حاشية الكفاية

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: بنياد علمى وفكرى علامه طباطبائى با همكارى نمايشگاه و نشر كتاب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٠

أصلا كما لا يخفى هف.

قوله وأما حديث الحكومة فلا أصل له أصلا إلخ :

سيجيء في باب التعارض ان الحكومة رفع أحد الدليلين لموضوع الاخر في ظرف الجعل والتشريع من غير حاجة إلى البيان اللفظي والتفسير الكلامي وعليه فالنسبة بين الاستصحاب والأمارات نسبة الحكومة دون الورود وكذا بين جميع الطرق والأمارات والأصول وأما الورود فيختص بما بين مثل أدلة الأحكام الواقعية الأولية وأدلة الأحكام الواقعية الثانوية.

قوله وأما العقلية فلا يكاد يشتبه إلخ :

من المعلوم ان حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان يرتفع موضوعا بالبيان لكنك قد عرفت في أول مبحث البراءة ان حكم العقل المذكور لا يتعدى ظرف الاعتبار والجعل فارتفاع الموضوع بحسب الجعل والتشريع أيضا لا بحسب التكوين فهو أيضا حكومة لا ورود.

قوله «ره» فان إجمال الخطاب إلى قوله يسرى اه :

هذا لا يلائم ما ذكره رحمه الله كرارا في تضاعيف الكلام في اخبار ـ الاستصحاب ان قضية لا تنقض اليقين بالشك قضية كلية ارتكازية بين العقلاء والتمسك بها تمسك بما يقتضيه ارتكازهم فان الارتكازية لا يجامع الإجمال فلا إجمال في الرواية ولو سلم الإجمال لزمه سرايته إلى ساير الروايات فان المأخوذ فيها قضية ارتكازية واحدة بعينها فالحق عدم جريان

٢٦١

الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي أصلا.

قاعدة التجاوز والفراغ

قوله «ره» لا يخفى ان مثل قاعدة التجاوز إلخ.

ملخص القول في القاعدتين أنه روى زرارة قال قلت لأبي عبد اللَّه عليه السّلام رجل شك في الأذان وقد دخل الإقامة قال يمضى قلت رجل شك في الأذان والإقامة وقد كبر قال يمضى قلت رجل شك في التكبير وقد قرأ قال يمضى قلت شك في القراءة وقد ركع قال : يمضى قلت شك في الركوع وقد سجد قال يمضى على صلاته ثم قال يا زرارة إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشيء.

وروى إسماعيل بن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال إن شك في الركوع بعد ما سجد فليمض وإن شك في السجود بعد ما قام فليمض كل شيء شك فيه وقد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه.

وروى عبد اللَّه بن أبي يعفور عن الصادق عليه السلام قال إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكك بشيء إنما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه.

وروى محمد بن مسلم في الموثق كلما شككت منه مما قد مضى فامضه كما هو (الروايات) وهذه المطلقات مختلفة المضامين فان ظاهر الموثقة الأخيرة كون الشك في صحة الشيء الموجود لا في أصل الوجود فان ظاهر قوله مما قد مضى اه وقوله فامضه كما هواه تعلق الشك بالوصف دون أصل الوجود وظاهر رواية إسماعيل بن جابر وزرارة كون الشك

٢٦٢

في أصل الوجود فان الذيل في الروايتين وإن كان له بعض الظهور في كون أصل الوجود مفروغا عنه لكن الصدر فيهما ظاهر في كون الشك في أصل الوجود وبقية الروايات ممكنة الانطباق على كل واحد من قسمي الشك.

فان قلت ما المانع من إرادة مطلق الشك أعم من القسمين فيما يصح انطباقه من الاخبار فان الشكين وإن اختلفا اختلاف كان التامة والناقصة ولا جامع بينهما ذاتا لكن لا مانع من تحقق الجامع بينهما من حيث المتعلق بالكسر وهو الشك لا من حيث المتعلق بالفتح وهو الكون التام أو الناقص والشاهد على صحته تقسيمنا الشك إلى قسمين والمقسم بوحدته موجود في كل واحد من القسمين فالروايات تدل على القاعدة في كلا فسمي الشك على السواء كما ذكره بعض المحققين.

