تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٤

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦))

(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣))

البيان : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً ...) فآية الله هنا مشهودة منظورة بين أيديهم ليست غائبة ولا بعيدة ولا غامضة تحتاج الى تدبر أو تفكير. انها هذه الانعام التي خلقها الله لهم وملكهم اياها وذللها لهم يركبونها ويأكلون منها ويشربون ألبانها وينتفعون بجلدها وشعرها. وكل ذلك من فضل الله وكرمه عليهم. وهي من ابداعه ولا يملكون أن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له (أَفَلا يَشْكُرُونَ).

وحين ينظر الانسان الى الامر بهذه العين وفي هذا الضوء الذي يشيعه القرآن المجيد فانه يحسّ انه مغمور بفيض من نعم الله وكرمه. فيض يتمثل في كل حركة وسكون في حياته. ولكن الناس لا يشكرون (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ).

ولقد كانوا يتخذون تلك الآلهة يبتغون أن ينالوا بها النصر. بينما كانوا يقومون بحماية تلك الالهة من أن يعتدى عليها. وكانوا هم جنودها (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ).

(فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) الخطاب للرسول ص وآله. وهو يواجه اولئك الذين اتخذوا من دون الله الهة. وقد هان أمرهم بهذا. وما عاد لهم من خطر وهو يعلم ما يسرون وما يعلنون. وانهم في قبضته وتحت عينه وهم لا يشعرون.

١٦١

(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) فما النطفة التي لا يشك الانسان في انها أصله القريب. انها نقطة من ماء مهين. لا قوام ولا قيمة لها. نقطة من ماء تحوي ألوف الخلايا. خلية واحدة من هذه الالوف هي التي تصير جنينا. ثم تصير هذا الانسان الذي يجادل ربه ويخاصمه ويطلب منه البرهان والدليل على وجوده وهو الذي أوجده من العدم.

والقدرة الخالقة هي التي تجعل من هذه النطفة ذلك الخصيم المبين. وما أبعد النقلة بين المنشأ والمصير. أفهذه القدرة يستعظم الانسان عليها ان تعيده وتنشره بعد خرابه. وقد بناه وأوجد مواد بنائه من العدم. أفالاعادة بعد التهديم أصعب من الايجاد من العدم (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) فياللبساطة. ويا للمنطق السليم والفطرة الصافية. أو ليس من تلك النطفة كان الانسان. أو ليست هذه هي النشأة الاولى أو ليس الذي حول تلك النطفة انسانا وجعله خصيما بقادر على أن يعيده مخلوقا جديدا فيا لها من غفلة. أو ياله من عناد وانحراف. وانكار لأظهر البديهيات المحسوسة.

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً) والمشاهدة الاولية الساذجة تقنع بصدق هذه العجيبة. العجيبة التي يمرون عليها غافلين. عجيبة ان هذا الشجر الاخضر الريان بالماء. يحتك بعضه ببعض فيولد نارا. ثم يصير هو وقود النار. بعد اللدونة والاخضرار. والمعرفة العلمية العميقة لطبيعة الحرارة التي يختزنها الشجر الاخضر من الطاقة الشمسية التي يمتصها. ويحتفظها. وهو ريان بالماء. والتي تولد النار عند الاحتكاك. كما تولد النار عند الاحتراق.

والخالق هو الذي أودع الشجر خصائصه هذه (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى).

١٦٢

(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ).

والسموات والارض خلق عجيب هائل دقيق. هذه الارض التي نعيش عليها ويشاركنا فيها ملايين الاجناس والانواع. ثم لا نبلغ نحن شيئا من حجمها. ولا شيئا من حقيقتها. ولا نعلم عنها حتى اليوم الا القليل. وهذه الارض انما هي تابع صغير من توابع الشمس التي تعيش أرضنا الصغيرة على ضوئها وحرارتها. وهذه الشمس هي واحدة من مئات الملايين في المجرة الواحدة. التي تتبعها شمسنا. وفي الكون مجرات كثيرة اخرى. وقد عد الفلكيون حتى اليوم منها مئة مليون مجرة بمناظرهم المحدودة. وهم في انتظار المزيد. وبين مجرتنا. والمجرة التالية لها نحو خمسين وسبع مئة الف سنة (ضوئية) (السنة الضوئية ، تقدر بستة وعشرين مليون من الاميال) وهناك كتل ضخمة من السدم التي يظن انه من نثارها كانت تلك الشموس. وهذا الجزء الذي يدخل في دائرة معارفنا الصغيرة المحدودة هو ضئيل ضئيل.

