حاشية الكفاية

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: بنياد علمى وفكرى علامه طباطبائى با همكارى نمايشگاه و نشر كتاب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٠

١
٢

فهرس المجلد الاول

موضوعات العلوم................................................................ ٥

تعريف علم الاصول............................................................. ١٤

مبحث الوضع................................................................. ١٦

المعاني الحرفية................................................................... ٢٢

الصحيح والاعم................................................................ ٣٧

بحث لمشتق.................................................................... ٤٩

بحث الاومر والنواهي............................................................ ٦٩

بحث التعبدي والتوصلي......................................................... ٩٣

مقدمة الواجب............................................................... ١٠٢

الواجب الاصلي والتبعي....................................................... ١٢٤

الكلام في النواهي............................................................. ١٣٧

اجتماع الامر والنهي.......................................................... ١٣٩

دلالة النهي على الفساد....................................................... ١٤٥

بحث المفاهيم................................................................. ١٥١

بحث العام والخاص............................................................ ١٦٠

بحث المطلق والمقيد............................................................ ١٦٨

٣

فهرس المجلد الثاني

في أحكام القطع.............................................................. ١٧٧

العلم الإجمالي................................................................ ١٨٩

مبحث الظن................................................................. ١٩١

حجية الظواهر................................................................ ٢٠٥

حجية خبر الواحد............................................................ ٢١٠

أصالة البراءة................................................................. ٢١٤

دوران الأمر بين المحذورين....................................................... ٢٢١

في الأقل والأكثر الارتباطيين.................................................... ٢٢٧

قاعدة لا ضرر................................................................ ٢٣٣

الكلام في الاستصحاب....................................................... ٢٣٨

قاعدة التجاوز والفراغ.......................................................... ٢٦٢

اصالة الصحة في عمل الغير.................................................... ٣٧٠

بحث التعادل والتراجيح........................................................ ٢٧٤

مباحث الاجتهاد والتقليد...................................................... ٢٩٩

٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وآله الطاهرين وسلم تسليما.

موضوعات العلوم

قوله «ره» موضوع كل علم وهو الّذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة.

أقول كل مطلوب نظري أعني القضية التي يصح إقامة البرهان عليها يجب ان يصح تعلق اليقين به وهو العلم المركب الّذي عرف بأنه العلم بان كذا كذا مع العلم بالفعل أو بالقوة القريبة منه بأنه لا يمكن ان لا يكون كذا فالقضية اليقينية يجب ان يكون المحمول فيها ذاتيا للموضوع كما يجب ان تكون كلية ، ودائمية ، وضرورية على ما بين في كتاب صناعة البرهان من المنطق.

٥

ونعنى بكون المحمول ذاتيا ان يكون نفسه موضوعا من غير ان يكون الموضوع في الحقيقة شيئا آخر ثم ينسب حكمه إلى الموضوع لاتحاد ما بينهما وعناية زائدة ، وهذا المعنى إذا أخذ بحقيقته كان مرجعه ان القضية اليقينية يجب ان يكون موضوعها بحيث إذا وضع وحده مع قطع النّظر عن كل ما عداه مما يصح ان يحمل عليه المحمول من الموضوعات كان ثبوت المحمول له بحاله ، كقولنا : الإنسان متعجب فانا إذا وضعنا الإنسان وهو الموضوع ثم أغمضنا عن سائر الموضوعات المرتبطة به مما يصح حمل المتعجب عليها كالقائم ، والقائد ، والمتكلم ، ومنتصب القامة والحساس ، والمتحرك بالإرادة وغيرها لم يوجب ذلك سلب المتعجب عنه وذلك انه لو انتفى الحمل على تقدير انتفاء بعض ما عدا الموضوع صدق السلب على بعض التقادير فلم يتحقق العلم بامتناع جانب السلب فلم يتحقق يقين ، وقد فرضت القضية يقينية هف ومن هنا يظهر ان كل محمول يثبت لموضوع بواسطة امر آخر ليس عارضا ذاتيا له سواء كان كذلك بواسطة امر مساو للموضوع كما أثبته بعض المتأخرين من المنطقيين وغيرهم ، أو غير مساو كالأعم ، والأخص ، وإذ كان من الممكن ان يؤخذ موضوع القضية مركبا مؤلفا من الموضوع الحقيقي ، وما يحمل عليه المحمول بواسطته أعني مركبا من الواسطة وذي الواسطة معا كان من الواجب في الحمل الذاتي ان يصدق الحمل مع إثبات كل واحد واحد من الموضوع ، والقيود المأخوذة فيه المتحدة به.