قلت ليس المراد نفى الجامع بحسب اللفظ وإنما المراد نفيه بحسب أصل الجعل والتشريع وإن الجعلين لا جامع بينهما بحسب المجعول فافهم.

ومن هنا يظهر ان القول بكون قاعدة التجاوز جارية حين الاشتغال بالعمل فقط وقاعدة الفراغ بعد الفراغ عنه فقط كما ذكره المصنف لا وجه له الا مجرد التسمية مع كون كل من القاعدتين جائزة الجريان في كلا قسمي الشك فلا وجه للتفرقة بين حالتي الاشتغال والفراغ بجعل كل منهما مجرى قاعدة مستقلة وبعبارة أخرى بتسمية القاعدة

٢٦٣

في كل واحد من الحالين باسم بل الحق ما ذهب إليه القوم من اختصاص إحدى القاعدتين بالشك في أصل الوجود وهي قاعدة التجاوز والأخرى بالشك في صحة الشيء الموجود وهي قاعدة الفراغ فان الفرق بينهما ح حقيقي يعطيه نفس الدليل.

ثم إن الفراغ عن الشيء في قاعدة الفراغ ليس في تصويره كثير إشكال حيث إن موردها الشك في صحة الشيء الموجود بخلاف التجاوز عن الشيء في قاعدة التجاوز حيث إن موردها الشك في أصل الوجود وما لم يتحقق الوجود لم يتحقق التجاوز لكن مثل قوله إذا خرجت عن شيء اه وقوله وقد جاوزه اه إذا ألقى إلى العرف استفاد من هذا التركيب ومن أمثاله الخروج والمجاوزة عن محل الشيء وعده خروجا وجوازا عن الشيء لأن الخروج والجواز من النسب الملحوظة للمكان حقيقة بالذات وللمتمكن بالعرض وبوساطته وهو ظاهر.

لكن ينبغي أن يعلم أن المحل والمكان بحسب الحقيقة للأجسام وأما غيرها كسائر الاعراض الجسمانية فإنما يتصف بالمكان بعرض الأجسام لا بالذات إلا أن الإفهام العامة كما اضطرت إلى اعتبار مكان واحد للامتداد الجسماني الواحد ومكانين لجسمين وهكذا كذلك اعتبرت مجموع أمكنة الأجسام المقارنة أو المركبة مكانا واحدا للجميع ثم لم تلبث ان اعتبرت كل مركب محلا لكل واحد من اجزائه ثم عممت ذلك للمركبات الاعتبارية فاعتبرت المركب كالظرف لأجزائه

٢٦٤

ومن المعلوم ان جزئية الجزء أمر إضافي إنما يتحقق إذا كان معه غيره فالجزء من حيث أنه جزء يتعين ببقية الأجزاء مطلقا إذا لم يلاحظ في التركيب ترتيب ويتعين بطرفيه مثلا ان كان هناك ترتيب فمحل الجزء من حيث أنه جزء هو ما بين الجزءين الحافين به فما لم يدخل في الجزء التالي لم يخرج من محل الجزء السابق.

ومن هذا يظهر أو لا ان الدخول في الغير محقق للخروج عن الشيء فما لم يدخل في الجزء التالي لم يخرج من الجزء السابق ولم يفرغ منه كما يشهد به ظواهر الأدلة أيضا على أن روايتي زرارة وإسماعيل بن جابر تدلان عليه من حيث كونهما في مقام ضرب القاعدة بعد عد جزئيات القاعدة فلو لم يكن الدخول في الغير محققا للتجاوز عن الشيء لم يستقم ذكره فيها.

وثانيا ان الغير الَّذي يتحقق التجاوز بالدخول فيه هو الجزء الَّذي في عرض الجزء الَّذي فرض الخروج عنه والتجاوز عنه فان الملاك هو اعتبار المحل للجزء والجزء إنما يعين المحل لجزء آخر إذا كانا في عرض واحد وأما إذا كانا في الطول كالجزء وجزء الجزء فلا أصلا.