هذا الفضاء الذي تسبح فيه تلك الملايين التي لا يحصيها العد. كأنها ذرات صغيرة لا نحاول تصويره وهذه الكتل الهائلة السابحة في الفضاء الوسيع كلها تسبّح لخالقها ومدبرها ومديرها. وأين الناس من ذلك الخلق الهائل العظيم. (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). فيكون هذا الشيء الذي أراده الخالق العظيم. سماء وأرضا وكواكب وشموسا وكتل ومجرات. كما يريده أن يكون بعوضة وذرة أو ما هو أهون وأصغر. فليس هناك لديه شيء أصعب من شيء. ولا شيء أهون من شيء. فالصغير والكبير. والجليل والحقير في ارادته سواء.

١٦٣

(فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ. وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فينبئكم بما كنتم تعملون.

* * *

ـ ٣٧ ـ سورة الصافات آياتها (١٨٢) اثنتان وثمانون ومئة آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠))

ـ البيان : الصافات. والزاجرات. والتاليات. طوائف من الملائكة. ذكرها هنا بأعمالها التي يعلمها. والتي يجوز ان تكون هي الصافات قوائمها في الصلاة. أو أجنحتها في ارتقاب أمر خالقها. والزاجرات لمن يستحق الزجر من العصاة في أثناء قبض أرواحهم مثلا أو عند الحشر ، والسوق الى جهنم. أو في أية حالة. وفي أي موضع والتاليات الذكر. القرآن أو غيره من كتب الله أو المسبحات بذكر الله عزوجل.

يقسم الخالق العظيم. بهذه الطوائف من الملائكة على وحدانيته (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) ومناسبة هذا القسم ـ كما أسلفنا ـ هو تلك الاسطورة التي كانت سائغة في جاهلية العرب الملائكة الى الله. واتخاذهم آلهة ـ بزعم ـ انهم بنات الله.

(رب السماوات والارض. قائمة حيال العباد. عن الخالق العظيم. المدبر الحكيم). (وَرَبُّ الْمَشارِقِ) ولكل نجم مشرق. وكل كوكب مشرق. فهي مشارق كثيرة في كل جانب.

١٦٤

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) بعدما مسّ في مطلع السورة الشطر الخاص بالملائكة. عاد يمسّ هنا شطرها الثاني. وهو الخاص بالشياطين. وكانوا يزعمون ان بين الله وبين الجنّة نسبا. وبعضهم كانوا يعبدون الشياطين على هذا الاساس.

ونظرة الى السماء كافية لرؤية هذه الزينة. ولادراك ان الجمال عنصر مقصود في بناء هذا الكون. وان صنعة الخالق فيه بديعة التكوين جميلة التناسق.

(وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) فمن الكواكب رجوم تحفظ السماء من كل شيطان. ونحن لا نعرف كيف يتسمع الشيطان. فيتبعه شهاب ثاقب في هبوطه فيصيبه ويحرقه.

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠))

البيان : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا) أي فاسألهم اذا كانت الملائكة والسموات والارض وما بينها والشياطين والكواكب والشهب كلها من خلق الله تعالى. فهل خلقهم أشد وأصعب من خلق هذه الاكوان والخلائق. ويستحيل الجواب بالايجاب.

وانما هو سؤال للاستنكار والتعجب من حالهم العجيب.

١٦٥

وغفلتهم عما حولهم. والسخرية من تقديرهم للامور. (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) فهم قطعا ليسوا أشد خلقا من تلك الخلائق.

(بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) وحق لرسول الله ص وآله ان يعجب من أمرهم. فان المؤمن الذي يرى الله في قلبه كما يراه محمد ص وآله ويرى آيات الله واضحة ويدهش كيف يمكن أن تعمي عنها القلوب. وكيف يمكن ان تقف منها هذا الموقف العجيب. وبينما رسول الله ص وآله يعجب منهم هذا العجب اذا هم يسخرون. مما يعرض عليهم من توحيد الله تعالى.

(وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) لقد غفلوا أو تغافلوا عن آثار قدرة الله فيما حولهم في ذات انفسهم. لقد تغافلوا عن آثار قدرة الله في السموات والارض وما بينهما.

(نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) نعم ستبعثون أنتم وآباؤكم الاولون.(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ ..)

هكذا في ومضة خاطفة بمقدار ما تنبعث الصيحة الواحدة. فجأة وبلا تمهيد واذا هم ينظرون. (قالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ) وبينما هم في بهتهم وبغتتهم اذا صوت يحمل اليهم التقريع من حيث لا يتوقعون.(هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ).

وهكذا ينتقل السياق من الخبر الى الخطاب. (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ).

اجمعوهم مع أزواجهم وساداتهم الذين كانوا يطيعونهم على غير الحق (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً). (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) وقفوهم للسؤال والتقريع (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ). مالكم لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم تخدعون البسطاء في ذلك (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ).

١٦٦

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) أي كنتم توسوسون لنا عن يميننا وشمائلنا. وعندئذ يتبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا (قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) فلم تكن وسوستنا هي التي أغوتكم بل عدم ايمانكم دعاكم للاجرام والانكار (وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ).

(بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ) متجاوزين للحق. ظالمين لا تقفون عند حدود الحق.

(فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠))

البيان : فقد استحقينا نحن وانتم العذاب. وحق علينا الوعيد بالعذاب الشديد. وقد أنزلقتم معنا. وما فعلنا بكم الا انكم اتبعتمونا في غوايتنا (إِنَّا كُنَّا غاوِينَ).

(فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) .. (بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ).

وعلى ذكر عباد الله (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) الذين استثناهم من تذوق العذاب الاليم.

(أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠))

البيان : وهو نعيم مضاعف يجمع كل مظاهر النعيم. وكلما تتمتع به النفس وكلما تشتهي. فهم ـ اولا ـ عباد الله المخلصون. وفي هذه الاشارة الى أعلى مراتب التكريم. وهم ـ ثانيا ـ

١٦٧

(مكرمون) في الملأ الاعلى فيا له من تكريم. ثم ان لهم (فواكه) وهم على (سرر متقابلين) وهم يخدمهم الولدان في دار الراحة والرضوان والنعيم (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ). (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ) حور ملؤها الحياء. والادب والوقار. لا تمتد ابصارهن الى غير أصحابهن حياء وعفة. مع انهن (عين) واسمات جميلات العيون مصونات مع ورقة ولطف ونعومة. (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) لا تبتذله الايدي ولا العيون.

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١) أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠))

البيان : لقد كان صاحبه وقرينه ذاك يكذب باليوم الاخر. ويسائله في دهشة أهو من المصدقين بيوم الدين. وبانهم مبعوثون ومحاسبون اذ هم تراب وعظام.

وبينما هو ماض في قصته يعرضها في سمره مع رفقائه. خطر له أن يتفقد صاحبه وقرينه. ليعرف مصيره. وهو يعرف بطبيعة الحال انه قد صار الى الجحيم. فيتطلع ويدعو رفقائه الى التطلع معه. (هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ. فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) عندئذ يتوجه الى قرينه الذي وجد في وسط الجحيم. فقال له كدت توردني موارد الردى بوسوستك لي ان اتبعك على ضلالك. ولو لا ان الله قد انعم علي ، فعصمني من اتباعك لكنت من الهالكين.

