تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٤

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

الناموس الآلهي في الكون يتلقى تشريعات الله وتوجيهاته تلقيا خاصا. لينسق بين القانون. الذي يحكم حياة البشر. والناموس الذي يحكم الكون كله. ويؤثر قانون الله. لانه هو الذي ينسق بين حركة البشر وحركة الكون العام.

وبالجملة فان ادراك هذه الحقيقة ضروري لصلاح الضمير البشري واستقامته واستنارته .. وتوافقه مع الكون من حوله. وما يتبع هذا من تأثرات اخلاقية وانسانية. ومن ثم كان هذا الحرص على اقرار عقيدة التوحيد. وكان هذا الاصرار من الرسل (ع) ضروريا.

وفي القرآن يتضح الحرص والجهد والاصرار في تكرار عرض قضية التوحيد ومقتضياتها. وهذه الحقيقة التي كان المشركون يعجبون ذلك العجب من اصرار محمد ص وآله عليها دائما.

(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠))

(جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥))

البيان : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) وهم الذين كانوا يقولون (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) يقصدون : مكة والطائف وفيهما كان كبراء المشركين وعظماؤهم الحاكمون المسودون. المسودون. الذين كانوا يتطلعون الى السيادة عن طريق الدين. كلما سمعوا ان نبيا جديدا قد أطل زمانه. والذين صدموا صدمة الحسد

١٨١

والكبر حينما اختار الله سيد الانبياء وخاتمهم محمد ص وآله. وفتح له أبواب رحمته وافاض عليه من خزائنها لما علم انه يستحق ذلك دون العالمين. ويرد على تساؤلهم ذلك ردا تفوح منه رائحة التهكم والانذار والتهديد (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي. بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) ثم يضرب عن قولهم في الذكر. وعن شكهم فيه. ليستقبل بهم تهديدا بالعذاب (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) وكأنما يقول : انهم حين يذوقوا العذاب لا يقولون شيئا مما قالوه.

(ان عندهم خزائن رحمة ربك) ويندد بسوء أدبهم مع الله. وتدخلهم فيما ليس من شأن العبيد. فاختيار الانبياء واوصياء الانبياء مختص بالخالق العظيم الذي يعلم حقائق الامور ودواخل الصدور ومستقبل الدهور. وهذا كله يستحيل على المخلوقين علمه (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) وهي دعوى لا يجرؤون على ادعائها (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) انهم ما يزيدون على ان يكونوا جندا مهزوما.(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) فهذه أمثلة ممن سبقوا قريشا في التاريخ : (أُولئِكَ الْأَحْزابُ) الذين كذبوا الرسل كما أنتم فهذه أمثلة ممن سبقوا قريشا في التاريخ : (أُولئِكَ الْأَحْزابُ) الذين كذبوا الرسل كما انتم تكذبون نبيكم محمد ص وآله وسيصيبكم ما اصابهم ان استمريتم على التكذيب والعناد. (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ) هذه الصيحة اذا جاءت لا تستأخر ولو فترة قصيرة مقدار فواق ناقة. ولكن الله عزوجل رفع نزول الدمار العام عن أمة محمد ص وآله اكراما له ولمكانته عند خالقه. (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ).

(وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ

١٨٢

يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥))

البيان : (أصبر) انها الاشارة الى الطريق في حياة الرسل (ع) الذي يضمهم اجمعين. فكلهم سار في هذا الطريق وعانى الابتلاء. وقد قالوا (هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) وقالوا ... (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ). يذكر داود هنا بأنه ذو القوة. وبأنه أواب. وقد ذكر ذلك بعد ان ذكر الطغاة من الامم السالفة. (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ ..) ولقد يقف الناس مدهوشين امام هذا النبأ ـ الجبال الجامدة تسبح مع داود (ع). ولكن حين تصل صلة الانسان بربه العظيم الى درجة الخلوص والاشراق والصفاء. فان تلك الحواجز تنزاح وتظهر الحقيقة المجردة لمن نال هذه المرتبة من الفضيلة والكمال الانساني والتجرد عن شوائب الطبيعة. وارتفع عن مستوى الحيوانات وعرج في مراتب الكمال يظهر له ذلك السر العميق الذي يدهش من لم يزل يعيش بشهواته وحيوانيته لا غير.

