تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٤

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

الَّذِينَ آمَنُوا .. فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) وتتلقاهم الملائكة سلام عليكم فادخلوها خالدين. (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا ...) (فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ) (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ).

انها جولة ضخمة هائلة لطيفة عميقة بعيدة الاماد والاغوار. جولة تطوف بالقلب فتضيئه وتوسعه. وتفتح هذا القلب. لتدبر الحياة والموت. وترتد به الى نشأة الانسان الاولى. والى ماركب في فطرته وتوجهه الى آيات الله في خلق السموات والارض. واختلاف الألسنة والالوان. وفقا لاختلاف البيئة والمكان. والى التوجه لما في السموات والارض.

وتنتهي بالحقيقة التي تتجلى حينئذ واضحة (ان الله هو يبدء) والاعادة أهون من البدء. (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ. وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها). (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ). تلك العملية الدائبة التي لا تكف ولا تثني لحظة واحدة من لحظات الليل والنهار.

وفي كل لحظة تدب الحياة في جنين : انسان. أو حيوان. أو طائر. ومثل هذا يتم في أغوار البحار. انها دورة دائبة عجيبة رهيبة. لمن يتأملها بالحس الواعي والقلب البصير. وبراهين على هدى القرآن. ونوره المستمد من الخالق العظيم. (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) فالامر واقع في كل لحظة من لحظات الليل والنهار (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ. ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ).

والتراب ميت ساكن. ومنه نشأ الانسان سواء ما كان في خلقة أول انسان كما ذكر القرآن من قصة آدم وحواء (ع). أو كان من خلق

٢١

كل انسان حيث ان نطفته تتكون من المآكل التي من الارض. وهذه المعجزة الخارقة آية من آيات القدرة. وايحاء بالصلة وثيقة. بين البشر. والنقلة الضخمة من جنس التراب الساكن الزهيد الى انسان حساس مفكر عظيم. انها نقلة تثير التأمل في صنع الله. وتستجيش الضمير لتوجهه الى حمد خالقه وشكره. وتحرك القلب لتمجيد الصانع العظيم المتفضل الكريم. ومن مجال الخلقة الاولى لنوع البشر الى مجال الحياة.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥))

البيان : الناس يعرفون مشاعرهم تجاه الجنس الاخر. وتشغل أعصابهم ومشاعرهم تلك الصلة بين الجنسين. وتدفع خطاهم. وتحرك نشاطهم بين الرجل والمرأة. ولكنهم قلما يتذكرون عناية الله بهم الذي خلقت لهم من أنفسهم أزواجا. وأودعت في نفوسهم هذه العواطف والمشاعر. وجعلت بينهم مودة ورحمة. وراحة للجسم والقلب. واستقرارا للحياة والمعاش. وانسا للارواح والضمائر. واطمئنانا للرجل والمرأة على السواء.

والتعبير القرآني اللطيف الرقيق يصور هذه العلاقة تصويرا مثيرا. وكأنما يلتقط الصورة من أعماق القلب. وأغوار الحس (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً).

٢٢

(وَمِنْ آياتِهِ. خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) وآية خلق السموات والارض. كثيرا ما يشار اليها في القرآن المجيد. وكثيرا ما يمر الانسان عليها دونما ان يفكر في آياتها وتنظيمها البديع. ولكنها جديرة بطول الوقوف امامها. والتدبر الى صنعها وصانعها ومديرها ومسيرها.

ان خلق السموات والارض. معنى وانشاء هذا الخلق الهائل الضخم الذي لا نعرف عنه الا أقل القليل. هذا الحشد الذي لا يحصى من أفلاكه ومداراته ونجومه وكواكبه وسدومه. ومجراته. الا تلك التي لا تزيد أرضنا الصغيرة التي قد تكون ذرة تائهة نسبة لغيرها. والتي لا وزن لها ولا ظل. مع ضخامة تناسقها العجيب وبين الافلاك. والمدارات والمجرات.

هذا من ناحية الحجم العام والنظام. فأما اسرار هذه الخلائق الهائلة وطبائعها وما يستكن فيها وما يظهر عليها. والنواميس الكبرى التي تحفظها وتحكمها وتصرفها.