١٦٨

(لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) هذا هو النعيم الذي لا يدركه فوت. ولا يخشى عليه زوال. ولا يعقبه موت. ولا يتهدده عذاب. هذا هو الذي يستحق الجد والاجتهاد لتحصيله. هذا هو الذي يحق لمن ناله ان يفرح به ويفتخر به على الذين يفنون اعمارهم وينفقون اموالهم في طلب ما يجلب لهم في الدنيا الشقاء والعناء. وفي الاخرة العذاب الشديد والخلود في النار.

(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ...) أذلك النعيم المقيم خير منزلا ومقاما ام شجرة الزقوم.

(وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤) وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦))

البيان : (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) تتضمن هذه الاشارة توجه نوح (ع) بالنداء الى ربه. واجابة دعوته. وتتضمن نجاته هو وأهله من الكرب العظيم كرب الطوفان. الذي لم ينج منه الا من ركب في السفينة. وتتضمن قدرة الله حيث اختار ذرية نوح (ع) لعمارة هذه الارض. وان يبقى ذكره في الاجيال الى آخر الزمان. (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ). (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) ومضت سنة الله منذ فجر البشرية. وفق ذلك الاجمال ..

(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) هذا هو افتتاح القصّة. والمشهد الاول فيها. نقلة من نوح الى ابراهيم (ع). وبينهما صلة في العقيدة والدعوى والطريق. فهو من شيعة نوح (ع) على تباعد الزمان بينهما. ولكنه المنهج الالهي الواحد يلتقيان عنده ويرتبطان به ويشتركان فيه.

١٦٩

ويبرز من صفة ابراهيم (إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ). وهي صورة الاستسلام الخالص تتمثل في مجيئه لربه. وبهذا القلب السليم استنكر ما عليه قومه استنكار الحسّ السليم. لكل ما تبوء عنه الفطرة الصادقة من تصور ومن سلوك.

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ ...) وهو يراهم يعبدون أصناما وأوثانا. فيهتف بهم هتاف الفطرة السليمة. في استنكار شديد (ما ذا تَعْبُدُونَ) فان ما تعبدونه ليس من شأنه ان يعبد. ولا ان تكونوا له عابدين. انما هو الافك والافتراء (أَإِفْكاً آلِهَةً ..) وما هو تصوركم لرب العالمين. وهي كلمة يبدو فيها استنكار الفطرة السليمة البريئة.

(فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١))

البيان : (فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) ويسقط السياق هنا ردهم عليه وحوارهم معه. (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) ويروى انه كان للقوم عيد يخرجون فيه الى الحدائق. بعد أن يضعوا الثمار بين يدي آلهتهم لتباركها. ثم يعودون بعد الفسحة فيأخذون طعامهم المبارك. وان ابراهيم (ع) بعد أن يئس من استجابتهم له وأيقن بانحراف فطرتهم الانحراف الذي لا صلاح له. اعتزم أمرا. وانتظر هذا اليوم الذي يعبدون فيه الاصنام. وكان الضيق بما هم فيه من انحراف قد بلغ منه أقصاه واتعب قلبه وقواه.

فلما دعى الى مغادرة المعبد قلب طرفه الى السماء وقال (إِنِّي

١٧٠

سَقِيمٌ) لا طاقة لي على الخروج. وانما يخرج الى النزهات طلاب اللذة والمتاع. مطموسي القلب والضمير. وقلب ابراهيم (ع) لم يكن في راحه بما يرى من انحراف قومه عن عبادة الخالق الى المخلوق. ولم يكن هذا منه كدبا. وانما عني انه سقيم القلب مما يرى من هذا الانحراف والضلال.

(فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) وكان القوم معجلين ليذهبوا على عاداتهم ومراسمهم.

(فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ) ولم تجبه الاصنام بطبيعة الحال (ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ). وهي حالة نفيسة معهودة. ان يوجه الانسان كلامه الى ما ينطق. ويسمع ويفهم. لكنها الحجة البالغة على عبدة هذه الاحجار. (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) وشفى غليله من السقم والهم الذي كان يحزّ في قلبه. وقد عاد القوم فرأوا أصنامهم محطمة جذاذا.

(فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) لقد تسامعوا بالخبر. وعرفوا فاعلي الجريمة بنظرهم. فأقبلوا اليه يسرعون الخطى ويحدثون حوله ضجيجا هائلا. وهم جمع كثير غاضب هائج. وهو فرد واحد. ولكنه يعتقد ان لديه قوة قاهرة لا تغلب اذا أرادت نصرته فلا يتمكن أن يضره كل من في الوجود.

اذن فهو أقوى من كل هؤلاء الغاضبين لأصنامهم وآلهتهم. فهو أقوى من كل قوي بعزة مولاه. ومن ثم يجيبهم بكل هدوء وشجاعة. ويدمغهم بالحق والحجة الباهرة. ولا يبالي بقوتهم وكثرتهم.

(قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ. وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) انه منطق الفطرة والحق والصواب (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) والمعبود هو الحق الذي

١٧١

ينبغي أن يعبد هو الذي خلقكم وصوركم وخلق المواد التي صنعتم منها أصنامكم ايها الغافلون. (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ)

انه منطق الظلمة والطغاة الذين ليس لديهم ادنى حجة تصحح مدعاهم فيستعملون الارهاب والقوة. حينما تفقدهم الحجة ويدمغهم الحق بصوابه ف (أَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ).

وأين يذهب كيد العباد الضعفاء. اذا أراد الخالق العظيم أن يقهرهم ويرد كيدهم. فهم أذلاء وان ظنوا بانفسهم التجبر والطغيان على أمثالهم. ومن يقدر أن يقهر من اراد الله له الفوز والنجاة.

(قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ). هكذا فاز ابراهيم الفرد الواحد ونصره خالقه على كل اعدائه ونجاه من كيدهم وجعل النار ـ التي كانوا يريدون حرقه بها ـ بردا وسلاما.

انها الهجرة الى الله وهو أقرب اليه من حبل الوريد. انها هجرة مكانية قد ترك وراءه فيها كل ما يحبه ويرغب فيها عبيد الشهوات والاهواء. ترك الاباء والعشيرة والاوطان. وكل ما يربطه في تلك الارض التي يعبد فيها غير خالقه العظيم. الذي وحده يستحق العبادة.

انها الهجرة الكاملة المشتملة على العقيدة الصحيحة وقوة الايمان الثابت الكامل انه التعبير عن التجرد والخلوص والاستسلام والطمأنينة واليقين المتين.

(رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) فوهبه الله تعالى على الكبر والشيخوخة اسماعيل ففرح به وشكر خالقه المنعم عليه بما أعطاه ما طلب ولم يجعله عقيما لا ذرية له.

(فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ .. فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) فيا لله ويا لها من

١٧٢

روعة من قوة ايمان للأب. واستسلام من الابن لمشيئة خالقهما بدون ادنى تردد او توقف.

(يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ ..) فهو يحسّ ما أحسّه من قبل قلب أبيه من أن السعادة الكاملة والدائمة هي باطاعة المخلوق لخالقه مهما كانت ثقيلة المحمل وصعبة المسلك. (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) ومرة اخرى يرتفع نبل الطاعة. وعظمة الايمان. وطمأنينة الرضى والتسليم الكامل لما يريده الله ويرضاه. ان الرجل يمضي فيكب أبنه على جبينه استعدادا لتنفيذ أمر خالقه. وان الغلام الصالح يستسلم لتتميم هذا الامر واحراز هذا الرضا. فهذا هو الاستسلام الصحيح. وهذا هو الاسلام والايمان حقيقة. في تنفيذ امر الخالق وكلا المخلوقين قد بلغ منتهى البطولة والعظمة واظهار مرتبة الايمان التي وصلا اليها معا.

انها ليست الشجاعة المادية والاقدام الناشىء عن الهوى والغلبة الحيوانية. انها شجاعة الايمان والعقيدة والقوة المسيطرة على الهوى والشهوات والغرائز الحيوانية.

