حاشية الكفاية

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: بنياد علمى وفكرى علامه طباطبائى با همكارى نمايشگاه و نشر كتاب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٠

الحكم فلا فمن الجائز أن يقوم ببعض المبادي المتأخرة عنه سبحانه المتوسطة بينه وبين المكلفين كالنص النبوية بان يوحى إليه صلى الله عليه وآله الحكم فيتحقق في نفسه المقدسة الإرادة والكراهة في موارد البعث والزجر.

أقول والمسألة خارجة عن الفن والحق في المقام أن يقال : ان الإرادة مثلا كما مرت إليه الإشارة في بحث الطلب والإرادة لا تتخطى الفعل المباشري ولا تتعلق بفعل الغير البتة نعم ربما يعتبر فعل الغير متعلقا لإرادة الآمر كفعل نفسه اعتبارا فيراد بإرادة اعتبارية وهو الأمر مثلا وكما أن الإرادة الحقيقية معنى رابط غير مستقل قائم بالفاعل والفعل نسبة بينهما على حد ساير الموجودات النسبية المتوسطة بين شيئين كذلك الإرادة الاعتبارية لكن لمكان اعتباريته وتقومه بحقيقة في محله كسائر الاعتبارات يمكن أن يلاحظ مستقلا ويراد بإرادة حقيقية فيفعل فيكون على حد ساير الأفعال الخارجية فللأمر اعتباران اعتبار توسطه بين الآمر والفعل المأمور به وهو بهذا الاعتبار معنى حرفي ومدلول لصيغة افعل واعتبار كونه فعلا من الأفعال ملحوظا بالاستقلال وبهذا الاعتبار تتعلق به إرادة الآمر لكونه فعلا مباشريا له وإرادة الآمر كما ترى متعلقة به بالاعتبار الثاني دون الاعتبار الأول لعدم الاستقلال بوجه.

ومن هنا يظهر سقوط الإشكال من أصله فان أوامره تعالى من حيث أنها أوامر وإرادات إنشائية لا تتعلق بها إرادة حقيقية ومن حيث أنها أفعال

٢٠١

له تعالى تحتاج إلى إرادات حقيقية حالها حال ساير أفعاله التكوينية المنسوبة إليه فلا تختص بإشكال تجري فيها دون غيرها بل الإشكال في ارتباط الأحكام وهي أمور اعتبارية به تعالى وقد أشرنا إلى فكه فيما مر من بحث الطلب والإرادة فليرجع إليه.

وقد تبين من هذا البيان ما في جوابه رحمه الله ففيه :

أولا ان محذور قيام الإرادة به تعالى موجود في ساير المبادي المجردة بعينه فان الحكم واحد والتفصيل في محل أخر.

وثانيا أنا سلمنا جواز قيام هذه الإرادة في غيره تعالى من ساير المبادي المتوسطة لكن لازم ذلك إضافة الحكم إلى من قامت الإرادة به دونه تعالى فلا يصح نسبة الحكم إليه تعالى حقيقة.

وثالثا سلمنا تصحيح هذا الانتساب إليه تعالى بنحو العلم بالمصلحة والمفسدة لكن الإشكال في نفس هذا العلم وهو علم اعتباري لا يقوم بموجود حقيقي على الإطلاق فافهم.

ومنه يظهر ان ما سلكه بعضهم في التخلص عن إشكال الإرادة ان الأوامر والنواهي عناوين ظاهرية للأحكام المجعولة شرعا فإنها مجعولة من غير أمر ونهى بل بنحو جعل القوانين الكلية وإنشاء الأحكام لموضوعاتها كقوله : «كتب عليكم الصيام وللَّه على الناس حج البيت وأحل اللَّه البيع وحرم الربا والبيعان بالخيار ما لم يفترقا» وهكذا غير نافع فان عمدة الإشكال في قيام الاعتبار المحض بالحقيقة المحضة ولا يفيد في

٢٠٢

إرجاع الأمر والنهي إلى جعل القوانين كما لا يخفى.

قوله : ان الأصل فيما لا يعلم اعتباره إلخ :

مراده رحمه الله على ما يصرح به بعد بقوله فمع الشك في التعبد به يقطع بعدم حجيته وعدم ترتب شيء من الآثار عليه للقطع بانتفاء الموضوع معه (اه) ان الشك في الحجية يوجب عدم الحجية حقيقة وهو الأصل.