وقد وهب الله تعالى عبده داود هذه الخاصية. وكانت هبة فوق الملك والسلطان .. (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) فكان ملكه قويا عزيزا. وكان يسوسه بالحكمة والعدالة. وفصل الخطاب قطعه بالجزم فيه برأي لا تردد فيه. وذلك مع الحكمة ومع غاية الكمال في الحكم. ومع هذا كله فقد تعرض داود (ع) للفتنة والابتلاء. وكانت

١٨٣

عين الله ترعاه. وتقود خطاياه. وتوقيه خطر الطريق. وتعلمه كيف يتوقاه.

(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ ..) وبيان هذه الفتنة ان داود (ع) كان يخصص بعض وقته للتصرف في شؤون الملك والقضاء بين الناس. وبعض آخر من وقته للعبادة. وكان اذا دخل المحراب لعبادة ربه عزوجل لم يدخل عليه احد حتى يخرج هو الى الناس.

وفي ذات يوم فوجىء بشخصين يتسوران المحراب المغلق عليه. ففزع منهما فما يتسور المحراب هكذا مؤمن مأمون. فبادر يطمئنانه (قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ ..) وجئنا للتقاضي امامك (فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ) وبدء أحدهما فعرض خصومته.

(هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ ..) والقضية كما عرضها احد الخصمين تحمل ظلما صارخا مثيرا لا يحتمل التأويل. ومن ثم اندفع داود يقضي على اثر سماعه لهذه المظلمة ووجه الى الخصم الآخر حديثا (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ) ويبدو انه عند هذه المرحلة اختفى عنه الرجلان فقد كانا ملكين ارادا امتحانه. عندئذ تنبه داود (ع) الى انه ابتلاء (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) وهنا ادركته طبيعته انه اواب (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى ..)

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩))

البيان : فهي الخلافة في الارض. والحكم بين الناس بالحق. ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله. واتباع الهوى هو السير مع

١٨٤

الانفعال الاول. وعدم التثبت مما ينتهي مع الاستطراد فيه الى الضلال اما عقب الآية فهو حكم عام مطلق على نتائج الضلال عن سبيل الله.(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) هكذا في هذه الآيات الثلاث تقرر تلك الحقيقة الضخمة الشاملة الدقيقة. بكل جوانبها وفروعها وحلقاتها.

ان خلق السماء والارض وما بينهما لم يكن باطلا. ولم يقم على الباطل. انما كان حقا وقام على الحق. ومن هذا الحق الكبير تتفرع سائر الحقوق. الحق في خلافة الارض. والحق في الحكم بين الخلق والحق في تقويم مشاعر الناس واعمالهم فلا يكون الذين آمنوا وعملوا الصالحات ـ كالمفسدين في الارض. ولا يكون وزن المتقين كوزن الفجار والحق الذي جاء به القرآن المجيد الذي أنزله الله ليتدبر آياته وليتذكر اصحاب العقول ما ينبغي ان يتذكروه من هذه الحقائق الاصيلة. التي لا يتصورها الكافرون. لان فطرتهم لا تتصل بالحق الاصيل في بناء هذا الكون. ومن ثم يسوء ظنهم بربهم ولا يدركون من اصالة الحق شيئا (ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ..).

ان شريعة الله للناس طرف ناموسه في خلق الكون. وان كتابه المنزل بيان للحق الذي يقوم عليه الناموس. وان العدل الذي يطالب به الخلفاء في الارض والحكام بين الناس انما هو طرف من الحق الكلي فلا يستقيم أمر الناس الا حين يتناسق مع بقية الاطراف وان الانحراف عن شريعة الله والحق في الخلافة والعدل في الحكم انما هو انحراف عن الناموس الكوني الذي قامت عليه السماء والارض. وهو امر عظيم اذن وشر كبير واصطدام مع القوى الكونية الهائلة. فلا بد ان يتحطم في النهاية ويزهق. فما يمكن ان يصمد ظالم باغ منحرف عن سنة الله وناموس الكون. وطبيعة الوجود (وهذا ما ينبغي ان يتدبره المتدبرون.