٦

فقولنا : الإنسان المنتصب القامة متعجب لو كان موضوعه مجموع الإنسان المنتصب القامة؟ لم يكن من الحمل الذاتي في شيء لجريان برهان الخلف السابق فيه بعينه.

وهذا الكلام جار أيضا في الاجزاء الذاتيّة للموضوع أعني الجنس والفصل فكل جزء ذاتي يجب ان لا يتساوى حاله وضعا ورفعا بالنسبة إلى ثبوت محمول القضية لموضوعها أعني الجزء الباقي من الموضوع لجريان برهان السابق فيه بعينه. ومن هنا ظهر ان العارض الذاتي يجب ان يكون مساويا لموضوعه ، لا أعم ، ولا أخص ، اما الأعم فلو كان الموضوع أخص من محموله العارض الذاتي كقولنا الإنسان ماش كان الجزء الأخص من الموضوع يساوي وضعه رفعه مع فرض بقاء الجزء الأعم من غير عكس فالجزء الأعم هو الموضوع ، والجزء الأخص انما يتصف بالمحمول بواسطته ، ومجموع الموضوع ، وغير الموضوع ليس بالموضوع فيصدق نقيض القضية وقد فرض الأصل يقينا هف.

نعم لو قيد المحمول في مثل هذه الموارد كتقييد المشي بما يختص بالإنسان من الحصة الخاصة به من المشي عاد عارضا ذاتيا لموضوعه هذا.

واما الأخص فلو كان الموضوع أعم من محموله العارض الذاتي كقولنا : الحيوان متعجب ، كان فرض انتفاء بعض ما عدا الموضوع مع فرض بقاء الموضوع كفرض انتفاء الناطق ، أو الإنسان مثلا

٧

موجبا لصدق جانب السلب ، وقد فرض الإيجاب يقينا هف.

نعم لو ضم المحمول الأخص ، وهو محمول نوع من أنواع الموضوع الأعم ، وما يقابله من محمولات ساير أنواعه على نحو الترديد بالقسمة المستوفاة كان المجموع عارضا ذاتيا للموضوع لمكان المساواة كقولنا : الحيوان اما متعجب ، أو غير متعجب والمثلث اما قائم الزاوية ، أو منفرجتها ، أو حاد الزوايا.

فان قلت : ما ذكرته من استلزام ذاتية المحمول للموضوع صدق الحكم مع فرض انتفاء ما عدا الموضوع مما يصح ان يكون موضوعا للمحمول من الأمور المتحدة مع الموضوع منتقض بما كان من الموضوعات علة لثبوت المحمول لموضوعه فمع فرض انتفائه ينتفي المحمول والمفروض كونه عارضا ذاتيا كما في قولنا : الإنسان ضاحك لأنه متعجب ، والحيوان ماش لأنه متحرك بالإرادة فمع فرض انتفاء المتعجب ، والمتحرك بالإرادة ينتفي المحمولان ، وقد فرضا ذاتيين لموضوعهما.

قلت : فرق بين انتفاء الحكم عن الموضوع مع بقاء المحمول على حاله لانتفاء واسطته ، وبين انتفاء نفس وجود المحمول لانتفاء علته ، واللازم في مورد العارض الذاتي ، انتفاء الأول ، دون الثاني فمن الممكن ان يحمل الضاحك على الإنسان مع الغفلة عن المتعجب ، أو مع فرض انتفائه كما إذا لم يعلم بعليته وان كان انتفاء وجود المتعجب خارجا

٨

يلزمه انتفاء وجود الضحك لعلية بينهما.