وتوضيحه ان الشك في حجية طريق وإن كان لازمه الشك في ترتب آثار الحجية عليه لأن الشك في الموضوع يوجب الشك في آثاره لكن العقل مستقل بعدم ترتب آثار الحجية عليه ح كالمؤاخذة على المخالفة ونحوها ولازم ارتفاع الأثر حقيقة ارتفاع موضوعه حقيقة فمجرد الشك في الحجية يوجب القطع بعدم الحجية بمعونة حكم العقل.

أقول ولازم ارتفاع الموضوع بعروض الشك أخذ العلم في جانب الموضوع إذ لو لم يؤخذ فيه كان الموضوع محفوظا في الواقع والعلم والجهل من حالاته الطارية عليه فالعلم مأخوذ فيه وقد حكموا بامتناع أخذ القطع في موضوع متعلقه.

فان قلت من الممكن أن يؤخذ القطع ببعض مراتب الحكم موضوعا لمرتبة أخرى منه فالقطع بحرمة الخمر فعلا يمتنع أن يؤخذ موضوعا لحرمة الخمر فعلا بخلاف القطع بحرمته شأنا فإنه يمكن أن يؤخذ موضوعا لحرمته فعلا وأثره ارتفاع الحرمة بعروض الشك فليكن

٢٠٣

القطع بحجية الحجة حاله هذا الحال.

قلت لازم ذلك اتحاد مرتبتي الفعلية والتنجز في جميع الطرق المجعولة لعموم حكم العقل فيها ولازم ذلك اتحاد الرتبتين في نفس الأحكام الواقعية لاقتضاء طريقيتها كون مالها من الحكم لمكشوفها وهذا بخلاف أخذ العلم في موضوع حكم من الأحكام الواقعية النفسيّة كالحرمة والنجاسة ونحوهما.

ثم أقول وهذا الحكم من العقل دليل على ما ذكرناه سابقا ان جعل حجية العلم والعلميات يلازم جعلا آخر في مورد الشك أعني كون ارتفاع العلم موضوعا لارتفاع الحكم إذ كان معنى جعل الحجية جعل العينية بين العلم والواقع وإن شئت قل جعل العينية بين مؤدى الطريق والواقع ولازم العينية بين شيئين مفروضين كون ثبوت أحدهما ثبوتا للآخر وكذا ارتفاعه ارتفاعا للآخر فارتفاع العلم بالحجية أي الشك فيها عين انتفاء الحجية جعلا وموضوع لارتفاع حكمها أعني عدم جواز المؤاخذة على المخالفة فالموضوعات بواقعيتها موضوعات من غير تقييد بعلم ولا جهل وهي في مرتبة الشك موضوعات لأحكام سلبية تنطبق عليها اقدام الأحكام الواقعية فافهم.

واعلم أن دعواه قدس سره هاهنا استقلال العقل على عدم ترتب العقاب على المخالفة مع الشك في الحجية ومرجعه استقلاله بذلك مع عدم إحراز المعصية ينافي ما سيذكره في الدليل الأول من أدلة حجية الظن

٢٠٤

المطلق ان العقل وإن لم يستقل على استحقاق العقاب بمخالفة التكليف المظنون لعدم إحراز موضوع المعصية إلا أنه لا يستقل على عدم الاستحقاق أيضا بل يحتمله فهو ضرر محتمل ودفع الضرر المحتمل واجب فراجع.

حجية الظواهر

قوله لاستقرار طريقة العقلاء :