ويتبين به أمور منها ان اجزاء الاجزاء لا يعتبر فيها ما يعتبر فيما بين نفس الاجزاء وإن اعتبر لها محل فليعتبر محل الجزء الَّذي هو كل بالنسبة إليها فالجزء المعتبر ذا محل في الصلاة مثلا هو التكبير والقراءة والركوع والسجود والتشهد والسلام وقد اعتبر النصر فيها القيام أيضا و

٢٦٥

ذلك لكون تأليف الصلاة إنما هو منها بالذات وأما اجزائها فليست اجزاء للصلاة بل أجزاء للقراءة والركوع مثلا.

وأما القاعدة المعروفة ان جزء الجزء جزء فالمراد به هاهنا ان جزء الجزء موجود في التركيب وأما أنها في التأليف في عرض نفس الاجزاء فليس كذلك قطعا وعلى هذا فالشك في اجزاء القراءة مثلا ما لم يدخل في الركوع شك في المحل يجب الاعتناء به بخلاف الشك فيها في خارج القراءة.

ومنها ان الدخول في مقدمات الأفعال ليس من الدخول في الغير في شيء كالشك في الركوع عند الهوى إلى السجود وفي السجود قبل استتمام القيام ويدل عليه أيضا خصوص خبر إسماعيل بن جابر.

وأما رواية فضيل بن يسار قال قلت لأبي عبد اللَّه عليه السّلام استتم قائما فلا أدري ركعت أم لا قال بلى قد ركعت فامض في صلاتك فإنما ذلك من الشيطان (الخبر) فذيله شاهد على أن الشك كان وسوسة نفسانية لا شكا حقيقة فالجواب علاج للوسوسة بعدم الاعتناء لا جواب حقيقة بالقاعدة وبذلك يظهر ان حمل رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللَّه قال قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع قال قد ركع (الخبر) على الوسوسة ليس بكل البعيد.

ونظيرهما رواية محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام في الَّذي يذكر أنه لم يكبر في أول صلاته فقال إذا استيقن أنه لم يكبر فليعد ولكن

٢٦٦

يستيقن (الخبر).

ومنها ان الشك في الشرائط يتبع من حيث الحكم ما يتحد بها من الاجزاء بمعنى ان شرطية الطهارة مثلا للصلاة ان كانت بمعنى وجوب تقدم فعل الغسلات والمسحات كان محلها قبل الصلاة وإن كانت بمعنى مقارنة الصلاة بالطهارة المسببة عن الوضوء لم يجر فيه حكم الجزء إلا إذا حدث الشك بعد الفراغ عن الصلاة وأما الطهارة المقارنة لكل جزء جزء فإنه وإن أمكن إصلاحها بالقاعدة لكن لا يثبت بذلك وجدان الاجزاء اللاحقة للشرط.

ومنها ان عدم جريان القاعدتين في اجزاء الطهارة الثلث قبل الفراغ عن العمل كما ادعى عليه الإجماع ليس على خلاف القاعدة فان المحصل من أدلتها وبناء القوم فيها ان الشرط فيها هو المسبب التوليدي المسمى بالطهارة دون الأفعال الخارجية فنفس الاجزاء محصلة بالنسبة إلى الشرط الحقيقي البسيط والشك فيها شك في المحصل لا بد من اليقين بتحصيله وهو ظاهر نعم تجري القاعدة بالنسبة إلى الجزء الأخير بعد تحقق الخروج والدخول في غيره.

ومنها ان المعتبر في مورد القاعدة هو الشك الطاري بعد العمل بزوال صورته عن الذهن بحيث يكون مستندا إلى التجاوز والفراغ وأما الشك مع انحفاظ صورة العمل في الذهن فلا تجري فيه القاعدة البتة كمن يعلم صورة غسل اليد في الوضوء مثلا وأنه كان بالارتماس لكن

٢٦٧

شك في نفوذ الماء تحت خاتمه فعليه الاعتناء بالشك.