١٨٥

(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠))

البيان : الاشارتان الواردتان هنا عن الصافنات الجياد ـ وهي الخيل الكريمة ـ وعن الجسد الذي القى على كرسي سليمان (ع) كلتاهما اشارتان. غير واضح معناهما بشكل يقين. (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) أقرب تأويل لهذا الطلب انه لم يرد به أثره انما اراد الاختصاص الذي يتجلى في صورة معجزة. فقد اراد به النوع وقد استجاب الله دعاءه فاعطاه فوق الملك المعهود ملكا خاصا لا يتكرر.

(فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ) وتسخير الريح لعبد من عباد الله تعالى لا يخرج في طبيعته عن تسخير الريح لارادة الله. وهي مسخرة لارادته تعالى دائما بدون شك تجري وتسكن بأمره وفق ناموسه. فاذا يسر الله لعبد من عباده في فترة من الفترات ان يعبر عن ارادة الله تعالى وان يوافق امره امر الله فيها. وان تجري الريح رخاء حيث اراد فذلك امر ليس على الله بعسير ومثله يقع في صور شتى والله سبحانه يقول في القرآن للرسول ص وآله (لئن لم ينته المنافقون والذين في فلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك الا قليلا) ومعنى هذا انهم اذا لم ينتهوا فستتجه ارادتنا الى تسليطك عليهم واخراجهم من المدينة. (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ) وذلك زيادة في الاكرام والمنة (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى ..)

١٨٦

(وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤))

البيان : قصة ابتلاء ايوب (ع) وصبره ذائعة مشهورة. وهي تضرب مثلا للابتلاء والصبر ولكنها قد تأتي على غير حقيقتها. والحد المأمون في هذه القصة. هو أن أيوب (ع) كان كما جاء في القرآن المجيد عبدا صالحا أوّابا. وقد ابتلاه الله فصبر صبرا جميلا. ويبدو ان ابتلاءه كان بذهاب المال والأهل والصحة جميعا. ولكنه ظلّ على صلته بربه وثقته به. ورضاه بكل ما اختاره له. وكان الشيطان يوسوس لزوجة ايوب : بان الله لو كان يحب أيوب ما ابتلاه بهذا البلاء وكذلك كان الشيطان يوسوس لاصحابه. وكانوا يحدثونه بهذا فيؤذيه ذلك في نفسه اشدّ مما يؤذيه الضر والبلاء. فلما حدثته امرأته ببعض هذه الوسوسة حلف لئن شفائي الله ليضربنها مائة جلدة. وعندئذ توجه الى ربه بالشكوى (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) واراد الله تعالى ان يرفع عنه ما ابتلاه به (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) ثم ان الله تعالى أحيا له أبناءه ووهب له مثلهم وليس في ذلك على الله بعزيز (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) قيل انه اخذ قطف النخل الخالي من الثمر وعدد اعوانه مائة فضرب امرأته بها لأجل يمينه (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً ..)

(وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤))

١٨٧

البيان : ابراهيم وأبناؤه كانوا قبل داود وسليمان قطعا. ولكن لا نعرف أين هم من زمان أيوب ـ على التحقيق ـ وكذلك اليسع وذو الكفل. ولم يرد عنهما في القرآن الا اشارات سريعة. واما ذو الكفل فلا نعرف عنه شيئا وقد ذكر مفصلا في الجزء الاول ص (١٦٠).

ثم يبدأ السياق بمنظرين متقابلين (المتقين) لهم (حسن مآب) ومنظر (الطاغين) لهم (شر مآب) فاما الاولون فلهم جنات عدن مفتحة لهم الابواب ولهم الحوريات الأبكار قاصرات الطرف من الغنج والحياء. وذلك رزق الله (ما لَهُ مِنْ نَفادٍ).

واما الآخرون فلهم مهاد ولكن لا راحة فيه انه جهنم (فبئس المهاد) ولهم فيه شراب من حميم. وطعام من زقوم وغسلين يسيل من اهل النار نعوذ بالله من ذلك.

(هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤) قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠))

البيان : (قل (إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ) قل لاولئك المشركين الذين يدهشون ويعجبون ويقولون (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) قل لهم ان هذه الحقيقة (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) وقل لهم انه ليس لك من الامر. وليس عليك منه الا ان تنذر وتحذر وتدع الناس بعد ذلك الى الله الواحد القهار (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) فليس له من شريك وليس من

١٨٨

دونه ملجأ (وهو العزيز الغفار) الذي يتجاوز عن التائبين ويغفر لمن يعود اليه منيبا. (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ) وانه أمر عظيم. انه أمر من الله في هذا الوجود كله ليس بعيدا.

وما كانوا يدركون في ذلك الزمان ان هذا النبأ أنما جاء ليغير وجه الارض ويوجه سير التاريخ. ويحقق قدر الله في مصير هذه الحياة. ويؤثر في ضمير البشرية وفي واقعها. ويصل هذا كله بخط سير الوجود كله. وبالحق الكامن في خلق السموات والارض وما بينهما وانه ماض كذلك الى يوم القيامة. يؤدي دوره في توجيه اقدار الناس واقدار الحياة.

والعرب اليوم يقفون من هذا النبأ كما وقف منه العرب في اول الأمر. ولا يدركون طبيعته يستعرضون آثاره في تاريخ البشرية. وفي خط سيرها الطويل. استعراضا واقعيا.

(إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨))

البيان : وما ندري نحن كيف قال الله أو كيف يقول للملائكة وما ندري كذلك كيف يتلقى الملائكة عن الله. ولا ندري عن كنههم الا ما بلغنا من صفاتهم في كتاب الله. ولا حاجة بنا الى الخوض في شيء

١٨٩

من هذا الذي لا طائل وراء الخوض فيه. انما نمضي الى مغزى القصة. ودلالتها كما يقصها القرآن المجيد :

لقد خلق الله هذا الكائن البشري من الطين. كما ان سائر الاحياء في الارض خلقت من طين. فمن الطين كل عناصرها. فيما عدا سر الحياة الذي لا يدري أحد من أين جاء ولا كيف جاء. ومن الطين كل عناصر ذلك الكائن البشري فيما عدا ذلك السر الخفي الذي هو نفخة علوية. جعلت منه انسانا اما ان ينتهي أمره الى أعلى من الملائكة المقربين اذا سمع واطاع خالقه العظيم واما ان ينتهي الى اسفل من قلّ مخلوق حيواني اذا استكبر وعصي خالقه العظيم.

ونحن نجهل كنه هذه النفخة الا كما قال تعالى (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ١٧ س ٨٨ ي ولكننا نعرف آثارها. فآثارها هي التي ميزت من وجدت فيه ممن فقدت منه لا غير. ولها قرائن ونظائر كثيرة من هذا القبيل : (منها العقل والعلم والكهرباء في عصرنا والذرة وغيرها كثير) من الاشياء التي لا تحسّ ولا يدرك وجودها من فقدانها الا بآثارها ومنها الخالق العظيم الذي يستحيل ادراكه الا بأثاره ومخلوقاته. التي هي أقوى دليلا عليه من ادراك الاشياء بذاتها. ونحن نجهل كنه هذه النفخة وخاصيتها القابلة للرقي العقلي والروحي. وهي التي جعلت عقله ينظر تجارب الماضي ويصمم خطط المستقبل. وجعلت روحه تتجاوز المدرك بالحواس والمدرك بالعقول. ليتصل بالمجهول للحواس والعقول.

وخاصية الارتقاء العقلي والروحي خاصية انسانية بحتة. لا يشاركه فيها سائر الاحياء. في هذه الارض. ولم يقع في هذا التاريخ الطويل ان ارتقى نوع غير الانسان.