الأمر على ما ذكره قدس سره إلا أن هاهنا نكتة يجب التنبيه عليها وهو ان التمسك ببناء العقلاء إنما يكون في مورد حكم لم يكن تشخيصا لصغرى حكم أخر كحكمهم بصحة بيع المنابذة والربوي لتشخيصه صغرى لمطلق النقل أو البيع وإلا فيمكن أن يختلف فيه الأنظار فلا يتحقق بناء منهم فبناء العقلاء إنما يتحقق في حكم لم يستند إلى شيء أخر غير نفسه وبعبارة أخرى إذا كان ذلك كبرويا غير صغروي ويدل ذلك على أن الحكم مما لا يستغنى عنه في نفسه أي تحقق البناء من العقلاء بما هم عقلاء واقعون في ظرف الاجتماع وطريق الاستكمال فلا يخالفه إنسان بالفطرة ولو فرضت هناك مخالفة كانت موافقة في عين أنها مخالفة وهو ظاهر عند التأمل مثال ذلك ان الإنسان مفطور على العمل على طبق العلم ولو فرضنا ان إنسانا قال لصاحبه لا تعمل بما وصل إليك منى بالعلم بل بخلافه فقط لمصلحة اقتضت ذلك كان عمل صاحبه بخلاف علمه في كل مورد مورد في عين أنه طرح للعمل بالعلم وأخذ بخلافه عملا بالعلم من حيث امتثال تكليفه الأول فافهم.

٢٠٥

ثم إنك عرفت في بحث الوضع ان اعتبار الوضع والدلالة اللفظية ما يقتضى به الفطرة الإنسانية ونظام الاجتماع فهو ما بنى عليه العقلاء ولا معنى للردع عنه كما عرفت نعم يمكن تصوير الردع عنه بحيث يكون من حيث أنه ردع أخذا كما مر.

ومن هنا يظهر أولا ان بناء العقلاء حجة بالذات بمعنى أنه ليس حجة يوسط.

وبه يتبين فساد ما ذكره المصنف رحمه الله في مسألة أصالة إمكان التعبد بالظن ان سيرة العقلاء على أصالة الإمكان عند الشك في التعبد على تقدير ثبوتها ممنوعة لعدم قيام دليل قطعي على اعتبارها انتهى.

وثانيا ان حجية الظهور غير مقيدة بالظن به فعلا أو بعدم الظن بالخلاف ولا بكون الإفهام مقصودا على أن حجية الظهور لو كانت مقيدة بأحد الثلاثة صح الاعتذار به عند المخالفة كان يقول العبد معتذرا عن المخالفة لسيده أني ما كنت ظانا بالفعل أو إني كنت ظانا بالخلاف أو ان وجه الكلام كان مع غيري ولم يقصد به تفهيمي مع أنها غير مسموعة عند العقلاء فالحجية ليست مقيدة بأحدها.

قوله : ولا فرق في ذلك بين الكتاب اه :

ينبغي أن يقيد بما سيذكره في أواخر الفصل من عدم حجية غير آيات الأحكام إلا أن يقال إن سقوط ظهورها عن الحجية من جهة الاقتران بالمانع.

٢٠٦

قوله : فان الظاهر أن المتشابه هو خصوص المجمل اه :

المجمل ويقابله المبين لو كان هو المتشابه ويقابله المحكم لمكان المحكم هو المبين وهو باطل فان خصوصية المحكم ليست وضوح ظاهره وبيانه بل أحكامه وقد قال سبحانه منه آيات محكمات هن أم الكتاب (الآية) فوصفها وعرفها بأنها أم الكتاب والأم المرجع فهي محكمة تامة في نفسها ترجع إليها بقية آيات الكتاب مما لا أحكام ولا ثبات في ظواهرها.

ومن هنا ان التشابه ويقابله الأحكام عدم ثبات الظهور ووهنها ومشابهة المعنى المعنى.

ثم اعلم أن هذا وإن صلح للجواب عنهم لكن الأحسن أن يقال إن آية المحكم والمتشابه يجب أن تكون محكمة وإن كانت جميع الكتاب متشابهة الآيات والآية نفسها تنقسم القرآن إلى محكم ومتشابه ومن الواضح ان المحكم لا غبار على معناه وقد عرفت بأنهن أم الكتاب فمن اللازم رجوع باقي الآيات إليها وصيرورتها محكمة بواسطتها فالقرآن ينقسم إلى محكم بالذات وإلى محكم بالعرض وبالغير.

فان قلت إن ظاهر الآية ان المتشابهات لها تأويل لا يعلمه إلا اللَّه سبحانه أو إلا هو والراسخون في العلم من أوليائه ولا معنى للتأويل إلا خلاف الظاهر.

قلت الَّذي يظهر من كلامه تعالى ان التأويل لا يختص بالمتشابه

٢٠٧

بل جميع القرآن لها تأويل وإن التأويل ليس هو المعنى المخالف للظاهر ولا من سنخ المعنى بل من سنخ الحقائق الخارجية نسبته إلى المعنى نسبة الممثل إلى المثال والباطن إلى الظاهر وقد أشبعنا القول فيه في التفسير.