بقي هنا شيء وهو ان القاعدة هل هي من الأصول أو الأمارات فنقول ظاهر عامة الأدلة كونها من الأصول حيث اعتبرت في موضوعها الشك وكذا اشتمال بعضها على جعل العلم غاية كرواية محمد بن مسلم عن أبي ـ جعفر عليه السلام في رجل شك بعد ما سجد أنه لم يركع قال عليه السلام يمضى في صلاته حتى يستيقن (الخبر) وأما روايتا فضيل بن يسار وعبد الرحمن بن أبي عبد اللَّه السابقتان حيث اشتملتا على لسان الإحراز الكاشف عن الأمارية فقد عرفت ما فيهما من الكلام.

وأما رواية بكير قال قلت له الرّجل يشك بعد ما يتوضأ قال هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك.

ويقرب منها رواية محمد بن مسلم عن أبي عبد اللَّه عليه السلام أنه قال إذا شك الرّجل بعد ما يصلى فلم يدر أثلثا صلى أم أربعا وكان يقينه حين انصرف أنه كان قد أتم لم يعد الصلاة وكان حين انصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك الخبر فيمكن حملهما على ما حملتا عليه ومع الغض عن ذلك فظاهر قوله هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك اه وكذا قوله وكان حين انصرف أقرب إلى الحق اه وإن كان أنها مجعولة جعل الأمارات وأنها أمارة كاشفة عن الواقع بواسطة غلبة مطابقة العمل لما يعلمه العامل من الاجزاء والشرائط الواقعية وهي الكاشفية النوعية لكنا إذا راجعنا بناء العقلاء في أفعالهم وأعمالهم وجدناهم إذا عملوا عملا ذا آثار أو أعمالا

٢٦٨

متعددة ذات ترتيب ثم زال صورة العمل عن ذكرهم داموا على ترتيب أثره ولم يتوقفوا ولم يعودوا إلى العمل بإتيانه ثانيا أو باختبار حاله تذكر أو قد عرفت في أوائل القطع والظن أنهم لا يعملون بطريق من الطرق إلا باعتبار أنه علم والإذعان بأنه قطع والمفروض في المقام زوال صورة العمل عن الذّكر فهذا العمل منهم ليس إلا لكون القاعدة عندهم أصلا لا أمارة.

نعم إذا سئلوا عن ذلك لم يجيبوا إلا بان الفعل كان منهم على مجرى العادة من الإتيان به من غير غفلة نوعا وبعبارة أخرى لازم الامتثال العلمي أمران حضور صورة العمل عند الاشتغال وحصول الصحة والأول ملازم للعلم حدوثا وبقاء فمع زوال العلم تزول الصورة لمكان الاتحاد بينهما بخلاف الثاني فان حصول الصحة لازم العلم حدوثا لا بقاء وهو ظاهر فمع زوال الملزوم يزول اللازم الأول دون الثاني وهذا نظير ما بيناه في حقيقة أصل البراءة ان جعل العينية بين العلم والواقع وكذا بين المعلوم والواقعي لازمه الارتفاع عند الارتفاع وهو البراءة ومع ذلك فالبراءة أصل لا أمارة فكك فيما نحن فيه كون العامل حين يعمل اذكر وأقرب إلى الحق لا يوجب كون القاعدة أمارة بل لازما من لوازم تحقق العلم حين العمل فافهم ذلك.

ومن هنا يظهر ان القاعدة مثل ساير الأمارات والأصول إمضائية لا مجعولة تأسيسا.

٢٦٩

وبذلك يظهر معنى الروايتين المشتملتين على معنى الكاشفية ويظهر أيضا ان القاعدة على أنها أصل من الأصول ليست من الأصول المحرزة كالاستصحاب.

وعلى هذا فلو انكشف الخلاف بعد الاعتناء بالشك في المحل أو بعد عدم الاعتناء به بعد التجاوز عن المحل لم تجز شيئا ووجب الجري على وفق ما يقتضيه زيادة الجزء أو نقيصته أو فساده فلو شك في إتيان الركوع في المحل فأتى به ثم انكشفت الزيادة بطلت الصلاة.

خاتمة قاعدة الفراغ وإن لم يكن في موردها استصحاب لكونه شكا في الوصف فيعود إلى كان الناقصة لكن قاعدة التجاوز لا يخلو موردها عن استصحاب العدم وهو استصحاب مخالف كما أن عدم التجاوز لا يخلو من استصحاب موافق والقاعدة مقدمة عليه لا محالة ووجهه بعد الإجماع ان تقديم الاستصحاب موجب لخلوها عن المورد فهي متقدمة وإن كان دليل الاستصحاب حاكما رافعا لموضوعها.