وهذا بخلاف حمل الّذي في قولنا : الميزاب جار لانتفائه مع الغض عن الماء ، أو فرض عدمه فالحمل الذاتي لا يتوقف تحققه الا على فرض الموضوع الذاتي ، واما غير الموضوع فلا يختل برفعه فمن الممكن حينئذ ان يكون المحمول الذاتي محمولا ذاتيا لموضوع موضوعه ، والموضوع موضوعا لمحمول محموله الذاتي ثم يذهب ذلك صاعدا ، أو نازلا إلى حدود بعيدة كحكم النوع الأخير للنوع المتوسط ، ثم العالي مثل الضاحك ، والمتعجب ، والإنسان ، والحيوان ، والنامي وهكذا ، وكعرض العرض ، ثم العرض ، ثم الموضوع ، مثل ذي الخطّ ، وذي السطح ، والجسم التعليمي ، وعلى هذا القياس حتى ينتهى الأمر نازلا إلى محمول لا يتوقف عروض محموله عليه إلى موضوعه لتخصصه بوجود استعداد جديد لعروض عدة محمولات أخر عليه لا موضوعه ، وصاعدا إلى موضوع لا يتوقف عروض محموله عليه على موضوعه كذلك.

وذلك بان لا يحتاج حمل المحمول على موضوعه إلى إثبات موضوع الموضوع كما ان وضع الجسم الطبيعي لحمل محمولاته عليه مما يحمل عليه من حيث التغير لا يحتاج إلى إثبات جوهريته وتركبه من المادة والصورة ، وكذا إثبات المقدار لحمل محمولاته الرياضية عليه لا يحتاج إلى تصور موضوعه ، وهو الجسم المادي بل يكفى فيه وضع المقدار بحسب مطلق وجوده أعني الأعم عن الخارجي المادي ،

٩

والخياليّ العاري عن المادة ، والموضوع فكل محمول واقع في هذه السلسلة المرتبطة من القضايا محمول ذاتي لكل موضوع قبله ، أو هو ومقابله على سبيل القسمة كما عرفت كذلك.

وحينئذ فالموضوع الأول الّذي ينتهى إليه المحمولات الواقعة في هذه السلسلة وهي جميعا أحواله ، وعوارضه الذاتيّة المبحوثة عنها فيها وهذا المجموع هو الّذي نسميه بالعلم ، والموضوع الأول فيه هو موضوعه الّذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة فقد بان من ذلك معنى العلم ، وان كل علم فله موضوع عام يبحث فيه عنه ويتمايز به عن غيره تمايزا ذاتيا أي في حد نفسه ، ويكون محمولات المسائل أعراضا ذاتية بالنسبة إليه كما ان كل مسألة لمحمولها ذاتي لموضوعها هذا ملخص الكلام في هذا المقام.

وقد عرفت ان المنشأ لجميع هذه النتائج فرض القضية يقينية يصح إقامة البرهان عليه ، وينعكس بعكس النقيض إلى ان القضايا التي ليست ذاتية المحمول للموضوع فهي غير يقينية ، ولا يقوم عليها البرهان فما يقوم عليها البرهان من الأقيسة المنتجة لها ليس من البرهان في شيء هذا. ثم ان القضايا الاعتبارية وهي التي محمولاتها اعتبارية غير حقيقية حيث كانت محمولاتها مرفوعة عن الخارج لا مطابق لها فيه في نفسها إلّا بحسب الاعتبار أي ان وجودها في ظرف الاعتبار ، والوهم دون الخارج عنه سواء كانت موضوعاتها أمورا حقيقية عينية بحسب

١٠

الظاهر ، أو اعتبارية فهي ليست ذاتية لموضوعاتها أي بحيث إذا وضع الموضوع وقطع النّظر عن كل ما عداه من الموضوعات كان ثبوت المحمول عليه في محله إذا لا محمول في نفس الأمر فلا نسبة فالمحمول في القضايا الاعتبارية غير ذاتي لموضوعه بالضرورة فلا برهان عليها ولأن العلوم الباحثة عنها تشتمل على موضوعات يبحث فيها عن أعراضها الذاتيّة هذا.

لكن الاعتبار ، وهو إعطاء حد شيء ، أو حكمه لآخر حيث كانت التصديقات المنتسبة إليه تصديقات وعلوما متوسطة بين كمال الحيوان الفاعل بالإرادة ونقصه على ما بيناه في رسالة الاعتبارات كانت هي بذاتها مطلوبة للتوسيط فطلب العلم بها أيضا غيري مغيا بغاية ، وغرض فالقضية الاعتبارية كما انها مجعولة معتبرة بالجعل الاعتباري لغرض حقيقي يتوصل بها إليه كمجموع القضايا الاعتبارية المجعولة لغرض حقيقي ، أو ما ينتهى إليه كذلك هي مطلوبة بالتدوين ، أو للتعلم للتوصل إلى غرض حقيقي أو ما ينتهى إليه بتمييز الصحيح عن الفاسد كمجموع قضايا مدونة مسماة بعلم كذا لغرض كذا أو مطلوبة بغرض كذا فالتمايز في العلوم الاعتبارية بالأغراض دون الموضوعات ، ومحمولات المسائل لا يجب فيها كونها ذاتية بل الواجب صحة الحمل مع الدخل في الغرض المطلوب.