قوله : ودعوى العلم الإجمالي بوقوع التحريف اه :

هذا إشكال سادس على حجية ظاهر الكتاب بدعوى وقوع التحريف فيه بالتصحيف والنقيصة فيوجب سقوط ظاهره عن الحجية بالعرض من جهة العلم الإجمالي وإن كان حجة بحسب اقتضاء طبعه وهذا النزاع صغروي.

وظني ان الكتاب العزيز يكفى مئونة دفع هذه الإشكالات برمتها قال تبارك وتعالى (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) (الآية) وهي في مقام التفريع والتعريض مع الذين لا يذعنون بكون القرآن من عند اللَّه تعالى من الكافرين والمنافقين ولا معنى لإرجاعهم إلى تفاسير النبي صلى الله عليه وآله وحملة الكتاب من أهل بيته فيقول سبحانه لهم ان كلام غيره لا يخلو من اختلاف كثير ولو كان القرآن لا اختلاف فيه أصلا بحسب بادئ النّظر لكان حق الكلام أن يقال أفلا يرون ونحو ذلك دون أن يقال أفلا يتدبرون اه.

فيندب إلى التدبر فيه وهو أخذ الشيء دبر الشيء وتعاهد بعضه بعد بعض ولو لم يكن له ظهور يحتج به لم يكن لذلك معنى فجميع الاحتمالات المتصورة المحتملة في القرآن مرتفعة بنفسه فبعضه

٢٠٨

بعضا فهذا المقدار من الفهم لا يختص ببعض دون بعض فاندفع الإشكال الأول ولا تماس له بما فيه من العلوم العالية التي لا يمسها إلا المطهرون فاندفع الإشكال الثاني ولا يتحقق ذلك إلا بكون كل آية أما محكمة بنفسها أو بالإرجاع إلى المحكمات فاندفع الإشكال الثالث ومن المعلوم ان قضاء حق التدبر في مثل قوله تعالى ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا (الآية) ونظراتها يوجب الفحص عما وقع في كلامه صلى الله عليه وآله وكلام أوصيائه من المخصص البيان المتعلق بالآيات وخاصة آيات الأحكام فاندفع الإشكال الرابع.

ومن المعلوم ان التفسير المدعو إليه في الآية ليس من التفسير بالرأي المنهي عنه في قوله صلَّى اللَّه عليه وآله «من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» لأن الآية في مقام التحدي وإثبات الإعجاز الباقي ببقاء الدهر فلا يقبل تخصيصا ولا تقييدا فالتفسير بالرأي أيا ما كان هو غير ما يترتب على التدبر من الحكم فاندفع الإشكال الخامس وهذا المعنى بعينه أعني ارتفاع كل اختلاف مترائي كيف ما كان بالتدبير فيه يوجب حجية ظهور جميع الآيات من غير استثناء وأنه لو فرض وقوع تصحيف أو إسقاط لم يوجب ذلك بالآخرة ما يلزم منه اختلاف ظهور فاندفع الإشكال السادس والحمد للَّه سبحانه.

قوله بناء على حجية أصالة الحقيقة من باب التعبدات :

لا معنى لهذا التعبد سواء فسر بالتعبد العقلائي أو التعبد الشرعي.

٢٠٩

قوله وهو يكفى في الفتوى اه :

بل قد عرفت منا مرارا ان الواقع في طريق الاستنباط هو الظاهر دون الحقيقة من حيث هي حقيقة وهو الَّذي ينبغي للأصولي أن يقتصر بحثه عليه.

حجية خبر الواحد

قوله ان الملاك في الأصولية اه :

قد قدمنا في أول الكتاب ما يتعلق بالمقام فلا نطيل بالإعادة.

قوله واستدل لهم بالآيات الناهية عن اتباع غير العلم.

قد عرفت في أوائل بحثي القطع والظن ان الحجية عند العقلاء لا تتجاوز العلم غير أن العلم عندهم لا ينحصر في الاعتقاد الجازم الَّذي يمتنع نقيضه حقيقة بل كل إذعان موثوق به بحيث لا يعتنى باحتمال خلافه علم عندهم حجة فيما بينهم ومنها خبر الواحد إذا أفاد الوثوق وسيجئ ان الملاك في حجية خبر الواحد ذلك.