أصالة الصحة في عمل الغير

قوله وأصالة الصحة في عمل الغير إلى آخره :

ملخص القول فيه أنه قد استدل على القاعدة بالأدلة الأربعة

٢٧٠

وعمدتها من الاخبار ما في الكافي عن علي عليه السلام ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يقلبك عنه ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوء وأنت تجد لها في الخير سبيلا. وقوله عليه السلام لا تقولوا إلا خيرا حتى تعلموا ما هو (الحديث) وهي تدل على القاعدة في الجملة على ما سيأتي.

ويدل على القاعدة أيضا إجماع الفقهاء في الجملة على ما ادعى والسيرة القطعية من المسلمين في جميع الأعصار ويدل عليها أيضا بناء العقلاء بحيث لولاه لزم اختلاف النظام والمتيقن من الجميع ما إذا لم يعلم الحامل جهل الفاعل بوجه الصحة والفساد في الفعل أو مخالفة اعتقاد الفاعل لاعتقاد الحامل بحيث لا يجتمعان في عمل.

أقول وظاهر ان السيرة وبناء العقلاء بمعنى ان الإنسان في مرحلة الاجتماع إذا بنى في حياته على أصل ذا فروع مترتبة عليه حمل العقلاء كل فعل صادر عنه مما يلائم أصله على ما يوافقه حتى يحصل لهم العلم بالخلاف أما بالعلم بجهله بوجه الصحة والفساد في فعله وأما بالعلم بمخالفة اعتقاده لاعتقادهم وبالجملة كل واحدة من سيرة المسلمين وبناء العقلاء في جريانها مغياة بالعلم بالخلاف وهذا يكشف عن كونها أصلا لا أمارة.

فان قلت إن التأمل في طريقة العقلاء يعطى أنهم إنما يحملون على الصحة استنادا إلى ظاهر الحال فان الظاهر من حال من يركن إلى أصل أن يعتبره في أفعاله المتفرعة عليه سواء كان أصلا دينيا أو دنيويا ومن

٢٧١

المعلوم ان الظاهر كاشف علمي لا وظيفة عملية فلا مناص عن القول بكونها أمارة لا أصلا.

قلت نعم لكن الظاهر إنما ينفع بالنسبة إلى الحمل على الصحة عند الفاعل لكشفه عن مطابقة قوله لفعله وأما بالنسبة إلى الصحة عند الحامل فلا كاشفية له أصلا وهو ظاهر وهذا لا يتم إلا بكونها أصلا لا أمارة ومن هنا يظهر أو لا ان الحمل على الصحيح عند الفاعل أمارة عند العقلاء والحمل على الصحيح عند الحامل أصل عندهم.

وثانيا ان المعتبر عند المتشرعة من المسلمين مصداق من مصاديق القاعدة عند العقلاء لاختصاصها بخصوص الصحة التي عند المسلمين.

ويتفرع عليه ان القاعدة غير كاشفة عن الواقع فلا يترتب في موردها أثر الكشف والإثبات فمن تكلم بكلام لا يعلم أنه شتم أو سلم فالحمل على الصحة لا يوجب وجوب رد السلام فان المعلوم في المقام هو كلام ما مردد بين الصحيح والفاسد والقاعدة تثبت كونه صحيحا فالمحمول عليه أنه كلام صحيح ولا يثبت بها انه سلام.

ويتفرع عليه أنه يثبت بها ما يلائم موردها من الصحة فان صحة كل شيء بحسبه فإذا شك في صحة بعض اجزاء المركب كانت الصحة الثابتة بالقاعدة كون الجزء بحيث لا يطرأ على الكل فساد من ناحيته بحيث لو انضم إليه بقية الأجزاء والشرائط تم الكل صحيحا وكذا القول في صحة الشرط وغيره.

٢٧٢

وثالثا ان القاعدة في مورد جريانها مقدمة على الاستصحاب ووجهه على ما ذكره الشيخ (قده) ان الاستصحاب المخالف لها أما حكمي أو موضوعي.