فمن هنا يظهر ان لا ضرورة تقتضي نفى الواسطة في عروض محمولاتها

١١

لموضوعاتها ولا اشتراط المساواة بين موضوعاتها ومحمولاتها فيجوز كون المحمول فيها أعم أو أخص مطلقا من الموضوع أو أعم من وجه كقولنا : الفاعل مرفوع ، وقولنا : الاسم يصير مبنيا لشبه الحرف ، وقولنا : الصلاة واجبة إلى غير ذلك ، ولا حاجة إلى ما تمحلوا به لدفع هذه المحاذير كما عرفت.

ومن هنا يظهر أيضا ان لا ضرورة تقضى بوجود جامع فيها بين موضوعات المسائل ، نعم ربما أذعنت العقلاء بين الأمور الاعتبارية المتحدة في الغرض بالنظر إلى وحدة الغرض ، والغاية ، وعدها من آثار ذي الغاية بوجود جامع واحد بينها يجمعها جميعا بحسب الموضوع غير انه ليس من الضروري كون نسبة هذا الجامع مع كونه جامعا إلى افراده كون نسبة الكليات الحقيقية إلى افرادها الحقيقية كما سيجيء بيانه.

قوله : هو نفس موضوعات مسائله :

هذا التعبير منه «ره» في مقام العلاج لكون موضوع العلم غالبا أعم من موضوعات المسائل ، أو أخص فيكون محمولات المسائل عارضة لموضوع العلم بواسطة امر أخص ، أو أعم فتكون غريبة لا ذاتية ، وقد فسر العرض الذاتي بما لا واسطة في عروضه ، والعلاج بأخذ موضوع العلم لا بشرط بالنسبة إلى موضوعات المسائل فيتحد معها وجودا ، ويكون المحمول عليها محمولا عليه لاتحادهما وجودا بالحمل الشائع فيكون الملاك في ذاتية العرض كون عروضه

١٢

بلا واسطة اما في نفس حقيقته ، أو من جهة أخذ ذي الواسطة لا بشرط بالنسبة إلى الواسطة المساوي أو الأخص أو الأعم كما ذكره بعض شارحي كلامه وفاقا منه «ره» لبعض المحققين في تعاليقه وأنت بالرجوع إلى ما قدمناه من الكلام تعرف وجه الخلل فيه فلا نطيل بالإعادة والله اعلم.

قوله ره : ان تمايز العلوم بتمايز الأغراض :

قد عرفت حقيقة الأمر في ذلك مما تقدم.

قوله ره : وإلّا لكان كل باب بل كل مسألة من كل علم علما على حدة :

محذور تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ، هو ان موضوع العلم لا يزال يتخصص بتخصصات بعد أخرى حتى يتنزل إلى موضوع الباب ثم المسألة ، ولا يزال يأخذ في العموم حتى يتصاعد إلى أعم الأشياء ، وهو الموجود من حيث هو موجود فاما ان يكون جميع العلوم علما واحدا وهو العلم الإلهي الباحث عن الموجود من حيث هو موجود ، أو يكون كل مسألة علما برأسها هذا ، وإليه أشار بقوله : بعد فلا يكون الاختلاف بحسب الموضوع والمحمول موجبا للتعدد كما لا يكون وحدتهما سببا لأن يكون من الواحد انتهى لكن الكلام حيث كان في تمايز العلوم بفرض التمايز لم يذكر الشق الأول من المحذور بل اقتصر على الثاني فحسب.