ومن هنا يظهر عدم نهوض ما احتج به النافون كتابا وسنة وإجماعا على خلافه فان القدر المشترك في مدلولها عدم جواز العمل بغير العلم مؤيدة لا منافية.

قوله فإنها اخبار آحاد إلخ :

يمكن أن يدعى الخصم ان الاحتجاج لإثبات لزوم التناقض على تقدير حجية خبر الواحد بتقريب أنه لو كانت اخبار الآحاد حجة كانت هذه حجة وهو تنفي الحجية فيلزم من وجود الحجية عدمها وكيف كان

٢١٠

فقد عرفت عدم وروده على ما قربناه من كيفية الحجية.

قوله والمنقول منه للاستدلال غير قابل اه :

فان حجية الإجماع إنما هو لكونه من مصاديق خبر الواحد.

واعلم أنه يمكن توجيه الإشكال على نحو ما مر في خبر الواحد.

قوله ان تعليق الحكم بإيجاب التبين اه :

محصله أخذ النبأ الَّذي جيء به موضوعا ثابتا ثم إيجاب التبين على بعض تقاديره كتقدير كون الجائي به فاسقا ومن الواضح ان ارتفاع التقدير يلازم ثبوت تقدير آخر ليس معه الحكم المرتفع فيؤول محصل مفاد الآية إلى قضية حملية مرددة المحمول بأداة الشرط هذا لكن هذا التقريب على تقدير سلامته من الإشكال لا دليل عليه من ناحية ظهور الآية.

والظاهر أن يقال في تقريب دلالة الآية ان الجهالة على ما يستفاد من العرف بمعنى السفاهة وهو العمل على خلاف ما يقتضيه روية العقلاء فتعليله سبحانه قوله ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا «اه بقوله ان تصيبوا قوما بجهالة» اه يقضى بكون المعلل من مصاديق الأفعال العقلائية فالأمر بالتبين الموجود فيه إرشاد إلى حكم العقلاء فهو المرجوع إليه وحكمهم هو الأخذ بالخبر الموثوق به والتوقف والتبين في الخبر الغير الموثوق به كخبر الفاسق الَّذي لا يبالي في قوله ولا يحترز الكذب في خبره.

ومن هنا يظهر ان المراد بالفاسق هو الفاسق في خبره لا كل

٢١١

فاسق وإن كان محترزا للكذب متقنا في الخبر هذا فتكون الآية إمضاء لما حكم به العقلاء من حجية خبر الواحد الموثوق به.

قوله ربما أشكل شمول مثلها اه :

التعبير بالمثل لكون الإشكال عام الورود على جميع أدلة حجية خبر الواحد.

قوله وقضيته وإن كان حجية خبر اه :

ويبقى الكلام في ثبوت مصداق هذا الخبر بين الأخبار الواردة فيها.

قوله وهو دعوى استقرار سيرة العقلاء :

وهي حجة صحيحة عليها المعول من بين الحجج المقامة على حجية خبر الواحد الموثوق بصدوره من الأدلة الأربعة وتقريبه ان العقلاء في جميع الأعصار والأقطار يبنون على العمل بالخبر الموثوق بصدوره بحيث ينكرون على من أقدم خلاف ذلك مع ثبوته وينقطعون إذا احتج عليهم بذلك ويعدون الركون إليه ركونا إلى العلم فإذا سأل أحدهم صاحبه من أين علمت كذا كذا قال أخبرني به فلان ولا يقال من أين ظننت ان كذا كذا ولا يرد عليه السائل ان سألتك عن العلم فأجبتني بالظن.

وبالجملة فبناؤهم على ذلك مستقر استقرارا متصلا قبل ظهور الشرع وبعده ولم يرد منه ردع بالنسبة إليه ولو كان لبان فيكشف عن رضاء الشارع به وإمضائه.

٢١٢

قوله ان قلت يكفى في الردع اه.

حيث قرر (ره) السيرة حجة على حجية الخبر من حيث هو ظن توجه إليه الإشكال بالآيات الناهية عن اتباع غير العلم لكن على ما قربناه من الوجه لا يرد عليه شيء من الآيات إذ هي تنهى عن اتباع غير العلم والعمل بخبر الواحد من اتباع للعلم.