١٩٠

لقد نفخ الله من روحه في هذا الكائن البشري لأن ارادته اقتضت ان يكون خليفة في الارض وان يتسلم مقاليد هذا الكوكب في الحدود التي قدرها له. حدود العمارة ومقتضياتها ولقد استجاب الملائكة كلهم اجمعون لأمر ربهم كما هي فطرتهم (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ) فهل كان ابليس من الملائكة الظاهرانه كان معهم ويس منهم وكيف خالف وعصى فهو أمر خفي. واقتضت مشيئة الله وحكمته أن يجيبه الى ما طلب وأن يمنحه الفرصة التي اراد (قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) وبهذا تحدد منهجه وطريقه. انه يقسم بعزة الله ليغوين جميع الآدميين. لا يستثني الا من ليس له عليهم سلطان وهم الذين عرفوا الله حق معرفته فالزمتهم عقولهم بطاعته ولا يلتفتوا الى كل خدع الشيطان وغروره مهما تنوعت (قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) والله يقول الحق دائما ان كل ما استجار بربه والتجأ اليه حماه من كل كيد وآمنه من كل خوف. وكفله من كل حاجة وبلاء ولذا يقول خليفته امير المؤمنين (ع) (ألا ان جار الله آمن وعدوه خائف) وبهذا تعرف الاخيار من الأشرار.

* * *

ـ ٣٩ ـ سورة الزمر. وآياتها (٧٥) خمس وسبعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ

١٩١

وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥))

البيان : تبدأ السورة بهذا التقرير الحاسم. (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ). العزيز القادر على كل شيء بدون استثناء. الحكيم المنزه عن كل عبث. الذي يعلم فيم ينزل ولما ذا ينزل. ويفعل جميع ذلك بحكمة وتقدير. ومصالح ومفاسد. لسعادة هذا الانسان وصالح هذا الكون وما فيه. (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) منزه عن كل عبث أو فساد أو باطل أساسه الحق الذي أنزل به الكتاب. وله الوحدانية المطلقة. التي يقوم عليها الوجود.

(فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) والخطاب لرسول الله ص وآله الذي أنزل اليه الكتاب بالحق. وهو منهجه الذي يدعو اليه الناس كافة الى عبادة الله وحده. واخلاص الدين له. وقيام الحياة كلها على أساس هذا التوحيد.

وتوحيد الله واخلاص الدين له. ليس كلمة يلوكها اللسان. انما هو منهج حياة كامل يبدأ من تصور واعتقاد ويقين في الضمير والقلب. وينتهي الى نظام يشمل حياة الفرد والجماعة.

والقلب الذي يوحد الله تعالى يدين لله وحده. ولا يحني هامته لأحد سواه. ولا يطلب شيئا من غيره. ولا يعتمد على أحد من خلقه ـ لعلمه انهم كلهم فقراء ضعفاء اليه مثله ـ

فالله وحده هو القوي الغني الذي عنده مصدر الخير والنعم. وهو القاهر فوق عباده. والعباد كلهم ضعاف لا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا. فلا حاجة الى أن يحني هامته لواحد منهم. والله وحده هو المانح المانع. وهو الغني والخلق كلهم فقراء اليه.

والقلب الذي يوحّد الله تعالى ويؤمن بوحدة الناموس الالهي

١٩٢

الذي يتصرف بالوجود كله. ويؤمن بان النظام الذي اختاره الخالق العظيم لعباده هو طرف من ذلك الناموس الواحد.

فلا تصلح حياة البشر ولا تستقيم مع الكون الذي يعيشون فيه الا باتباعه والسير على أحكامه. ومن ثم فلا يجوز تبديله أو اختيار غيره. وكل ما سواه فهو ظلم وعدوان وضلال وفساد.

والقلب الذي يوحّد الله يدرك القرابة بينه وبين كل ما أبدعت يد الله في هذا الكون من أشياء وأحياء. ويحسّ ان يد الله تعالى تعمل في كل ما حوله. فيعيش في انس بالله وبدائعه التي تلمسها يداه. وتقع عليها عيناه. ويشعر كذلك بالتحرج من ايذاء أحد.

وكذلك تبدو آثار التوحيد في التصورات والمشاعر. كما تبدو في السلوك والتصرفات. وترسم للحياة كلها منهاجا كاملا واضحا متميزا. ولا يعود التوحيد كلمة تقال باللسان. ومن ثم تحصل العناية بتقرير عقيدة التوحيد. (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ).