أما الاستصحاب الحكمي فحيث كان منشأ الشك فيه هو الشك في سببية هذا الفعل وتأثيره رجع إلى الشك السببي والمسببي وبجريان القاعدة يرتفع الشك في ناحية الحكم المستصحب وأما الاستصحاب الموضوعي فان القاعدة إذا جرت في موضوع كانت مشخصة لها من حيث الصحة وهي كون الشيء بحيث يترتب عليه الآثار فترتب الآثار أثر الموضوع الصحيح وعدم ترتبها أثر عدم الموضوع لكون عدم السبب علة لعدم المسبب لا أنها أثر الموضوع السابق بالاستصحاب.

أقول وليس ببعيد أن يقال إن الأدلة اللفظية مشعرة بان جعل القاعدة أو إمضائها إنما هو بملاك الامتنان وحفظ حرمة المؤمن وكرامته ولازمه تقدمها على كل أصل غير امتناني وهذا المعنى وإن لم يحتمله القوم لكنه ليس بكل البعيد هذا.

ورابعا ان القاعدة كنظائرها إمضائية لا تأسيسية.

٢٧٣

بحث التعادل والتراجيح

قوله وعليه فلا تعارض إلى قوله والخصومة إلخ :

فالفارق بين نسبة التعارض وبين ساير النسب من الحكومة والورود والظاهر مع الأظهر ان التنافي في التعارض تناف مستقر بحيث تبقى أبناء العرف والمحاورة متحيرة معه بخلاف غير التعارض فان معه وعنده ما يرفع الخصومة بين الدليلين المتنافيين.

والفرق بين الحكومة والورود على ما يظهر من كلامه رحمه الله هاهنا وفي بعض المباحث السابقة ان الحكومة رفع أحد الدليلين موضوع الاخر بتعرض الحاكم لحال المحكوم لسانا وبيانه كمية موضوع المحكوم كما يظهر ذلك من كلام شيخ مشايخنا الأنصاري (قده) حيث قال والضابط في الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضا لحال الدليل الآخر ورافعا للحكم الثابت بالدليل الاخر عن بعض

٢٧٤

افراد موضوعه فيكون مبينا لمقدار مدلوله مسوقا لبيان حاله متفرعا عليه انتهى وقد صرح في عدة مواضع ان الحاكم رافع لموضوع المحكوم حكما بخلاف الوارد فإنه يرفعه حقيقة هذا.

ولكن الحق عدم اعتبار الشرح اللفظي والتعرض اللساني في الحكومة الورود وإن الفارق هو ان رفع الموضوع في أحدهما حقيقي وفي الاخر حكمي بحسب الجعل التشريعي دون الحقيقة وذلك إنا لو فسرنا الحكومة بأنها رفع التعارض والخصومة بشارحية الدليل الحاكم فأما أن يكون هذه الخصوصية داخلة في دليلية الدليل الحاكم غير خارج عنها أو يكون خارجا عن دليليته بان يستصحب معه لفظا يشرح الدليل المحكوم بحيث لو أسقط الشارح بما هو شارح لم ينثلم دليلية الدليل وعلى الأول فهو مقتضى الدليل من حيث أنه دليل أي من حيث مدلوله فالحكم الَّذي هو مدلول أحد الدليلين هو الرافع بنفسه لموضوع الحكم الاخر واحد الدليلين إنما يرفع موضوع حكم الاخر من حيث رفع موضوعه لموضوع الحكم الاخر وإلا فالأحكام مع تنافيها في عرض واحد لا يصح أن يحكم برفع أحدها لموضوع الاخر ثم الموضوع إنما يرفع الموضوع إذا كان أحدهما طاردا للآخر معدما له كالوجود والعدم وذلك أما حقيقة وتكوينا كشرطية الوضوء للصلاة عند وجدان الماء وشرطية التيمم عند فقدانه فوجد أن الماء رافع لموضوع الفقدان حقيقة وأما اعتبارا وتشريعا بان لا يرتفع الموضوع حقيقة بل بحسب

٢٧٥

الاعتبار والجعل فقط بان يجعله الشارع رافعا لموضوعه تشريعا وذلك مثل أدلة أحكام الموضوعات بعناوينها الأولية مع أدلة الأحكام الواقعية الثانوية كأدلة رفع الحرج والضرر والإكراه والاضطرار امتنانا فان اتصاف الأدلة النافية بعنوان الامتنان يجعل موضوعاتها رافعة للموضوعات الأولية لكن في ظرف الجعل وبحسب التشريع فقط لا بحسب الحقيقة.