١٣

قوله : لا خصوص الأدلة الأربعة :

الوجه في هذا المقام ان يقال : ان قيام الضرورة على ثبوت شريعة ذات أحكام تقضى بوجوب أخذ الناس بها. ثم قيام الضرورة على كون التفهيم والتفهم فيها مثل التبليغ على الطرق التي بنى عليها العقلاء في مخاطباتهم ، ومحاوراتهم توجب مساس الحاجة بالبحث عن الطرق المستعملة بين العقلاء في استنباط أحكام القوانين الدائرة بينهم ليصون العلم بها باستعمالها عن الخطأ في الاستنباط لما عرفت ان الغاية في العلوم الاعتبارية جميعا الاحتفاظ عن الخطاء في كل منها بما يليق به كالصون عن الخطأ في الأبنية في علم الصرف ، وعن الخطإ في الكلام في علم النحو ، وعن رداءة الكلام في علم البيان ، وعن رداءة الوزن في علم العروض ، وهكذا.

تعريف علم الأصول

فعلم الأصول هو العلم الباحث عن القواعد المقررة عند العقلاء لاستنباط الأحكام ، وحيث كان الغرض من تدوينها الوصول إلى استنباط الأحكام الشرعية فحسب فمباحثها مساوية لهذا الغرض وان كانت في نفسها أعم منه وهو ظاهر.

ومن هنا يظهر ان كل مسألة منها فعندها مقدمة مطوية بها تتم النتيجة وهي ان الشارع جرى على هذا البناء ولم يردع عنه فيقال ان الأمر مثلا يدل على كذا عند العقلاء ولشارع بنى على بنائهم فهو

١٤

يدل على كذا في خطاباته ويقال : ان الأصل مثلا عند عدم الدليل كذا عندهم. والشارع بنى عليه فهو كذا عنده ، ومن هنا يظهر أيضا ان المقدمة العقلية المحضة وبعبارة أخرى البرهان غير مستعمل في المباحث الأصولية في الحقيقة إذ العقلاء لا يبنون في القضايا الاعتبارية المتداولة عندهم الا على أصول بناءاتهم من ضرورة الحاجة أو اللغو ، واما القضايا الأولية ، وما يتفرع عليها من النظرية فلا تنتج طلبا ولا هربا ، ولا وضعا ، ولا رفعا ، ولا ما ينتهى إلى ذلك بل تصديقا بنسب حقيقية نفس أمرية فافهم.

ذلك مضافا إلى ما تحقق في محله : ان القضايا الاعتبارية ، من حيث هي اعتبارية لا يقام عليها برهان وقد مرت الإشارة إليه ومن هنا يظهر أيضا ان أحسن التعاريف تعريفه بأنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية ، التعريف بناء على تعميم الحكم الظاهري والواقعي والوضعي والتكليفي وكون الحق حكما بوجه كما هو الحق.

قوله وان كان الأولى تعريفه بأنه صناعة :

وجه الأولوية ما ذكره بعد بقوله : بناء على ان إلخ بزعم عدم شمول التعريف الأول لذلك وقد عرفت ما فيه ، ويرد على تعريفه أيضا انه تعريف بالغرض وهما غرضان اثنان ولازمه كون علم الأصول فنين اثنين ، وهما فن مباحث الألفاظ ، وفن الأصول العملية ، بناء على ما التزم به من دوران الوحدة والتعدد مدار الغرض (فان قيل :) ان بين الغرضين جامعا وهو الوصول إلى الأحكام أعم من الظاهرية ، والواقعية فيتحد الفن باتحاد الغرض ، (قلنا :) على انه عدول إلى التعريف الأول

١٥

مع أولويته بالاختصار ان كان وحدة الغرض أو تعدده يتبع نظر العرف فالعرف يرى الغرضين المذكورين اثنين ، وان كان المتبع وجود جامع غرضي بين الغرضين وعدمه فجميع أغراض العلوم يجمعها غرض واحد وهو تحصيل الكمال النفسانيّ ، ولازمه كون جميع العلوم علما واحدا ، ومن هنا يظهر ان ما أورده على القول بكون التمايز بالموضوعات مقلوب على نفسه. مبحث الوضع

قوله : الوضع هو نحو اختصاص :

لا ريب ان انفهام المعنى من اللفظ أعني المعنى الخاصّ من اللفظ الخاصّ بحسب أي لغة من اللغات ثم دوام ذلك واستمراره بعدم التخلف والاختلاف يكشف عن نسبة بينهما وارتباط لأحدهما بالآخر أو لا ، وعن كون هذه النسبة ثابتة غير متغيرة ثانيا ، لكن النسبة الثابتة بينهما بحسب لغة وعند قوم مغفول عنها أو مجهول بحسب لغة أخرى وعند قوم آخر ولو كانت نسبة خارجية حقيقية لم يختلف في إثباته ونفيه الإفهام على ما هو الشأن في الأمور الخارجية الحقيقية ، فاذن النسبة الثابتة بين اللفظ والمعنى الاعتبارية غير حقيقية هذا.

