولو دارت الارض حول نفسها أبطأ مما تدور لهلك الاحياء من حر ومن برد.

ولو لا دوران الارض حول نفسها لفرغت البحار والمحيطات من مائها.

ماذا يحدث لو استقام محور الارض وجرت الارض في مدارها حول الشمس في دائرة الشمس مركزها. اذن لاختفت الفصول الاربعة.

ولو كانت قشرة الارض اسمك مما هي بمقدار بضعة اقدام لا متص ثاني اكسيد الكربون الاوكسجين ولما امكن وجود حياة النبات.

ولو كان الهواء ارفع اكثر مما هو فان بعض الشهب التي تحترق في الهواء كانت تضرب جميع اجزاء الكرة الارضية.

ولو كان الاوكسجين بنسبة (٥٠) في المئة أو أكثر في الهواء بدلا من (٢١) في المئة فان جميع المواد القابلة للاحتراق تصبح عرضة للاشتعال.

ولو ان نسبة الاوكسجين في الهواء قد هبطت الى (٠) في المئة لحدث الاختلال.

ولو رحنا نبحث دقة التكوين الانساني وتناسق أجزائه ووظائفه لوقفنا امام كل عضو صغير. بل امام كل خلية الاف السنين وما ادركنا نهاية تركيبه.

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) ان السكون بالليل ضرورة لكل حي ولا بد من فترة من الظلام تسكن فيه الخلايا الحية (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) والتعبير على هذا النحو تعبير مصور مشخص

٢٣١

كأنه يبصر. وانما الناس هم الذين يبصرون فيه (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ).

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) وانه لعجيب يستحق التعجب أن يرى الناس يد الله تعالى في كل متحرك وفي كل شيء موجود توجده من العدم او مما جعله هو سببا له.

(كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (الله جعل لكم الارض قرارا) فالارض قرار صالح لحياة الانسان والحيوان. ويربط بتكوين السماء والارض (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ ..) ذلكم الذي يخلق ويقدر ويدبر. ويرعاكم ويفيض عليكم الحياة والحركة ولو لا ذلك لاستحال استمرار الحياة والحركة على جميع الاحياء.

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠))

البيان : (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ) هؤلاء الذين يصرفون عن آيات الله اني نهيت عن عبادة ما يدعون ويلزمني عقلي ان التزم بما امرني خالقي (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) وهذه النشأة الانسانية. فيها ما لم يدركه علم الانسان مهما سما وارتفع. لانه كان قبل وجود الانسان. وفيها ما يشاهده ويراقبه ولكن هذا انما تم حديثا بعد نزول القرآن واخباره به قبل قرون مما وصل اليه اليوم. فخلق الانسان من تراب حقيقة سابقة على وجود الانسان. والتراب أصل الحياة كلها على وجه هذه الارض ومنها حياة الانسان. ولا يعلم ذلك

٢٣٢

الا الله كيف تمت هذه الخارقة ولا كيف صدر هذا الحادث الضخم في تاريخ الارض وتاريخ الحياة.

(وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) ان منكم من يبلغ هذه المراحل جميعا أو بعضها ورحلة الجنين رحلة عجيبة. ممتعة حقا. وقد عرفنا الكثير عنها بعد تقدم الطب وعلم الاجنة بشكل خاص ورحلة الجنين ورحلة الطفل كلتاهما توقع على الحس البشري وتلمس القلب الانساني في أي بيئة وفي اي مرحلة من مراحل الرشد العقلي. وكل جيل يحس لهذه اللمسة وقعها (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) وتكثر الاشارة في القرآن الى آيتي الحياة والموت. لأنهما تلمسان قلب الانسان بشدة وعمق في الانسان والنبات وكلها توقظ القلب وتستجيشه انتباها ومن الحياة والموت الى حقيقة الانشاء واداة الابداع من الخالق العظيم التي هي رهن صدور الارادة منه تعالى لا غير فيوجد فورا كلما اراد (كُنْ فَيَكُونُ).