يعلنها هكذا مدوية عالية في ذلك التعبير المجلل بأداة الافتتاح (ألا) وفي اسلوب القصر (لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) فيؤكد معناها بالبناء اللفظي للعبارة. فهي القاعدة التي تقوم عليها الحياة كلها. بل التي يقوم عليها الوجود كله ... ثم يعالج اسطورة العقيدة.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) ..

فلقد كانوا يعلنون ان الله هو خالقهم وخالق السموات والارض ، ولكنهم لم يكونوا يسيرون مع منطق الفطرة والعقل. وسبب ذلك لتسنح لهم الفرص أن يلعبوا كيفما شاؤوا حيث لا قانون يقيدهم ولا شرائع تمنعهم عن اتباع أهوائهم. كالدول العربية اليوم في القرن

١٩٣

العشرين لانه اذا كان الخالق العظيم لا قانون له ولا نظام. فلا يضرهم بعد الاعتراف به والاقرار له بالربوبية المطلوبة لا يحول بينهم وبين ما يشتهون كما فعل أشياعهم من قبل.

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) فهم يكذبون على الله. بان عبادة سواه تشفع لهم عنده. وهم يكفرون بهذه العبادة. ويخالفون فيها عن أمر الله الواضح الصريح .. والله لا يهدي من يكذب عليه ويكفر به. فالهداية جزاء العاملين المخلصين بدون انحراف.

(لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ. سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ).

و (أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ). فهو الحق الواحد في هذا الكون. وفي هذا الكتاب .. وكلاهما صادر من مصدر الحق الواحد. وكلاهما آية كبرى على وحدة المبدع العظيم العزيز الحكيم.

(يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ. وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) وهو تعبير عجيب يقسر الناظر قسرا على الالتفات الى ما كشف حديثا عن كروية الارض. ومع أنني حريص على ألا أحمل القرآن المجيد على النظريات التي يكشفها الانسان ـ بمحدودياته ـ لانها كثيرا ما تخطىء وتتبدل والقرآن المجيد حق ثابت لا يقبل التغيير والتبديل. وهو آية صدق في ذاته. ولا يستمدها من موافقة المخلوقات ومخالفتها لما يكشفه البشر الضعاف المهازيل.

مع هذا الحرص فان هذا التعبير يقسرني قسرا على النظر في موضوع كروية الارض. فهو يصور حقيقة مادية ملحوظة. على وجه الارض. فالارض الكروية تدور حول نفسها في مواجهة الشمس. فالجزء لا يثبت الا أن الارض تدور. وكلما تحركت بدأ الليل يغمر

١٩٤

السطح. الذي كان عليه النهار. وهذا السطح مكور. فالنهار كان عليه مكورا. والليل يتبعه مكورا. كذلك بعد فترة يبدأ النهار من الناحية الاخرى يتكور على الليل. وهكذا في حركة دائبة.

(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) فالشمس تجري في مدارها. والقمر يجري في مداره. وهما مسخران بأمر خالقهما العظيم. فلا يستطيع مخلوق يدعي تحركهما سوى الله. ولا يقبل منطق الفطرة انهما يجريان بلا محرك ومدبر. يدبرهما بشكل دقيق لو تغير لحظة أو مقدار انملة لفسد سيرهما وفسد كل ما يحيط بهما. ونظامهما لم يختل لحظة ولا شعرة في ملايين السنين.

(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠))

البيان : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) ـ : حين يتأمل الانسان العاقل في نفسه. هذه النفس التي لم يخلقها. والتي لا يعلم عن خلقها الا ما يقصه خالقها عليه. وهي نفس واحدة ذات طبيعة واحدة. وذات خصائص واحدة. خصائص تميزها عن بقية المخلوقات. كما انها تجمع كل الافراد في اطار تلك الخصائص. فالنفس الانسانية واحدة ،

١٩٥

في جميع الملايين المنبثين في الارض. في جميع الاجيال والبقاع. وزوجها كذلك منها.