قوله مضافا إلى أنها وردت إرشادا :

عليه منع ظاهر فإنه مدفوع بإطلاق الآيتين وخصوصا الأولى.

قوله ولو سلم فإنما المتيقن.

الانصراف ممنوع ومع عدمه وتحقق الإطلاق لا وجه للأخذ ٠ بالمتيقن.

قوله لا يكاد يكون الردع بها إلا على وجه دائراه :

لا محذور فيه لكون هذا الدور معيا لوضوح ان الردع والتخصيص وصفان متنافيان في موضوعين يلازم تحقق كل منهما عدم تحقق الاخر في موضوعه ولا علية حقيقة بين وجود أحدهما وعدم الاخر ولا بالعكس وهو ظاهر.

قوله فافهم وتأمل اه :

أفاد رحمه الله في حاشية منه أنه إشارة إلى كون خبر الثقة متبعا ولو قيل بسقوط كل من السيرة والإطلاق عن الاعتبار بسبب دوران الأمر بين ردعها به وتقييده بها وذلك لأجل استصحاب حجية الثابتة

٢١٣

قبل نزول الآيتين انتهى.

وفيه مصادرة واضحة فان الاستصحاب حجة عنده قدس سره بسبب الاخبار فالاستدلال به على حجيتها مصادرة على المطلوب.

الكلام في أصالة البراءة :

قوله بعد الفحص واليأس عن الظفر بدليل اه :

سيأتي بعض ما يتعلق به وقد مر بعض الكلام فيما مر.

قوله فان مثل قاعدة الطهارة اه :

قد مر في مباحث القطع وسيجئ أيضا ان بناء العقلاء على حجية القطع بناء منهم على البراءة في مورد الشبهة البدوية بالملازمة وإن البناء الكلي منهم لا يتغير وإن ما ربما يتراءى منهم من وقوع التغير في البناء فهو وضع من حيث أنه رفع مثال ذلك قول المولى لعبده لا تعمل بالقطع بأحكامي البالغة إليك بالكتابة فان سقوط القطع في موارد الأحكام المكتوبة ثبوت للقطع بهذا البيان الشفاهي كما لا يخفى وح فمن الجائز أن يثبت في موارد الأحكام الكلية من هذا القبيل أحكام آخر جزئية موافقة أو مخالفة فإنما هي صغريات على كل حال كما

٢١٤

عرفت إذا تمهد هذا فالطهارة ان كانت معنى عدميا نسبته إلى النجاسة نسبة العدم والملكة أو ما يؤل إلى ذلك بان يكون المجعول الشرعي الابتدائي هو النجاسة التي هي معنى اعتباري أثره عدم جواز أكله وشربه والصلاة معه مثلا كانت قاعدة الطهارة المستفادة من قوله عليه السلام : كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر (الحديث) في الحقيقة صغرى من صغريات أصالة البراءة بالاستقامة وإن كان الأمر عكس ذلك بان تكون الطهارة اعتبار معنى ثبوتي والنجاسة عدمية كانت أصلا مجعولا امتنانا كالاحتياط المجعول في مورد الدماء والاعراض هذا ونظير الكلام جار في قاعدة الحلية المستفادة من قوله عليه السّلام : «كل شيء حلال حتى تعلم أنه حرام» (الخبر).

وهذا كله بناء على إفادة أمثال هذه الظواهر حكما ظاهريا في مورد الشك لما يظهر من سياق هذه الروايات أنها في مقام التوسعة على المكلفين فان اشتمال الغاية فيها على العلم المتعلق باتصاف الموضوع بوصفه الخاصّ به ينبئ ان الحكم مسبوق باحكام مختلفة متقابلة لموضوعات مختلفة فإذا فرض صدور مثل قوله الميتة نجسة والبول والعذرة والدم والمني من غير المأكول لحمه نجس وما وراء ذلك طاهر ثم صدور مثل قوله كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قد رأى حتى تعلم أن ذلك الشيء موضوع لوصف القذارة كان ظاهره ان الموضوع في الصدر هو الشيء من حيث لا يعلم كونه موضوعا لحكمه المعلوم وهو القذارة

٢١٥

فيكون الغاية غاية للموضوع دون الحكم ويؤل المعنى إلى أن الشيء ما لم يعلم نجاسته فهو طاهر.