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) انه تعالى يتعجب من امر الذين يجادلون في آيات الله وقد كذبوا بالكتاب والرسول الذي نزل عليه. فهي عقيدة واحدة الدافع لها الهوى والشهوات في كل جيل وزمان (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ما سيلاقوا جزاء انكارهم وتكذيبهم للحق واهله.(إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ)

(إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥))

البيان : فبعد السحب والجرّ في هذا العذاب وفي هذه المهانة ينتهي بهم المطاف الى ماء الحميم (فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) على طريقة جرّ الكلاب والى هذا ينتهون. (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ)

٢٣٣

قالوا غابوا عنا نعد نعرف لهم طريقا وما عادوا يتعرفون علينا وقد ظهر لنا بطلان ما كنا عليه فهل الى رجوع من سبيل (هيهات لقد ضل عنكم) (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) يا مغيث اغثنا قبل يوم التناد يوم لا ينفع حميم حميما.

(ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠))

البيان : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ) ان لهذا الامر سوابق كثيرة. قصىّ الله على رسوله بعضها في هذا الكتاب. وبعضها لم يقصصه (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ ..)

فالنفس البشرية ـ ولو كانت كنفس سيد المرسلين ص وآله. تتمنى ان تأتي الاعمال الفائقة. ولكن الله تعالى يريد أن يلوذ عباده المختارون بالصبر المطلق. ويروضوا انفسهم عليه. فيبين لهم أن ليس لهم من الامر شيء. وان وظيفتهم تنتهي عند حد البلاغ وان مجيء الآية هو الذي يتولاه حينما يريد لتطمئن قلوبهم وتهدأ وتستقر. ويرضوا بكل ما يتم ويدعوا الامر كله بعد ذلك لله عزوجل.

ويريد كذلك ان يدرك الناس طبيعة الالوهية. وطبيعة النبوة. ويعرفوا أن الرسل بشر منهم قد اختارهم الله. وحدد لهم وظيفتهم. بما هم قادرون عليه وما هم عاجزون عنه (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ) ولم يعد هناك مجال لعمل او توبة او رجوع او تدارك. (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ

٢٣٤

الْأَنْعامَ) لقد خلق الله تعالى هذه الانعام ابتداء بدون سؤال وهي آية خالقة كخلق الانسان. فقد بث الحياة فيها. وركبها فأحكم تركيبها.

(لِتَرْكَبُوا مِنْها. وَمِنْها تَأْكُلُونَ) والحاجات التي كانت في الصدور والتي كانوا يبلغونها على الانعام كثيرة ـ في ذلك الزمان حيث ينحصر الامر بها ـ وما تزال هناك حاجات تبلغ على هذه الانعام حتى اليوم وغدا. (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ).

وهذه مثل تلك آية خارقة. ونعمة بعد نعمة ـ فهل أنتم شاكرون ـ فكم هناك من آيات لا تحصى ولا تعد (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) ان الانسان لكفور.

(وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥))

البيان : (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) نعم ان هناك من ينكر. وهنالك من يجادل في آيات الله وهنالك من يجادل بالباطل ليدحض به الحق. ولكن أحدا من هؤلاء لا يجادل إلّا عن التواء. او غرض او كبر او مغالطة. لغاية غير الحقيقة.

وهنالك من يجادل لانه صاحب مذهب في حكم رأسمالي او اشتراكي او شيوعي. فيخشى عليه ان يتحطم اذا ثبتت حقيقة العقيدة الالهية الحقة في نفوس البشر. وهنالك من يجادل لانه ابتلى بسيطرة رجال الدين ـ كما وقع في تاريخ الكنيسة في العصور الوسطى ـ ومن ثم فهو يريد الخلاص. من هذه السيطرة فيشتط فيرد على الكنيسة آلهها الذي تستعبد بأسمه الناس ـ ومن المصائب ان يقاس الاسلام بها.

٢٣٥

ومهما تنوعت الاسباب وتعددت فان منطق الفطرة يبقى يدعو الانسان لتحقيق الحق واتباعه وان ابى صاحبه ذلك لهواه او لارضاء شهواته وغرائزه.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) مصارع الغابرين كثيرة في تاريخ البشرية. وبعضها ما تزال اثارها بارزة وبعضها حفظها التاريخ والقرآن المجيد كثيرا ما يوجه القلوب اليها لما فيها من ادلة على حقائق ثابتة في خط سير البشرية. ولما لها كذلك من أثر في النفس الانسانية عميق عنيف. والقرآن يخاطب الفطرة. بما يعلمه لان منزل القرآن وخالق الفطرة واحد هو الله الذي لا اله سواه. فهو الذي يعلم ما خلق وهو اللطيف الخبير. وهنا يسألهم وينشطهم للسير في الارض بعين مفتوحة وحسّ صحيح وقلب بصير. لينظروا ويتدبروا ما كان في الارض قبلهم يرشدون.

(كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً) توافرت لهم الكثرة والقوة والعمران ومن هؤلاء أجيال وأمم كانت قبل العرب. قص الله على رسوله بعضها ومنهم من كان العرب يعرفون قصته ويمرون بآثاره (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) ..

فلم تعصمهم قوة ولا كثرة ولا بروج كانوا يتحصنون بها لقد دمرها أمر الله تدميرا. (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ ..) والعلم ـ بغير ايمان ـ فتنة وضلال. وعمى وطغيان. ذلك ان هذا اللون من العلم الظاهري المادي. يوحي الغرور في جوف حامله. اذ يحسب صاحبه انه يتحكم بعلمه هذا في قوى ضخمة. ويملك مقدرات عظيمة. فيتجاوز بنفسه قدرها ومكانها. وينسى الاماد الهائلة التي يجهلها وهي موجودة في هذا الكون. ولا سلطان له عليها. بل لا احاطة بها. بل لا معرفة له

٢٣٦

بغير اطرافها القريبة. وبذلك ينتفخ ـ كالبالون المنفوخ ـ فيأخذ اكثر من حقيقته ويستخفه الغرور بعلمه وينسى جهله للحقائق التي هي اللباب وان علمه بدونها قشور لا تصلح الا للحرق بالنار او الرمي على المزابل والقاذورات.

(وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) فلما عاينوا بأس الله تعالى. سقط عليهم البلاء وكشفت لهم الحقائق والقناع. وادركوا انهم كانوا في غرور. واعترفوا بما كانوا ينكرون وأقروا بوحدانية خالقهم العظيم وكفروا بما كانوا يشركون من دونه. ولكن بعد فوات الاوان (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ) ذلك سنة الله قد جرت على ان لا تقبل توبة تائب عند نزول العذاب او الموت. (سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) وسنة الله ثابتة لا تتغير ولا يطرأ عليها التبديل. ولا تحيد عن الخط المستقيم (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ).

* * *

ـ ٤١ ـ سورة فصلت آياتها (٥٤) أربع وخمسون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥))

البيان : سبق الحديث عن الافتتاح بالاحرف المقطعة فى سور شتى. وتكرار هذا الافتتاح (حا ميم) يتمشّى مع طريقة القرآن المجيد في تكرار الاشارة الى الحقائق التي يلمس بها القلب البشري. لأن فطرة

٢٣٧

هذا القلب تحتاج الى تكرار التنبيه فهو ينسى اذا طال عليه الامد. وهو يحتاج ابتداء الى التكرار. بطرق شتى لتثبيت أية حقيقة شعورية فيه. والقرآن المجيد يأخذ هذا القلب بما أودع في فطرته من خصائص واستعدادات وفق ما يعلم خالق هذا القلب ومصرفه بما يشاء.

(تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) كأن (حا. ميم) اسم للسورة ـ او لجنس القرآن ـ اذ انها من جنس الاحرف التي صيغ منها لفظ القرآن المجيد. وهي تقع مبتدأ وذكر الرحمن الى الصفة الغالبة صفة الرحمة. وما من شك هذا الكتاب جاء رحمة للعالمين رحمة وهدى للمتقين الذين الزموا بتطبيقه وهو رحمة عامة حتى لأهل الذين لم يؤمنوا او لم يطبقوه والذين يتتبعون التاريخ البشري بانصاف ودقة. ويتتبعونه في معناه الانساني العام. الشامل لجميع اوجه النشاط الانساني يدركون هذه الحقيقة. ويطمئنون اليها. وكثيرون الذين قد سجّلوا هذا. واعترفوا به في وضوح من غير المسلمين.

(كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعقلون) التفصيل المحكم وفق الاغراض والاهداف. ووفق انواع الطبائع والعقول. ووفق البيئات والعصور. ووفق الحالات النفسية وحاجاتها المتنوعة. (لقوم يعقلون) لديهم الاستعداد للعلم والمعرفة (بَشِيراً وَنَذِيراً) يبشر المؤمنين العاملين وينذر المكذبين والمسيئين لعلهم يرشدون.