فالمرأة تلتقي مع الرجل في عموم الخصائص البشرية ـ رغم كل اختلاف في هذه الخصائص ـ مما يكشف بوحدة التصميم الاساسي لهذا الكائن البشري. الذكر والانثى. ووحدة الارادة المبدعة لهذه النفس الواحدة بشقّيها. وعند الاشارة للنفس قال : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ).

والانعام الثمانية كما جاء في اية أخرى هي (الضأن. والمعز. والبقر. والابل) من كل ذكر وانثى. وكل من الذكر والانثى يسمى زوجا عند اجتماعهما. فهي ثمانية في مجموعها. وهي مسخرة للانسان.

(يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) من النطفة. الى العلقة. الى المضغة. الى العظام. الى الخلق الواضح الذي فيه عنصر البشرية. كل ذلك يحصل ويتكزر (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ).

ظلمة الكيس. وظلمة الرحم. وظلمة البطن. ويد الله تعالى تبدع وتخلق هذه النفس وعين خالقها ترعاها وتودعها القدرة والنمو والعناية في جميع مراحلها وتقلباتها كما قدر بارئها.

ألا ينبغي هذا كله ان يقود قلب العاقل الى رؤية يد الخالق العظيم المبدع القدير. رؤيتها بآثارها الحية الواضحة الشاخصة. وان يقوده الى اليقين الذي لا يخالطه ارتياب بوحدانية هذا الخالق العظيم والمنعم الكريم الذي يعطي بدون سؤال فهل يحتمل ان يرد سائله بحق. خائبا. فكيف ينصرف قلب حي عن رؤية هذه الحقيقة (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ..)

١٩٦

(إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ. وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ). وان تشكروا يرضاه لكم). ان هذه الرحلة في بطون الامهات هي رحلة في الطريق الطويل. تليها مرحلة الحياة. خارج البطن. ثم تعقبها المرحلة الاخيرة. مرحلة الحساب والجزاء بالاحسان احسانا وبالسيئات عقابا وعذابا. كل ذلك بتدبير المبدع العليم. العادل الحكيم.

فالخالق العظيم غني عن جميع مخلوقاته. انما هي رحمته وفضله وهم الفقراء الى عنايته. فايمان جميع المخلوقات لا يزيد في ملكه مثقال ذرة. وعصيانهم وكفرهم لا ينقص منه مثقال ذرة.

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) والمرجع في النهاية الى المولى العظيم دون سواه. ولا مهرب منه ولا تخفى عليه خافية حتى ما تكنّه الصدور وما تنعقد عليه النوايا.

(ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) هذه هي العاقبة للاخيار والاشرار.

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ). ان فطرة الانسان تبرز عارية حين يمسّه الضر وينقطع أمله من الاسباب كلها. حينئذ تتجه الى خالقها بدون اختيار. وتنيب اليه وحده. وهي تعتقد حينئذ انه قادر على كشف الضر عنها. وتعترف بعجز كل مخلوق.

فأما حين ما يجيب الدعاء ويذهب الضر تنسى كلما توسلت به اليه. وترجع الى تجبرها والى لهوها وشهواتها ومطامعها. وتكون العاقبة هي الضلال عن سبيل الله الذي لا يتعدد : وتنسب شفاها لغير الله

(قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) وكل متاع في هذه الارض قليل وزائل. كل متاع في هذه الارض قليل وكل نعيم عند الجنة حقير. وكل بلاء عند النار عافية. فما قيمة هذه الحياة بما

١٩٧

فيها من لذائذ وبلايا عند من عرف الجنة ونعيمها وعرف النار وجحيمها. وأيام الفرد في هذه الحياة معدودة ومجهولة قد تكون ساعة او لحظة. ومهما كانت فهي مشوبة بالكدورات. وشقاء أهلها بقدر ما نالوا منها.

(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ ..)

هي صورة مشرقة مرهفة. فالقنوت والطاعة والتوجه الى الخالق العظيم من المخلوق وهو ساجد وقائم وهو يحذر الاخرة ويرجو رحمة ربه. هذا الصفاء وهذا الضياء يفتح البصيرة ويمنح القلب نعمة وراحة وسعادة. يستحيل ان يعرفها الا من نالها وذاقها.