فهذا كله أعظم من أن يلم به الانسان مهما تعلم وتقدم. وما جرب واكتشف. وما عرف عنه الا أقل القليل. ودراسة هذا الكوكب الصغير الضئيل الذي نعيش على سطحه لم يتم منها حتى اليوم الا القليل. وعلماء هذا الزمان يرون اختلاف اللغات والالوان. ثم يمرون عليه دون ان يروا فيه عناية الله الحكيمة كيف تقلبه وكيف تدبره باحكم تدبير (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) وآية خلق السموات والارض واختلاف الألسنة والالوان. لا يراها الا الذين نور الله قلوبهم بضيائه. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ ...)

٢٣

وهذه آية كذلك تجمع بين ظواهر كونية. وما يتعلق بها من أحوال البشرية. وتربط بين هذه وتلك وتنسق بينهما في صلب هذا الوجود الكبير. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) والنوم سكون. والسعي حركة. (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً).

وظاهرة البرق ظاهرة ناشئة من النظام الكوني. ويعللها بعضهم بانها تنشأ من انطلاق شرارة كهربائية بين سحابتين. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

فهنا للعقل مجال للتدبر والتفكر. ومن يرى هذا التقدير في نظام الكون. لا يشك في تلبية البشر الضعاف لدعوة خالقهم العظيم. (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ).

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧)

ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠))

البيان : لقد نرى أن الكثيرين من الناس لا يقنتون لله تعالى. ولكن هذا التقدير انما يعني خضوع كل من في السموات والارض. لارادة الله تعالى ومشيئته التي تصرفهم وفق ارادته المرسومة التي لا تتخلف ولا تحيد. فهم محكومون بهذه السنة. ولو كانوا عصاة كافرين.

ولكنهم مع هذا يتصرف فيهم خالقهم وفق ما يريد. وهم لا يملكون

٢٤

الا الخضوع والقنوت. (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) وليس شيء أهون على الله ولا أصعب وانما هي للايضاح.

وانما يخاطب الناس بحسب مداركهم. ففي تقدير الناس انه بدء الخلق ثم يعيده قد يصعب فهو سبحانه ينفرد في السموات والارض بصفاته لا يشاركه فيها أحد. ليس كمثله شيء ..

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) العزيز القاهر الذي يفعل ما يريد. الحكيم الذي يدير الخلق باحكام وتقدير. (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ. هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ).

ضرب هذا المثل لمن كانوا يتخذون من دون الله شركاء خلقا من خلقه. وهم يأنفون ان يجعلوا لانفسهم من عبيدهم شركاء في مالهم ومالهم ليس من خلقهم انما هو من رزق الله تعالى وهذا تناقض عجيب في التصور والتقدير. فهذا مثل من أنفسكم ليس بعيدا عنكم. وهم لا يرضون أن يشاركهم ما ملكت ايمانهم فيما رزقناهم. (تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي تحسبون حسابهم معكم كما تحسبون الشركاء الاحرار. وتخشون أن يجوروا عليكم. هل يقع شيء من هذا في محيطكم القريب. وشأنكم الخاص. فكيف ترضونه في حق الله وله المثل الاعلى. وهو مثل واضح بسيط حاسم ـ عند أدنى التفات وانصاف ـ فلا مجال للجدال فيه.

(كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) وعند هذا الحد من عرض تناقضهم في دعوى الشرك يكشف عن العلة الاصلية في هذا التناقض المريب. انه الهوى الذي لا يستند على عقل او تفكير (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ. فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ. وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ). والهوى لا ضابط له ولا مقياس. انما هو شهوة النفس

٢٥

المتقلبة ونزوتها المضطربة. ورغباتها ومخاوفها. وآمالها ومطامعها التي لا تستند الى حق. ولا تقف عند حد. ولا تزن بميزان. (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ) وهذه نتائج اتباع الهوى (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يمنعونهم من سوء المصير.

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ. الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها. لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ...)

هذا التوجيه لاقامة الوجه للدين القيم يجيء في موعده وفي موضعه. بعد تلك الجولات. في ضمير الكون. وفي أغوار النفس وفطرتها. وهذا هو السلطان الذي يصدع به القلب في رد النفوس (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) واتجه اليه مستقيما. فهذا الدين هو العاصم من الانحراف مع الاهواء.

(فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) وبهذا يربط بين فطرة النفس البشرية وطبيعة هذا الدين القويم. وكلاهما من صنع الله تعالى. وكلاهما موافق لناموس الوجود. والله الذي خلق القلب البشري هو الذي أنزل اليه هذا الدين ليحكمه ويصرفه. فيقومه من الانحراف.(وهو أعلم بمن خلق) والفطرة ثابتة. والدين ثابت. (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) فاذا انحرفت النفوس عن الفطرة لم يردها الى الاستقامة الا هذا الدين المستقيم. (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

(مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢) وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥))

البيان : (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) فهي الانابة الى الله والعودة في كل أمر

٢٦

اليه. وهي التقوى والانابة ومراقبة الله في السر والعلانية. والشعور به عند كل حركة وكل سكتة. ويصف المشركين (الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) والشرك ألوان كثيرة (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ). بينما الدين القيم واحد. لا يتبدل ولا يتفرق. ولا يقود أهله الا الى الله الواحد. الذي تقوم بأمره السموات والارض. وله من في السموات والارض كل له قانتون.

(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) انها صورة للنفس البشرية التي لا تستمد من قيمة ثابتة. فعند مس الضر يذكر الناس ربهم ويلجأون الى القوة التي لا عاصم الا اياها. ولا نجاة الا بالانابة اليها. حتى اذا انكشفت الغمة .. وانفرجت الشدة. واذاقهم الله رحمة منه. (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) وهو الفريق الذي لا يستند الى عقيدة صحيحة تهديه الى نهج مستقيم. وهنا يعاجل هذا الفريق بالتهديد في أشخاص المشركين الذين كانوا يواجهون الرسالة. فيوجه اليهم الخطاب. ويحدد أنهم من هذا الفريق الذي يعنيه (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ). (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ).

فانه لا ينبغي لبشر ان يتلقى شيئا في أمر عقيدته الا من الله. فهل أنزلنا عليهم حجة ذات قوة وسلطان تشهد بهذا الشرك الذي يتخذونه ، وهو سؤال استنكاري تهكمي. يكشف عن تهافتهم في الضلال

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ

٢٧

فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠))

البيان : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها) وهي كذلك صورة للنفس التي لا ترتبط بخط ثابت تقيس اليه أمرها في جميع الاحوال. وميزان دقيق لا يضطرب مع التقلبات. والناس.

هنا مقصود بهم أولئك الذين لا يرتبطون بذلك الخط. ولا يزنون بهذا الميزان. فهم يفرحون بالرحمة فرح البطر. ولا يشكرون الله على نعمه. (اولئك الذين لا يعلمون) يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا.(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) فلا داعي للفرح والبطر عند البسط. ولا لليأس والقنوط عند القبض. تتعاون الناس وفق حكمة الله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ. وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ. ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ).

ومادام مال الله أعطاه رزقا لبعض عباده. فالله صاحب المال الاول لان العبد لا يملك فالعبد وما ملكت يداه لمولاه. في الكافي عن الامام موسى الكاظم (ع) قال :

(لما فتح الله على نبيه فدك وما والاها. لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب. فأنزل الله تعالى على نبيه ص وآله (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) ولم يدر رسول الله ص وآله من هم فراجع جبرائيل (ع) فأخبره عن الله تعالى : ان ادفع فدك الى فاطمة. فدعاها رسول الله ص وآله فقال لها : هذه فدك وهي مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب وهي لي خاصة وان الله أمرني أن أدفعها اليك ...) (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ).

(عن الصادق (ع) انه قال : (الربا. رباءان. أحدهما حلال. والاخر حرام. فاما الحلال فهو أن يقرض الرجل أخاه قرضا طمعا أن

٢٨

يزيده ويعوضه بأكثر مما يأخذه بلا شرط بينهما. فان أعطاه اكثر مما أخذه على غير شرط بينهما. فهو مباح له. وليس له ثواب عند الله فيما أقرضه. وهو قوله : (فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) وأما الربا الحرام فالرجل يقرض قرضا ويشترط أن يرد أكثر مما أخذه. فهذا حرام).