ويشهد بذلك أيضا أخذ الموضوع هو الشيء المجرد عن عنوان خاص من العناوين الموضوعة للطهارة وتعميمه بلفظ كل وخاصة في مثل قوله (الماء كله طاهر حتى تعلم أنه نجس) وكذلك ذيل رواية (كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر) فإذا علمت فقد قذر وما لم تعلم فليس عليك (الخبر) حيث إن العدول عن مثل قولنا فهو طاهر إلى قوله فليس عليك اه تلويح ظاهر للتوسعة المذكورة.

وبالجملة فمعنى خبر الطهارة ان كل شيء مجهول النجاسة فهو طاهر ما دام مجهول النجاسة ونظيره معنى خبر الحلية وأما استفادة الاستصحاب من هذه الأخبار كما سيشير إليه المصنف في ضمن أدلة الاستصحاب أو كون العلم مثلا جزءاً من موضوع النجاسة والحرمة أو تمام الموضوع فغير مستقيم البتة وسيأتي بعض الكلام في ذلك فيما سيأتي.

قوله وفيه ان نفى التعذيب اه :

لازمه الالتزام بوجود حكم إلزاميّ مع انتفاء المؤاخذة على تركه وهو كما ترى.

قوله «ره» منها حديث الرفع اه :

تقريب الاستدلال بهذه الرواية الشريفة ان تقييد الرفع بقوله

٢١٦

(صلى الله عليه وآله) عن أمتي اه يدل على اختصاص هذا الرفع بهذه الأمة وهو مع ما يشتمل عليه هذه الأمور من المشاق ورفعها من التسهيل يدل على كون الكلام واردا في مقام الامتنان على الناس بما أنهم أمة له صلَّى اللَّه عليه وآله فالكلام مسوق للامتنان التشريعي في موارد عروض هذه العناوين لذوات هذه الأمور ومن الواضح ان الطريق إلى الرفع الَّذي فيه امتنان تشريعي وتسهيل ديني فيما له آثار شرعية إنما يتصور برفع آثاره الشرعية بان لا توضع في ظرف التشريع كما في ما لا يعلمون مثلا وفيما له آثار تكوينية بتعليم ما يرتفع به آثاره التكوينية الشاقة كما في مثل الطيرة بتعليم التوكل على اللَّه سبحانه وتلقين ان غيره تعالى لا يملك نفعا ولا ضرا.

فالحاصل ان الرواية تدل على ارتفاع نفس هذه الأمور التي لها آثار شرعية عن ظرف التشريع ويلزمه ارتفاع جميع آثارها الشرعية التي يوجب الامتنان ارتفاعها أو الآثار الظاهرة فيها.

إلا أن في الرفع فرقا فان العنوان المأخوذة في كل واحد منها كما مر يدل على كونه هو المنشأ للرفع الامتناني لكن ارتفاع العنوان في غير ما يعلمون اه مثل ما لا يطيقون وما استكرهوا عليه مثلا يوجب ثبوت الواقع بحكمه بخلاف ما لا يعلمون اه فان ارتفاع عنوان الجهل يوجب ثبوت عنوان العلم وهو عنوان آخر مثل الجهل وكلاهما طارئان على الواقع بواقعيته فثبوت الجهل وعدم العلم يوجب ارتفاع الحكم

٢١٧

الثابت بالعلم وهو مرتبة التنجز من الحكم لا أصل الحكم أو فعليته فرفع الحكم عن غير ما لا يعلمون يوجب رفعه عن أصله فينتج حكما ثانويا في قبال الحكم الواقعي الأولى بخلاف رفع الحكم عن ما لا يعلمون فهو إنما يوجب رفعه بما هو منجز لا من أصله فالحكم الواقعي باق بفعليته في صورة الجهل مرفوع التنجز فينتج حكما ظاهريا لا حكما واقعيا ثانويا فالرواية مع وحدة السياق دالة على ارتفاع الآثار التكوينية في الطيرة وعلى الحكم الظاهري فيما لا يعلمون وعلى الحكم الواقعي الثانوي في غيرهما.