قد يندفع المجاهد في الميدان ليقتل أو يقتل. ولكن هذا كله شيء والذي يصنعه ابراهيم الخليل واسماعيل الذبيح شيء آخر ليس هنا دم فائر ولا حماسة دافعة. ولا أندفاع في عجلة تخفي وراءها الخوف من الضعف والنكوص.

وانما هي شجاعة الاستسلام للحق وللعدل وللخالق العظيم عن رضا واطمئنان. انما هو استسلام الواعي المتعقل. العارف الخبير بمبدئه ومنتهاه. بكل فرح ورضا. وقد عرف الله تعالى ـ وهو الذي لا يخفى عليه شيء ـ من ابراهيم واسماعيل صدقهما. فاعتبرهما قد أديا وحققا وصدقا. وأظهر ذلك للاجيال كيف ينبغي ان يكون الايمان الصحيح.

١٧٣

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣))

البيان : (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) قد صدقت الرؤيا وحققتها فعلا. فالله لا يريد من عباده الا التسليم والاستسلام. بحيث لا يبقى في النفس ما تكنه عن الله. أو تعزه عن أمره. ولو كان هذا الابن فلذة الكبد. ولو كانت النفس والحياة. وانت ـ يا ابراهيم ـ قد فعلت واقدمت بحق على التضحية باعز ما لديك. وجدت في رضا مولاك بكل ما لديك عزيز. (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) نجزيهم رفع الذكر الدائم مع الاجيال والقرون (انه امة قانتا) (سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) سلام عليه من ربه سلام يسجل في كتابه الباقي في الوجود الكبير (كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) كذلك نجزيهم بالبلاء عافية وبالموت حياة خالدة ونعيم لا يزول (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) وتتلاحق من بعدهما ذريتهما (مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ).

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢))

(وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢))

١٧٤

البيان : (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ) وهذه اللمحة من قصة موسى وهارون (ع) تعني بابراز منّة الله عليهما باختبارهما ونجاتهما (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) الذي تفصله القصة بالنصر (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) ولقد دعا الياس قومه الى التوحيد مستنكرا عبادتهم للاصنام وسيرة الياس (ع) ترد هنا لأول مرة في مثل تلك اللمحة القصيرة. ونقف لنلم بالناحية الفنية. (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) فقد روعيت الفاصلة (الياسين) على طريق القرآن المجيد. في ملاحظة تناسق الايقاع في التعبير).

(وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨)

وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨)

فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠))

البيان : وهي اشبه باللمحة التي جاءت عن قصة نوح (ع) ـ قصة لوط ـ فهي تشير الى رسالة لوط ونجاته مع اهله الا امرأته. وتدمير المكذبين المفسدين. وتنتهي بلمسة لقلوب العرب الذين يمرون على دار قوم لوط في الصباح والمساء. ولا تستيقظ قلوبهم فيحذرون ان يصيبهم ما أصابهم.

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) ولا يذكر القرآن أين كان قوم يونس. ولكن المفهوم انهم كانوا في بقعة قريبة من البحر. وتذكر الروايات

١٧٥

ان يونس ضاق صدره. بتكذيب قومه له فانذرهم بعذاب قريب. وغادرهم مغضبا. فقاده الغضب الى شاطىء البحر حيث ركب سفينة مشحونة. وفي وسط البحر هاجت الرياح وكان ايذانا عند القوم بان من الركاب راكبا مغضبا عليه لانه أرتكب خطيئة. وانه لابد ان يلقى في الماء والا تغرق السفينة بكاملها. وكان معروفا عندهم القرعة. فساهموا فاصاب يونس فالقوة في البحر. فالتقمه الحوت. وجعل يذكر الله ويسبحه في بطن الحوت (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ).