ثم انا إذا تأملنا في حال الإنسان بل كثيرا من الأنواع الحيوانية وجدنا مسألة تفهيم ما في الضمير من الضروريات التي تمسها الحاجة الأولية من حيث الاجتماع والتقارن الّذي بينهم فهو من الاعتبارات العامة الأولية يتلو اعتبار الاجتماع والّذي يقضى به التأمل المجرد في حال

١٦

الحيوانات الساذجة من حيث الإدراك والاجتماع ، ومن في تلوهم من الإنسان كالأطفال ، وكذا في الكشف عن الأمور المستحدثة ، وكذلك في استعمال أنحاء الإشارات وتشفيع الكلام بها ان أقدم التفهيمات ما يتعلق منها بالمعاني الموجودة تحت الحس بعرض المعنى نفسه على حس المخاطب ومع عدم إمكانه استعمال الإشارة أو إيجاد صوت عنده مع تعقيبه بما يريده من المخاطب ، كما ان الواحد من الطيور إذا أراد تفهيم صاحبه ما يجب الحركة إليه أو عنه أخذ في الصوت فيتوجه إليه صاحبه لمكان ضرورة البحث عن علل الحوادث عند الحيوان ثم يعقب الصائت صوته بالحركة إلى الحبة مثلا فيدرك صاحبه ما كان يريد إدراكه إياه أو يهرب عن محذور مخوف منه فيدركه صاحبه فيفعل ما يفعل ، فهذا أول ما يدل باللفظ على المعنى.

ثم ان الإدراكات الوجدانية كالمحبة ، والعداوة ، والشوق ، والكراهية ، والشهوة ، والغضب ، وغير ذلك على اختلافها توجب اختلافا في الصوت بالضرورة وهذا أول ما يحصل به الاختلاف في الأصوات التي هي الألفاظ ، وباختلافها يحدث الاختلاف ، والكثرة اللفظية في تفهيمات الحيوان والحيوان بوهمه مفطور على الانتقال من مجاور إلى ما يجاوره ، ومن ملازم إلى ما يلازمه ولو اتفاقا فبتكرر الوقوع يذعن الحيوان بالملازمة وينتقل من الصوت الخاصّ إلى المعنى الخاصّ في الجملة ويستدل به عليه ، فالحيوان إذا سمع صوت رأفة استدل به

١٧

على معنى يناسب الأنس دون الوحشة والفزع ، وعلى هذا القياس ، وعند هذا ينفتح الباب إلى الاستدلال إلى بعض المعاني الغائبة عن الحس ، ثم انه يأخذ في تفهيم المعاني الغائبة عن الحس ، وأقدمها ما يمكن عرضه على الحس بواسطة حكايته ، اما لكونه مشتملا على صوت فيحكي نفسه ، ويعرض على الحس كأسماء الأصوات ويوجد في اللغات على اختلافها شيء كثير من أسماء الحيوان ، وغيرها مأخوذة من الصوت الوجود عنده كالهدهد ، والبوم ، والحمام ، والعصفور ، والهر ، ومن الأفعال كالدق ، والدك ، والشق ، والكسر ، والصرير ، والدوي ، واما لكونه مشتملا على مقدار أو شكل يمكن حكايته ، بالإشارة ولا يزال الوهم يتصرف فيها بتغييرها إلى ما هو أخف ، وأسهل عند الطبع ، وبتسرية حكمها إلى ما يناسبها ، ويشاكلها حتى يتم امر اللغة بحسب ما يمس به الحاجة ، فمن المحال ان يوضع لفظ لما لا حاجة إليه لمتكلم هاج ، وكلما اشتق معنى من معنى لمسيس الحاجة اشتق من اسمه اسم للمعنى الثاني لمكان الاتحاد بينهما ولا ترادف ، وكلما اتحد معنى مع معنى سبق اسمه إليه ، وشمله ولا اشتراك.