قوله «ره» فهو مرفوع فعلا وإن كان ثابتا واقعا اه :

ظاهر الرواية الرفع المطلق من غير تخصيص برفع خاص كما في غير ما لا يعلمون ولعل الاختصاص بمعونة ضميمة اخبار اشتراك العالم والجاهل في التكليف بدعوى كون النسبة بين القبيلين نسبة الحكومة والبيان دون التعارض هذا وقد عرفت عدم الحاجة إلى ذلك في تقريب الاستدلال.

قوله «ره» فلا مؤاخذة عليه قطعا اه :

كان التقريب تاما من غير حاجة إلى حديث نفى المؤاخذة كما سيجيء لكنه قدس سره ضمه إليه جريا على ما جرى عليه القوم في الاستدلال وتوطئة لما بعده من نفى إيجاب الاحتياط فان رفع التكليف الواقعي من حيث أنه مجهول يقبح الإلزام به عند العقلاء لا ينافي إثباته من طريق

٢١٨

الاحتياط لولا منافاته لقضية الامتنان.

قوله «ره» فإنه ليس ما اضطروا وما استكرهوا إلخ :

ان أراد بالحقيقة ما يقابل الاعتبار أي أنها غير مرفوعة من الأمة تكوينا ففيه أنه حق لكنه لا يوجب المصير إلى التقدير أو المجاز وإن أراد به ما يقابل المجاز ففيه ان الرفع الاعتباري بحسب ظرف التشريع فيها حقيقي لا مجازي كما أن الرفع فيما لا يعلمون أيضا كذلك من غير فرق.

قوله «ره» وأما العقل فإنه قد استقل اه :

توضيح المقام على ما مرت إليه الإشارة في مبحث القطع أن يقال إن الاعتبار العقلائي الضروري في العلم بجعله حجة يوجب اعتبار العينية بين التكليف الواقعي والتكليف المعلوم كما يوجب العينية بين الواقع والعلم ومن الضروري ان نتيجته الارتفاع عند الارتفاع إذ ارتفاع أحد العينين ارتفاع للآخر فلازم اعتبار العينية بين المعلوم والواقع اعتبار العينية بين ارتفاع المعلوم وارتفاع الواقع فالتكليف الواقعي مرفوع في صورة الجهل بحكم العقلاء هذا.

ومن ذلك يظهر ان ارتفاع حكم الجهل بارتفاع الجهل وتحقق العلم ليس من قبيل الورود إذ موضوع الحكم المعلوم ليس هو العلم بل هو الموضوع الواقعي بواقعيته والواقع غير مرفوع بارتفاع العلم حقيقة بل اعتبارا كما عرفت فعروض الوجوب والجواز للموضوع الواقعي

٢١٩

في صورتي العلم والجهل ليس نظير عروض الحكم الاختياري والاضطراري مثلا لموضوعهما في الأحكام الواقعية الأولية والثانوية فليست النسبة هي الورود بل لو كانت فهي الحكومة.

ومن هنا يظهر أيضا ان الثابت بهذا الاعتبار ارتفاع الحكم لا ثبوت حكم كالإباحة بمعنى مساواة الطرفين بل لو لحقت الإباحة فإنما تلحق باعتبار آخر عقلائي فهذا ما يقتضيه أصل الاعتبار العقلائي ثم الأدلة الشرعية ما تم منها في دلالته كحديث الرفع فهو إمضاء لحكمهم إلا في موارد خاصة استثناء كموارد الدماء والاعراض وأما قاعدة قبح العقاب بلا بيان فهي من فروع الكلية المذكورة على ما لا يخفى هذا ما يقتضيه نحو البحث الأصولي على ما قدمناه في أول الكتاب.

قوله «ره» واحتج للقول بوجوب الاحتياط اه :

قد ادعى الإجماع على عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية وسيدعيه المصنف رحمه الله أيضا فإطلاق القول في تقرير قول المخالف ليس في محله ومنه يظهر ما في تحرير محل النزاع في صدر البحث من حيث الإطلاق.

قوله «ره» إلا أنها تعارض بما هو أخص اه :

بل حديث الرفع بما يشتمل عليه من لسان الامتنان نسبته إلى اخبار الاحتياط نسبة الحكومة والتفسير.

٢٢٠