وكان هذا من تدبير الله تعالى ليكون لغيره عبرة ويعرفوا ان الله قادر ان يحفظ من يريد حفظه اينما كان ولو في البحر في بطن الحوت. فلما استكمل عاقبته رده الله الى قومه. فآمنوا به واستغفروا وطلبوا العفو من الله فرفع عنهم العذاب ورد اليهم نبيهم ورضي عليهم وقبل توبتهم (وكانوا مائة ألف او يزيدون) وكل من اخلص توبته لله تعالى ادركته النجاة بدون تأخير.

(فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢))

البيان : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ) أاذا كان الاناث كما يدعون. فاسألهم عن هذا الزعم المتهافت. وهل هم شهدوا خلقهم فعرفوا جنس الملائكة (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً) (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ)

١٧٦

وهم كاذبون. حتى يحكم عرفهم الشائع الجاري في اصطفاء البنين على البنات (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) (انه لمنطق سقيم. وافتراء أثيم (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) والجن تعلم انها خلق من خلق الله عزوجل. وانها محضرة يوم القيامة بأذن الله (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) ويستثني من الجن الذين آمنوا. (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) ثم يتوجه لخطاب المشركين. وما يعبدون. (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ) أي انكم وما تعبدون وما كنتم بقادرين على فتنة قلب مؤمن لمعرفته للحق وثباته عليه. (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ .. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) فالتهديد يقرر. وعد الله لرسله بالنصر. (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) والوعد واقع لا محال. وكلمة الله هي العليا. ولقد استقرت جذور العقيدة في الارض وقام بناء الايمان على اليقين فلا تغيره التضاليل ولقد ذهبت عقيدة المشركين والكفار وذهبت اسطورتهم ودولهم. وبقيت العقائد التي جاء بها الرسل. تسيطر على قلوب الناس وعقولهم (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) هذه صفة عامة. وهي ظاهرة ملحوظة في جميع بقع الارض ودعوة الله محققة دائما.

وقد تتحقق في صورة لا يدركها البشر لانهم يطلبون المألوف من صور النصر والغلبة. ولا يمكن تحقق السنة في صورة جديدة الا بعد حين. وقد يريد البشر صورة معينة من صور النصر والغلبة لجند الله وأتباع رسله. ويريد الله تعالى صورة أخرى هي اكمل وادوم. فيكون ما يريده الله.

ولقد أراد المسلمون قبيل غزوة بدر. ان تكون لهم عير قريش. واراد الله ان تفوتهم القافلة الرابحة الهينة. وكان ما أراده الله من وقعة بدر وقتل عتات المشركين وكسب اموالهم واسراهم. وكان الخير والربح والنصر والغلبة فيما اختاره الله تعالى واراده.

١٧٧

وقد تهزم جنود الله في بعض المعارك. وتدور عليهم الدوائر. ولكن الله لا بد أن ينصرهم في معارك أخرى خيرا وأسمى.

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) ...(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) فتقول واعرض عنهم ودعهم ولا تحفل بما يفعلون ودعهم ليوم تراهم فيه ويرون هم. ما ينتهي اليه وعد الله الذي لا خلف فيه. وان كانوا يستعجلون بعذابنا فسوف يعلمون فالويل لهم اذا نزل بساحتهم ويكرر أمره بالتول عنهم واهمالهم وما يشاؤن. (وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) .. وأبصر فسوف يبصرون .. سبحان ربك رب العزة.(وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)

* * *

ـ ٣٨ ـ سورة ص آياتها (٨٨) ثمان وثمانون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥))

البيان : (صاد. (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) القرآن يشتمل على الذكر كما يشتمل على غيره من التشريع والتاريخ والآداب والأخلاق. ولكن الذكر والاتجاه الى الله تعالى هو الاساس وهو الحقيقة الاولى في هذا القرآن. بل أن التشريع والقصص وغيرهما ان هي الابعض هذا الذكر فكلها تذكّر بالله العلي العظيم. وتوجّه القلب اليه في هذا القرآن. وقد يكون معنى ذي الذكر اي الذكر المشهور. وهو وصف أصيل للقرآن (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ).