إذا تمهد هذا فمن الواضح ان هذا الرفع لا يتفاوت حاله ولا يختلف بالبيان اللفظي وجودا وعدما فتقييد الحكومة بوجود بيان لفظي في الدليل مستدرك بل الحكومة لا تحتاج من اللفظ إلى أزيد مما يحتاج إليه الورود من دليل مبين لموضوعه ومحموله هذا.

وعلى الثاني أعني أن يكون خصوصية رفع الخصومة بشرح اللفظ خارجا عن دليلية الدليل فالخصوصية ح خارجة يمكن ان تفارقه أو تجامعه وإن تلحق بمقابله أو لا تلحق وهذا يؤدى إلى كون الحكومة وصفا طارئا للورود لا نحوا من التنافي مقابلا للورود فربما قارنت الورود أو التخصيص أو التقييد وربما فارقت الجميع كالتفسير في غير موارد الأحكام والقوم يأبون عن تجويزه.

على أن الشرح اللفظي المقارن لأحد الدليلين المتنافيين لا يفيد أزيد من التمييز بين مصاديق الموضوعين فهو غير رفع الموضوع للموضوع فان قوله مثلا أكرم العلماء ولا تكرم الفساق ومرادي من العلماء غير

٢٧٦

الفساق لا يزيد على أن يقول أكرم العلماء الغير الفساق ولا تكرم فاسقا وهذا غير رفع الفساق لموضوع العلماء وهو ظاهر ومن هنا يظهر ما في عبارة الشيخ (قده) حيث قال فهو يعنى الحكومة تخصيص في المعنى بعبارة التفسير انتهى.

فقد تبين من جميع ما مر ان الحكومة لا يعتبر فيها أزيد من رفع أحد الدليلين موضوع الاخر حكما لا حقيقة فيختص الورود برفعه إياه حقيقة.

ومن هنا يظهر ان ما أورده رحمه الله من الأمثلة للورود ليست في محلها وإنما هي نسبة الحكومة.

فأما مثل الأدلة النافية للعسر والحرج والضرر والإكراه والاضطرار مما يتكفل لأحكامها بعناوينها الثانوية مع الأدلة المثبتة للأحكام بعناوينها الأولية فمن الواضح ان اشتراكها في الافراد المشتركة وإن أوهم التنافي بين الطائفتين لكن ورود الأدلة النافية في مقام الامتنان أعني كون جعلها جعلا امتنانيا يوجب شمول الأدلة النافية لتلك الافراد وطرد الأدلة المثبتة عنها فترتفع بذلك موضوعها ويتمالكها الأدلة النافية وهو رفع بحسب الجعل فقط وفي ظرف الاعتبار لا بحسب الحقيقة ولا حاجة مع ذلك إلى توفيق العرف بما انه عرف بل نفس الجعل رافع للجعل.

وأما مثال الأصل والأمارة فالذي ذكر (ره) من تقديم العرف

٢٧٧

جانب الأمارة بلحاظ ان التخصيص بدليل الأمارة لا محذور فيه بخلاف التخصيص بدليل الأصل لاستلزامه الدور وقد عرفت في اخر الاستصحاب أنه غير مستقيم وبان الملاك فيه ان الأصل لا مورد له مع الأمارة طبعا كما اعترف هو رحمه الله أيضا به هناك وهذا الملاك إنما تم بواسطة الجعل لا بذاته حقيقة فجعل الشارع الأمارة محرزة للواقع ومؤدى الأصل وظيفة للمتحير يوجب ارتفاع موضوع أحدهما في ظرف الجعل والاعتبار من غير ارتفاع واقعي.