(وما أوتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون).

(الاضعاف من الثواب في القرض الذي يكون لوجه الله. وعن الصادق (ع) قال :

(على باب الجنة مكتوب القرض بثمانية عشر ضعفا. والصدقة بعشر) ، هذه هي الوسيلة المضمونة لمضاعفة المال. اعطاؤه بلا مقابل. وبلا انتظار رد زائد من الذي أقرضه. وانما هي اراده وجه الله. أليس هو الذي يبسط الرزق ويقدر. وهو الذي يضاعف المنفقين لوجه الله تعالى.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ. ثُمَّ رَزَقَكُمْ. ثُمَّ يُمِيتُكُمْ. ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ..) هو يواجههم بواقع أمرهم وحقائق حالهم التي لا يملكون ان يماروا في أن الله وحده هو موجدها. وهو الذي خلقهم وانه الذي يرزقهم.(هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) وكيف يمكنهم الجواب العجز ظاهر واضح لكل ذي رشد (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ثم يكشف لهم عن ارتباط أحوال الحياة وأوضاعها بأعمال الناس.

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥))

٢٩

البيان : فظهور الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس. هو الطغيان والاستعلاء. ويحذرهم الله في نهاية هذه الجولة أن يصيبهم ما أصاب من قبلهم (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا) كيف كانت عاقبتهم ما يرون حين يسيرون في الارض. وهي عاقبة لا تشجع أحدا على سلوك ذلك الطريق. (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ ...) يجيء بهذه المناسبة فيبين جزاء الاخرة. ونصيب المؤمنين والكافرين فيها ويحذرهم من يوم لا مرد له من الله. يوم يتفرقون فريقين (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ. وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ).

فالذي يعمل العمل الصالح انما يمهد لنفسه. ويهيء اسباب الراحة في ذات اللحظة التي يقوم فيها بالعمل الصالح فيرجع عليه النفع في دنياه قبل يوم القيامة من الله التوفيق والنجاح ومن الناس المدح والثناء.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠))

البيان : ان الله يجمع في الآيات بين ارسال الرياح مبشرات. وارسال الرسل بالبينات. ونصر المؤمنين بالرسل. وانزال المطر المحيي. واحياء الموتى وبعثهم. وهو جمع له مغزاه.

انها كلها من رحمة الله. وكلها تتبع سنة الله عزوجل. وبين نظام الكون ورسالات الرسل بالهدى ونصر المؤمنين صلة وثقة. وكلها من

٣٠

آيات الله. ومن نعمته ورحمته. وبها تنعلق حياتهم وهي مرتبطة كلها بنظام الكون الاصيل (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ).

تبشر بالمطر الذي هو سبب للحياة العامة .. (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) ولكن الناس لم يستقبلوا رحمة الله هذه ـ وهي اجل واعظم ـ استقبالهم للرياح المبشرات. ولم ينتفعوا بها ـ وهي انفع وادوم ـ انتفاعهم بالمطر والماء. وقد وقفوا اتجاه الرسل فريقين مجرمين لا يؤمنون ولا يتدبرون. ولا يكفون عن ايذاء الرسل والصد عن سبيل الله.

والفريق الآخر المؤمنون الذين يدركون آيات الله. ويشكرون رحمته. ويدركون انه لو لا فضل الرسل (ع) وفضل من يؤمن بهم لما انزل الله تعالى من السماء قطرة ماء. ولما اخرج من الارض نبتة خضراء فالمؤمنون يدركون ذلك جيدا لذلك يفرحون بارسال الرسول اكثر بكثير من فرحهم بنزول المطر. ويسرعون الى الاستفادة من الرسول والايمان به لعلمه بفوائد ذلك وعظمته عند الله تعالى. (فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ).