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ).

فالعلم باخلاص للخالق العظيم والنيل لرضاه الذي يلازمه نيل سعادة الدنيا والاخرة. هو علم الحق والمعرفة. وهو ادراك الحق حقيقة. وهو نور يقذفه الله في قلب عبده المخلص له في طاعته والذي توحدت له المطالب في احراز رضا خالقه لا غير.

وهو الاتصال بالحقائق الثابتة في هذا الوجود. وليس هو مطلق تحصيل العلم حتى ولو كان لغير الله تعالى. كيف وقد قال سيد الانبياء محمد ص وآله :

(من ازداد علما ولم يزد تقوى لم يزد من الله الا بعدا) والا تسافلا وشقاء.

وقال خليفته سيد الاوصياء علي بن ابي طالب (ع).

١٩٨

(كم عالم قتله جهله وعلمه معه لم ينفعه). والعلم الذي يقرب صاحبه الى السعادة والكمال الانساني هو الذي يكون خالصا لوجه الله عزوجل لا غير ويبعده عن الدنيا واهلها وبهذا يعرف الخبيث من الطيب

وهذا هو العلم الذي يكون طريقا للحقيقة المطلقة والمعرفة المستنيرة. هذا هو القنوت لله الذي يفيض الضياء والنور في قلب صاحبه من خالقه العظيم.

(إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) وانما يعرف أصحاب القلوب الواعية المتفتحة المدركة لما وراء الظواهر من الحقائق المنتفعة بما ترى وتعلم. التي تذكر الله في كل شيء تراه وتلمسه ولا تنساه. ولا تنسى يوم لقائه.

(قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ)

في التعبير التفاتة خاصة فهو في الاصل. قل لعبادي. ولكنه جعل يناديهم. والتقوى هي تلك الحساسية في القلب. والتطلع الى الله في حذر وخشية. وفي رجاء وطمع ومراقبة غضبه ورضاه. انها تلك الصورة الوضيئة المشرقة التي ملؤها الخشوع.

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) وما أجزل الجزاء حسنة في الدنيا القصيرة. تقابلها حسنة في الاخرة دار البقاءوالخلود والدوام. ولكنه فضل الله على هذا الانسان.

(وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) فلا يقعد بكم حب الارض والالفة المكان اذا ضاقت بكم في دينكم وأعجزكم فيها الاحسان. فالالتصاق في الارض في هذه الحالة مدخل من مداخل الشيطان.

وهي لفتة قرآنية لطيفة الى مداخل الشرك الخفي في القلب البشري في معرض الحديث عن توحيد الله وتقواه. تنبىء عن مصدر هذا القرآن

١٩٩

فما يعالج القلب البشري هذا العلاج الا خالقه البصير به العليم بخفاياه.

والله تعالى خالق الناس. ويعلم ان الهجرة من الارض عسيرة على النفس. وأن التجرد من تلك الوشائج امر شاقّ. وان ترك المألوف ووسائل الرزق واستقبال في ارض جديدة تكليف صعب على بني الانسان (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) فيأخذ قلوبهم بهذه اللمسة في موضعها المناسب. ويعالج ما يشق على تلك القلوب الضعيفة وينسم عليها في موقف الشدة نسمة القرب والرحمة ويفتح لها ابواب العوض والجزاء.

(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ (٢٠))

البيان : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) هذا الاعلان من النبي ص وآله بأنه مأمور ان يعبد الله وحده. ويخلص له الدين وحده. وان يكون بهذا اول المسلمين. وانه يخاف عذاب يوم عظيم ان هو عصى ربه. هذا الاعلان ذو قيمة كبرى في تجريد عقيدة التوحيد. كما جاء الاسلام فالنبي ص وآله. في هذا المقام هو عبد الله هذا مقامه لا يتعداه. وفي مقام العبادة يقف العبيد كلهم صفا. وترتفع ذات الله تعالى متفردة فوق الجميع. وهذا هو المراد من القول. وعند

٢٠٠