(فأعرض اكثر فهم لا يسمعون) وقد كانوا يعرضون فلا يسمعون فعلا. ويتحامون وكانوا يحذّرون الجماهير على السماع لقوله (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) وأحيانا كانوا يسمعون بدون ارادة منهم ولكن يعرضون بأذهانهم ان تصغي اليه.

(وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) قالوا هذا امعانا في العناد وتيئيسنا للرسول ص وآله ـ ليكفّ عن دعوتهم لما كانوا يجدونه في

٢٣٨

قلوبهم من وقع مؤثر. على حين جازمين بعدم الايمان به. قالوا قلوبنا في أغطية فلا تصل اليها كلماتك يا محمد. فدعنا واعمل لنفسك فاننا عاملون لأنفسنا. فنحن لا نبالي بقولك وفعلك وانذارك. (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) يا لعظمة الصبر والحنان. انه سيد الانبياء بصبره وحنانه. بلغ الى ما بلغ ، أن أقصى ما كان الرسول ص وآله يؤمر به في مقابلة التبجح والاستهتار ان يقول لهم : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ..) (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) وقد ذكر ان المقصود بالزكاة هنا هو الايمان والطهارة من الشرك ليسعدوا في الحياة.

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨) قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢))

البيان : قل لهم : أإنكم اذ تكفرون. واذ تلقون بهذه الكلمة الكبيرة في استهتار انما تأتون امرا عظيما. مستنكرا قبيحا. انكم لتكفرون بالذي خلق الارض وجعل فيها. رواسي من فوقها. وبارك فيها. فالسموات والارض قد اسلمتا الى خالقهما قيادهما طائعتين. وأنتم بعض سكان هذه الارض تعرضون وتنحرفون مستكبرين الويل لكم. حين تزجرون في النار قرين حجر وضجيع شيطان.

والقرآن المجيد يعرض هذه الحقائق بطريقة تبلغ اعماق القلوب الحية. وتهزها هزا عنيفا. فتحاول ان تسير مع هذا النسق بالترتيب.

اما الايام الاثنان اللذان خلق فيهما الارض. والاثنان اللذان جعل فيهما الرواسي فتمّت اربعة ايام. انها بلا شك من ايام الله عزوجل التي هو يعلم مداها. واقرب ما نستطيع تصوره انها الازمان التي مرت

٢٣٩

بها الارض طورا بعد طور. حتى استقرت وصلبت قشرتها. واصبحت صالحة للحياة التي نحن نعيش فيها.

والراجح الان في اقوال العلم ان الارض كانت كرة ملتهبة في حالة غازية كالشمس والارجح انها قطعة من الشمس انفصلت عنها. ولما بردت القشرة الارضية تكونت البحار. والهواء والماء على ارضنا هذه ثم كانت تربة امكن فيها الزرع ..

هذه الرحلة الطويلة كما يقدر العلم الحديث. قد تساعدنا على فهم معنى الايام في خلق الارض وجعل الرواسيفوقها. وتقدير اقواتها في اربعة ايام. من ايام الله عزوجل (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها) كثيرا ما يرد تسمية الجبال (الرواسي) ولقد عبر زمان كان الناس يحسبون ان ارضهم هذه ثابتة راسخة. ثم جاء زمان يقال لهم فيه الان :ان ارضكم هذه ان هي الا كرة صغيرة سابحة في فضاء مطلق لا يعلم سعته الا خالقه العظيم. وان يد الله القدير تمسكها ان تزول هي والسماء (وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) فلا عجب ان تكون الجبال الرواسي حافظة لتوازنها ومانعة (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) كما ورد في القرآن المجيد منذ اربعة عشر قرنا.

(وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) وقد كانت هذه الفقرة تنقل الى الاذهان صورة الزرع النامي. في هذه الارض .. فاما اليوم بعد ما كشف الله للانسان اشياء كثيرة من بركته في الارض ومن اقواتها التي خزنها فيها على ازمان طويلة. فان مدلول هذه الفقرة يتضاعف في اذهان البشر مع العلم والمعارف التي هداهم خالقهم اليها. فمن الهواء نستمد انفاسنا من اكسجينه ومن الهواء يبني النبات جسمه. من كربونه بل من اكسيد كربونه. ذلك الذي يسميه الكيماويون (ثاني اكسيد الكربون)

ونحن نأكل النبات ونأكل الحيوان الذي يأكل النبات ومن كليهما

٢٤٠