فسبحان الذي أوجب على نفسه نصر المؤمنين. وجعله لهم حقا عليه عز شأنه وعظم فضله. وقد اكد لهم في هذه الصيغة الجازمة التي لا تحتمل شكا ولا ريبا. كيف ينصرهم والقائل هو الخالق العظيم القوي العزيز. القاهر فوق عباده. وهو الحكيم الخبير. وقد يبطيء هذا النصر لحكمة يراها من يعلم الحاضر والمستقبل. وقد يبطىء هذا وارادته هي الخير والصلاح لعباده المؤمنين (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) وفق ناموسه في تكوين هذا الكون وتنظيمه وتصريفه. (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) وهذا تقرير لحالهم قبل ان ينزل عليهم المطر. حالهم اليأس والقنوط. ثم هم يستبشرون. (فَانْظُرْ إِلى آثارِ

٣١

رَحْمَتِ اللهِ) انظر اليها في النفوس المستبشرة بعد القنوط. وفي الحياة التي تدب في التربة وتدب في القلوب.

(كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) انها حقيقة واقعة في منظورة الناس اجمع. لا تحتاج الى برهان (إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وهذه آثار رحمة الله في الارض تنطق بصدق (إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى) وبعد تقرير هذه الحقيقة يمضي في تصوير حال القوم الذين يستبشرون بالرياح. ثم يصف حالهم حينما تكون الرياح لتدميرهم وتدمير أرضهم وأموالهم :

(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥))

البيان : يكفرون سخطا ويأسا. بدلا من ان يستسلموا لقضاء الله. ويبتهلون اليه في رفع البلاء الذي استحقوه بجرائمهم وعصيانهم لخالقهم العظيم. وعدم انتفاعهم بآيات الله التي يرونها مائلة في الكون من حولهم. وعدم ادراكهم لحكمة الله من وراء ما يشهدونه. من احداث عند هذا يتوجه الخالق العظيم الى رسوله الكريم. فيعزيه عن اخفاق جهوده في هداية الكثير منهم (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ. وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ).

ان الله عزوجل يصور هؤلاء المعاندين للحق والعدل. كمن لا حياة فيهم ولمن لا يبصر شيئا. وكالذي ينفصل حسه عن الوجود. انما هي حياة حيوانية بل اضل واقل.

فالحيوان مهتدى بفطرته وغريزته التي منحها الله تعالى له. اما

٣٢

الذي خلق له العقل والمدارك ثم هو يعطلها ولا يستفيد بها فهو اقبح من فاقدها من الأصل.

(إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) وهؤلاء هم الذين قد استحملوا مواهب الله تعالى وانتفعوا بها بما أراهم من عظيم آياته وفتحوا قلوبهم بواضح برهانه واسرعوا الى الاذعان لخالقهم العظيم. فزادهم نورا وهدى. وافاض عليهم من بركاته التي هي حياة القلوب ونورها. (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ. ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ..) انها جولة مديدة. يرون اوائلها في مشهود حياتهم. ويرون اواخرها مصورة تصويرا مؤثرا كأنها حاضرة امامهم. وهي جولة موحية لمن له قلب أو القى السمع وهو شهيد (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) ولم يقل ضعافا وانما قال ذلك لاهداف اسمى واعلا. كأن الضعف مادتهم الاولى التي صيغ منها كيانهم. والضعف الذي تشير اليه الآية ذو معان ومظاهر شتى في تكوين هذا الانسان الذي تارة يكون افضل من ملائكة السماء وأخرى يكون أحط وأخبث من هوام الارض وديدانها. وجيفها وتننها.

انه ضعف البنية الجسدية وهو فيها كلها واهن ضعيف. في حال الحمل وفي حال الطفولة وفي حال الصبا. وفي حال الفتوة. لأن كل من كان معرضا للبلاء والمصائب والفناء هو ضعيف بذاته وقد نقله في اطوار لا بد له بدون اختياران يمر بها. وفق علم وثيق وتقدير دقيق.(يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) ولا بد لهذه النشأة المحكمة المقدرة من نهاية كذلك مرسومة مقدرة حافلة بالحركة والحوار على طريقة القرآن المجيد (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ) فهكذا يتضاءل في حسهم كل ما وراءهم قبل هذا اليوم. فيقسمون (ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) ويصرفون عن الحق والتقدير الصحيح حتى يردهم اولوا

٣٣

العلم الصحيح الى التقدير الصحيح وعند لقاء بعضهم لبعض يقع بينهم السباب والتلاعن والتبرء فيما بينهم هذا هو مصيرهم.