فالذي ينبغي أن يقال في المقام هو ان التنافي بين الدليلين لا يتحقق إلا بعد اشتراك ما بينهما وإلا لم يمكن تحقق النسبة بينهما والتنافي من النسب فالدليل الدال على وجوب صلاة الظهر مثلا لا ينافي الدليل الدال على نشر الحرمة بالرضاع إذ لا نسبة بينهما وحيث إن التنافي المبحوث عنه هو التنافي بين الدليلين بما هما دليلان فالتنافي في الحقيقة بين المدلولين وهما القضيتان الثابتتان بالدليلين من حيث الحكمين فيهما والجامع المذكور إذن بين الموضوعين.

ثم إن التنافي بين الحكمين أما بالذات كما بين الوجوب والحرمة مثلا وأما بعرض الموضوعين والقسم الأول أما مع استقرار التنافي أو زواله إذا عرضا على العرف والأول هو التعارض والثاني نسبة الظاهر والأظهر.

والقسم الثاني إنما يتصور بتعرض أحد الموضوعين للآخر بطرده

٢٧٨

عن مورد نفسه بحسب نفسه وبعبارة أخرى يثبت في مورده عدم المطرود فلا يجتمع معه وجوده وذلك أما بكون أحدهما مصاحبا لعدم الاخر أو كونه بنفسه عدما للآخر والأول هو التنافي بالتزاحم كالتزاحم بين دليل وجوب صلاة العصر ووجوب إزالة النجاسة عن المسجد في وقت لا يسع إلا أحدهما فان التنافي ح بين الوجوبين بعرض موضوعين كل منهما مصاحب لعدم الاخر.

والثاني وهو كون أحدهما عدم الاخر أما أن يكون كذلك حقيقة بحسب التكوين أو بحسب الجعل والتشريع.

والأول هو الورود كما بين دليل شرطية الطهارة المائية عند وجدان الماء ودليل شرطية التيمم عند فقدانه فالوجدان رافع للفقدان والفقدان يرتفع عنده الوجدان وليس برافع فيقال : ان أحد الدليلين يرفع موضوع الاخر ولا عكس.

والثاني هو الحكومة كما بين أدلة الأحكام الواقعية مع أدلة الأحكام الظاهرية.

فقد تبين ان أقسام التنافي خمسة :

الأول : التعارض وهو التنافي الموجود بين الدليلين بحسب حكمي المدلولين بالذات مع استقرار التنافي بحيث لو عرض الدليلان على العرف لم يقدر على إزالة التنافي ورفع التحير كما بين المتباينين والعامين من وجه.

٢٧٩

الثاني تنافي الظاهر والأظهر وهو كسابقه غير أن التنافي غير مستقر بحيث لو عرضا على العرف وفق بينهما بجعل أحدهما قرينة على المراد الجدي من الاخر كما بين الظاهر والنص والظاهر والأظهر ومنه التخصيص والتقييد.

الثالث التزاحم وقد مر في باب اجتماع الأمر والنهي.

الرابع الورود وهو التنافي العارض للدليلين مع كون أحد الدليلين رافعا لموضوع الاخر ومن المعلوم ان البيان اللفظي كالجعل الاعتباري لا تأثير له في مورده أصلا لا نفيا ولا إثباتا فلا وجه لا يكال أمره إلى نظر العرف المقصور على البيانات اللفظية.

الخامس الحكومة وهو التنافي بين الدليلين مع كون أحدهما رافعا لموضوع الاخر بحسب الجعل والاعتبار لا بحسب الحقيقة وقد عرفت ان البيان اللفظي لا تأثير له في هذا القسم أيضا.

ومن آثاره ان الدليل الحاكم لا مورد له من دون الدليل المحكوم فان عنوان الرفع الاعتباري لا يتحقق من غير تحقق المرفوع فلا معنى لرفع الحكم الضرري من دون أن يكون مسبوقا بحكم يعرض عنوان الضرر لبعض افراد موضوعه من حيث الحكم بخلاف الورود فان الرفع فيه حقيقي تكويني كما أن الدليل الدال على شرطية الطهارة المائية تام وإن لم يتحقق دليل التيمم ولا جعل حكمه.

ومن هذا يظهر ان الحاكم بما هو حاكم ليس شأنه إلا رفع حكم

٢٨٠