١٧٨

الموضوع الاول. موضوع القسم بصاد ـ الذي يقال انه نهر في الجنة ـ وبالقرآن ذي الذكر. وهذا القسم الذي لم يتم في ظاهر التعبير لأن جواب القسم عليه لم يذكر واكتفى بالقسم به ثم أخذ يتحدث بعده عن المشركين. وما هم فيه من استكبار. ولكن هذا الانقطاع عن القضية الاولى. هو انقطاع ظاهري يزيد الاهتمام بالقضية التي تليه.

لقد أقسم بصاد وبالقرآن ذي الذكر. فدل على انه امر عظيم. يستحق أن يقسم به الخالق العظيم. ثم عرض الى جانب هذا استكبار المشركين ومشاقهم في هذا القرآن المجيد. وعقب على الاستكبار والمشاقة بصفحة الهلاك والدمار (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) فلعلهم حين يتأملون هذه الصفحة ان يطامنوا من كبريائهم. قبل ان ينادوا ويستغيثوا.(وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) هذه هي العزة (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) وأوجب شيء وأقرب شيء الى الحكمة والمنطق ان يكون المنذر منهم من جنس البشر ـ أو من العرب. ولو كان من غيرهم لقامت قيامتهم اعظم واغرب.

وقصة العجب من أن يكون الرسول بشرا قصة قديمة. مكرورة معادة. قالها كل قوم لتضليل البسطاء منذ بدء الرسالات. وتكرار ارسال الرسل من البشر. (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) مع أنه أقرب الى الحكمة والمنطق وقوة الحجة ان يكون المنذر منهم. بشرا يدرك ما يدركون. ويحس بما يختلج في نفوسهم وما يعانون من نقص وشذوذ حتى يمكنه علاجهم ووصف الدواء لهم عن حس وادراك. وهو بشر مثلهم ويعيش معهم ومطلع على كل مشاكلهم وانحرافاتهم. بشر منهم من جيلهم. ويتكلم بلسانهم ويفهم عليهم ويفهمون عليه بكل ما يقول لهم وبدلا من ان يروها قيادة واقعية للبشرية. في الطريق الى الله تعالى.

١٧٩

كانوا يظهرون خلاف ذلك. ولكنه الهوى والاغراض تستدعي تغيير الواقيات. والحقائق بنقائضها (وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) هذه هي وسمات التضليلات التي يتخذها ارباب الهوى والغايات حجة لتضليل العوام والاتباع.

والحق الذي لا مرية فيه ان كبراء قريش لم يصدقوا أنفسهم لحظة وهم يقولون عن محمد ص وآله ـ الذي كان عندهم مشهورا انه الصادق الامين ـ انه ساحر وانه كذاب. وانما كان هذا سلاحا من اسلحة التهويش والتضليل والخداع التي يتذرع بها اهل الباطل وعشاق الرياسة الكاذبة في كل عصر وزمان حتى فناء الدهر. ويتخذونها سلاحا لحماية رياستهم ومصالحهم الخاصة. خشية من الحق واهله ان يسلبهم ما يعشقون ويحبون.

(ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ. إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) وكانت عقيدة التثليث قد شاعت عند النصارى. واسطورة عزيز قد شاعت عند اليهود فكبراء قريش كانوا يشيرون الى هذا وهم يقولون : (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) أي ما سمعنا بهذا التوحيد المطلق لله. الذي جاء به محمد ص وآله. فما يقول اذن الا اختلاق.

ولقد حرص الاسلام حرصا شديدا على تجريد عقيدة التوحيد وتخلصها من كل ما علق بها من الاساطير والانحرافات. التي طرأت على عقائد السابقين. والمؤمن بان الله تعالى الواحد هو مصدر هذا الوجود الواحد.

يتعامل مع الوجود ومن فيه وما فيه على اساس من التعارف والتعاون والألفة والمودة. يجعل للحياة طعما وشكلا غير مالها في نفس من لا يؤمن بهذه الوحدة. ولا يحسّها بينه وبين كل ما حوله ومن حوله. والمؤمن بوحدة

١٨٠