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠))

البيان : (أُولُوا الْعِلْمِ) اول ما يصدق هذا العنوان على انبياء الله تعالى ثم على اوصيائهم (ع) ثم بعد ذلك على اوليائهم الذين اتبعوهم باحسان ولم يغيروا ولم يبدلوا ما آمنوا به وأيقنوا بحقيقته. (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) وهذه نقلة بعيدة في الزمان والمكان. ولكنها تجيء في السياق. وكأنها قريب من قريب. وينطوي الزمان والمكان.

فاذا هم مرة أخرى امام القرآن وفيه من كل مثل وعظة وتنبيه وتذكر لقوم يتذكرون. ويتفكرون. ويعقلون. وفي هذا القرآن المجيد. من كل وسيلة توقظ القلوب من غفلتها. والعقول من كبوتها ونكبتها. وفيه شتى اللمسات الموحية. العميقة التأثير. وهو يخاطب كل قلب. وكل عقل وكل بيئة وكل محيط. وهو يخاطب النفس البشرية في كل حالة من حالاتها. وفي كل طور من اطوارها.

ولكنهم ـ بعد هذا كله ـ يكذبون بكل آية. ولا يكتفون بالتكذيب بل يتطاولون على اهل العلم الصحيح. فيقولون عنهم (انهم مبطلون) (ولئن جئتهم بكل آية ليقولن الذين كفروا ان انتم الا مبطلون) (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)

كذلك بمثل هذه الطريقة يسيرون وبمثل هذا السبب يكذبون

٣٤

فهؤلاء لا يعلمون قد رانت الجرائم على قلوبهم فاعمتها (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ. وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ).

انه الصبر ـ فهو مفتاح الفرج ـ وهو وسيلة المؤمنين عند النكبات وعند تكذيب الاعداء لهم في طريقهم الطويل. الشائك الذي قد يبدو أحيانا بلا نهاية. ولكن الثقة بوعد الله الحق. هي السلاح الوحيد لاستمرار الكفاح. والثبات على الخط المستقيم مهما تراكمت الاهوال. كل ذلك يقوي نفوسهم ويجعلهم ثابتين بدون قلق ولا اضطراب. ولا حقد قد ألزموا أنفسهم باتباعه بدون أدنى انحراف على الرغم من اضطراب الاخرين. ومن تكذيبهم للحق المبين. وشكهم بوعد الله الصادق (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) والله من وراء القصد.

* * *

ـ ٣١ ـ سورة لقمان عدد آياتها (٣٣) ثلاث وثلاثون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠))

٣٥

البيان : الافتتاح بالأحرف المقطعة (الف. لام. ميم) والاخبار عنها بأنها (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) للتنبيه الى ان آيات الكتاب من جنس تلك الأحرف ـ لانه على نحو ما تقدم في السور المبدوءة بالاحرف ـ واختيار وصف الكتاب هنا بالحكمة. لان موضوع الحكمة مكرر في هذه السورة. فناسب ان يختار. هذا الوصف من اوصاف الكتاب في جوه المناسب على طريقة القرآن الكريم. ووصف الكتاب بالحكمة يلقي عليه ظلال الحياة والارادة. فكأنما هو كائن حيّ متصف بالحكمة. في قوله وتوجيهه. قاصدا لما يقول مريد لما يهدف اليه. وانه لكذلك في ضميمه. فيه روح. وفيه حياة. وفيه حركة. وله شخصية ذاتية مميزة وفيه ايناس. وله صحبة يحسّ بها من يعيشون معه ويحيون في بيانه ويشعرون له بحنين. وتجاوب كالتجاوب بين الحي والحي. وبين الصديق والصديق.