ثم ربما نسيت الخصوصيات فعاد اللفظ مع اللفظ مترادفين كالإنسان والبشر أو اللفظ مشتركا لفظيا كالنون.

ثم ربما أوجب كثرة الجماعة والزحام بينهم جلاءهم وتفرقهم لأسباب تدعو إلى ذلك وانقطعت الروابط بينهما فبطلت وحدة المعاشرة

١٨

والاجتماع بينهم فتغيرت اللهجة وخلت عن الفعل والانفعال الاجتماعي وانجر الأمر بمرور الزمان إلى حدوث لغتين أو أكثر ، هذا كله مما لا يرتاب فيه المتأمل الباحث في أوضاع المجتمعين من الإنسان ، والحيوان ، والتغيرات ، والتطورات الواقعة فيها.

ويتبين بذلك ان الإنسان يتوصل إلى اللغات بوضع المعاني نفسها وعرضها على المخاطب أولا ، ثم وضع الألفاظ في محلها بالاعتبار بإعطاء حدودها إياها بحكم الوهم فتكون الألفاظ وجودات للمعاني بالعرض ويتوصل إلى الدلالة اللفظية أولا بالدلالة العقلية ، وهي دلالة الشيء على نفسه ، ولوازمه العقلية أولا ، ثم الدلالة على ذلك بما يراه نفس الشيء وهما ، وليس به حقيقة فاللفظ نفس المعنى ، ودلالته عليه دلالة الشيء على نفسه لكن في ظرف الاعتبار وبحكم الوهم.

ولذلك ربما سرى بعض أوصاف أحدهما إلى الآخر من حسن ، أو قبح أو خير ، أو شر ومن هنا يؤخذ جل باب التطير ، والتفؤل كما يتطير ، من الغراب لاشتقاقه من الغربة ، ومن شجرة البان لأنه من البين ، والفرقة والعرب كانت تتشأم من العطسة لأنهم كانوا يتشأمون من حيوان يسمى عاطوسا فهذه وأمثالها صفات سرت من معنى إلى لفظ ومنه إلى آخر ثم إلى معناه وربما ذهب الأمر إلى غايات بعيدة هذا.

ويتبين بذلك كله ان وضع جل الألفاظ باستثناء الاعلام الشخصية وضع تعيني لا تعييني وانما هو الإنسان مفطور على ذلك بفطرته الاجتماعية.

١٩

وبه يظهر فساد ما قيل ان الوضع من قبيل التعهد حيث ان جعله الاختصاص بين اللفظ والمعنى وكون اللفظ وجودا للمعنى تنزيلا ممن يدعى انه واضع لا يؤثر شيئا بحيث يفهم منه كلما أطلق بل هو تعهد من المستعملين ان يطلقوا اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى كما هو كذلك في وضع الاعلام الشخصية هذا ووجه الفساد ان ذلك انما ينفى كون الواضع شخصا خاصا وليس كذلك وانما هو الإنسان بفطرته الاجتماعية والاختصاص الوضعي انما يتحقق مع الاستعمال لكن في رتبة متقدمة عليه.

وبه يظهر أيضا فساد ما قيل انه من قبيل التعهد لكنه تعهد الواضع دون المستعملين بتقريب ان جعل الارتباط بين اللفظ والمعنى لو لا وجود المرجح في البين ترجيح بلا مرجح وتخصيص الواضع وجعله لا يوجب أزيد من جعل المرجح وتحققه ثم جريان الاستعمال يوجب الاختصاص فحقيقة الوضع جعل اللفظ بإزاء المعنى وتعهده انه كلما تلفظ باللفظ أراد المعنى المعهود فباستعماله يتحقق الاختصاص ثم المستعملين الآخر يتبعونه في ذلك والكلام فيه كسابقه.

وبه يظهر أيضا فساد ما قيل ان الواضع هو الله سبحانه لبطلان كلما قيل في غيره وفسر بأنه سبحانه يلهم المتكلم بلفظ خاص عند إرادة معنى مخصوص ولا بد ان يتم الإلهام في جانب المتكلم بإلهام آخر في جانب المخاطب ووجه الفساد انه لا يفيد في تشخيص حقيقة الوضع

٢٠