هذا الكتاب الحكيم. أو آياته (هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ) فهذه حاله الاصيلة الدائمة ان يكون هدى ورحمة. هدى يهديهم الى الطريق الواصل الذي لا يضل سالكوه. ورحمة بما يسكبه الهدى في القلب من راحة وطمأنينة وقرار. وما يقود اليه من كسب وخير وفلاح. وبما يعقده من الصلات. والروابط بين قلوب المهتدين به ثم بين هذه القلوب ونواميس الكون الذي تعيش فيه. وبما يعقده من الصلات والقيم والاحوال والاحداث التي تتعارف عليها القلوب المهتدية. (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ ..) وهؤلاء المحسنون هم الذين يكون الكتاب لهم هدى ورحمة لانهم بما في قلوبهم من تفتح يجدون في صحبة هذا الكتاب راحة وطمأنينة.

اولئك الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم يوقنون بالاخرة (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) اولئك المهتدون بالكتاب وآياته. المقيمون

٣٦

الصلاة والمؤتون الزكاة المفلحون في الدنيا والاخرة (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) ..

ولهو الحديث كل كلام يلهي القلب ويأكل الوقت. ولا يثمر خيرا ولا يؤتي حصيلة تليق بوظيفة الانسان المستخلف في هذه الارض لعمارتها بالخير والعدل والصلاح. هذه الوظيفة التي يقررها الاسلام بطبيعتها وحدودها ووسائلها. ويرسم لها الطريق والنص عام (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) يشتريه بماله ويشتريه بوقته. ويشتريه بحياته يبذل تلك الاثمان الغالية في لهو رخيص. يفني فيه عمره المحدود الذي لا يعاد ولا يعود. يشتري هذا اللهو (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) فهو جاهل محجوب عن الحكمة والصلاح ويضل نفسه ويضل غيره. بهذا اللهو الذي ينفق فيه الحياة. وهو سيء الادب مع خالقه العظيم. (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) وهو يشهد فيه حركة ترسم هيئة المستكبر (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) هؤلاء الذين آمنوا وحققوا ايمانهم بالعمل الصالح (لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خالِدِينَ فِيها) لهم هذه الجنات وهذا الخلود تحقيقا لوعد الله الحق (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) فقد بلغ من فضل الخالق على العباد ان يوجب على نفسه الاحسان اليهم جزاء احسانهم لأنفسهم واله سبحانه (وهو الغني عن الجميع) (وهو العزيز الحكيم). (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) وهذه السموات ـ بظاهر مدلولها ودون تعمق في آية بحوث علمية معقدة ـ تواجه النظر والحس هائلة فسيحة سامقة. وسواء أكانت السموات هي هذه الكواكب والنجوم والمجرات والسدم السابحة في الفضاء التي لا يعلم سرها الا الله تعالى او كانت هي هذه القبة التي تراها العين. ولا يعرف ما هي على وجه التحقيق الا خالقها.(خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) يرتد السياق بالقلب البشري الى الارض

٣٧

فيستقر عليها وما يكاد الى الارض الصغيرة. التي لا تبلغ ان تكون هباءة في كتلة الكون الضخمة. (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) والرواسي الجبال. ويقول علماء طبقات الارض : انها تضاريس في قشرة الكرة الارضية. وتقع فيها المرتفعات. وسواء أصحت هذه النظرية ام لم تصح. فهذا كتاب الله عزوجل يقرر ان وجود هذه الجبال يحفظ توازن الارض. فلا تميد ولا تتأرجح ولا تهتز. (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) وهذه احدى عجائب الوجود الكبيرة.

فوجود الحياة على هذه الارض سر لا يدعى احد. حتى اليوم ـ ادراكه ولا تفسيره. الحياة في اول سورها. في الخلية الواحدة الساذجة الصغيرة. فكيف بضخامة هذا السر والحياة تتنوع وتتركب وتتعدد انواعها واجناسها وفصائلها وانماطها الى غير حد يعلمه الانسان.

ومع هذا فان اكثر الناس يمرون بهذه العجائب مغمضي العيون. مطموسي القلوب. بينما هم يقفون مدهوشين مذهولين امام جهاز من صنع الانسان ساذج صغير لا نسبة له حين يقاس الى خلية واحدة من الخلايا الحية. وتصرفها الدقيق العجيب.

(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ)

وانزال الماء من السماء احدى العجائب الكونية. التي تمر عليها كذلك غافلين. هذا الماء الذي تفيض به مجاري الانهار. والذي تمتلىء به البحيرات. والذي تتفجر به العيون ...

هذا كله ينزل من السماء وفق نظام دقيق. مرتبط بنظام السموات والارض. وما بينهما من نسب وابعاد. ومن طبيعة وتكوين وانبات النبات. من الارض بعد نزول الماء. عجيبة اخرى لا ينقضي منها العجب عجيبة الحياة. وعجيبة التنوع. وعجيبة الوارثة للخصائص الكامنة في البذرة الصغيرة. لتعيد نفسها في النبتة وفي الشجرة الكبيرة. وان

٣٨

دراسة توزيع الالوان في زهرة واحدة من نبتة واحدة لتقود القلب المفتوح ـ الذي فيه حياة ـ الى اعماق الحياة واعماق الايمان بخالقها العظيم. مبدع هذه الحياة الذي يتحد كافة المخلوقات بايجادها (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ). وان يسلبهم شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب)

والنص القرآني يقرر ان الله انبت النبات ازواجا (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) وهي حقيقة ضخمة قد اهتدى اليها العلم بالاستقراء بعد الاف السنين وبعد جهله لهذا. فكل نبات له خلايا تذكير. وخلايا تأنيث. اما مجتمعة في زهرة واحدة او في زهرتين في العود الواحد. واما منفصلة في عودين او شجرتين ولا توجد الثمرة الا بعد عملية التقاء. وتلقيح بين زوج النبات كما هو الشأن في الحيوان والانسان على حد سواء.

ووصف الزوج بانه (كريم) يلقي ظلا خاصا مقصودا في هذا الموضع ليصبح لائقا بأن يكون (خَلْقُ اللهِ) (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) وليتحداهم ويتحد دعواهم المتهافتة.

(هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١) وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥))

البيان : ثم يعالج قضية الشكر لله عزوجل. وتنزيهه عن الشرك كله. وقضية الآخرة والعمل والجزاء (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ)

٣٩

ولقمان الذي اختاره القرآن ليعرض بلسانه قضية التوحيد. وقضية الآخرة تختلف في حقيقته الروايات. والاكثرون على انه عبد صالح. وانه كان عبدا حبشيا وايا كان فقد قرر القرآن انه رجل اتاه الله الحكمة الحكمة التي مضمونها ومقتضاها الشكر لله تعالى. وهذا توجيه قرآني ضمني الى شكر الله عزوجل. اقتداء بذلك الرجل الحكيم. المختار الذي يعرض قصته وقوله. والى جوار هذا التوجيه الضمني توجيه آخر. فشكر الله انما هو رصيد مذخور للشاكر ينفعه في الدنيا والآخرة. والله المشكور غني عن شكر الشاكرين. وانما امرهم وحثهم على شكره لافتقارهم اليه في دينهم ودنياهم. وقيامهم وقعودهم. وشكر الله عزوجل نور وغذاء للقلوب. وضياء للعيون. وقوة لكل عضو من اعضاء الانسان ولذا ورد الدعاء (بحول الله وقوته اقوم واقعد). هذا هو افتقار المخلوق لخالقه والعبد لمولاه. (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) اذن فاحمق هو من يخالف الحكمة (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ) وانها لعظة غير متهمة. فما يريد الوالد لولده الا الخير. وما يكون الوالد لولده الا ناصحا. وهذا لقمان الحكيم ينهي ابنه عن الشرك. ويعلل هذا النهي بان الشرك ظلم عظيم. ويؤكد هذه الحقيقة مرتين. مرة بتقديم النهي وفصل علته. ومرة بان واللام.

وهذه هي الحقيقة التي يعرضها محمد ص وآله. على قومه فيجادلونه فيها. ويشكون في غرضه من وراء عرضها. ويخشون ان يكون وراءها انتزاع السلطان منهم والتفضل عليهم. فما القول ولقمان الحكيم يعرضها على ابنه ويأمره بها. والنصيحة من الوالد لولده. مبرأة من كل شبهة. بعيدة من كل ظنة. الا انها الحقيقة القديمة. التي تجري على لسان كل من اتاه الله الحكمة. دون الناس يراد بها الخير المحض

٤٠